الجزء الثالث - الباب الثامن نوادر أبي الحارث جمين

الباب الثامن نوادر أبي الحارث جمين

قيل له : ما تقول في فالوذجة ؟ قال : والله لو أن موسى لقي فرعون بفالوذجةٍ لآمن ، ولكنه لقيه بعصا . وقيل له يوماً : ما تشتهي ؟ فقال : نشيش مقلاةٍ بين غليان قدرٍ على رائحة شواءٍ . وكان لا يأكل الباذنجان ، فكايده محمد بن يحيى واتخذ ألوانه كلها باذنجان ، فجعل كلما قدم لون فرابه الباذنجان فيه توقاه ، وأقبل على الخبز والملح ؛ فلما عطش قال : يا غلام ، اسقني ماءً ليس فيه باذنجان . وكتب يوماً إلى صديق له : أوصيك بتقوى الله ، إلا أن ترى غير ذلك خيراً منه . وقيل له : سبقت ببرذونك هذا قط ؟ قال : بلى ، مرة ، دخلنا زقاقاً لا منفذ له وكنت آخر القوم ؛ فلما رجعنا كنت أول الموكب . ودخل جماعة من إخوانه ، فاشتهوا عليه لوناً يطبخه لهم ، فدنا أحدهم من القدر ليذوقها ، وأخرج قطعة لحم وأكلها ، وفعل كل واحد منهم كذلك ؛ فقال أحدهم : هي طيبةٌ لكنها تحتاج إلى شيءٍ لا أدري ما هو ؟ فقال أبو الحارث : أنا أعلم ، هو ذا تحتاج إلى اللحم .

وحكى دعبلٌ قال : بلغني أن أبا الحارث قد فلج ، فاغتممت لظرفه وملاحته ، فصرت إليه فوجدته في عافية ؛ فحمدت الله وسألته عن خبره ؟ فقال : دخلت الحمام وأكلت السمك ، ودعوت المزين فأخذ شعرى ، فظن الفالج لما رأى المزين عندي أني احتجمت ؛ فلما علم أنه أخذ من شعري تركني وانصرف . ونظر يوماً إلى برذون يستقى عليه ، فقال : وما المرء إلا حيث يجعل نفسه لو أن هذا هملج ما كان هذا . وأكل يوماً مع الرؤساء بيضاً مسلوقاً ، فجعل يأكل الصفرة ، وينحى البياض إلى بين يدي أبي الحارث عبثاً به ؛ فقال لما طال ذلك عليه - وتنفس الصعداء: سقى الله روح العجة فما أعدلها . ودخل إلى بعض أصدقائه يوماً ، فقال له : ما تشتهي ؟ قال : أما اليوم فماء حصرم، وأما غداً فهريسة . قال بعضهم : دخلت على جمين أعوده من مرضٍ به ، فقلت له : ما تشتهي ؟ فقال : أعين الرقباء ، وألسن الوشاة ، وأكباد الحساد . مر رجلٌ به فسلم عليه بسوطه ، فلم يرد عليه ؛ فقيل له في ذلك ؛ فقال : سلم علي بالإيماء ، فرددت عليه بالضمير . وسأله يحيى بن خالد عن مائدة ابنه ؛ فقال : أما مائدته فمن نصف كسرة ، وأما صحافه فمنقورةٌ من قشور حب الخشخاش ، وما بين الرغيف والرغيف مد البصر ، وما بين اللون واللون فترة ما بين نبي ونبي . قال : فمن يحضرها : قال : خلقٌ كثيرٌ من الكرام الكاتبين . قال : فيأكل معه أحد ؟ قال : نعم ، الذبان . قال : سوءة له هذا ، فشوبك مخرق وأنت بفنائه يطور ، فلو رقعت قميصك . قال : ما أقدر على إبرة ، قال : هو يعطيك ، قال : والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً في كل إبرةٍ خيطٌ ، ثم جاء جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يسألونه إبرة يخيط بها يوسف قميصه الذي قد من دبرٍ ما أعطاهم . وجاء إليه رجل يسأله شيئاً ، وقال : قد قطع علي الطريق . قال : فعلي إذا قطع الطريق . ولقيه رجلٌ - وقد تعلق به غلام - فقال : يا أبا الحارث ؛ من هذا ؟ قال : هذا غلام الفضل بن يحيى ، كنت عند مولى هذا أمس ، فقدم إلينا مائدةً عليها رغيفان عملا من نصف خشخاشة سوى ما ذهب عند النحت ، وثريدة في سكرجةٍ ، وخبيصة في مسعط ، فتنفست الصعداء فدخل الخوان وما عليه في أنفي ، فمولاه يطالبني بالقيمة . قال الرجل : استغفر الله مما تقول ، فأومأ إلى غلامٍ معه وقال : غلامي هذا حرٌ إن لم يكن لو أن عصفوراً وقع على بعض قشور ذلك الخشخاش الذي عمل منه ذلك ، لما رضي مولى هذا حتى يؤتى بذلك العصفور مشوياً بين رغيفين ، والرغيفان من عند العصفور . ثم قال : وعلي المشي إلى بيت الله الحرام ، إذا عطشت بالقرعاء رجعت إلى دجلت العوراء حتى أشرب منها ماءً ، لو أن مولى هذا كلف في يوم قائظٍ شديد الحر أن يصعد على سلم من زبد ، حتى يلتقط كواكب بنات نعشٍ كوكباً كوكباً ؛ لكان ذلك أسهل عليه من أن يشم شام تلك الثريدة ، أو يذوق ذائقٌ تلك الخبيصة . فقال الرجل : عليك لعنة الله ، وعلي إن سمعت منك شيئاً بعد هذا . وقيل له وهو على نبيذ : كل من هذا الطين السيراني فإنه نظيف ؛ فقال : ومتى بلغك أن في بطني وكفاً . وقيل له : ما تغديت عند فلان ؟ قال : لا ، ولكني مررت ببابه وهو يتغدى . قيل : وكيف علمت ذلك ؟ قال : رأيت غلمانه ببابه ، بأيديهم قسي البنادق يرمون الطير في الهواء . وقال له الرشيد : لم لا تدخل إلى محمد بن يحيى ؟ فقال : أدخل والله يا أمير المؤمنين ، وأما أكسى من الكعبة ، وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود .

قيل لأبي الحارث : ما تقول في جواذب بطٍ في يوم صائف ؟ . قال : نعم ، في يوم من أيام تموز في حمام حار بمنى. قيل لجمين - وقد رأى سوداء قبيحة - : ابتلاك الله بحبها قال : يا بغيض لو ابتلاني بحبها كانت عندي من الحور العين ، ولكن ابتلاك الله بأن تكون في بيتك وأنت تبغضها . وقال له الرشيد : اللوزينج أم الفالوذج ؟ قال : أحضرهما يا أمير المؤمنين ، فأحضرا ، فجعل يأكل من هذا وهذا ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، كلما أردت أن أشهد لأحدهما غمزني الآخر بحاجبه . قال بصري لجمين : يأتينا المد والجزر في كل يوم مرتين . قال : يستأذن الله في هلاككم مرتين ، وكأن قد . ورأوا عليه جبةً قد تخرقت ، فقيل له : ما هذا ؟ قال : غنت بقول الشاعر : لقا فؤادي ، لقد بلى جزعاً . . . قطعه البين والهوى قطعا ثم قيل له بعد ذلك : كيف تغني جبتك ؟ فقال : قد كانت تغنى ، وقد صارت تلطم في مأتم . ودعته امرأةٌ كان يحبها ، فجعلت تحادثه ولا تذكر الطعام ، فلما طال ذلك به قال : جعلني الله فداءك ، لا أسمع للغداء ذكراً . قالت له : أما تستحي أما في وجهي ما يشغلك عن هذا ؟ قال : جعلني الله فداءك ، لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعةً لا يأكلان شيئاً لبزق كل منهما في وجه صاحبه .