الباب العاشر نوادر المجانين
قال مجنونٌ - ولقى الناس منصرفين من الجمعة - : أيها الناس : " إني رسول الله إليكم جميعاً " . فقال له مجنونٌ آخر: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " . وكان بهلول من مجانين الكوفة ، وكان يتشيع ؛ فقال له إسحاق ابن الصباح : أكثر الله في الشيعة مثلك . قال : بل أكثر الله في المرجئة مثلي ، وأكثر في الشيعة مثلك . ومر موسى بن أبي الروقاء ، فناداه صباحٌ الموسوس : يا بن أبي الروقاء أسمنت برذونك ، وهزلت دينك ، أما والله إن أمامك لعقبةً لا يجوزها إلا المخف فحبس موسى برذونه ؛ فقيل له : هذا صباحٌ الموسوس . قال : ما هو بموسوس؟. قال ثمامة : قال لي مجنون مرةً : يا ثمامة ، تزعم أنت أن الاستطاعة إليك ؟ قلت : نعم . قال : فإن كنت صادقاً فاخر ولا تبل . وقف رجلٌ على بهلول ؛ فقال له : تعرفني ؟ ؛ فقال بهلول : إي والله ، وأنسبك نسبة الكمأة ، لا أصلٌ ثابتٌ ، ولا فرعٌ نابت . ودعا الرشيد بهلولاً ليضحك منه ؛ فلما دخل دعا له بمائدةٍ فقدم عليها خبزٌ وحده ، فولى بهلولٌ هارباً ؛ فقال له : إلى أين ؟ . قال : أجيئكم يوم الأضحى ، فعسى أن يكون عندكم لحمٌ .
أخرج بلال بن أبي بردة من حبسه مجنوناً يمازحه ، فقال له : أتدري لم أخرجتك ؟ قال : لا . قال : لأسخر منك . قال : إن المسلمين حكموا حكمين فسخر أحدهما على بالآخر . قال المبرد : دخلت يوماً دير هزقل ، فرأيت في صحن الدار مجنوناً ، فدلعت لساني في وجهه ، فنظر إلى السماء ، وقال : الحمد والشكر من حلوا ومن ربطوا . قال بعضهم : رأيت بحمصٍ مجنوناً يقول : يا قوم ، من يتعلم : لا أدري ؟ يا هذا ، تعلم : لا أدري ؛ فإنك إذا قلت : لا أدري علموك حتى تدري وإذا قلت : أدري سألوك حتى لا تدري . رمى بهلولٌ رجلاً فشجه ؛ فقدم إلى الوالي ، فقال له : لم رميت هذا ؟ . قال : ما رميته ولكنه دخل تحت رميتي . وقال بهلولٌ يوماً : أنا والله أشتهي من فالوذج ومن سرقين ، فقالوا : والله لنبصرته كيف يأكل ، فاشتروا له الفالوذج ، وأحضروا السرقين ؛ فأقبل على الفالوذج واكتسحه ، وترك السرقين ، فقالوا له : لم تركت هذا ؟ . قال : أقول لكم ، أما - والله - يقع لي أنه مسمومٌ ، من شاء منكم يأكل ربع رطلٍ حتى آكل أنا الباقي . وجاء مجنونٌ فوقف عند شجرة ملساء ، فقال : من يعطيني نصف درهم حتى أصعد ؟ فعجب الناس وأعطوه ، فأحرزه ، ثم قال : هاتوا سلما . قالوا : ما كان السلم في الشرط . قال : وكان بلا سلم في الشرط ؟ . ووقف بهلول على رجل ، وقال : خبرني عن قول الشاعر : وإذا نبا بك منزلٌ فتحول كيف هو عندك ؟ . قال : جيدٌ . قال : فإن كنت في الحبس فكيف تتحول ؟ . قال : فانقطع الرجل ، فقال بهلول : الصواب قول غيره : إذا كنت في دارٍ يسوءك أهلها . . . ولم تك مكبولا بها فتحول أصيب إسحاق بن محمد بن الصباح الكندي بابنٍ له ، فجزع ؛ فدخل أهل الكوفة يعزونه ، ودخل فيهم بهلول ؛ فقال : أيسرك أنه بقى وأنه مثلي ؟ . قال : لا والله ، وإنها لتعزية . قال بعضهم : جاءنا جعيفران في سوق أصحاب اللؤلؤ ، فوهب له إنسانٌ حبةً من الحب الصغار ؛ فقال له رجل : أتبيعها بطسوج ؟ ، فقال : إن كان بطسوج بادرونا فنعم . هرب مجنون من الصبيان ، ودخل دهليزا ، وأغلق الباب في وجوههم وجلس ؛ فخرج إليه صاحب الدار ، فقال : لم دخلت داري ؟ . قال : من أيدي هؤلاء أولاد الزنى . فدخل صاحب الدار ، وأخرج طبقاً عليه رطب كثير ، فجلس المجنون يأكل ، والصبيان يصيحون على الباب ؛ فأخرج المجنون رأسه إلى صاحب الدار ، فقال : بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب . قيل لمجنون كان بالبصرة : عدلنا مجانين البصرة . قال : كلفتموني شططا ، أنا على عد عقلائهم أقدر . كان ببغداد مجنونٌ يلبس فروةً مقلوبة ، فإذا قيل له في ذلك قال : لو علم الله أن الصوف إلى داخلٍ أجود عمل الصوف إلى داخل . قال الفزاري : رأيت مجنوناً يسوى رأس سكران ، ويقول له : يؤيؤ ، والله لا أفلحت أبداً . قيل لمجنون : أين المولد ؟ . قال : المولد البصرة ، والمنشأدير هزقل . شد مجنونٌ على رجل بالبصرة ، فأخذه الرجل فضربه . فقال الناس : إنه مجنون ، وجعل المجنون من تحته : ويحكم أفهموه .
قيل لمجنون : أيسرك أن تصلب في صلاح هذه الأمة ؟ . قال : لا ، ولكن يسرني أن تصلب الأمة في صلاحي . قال داود المصاب لصديق له : رأيت البارحة رؤيا نصفها حق ، ونصفها باطل ، رأيت كأني قد حملت على عاتقي بدرة، فمن ثقلها خريت فانتبهت فرأيت الخرا ، ولم أر البدرة . سمع مجنونٌ رجلاً يقول : اللهم لا تأخذنا على غفلة . فقال : إذاً لا يأخذك أبداً . قال بعضهم : كان بالشام مجنونٌ يستطرف حديثه ، قال : رأيته يوماً وقد رفع رأسه إلى السماء وهو يقول : الناس كذا يعملون ، وهذيانٌ كثير . قيل له : ما تقول ؟ ويحك . قال : أعاتب ربي . قيل : فكذا يخاطب الله . قال : قلت له : بدل ما خلقت مائةً وجوعتهم لو كنت تخلق عشرةً وتشبعهم لكان خيراً . جاء مجنونٌ إلى يزيد بن هارون ، فقال له : يا أبا خالد ؛ أليس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لولا أن الكلاب أمةٌ من الأمم لأمرت بقتلها ، ولكن اقتلوا منها كل أسود بهيم " . قال يزيد : نعم . فقال المجنون : أليس قد قال الله تعالى : " وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ " . فمن نذير الكلاب ؟ قال : فتحير يزيد في جوابه . فقال له المجنون : تحب يا أبا خالد أن أعرفك نذير الكلاب ؟ قال : نعم ، فأخذ حجراً فرمى به كلباً بالقرب منه ؛ فعدا الكلب يعوي وينبح ؛ فقال : يا أبا خالد ؛ الحجر نذير الكلاب . سأل بعض الولاة عن أبي نصر الهروي ليعبر له رؤيا رآها ، فقيل له : هو بمرو يأوي الصحراء ؛ فبعث إليه ، فأتي به ؛ فقال : إني رأيت كأن في كمي عصافير ؛ فجعلت تفلت واحدةً واحدة ، وتطير ؛ فلما كان آخر عصفورةٍ كادت تفلت ، فحبستها . قال المجنون : أكلت عدسية ، فبت تضرط ليلتك ؛ فلما كان آخرها أردت أن تسلح فحبسته . فقال الوالي : اسكت قبحك الله . قال : هو والله ما قلت . فلما خرج قال الرجل : والله ما أخطأ شيئاً .
رثي بهلول مغموماً يبكي ؛ فقيل : ما يبكيك ؟ . قال : كيف لا أبكي ؟ وقد جاء الشتاء وليس لي جبة . فقيل : لا تبك ؛ فإن الله لا يدعك بلا جبة . قال : بلى والله . عام أولٍ تركني بلا جبة ولا سراويل ، وأخاف أن يدعني العام بلا جبة ولا سراويل ولا قلنسوة . قال بعضهم : مررت يوماً ببهلول ، وهو يأكل فرنية حواري مع دجاجة ، فقلت له : يا بهلول ؛ أطعمني مما تأكل ، فقال : ليس هذا لي - وحياتك - هذا دفعته إلي أم جعفرٍ آكله لها . نظر رجلٌ إلى جماعةٍ من المجان حول مجنون ، فقال له : ادخل إلى بعض المواضع حتى يتفرقوا عنك . قال : إذا جاعوا انصرفوا . قيل لبهلول : تأخذ درهماً وتشتم فاطمة ؟ . قال : لا ، ولكن هاتوا نصف درهمٍ حتى أشتم عائشة ، وأزيدكم أباها . كان الجهجاه مجنوناً ، وكان يدعي الخلافة ، فأدخل على الرشيد ، وعنده أبو يوسف القاضي ، فقال : جعفر بن يحيى كالهازئ به : هذا أمير الضراطين . يزعم أنه أمير المؤمنين . قال : لو كنت كذلك أوسع إمرةً من صاحبك ؛ لأن الضراط عامٌ ، والإيمان خاصٌ . قال له الرشيد : لأضربنك بالسياط حتى تقر بالزندقة . قال : فإذا أقررت ترى قتلي؟ . قال : نعم ، قال : فالتفت إلى أبي يوسف ، وقال : يا يعقوب ؛ ليس لصاحبنا فقهٌ . قيل لبهلول : أيكفي اثنين رأسٌ واحد ؟ . قال : إذا كان أحدهما نائماً . وحضر مجلساً فيه قوم يتذاكرون الحديث ، فرووا عن عائشة أنها قالت: لو أدركت ليلة القدر ما سألت ربي إلا العفو العافية . فقال بهلول : والظفر بعليٍّ يوم الجمل . وحكى أن صاحب المارستان أتاه بقدح فيه دواء ، وقال له : اشرب يا بن الزانية ؛ فقال : هات حتى أشربه والله أعلم أنك أحق به مني . ولما حمل إلى المارستان سأل الناس أن يأذنوا له في أن يلم ببيته ، ويوصي أهله بشيءٍ ، فمنعوه ، فقرأ : " فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون " .
وقيل له : ما تشتهي من الفاكهة الرطبة ؟ . قال : لحمٌ . قيل : فمن اليابسة ؟ قال : قديدٌ ، قيل : فمن الشراب؟ . قال : مرقة . قيل : فمن السماع ؟ . قال : نشيش المقالي . قال قوم لمجنون بالبصرة أديب : عظنا ، وهم يهزءون به ؛ فقال: هذه قصورهم ، وهذه قبورهم . فأبكاهم . قال أبو العيناء : حضرت أبا دينارٍ وأبا لقمان الممرورين يتناظران عند ابن أبي دواد ؛ فقال أبو لقمان لأبي دينار : من أفضل الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ ، قال ابن دواد : أبو بكر الصديق . فقال أبو لقمان : أم الكاذب زانية . قال ابن أبي دواد : هذا كلام قد انتهى إلى آخره . كان بهلولٌ يجمع ما يوهب عند مولاة له من كندة ، وكانت له كالأم ، وربما أخفي عنها شيئاً ودفنه ، فجاء يوماً بعشرة دراهم كانت معه إلى خربة فدفنها فيها ، ولمحه رجلٌ ، فلما خرج بهلولٌ ذهب الرجل فأخذ الدراهم ، وعاد بهلول فلم يجدها . وقد كان رأى الرجل يوم دفنها فعلم أنه صاحبه ، فجاء إليه فقال : اعلم يا أخي أن لي دراهم مدفونة في مواضع كثيرةٍ متفرقة ، وأريد أن أجمعها في موضعٍ دفنت فيه هذه الأيام عشرة دراهم ؛ فإنه أحرز من كل موضع ، فاحسب بالله كم تبلغ جملتها . قال : هات . قال : خذ عشرين درهما في موضع كذا ، وخمسين في موضع كذا ، حتى طرح عليه مقدار ثلثمائة درهم . ثم قام بين يديه ومر ؛ فقال الرجل في نفسه : الصواب أن أرد العشرة إلى موضعها، حتى يجمع إليها هذه الجملة ثم آخذها ، فردها . وجاء بهلول فدخل الخربة ، وأخذ العشرة ، وخرى مكانها، وغطاه بالتراب ومر ، وكان الرجل مترصداً لبهلول وقت دخوله وخروجه ؛ فلما خرج مر بالعجلة ، فكشف عن الموضع ، وتلوثت يده بالخرا ، ولم يجد شيئاً ، وفطن لحيلة بهلول عليه . ثم إن بهلولاً عاد إليه بعد يومين فقال : احسب يا سيدي ؛ عشرين درهماً ، وخمسة عشر درهماً ، وعشرة دراهم ، وشم يدك . فوثب الرجل ليضربه ، وعدا بهلول . وولى بعض بني هاشم الكوفة ، فلما صعد المنبر قال : الحمد لله ، وارتج عليه ، فجعل يكرر ذلك ؛ فقال بهلول : الذي ابتلانا بك .
وجاز بهلول بسوق البزازين ، فرأى قوماً مستجمعين على باب دكان ينظرون إلى نقبٍ قد نقب على بعضهم ، فاطلع في النقب ، ثم قال : وكلكم لا تعلمون ذا من عمل من ؟ قالوا : لا . قال : فإني أعلم . فقال الناس : هذا مجنونٌ يراهم بالليل ولا يتحاشونه ، فأنعموا له القول لعله يخبر بذلك . فسألوه أن يخبرهم . فقال : إني جائع ، فهاتوا أربعة أرطال رقاقٍ ورأسين ، فأحضروا ذلك وأكل ، فلما استوفى قال : هوذا أشتهي شيئاً حلواً ، فأحضروا له رطلين فالوذج فأكله ، وفرغ منه وقام وتأمل النقب ، ثم قال : كأنكم الساعة لستم تعلمون هذا من عمل من ؟ . قالوا : لا . قال : هذا من عمل اللصوص لا شك . وعدا . ولع الصبيان بعيناوة ، وصاحوا عليه ، ورموه ، فهرب منهم فاستقبلته امرأةٌ معها صبيٌ صغير ، فدنا منها ولطم الطفل لطمةً كادت تأتي عليه ، فقالت المرأة : قطعت يدك إيش أذنب هذا إليك . قال : يا قحبة ؛ هذا يكون غداً شراً من هؤلاء الكشاخنة . ركب الهادي يوماً ، فنظر إلى مجنون يلقب بكسرة ؛ ويرمى من يقول هذا اللقب ، ويعمل العجائب ؛ فأمر بحمله إلى الدار ، فقال له : لم تشتم الناس إذا قالوا لك : كسرة؟. قال : ولم تضرب الأعناق إذا قيل لك : موسى اطبق ؟ . قال : أنا لا أغضب من هذا . قال : فصح أنت بي ثلاث مراتٍ ، وأصيح مرتين فننظر من يحرد . قال : قد رضيت . فقال الهادي : يا كسرة ؛ يا كسرة . ثلاث مرات، وطولها ، فلم يلتفت المجنون ، ولم يتحرك ولم يحرد ، ثم صاح : يا موسى اطبق . فلم يتحرك الهادي ، فقال المجنون : ما يتغافل إلا من أمه قحبة . فحرد الهادي ، ودعا بالنطع والسيف ، فقال المجنون : كيف رأيت ؟ كان المجنون واحداً ، صرنا اثنين . وأنا أيضاً هكذا ؛ لو قالوا : يا كسرة ؛ يا رغيف . ألف سنة ما باليت ، ولكن كذا يقولون لي إذا تغافلت . فضحك الهادي وأمر له بجائزة . قال بعضهم : رأيت مجنونين قد رفعا إلى بعض أصحاب الشرط ، وقد تواثبا وتخاصما ؛ فقال لأحدهما : لم فعلت هذا ؟ . قال : لأنه وثب علي وشجني ؛ فقال : لم بدأته بالرفس ، ومددت خصيته ، قال : يا ولد النجس من بين الأمراء ؛ بهذا اللباس الذي عليه لا تكفيه فرد خصية ؟ . ونظروا إلى ماني الموسوس يأكل تمراً ، ويبتلع نواه ، فقيل : لم لا ترمي بالنوى ؟ . قال : هكذا وزنوه علي . قيل لبهلول : يقع في الطفشيل قتٌ ؟ . قال : نعم إذا كان للبقل . وكتب مجنون إلى آخر : بسم الله الرحمن الرحيم . وأمتع بك ؛ كتبت إليك ودجلة تطفح ، وسفن الموصل تنحدر ، وما يزداد الصبيان إلا لعنة ، والحجر إلا قلةً ؛ فلا تنم إلا وعند رأسك حجران ، وكن كما قال الأول : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ " . وإياك والموت فإنه طعام سوءٍ . وكتبت لأربع عشر يوماً بقيت إلى عاشوراء الأول سنة افتصد عجيف . كان بمكة رجلٌ يرمى بأنه لقيطٌ ، ولا يعرف له أب ، وكان موسراً ، وكان بها مجنونٌ يقصده كثيراً فيبره ويحسن إليه ، فجاء المجنون يوماً ، فرآه قاعداً محزوناً منقبضاً ؛ فقال : جعلت فداك ما لك كذا ؟ . قال : لا شيء . قال المجنون : بلى ، قد عرفت ، ترى ليس بمكة ولد زنىً غيرك . هم أكثر ذاك فلا تغتم . قيل لمجنون : لم صار الدينار خيراً من الدرهم ، والدرهم خيراً من الفلس ؟ . قال : لأن الفلس ثلاثة أحرف ، والدرهم أربعة أحرف ، والدينار خمسة أحرف .
ولى العلاء بن عمرو بلاد سارية ، وكان جائراً فأصاب الناس القحط ، وأمسكت السماء قطرها ؛ فخرجوا يستسقون، وصعد العلاء المنبر ؛ فقال في دعائه : اللهم ارفع عنا البلاء والغلاء . فوثب معتوهٌ كان بها فقال : والعلاء ؛ فإنه شرٌّ من الغلاء ، وأغلظ من البلاء . فضحك الناس ، وخجل العلاء وانصرف . ودخل داود المصاب بستاناً ، فتعلقت بشوبه شوكةٌ ، فالتفت وقال : والله لولا أنك بهيمةٌ لكسرت أنفك . قال بعضهم : مررت بعليان المجنون ، وهو جالسٌ في محلة بني ضبة ، فقلت له : يا أبا الحسن ؛ من أفضل عندك ؟ أبو بكرٍ أم علي ؟ فقال : أما في بني ضبة فأبو بكر. حج موسى بن عيسى ببهلول معه ، فأقبل موسى يدعو عند البيت ويتضرع ، وبهلول يقول : لا لبيك ولا سعديك . فقال له ابنه العباس : ويلك تقول هذا القول للأمير في مثل هذا الموقف . قال : أقول له ما أعلم أن الله يقول له . قيل لبهلول : عدلنا مجانين البصرة . قال : هذا يكثر ويبعد جداً ، ولكن إن أردتم عددت لكم عقلاءهم . سأل بعضهم أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو ؟ ، فقال : الجزء الذي لا يتجزأ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فقال له : وليس في الأرض لا يتجزأ غيره . قال : بلى ، حمزة جزءٌ لا يتجزأ ، وجعفرٌ جزءٌ لا يتجزأ . قال : فما تقول في أبي بكر وعمر ؟ . قال : أبو بكر يتجزأ ، وعمر يتجزأ ، وعثمان يتجزأ مرتين ، وطلحة يتجزأ مرتين . قال : فما تقول في معاوية ؟ . قال : معاوية جزء لا يتجزأ ولا يتجزأ . قيل لأبي زيد المجنون : ما العشق ؟ قال : نيكٌ كله . قيل لمجنون : ما فعلت حتى ضربك الصبيان ؟ قال : وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً . . . من الناس إلا ما جنى لسعيد لما مات والد بهلول خلف ستمائة درهم ، فحظر عليه القاضي ، فجاءه يوماً ، وقال : أيها القاضي ؛ ادفع إلي مائة درهم ، حتى أقعد في الحلقات فإن أحسنت أن أتجربها دفعت إلي الباقي . فدفع إليه ذلك، فذهب وأتلفه وعاد إلى مجلس القاضي . وقال : إني قد أتلفت المائة ، فتفضل بردها فقد أسأت إذ دفعت إلي ذلك ، ولم يثبت عندي رشدي . فقال القاضي : صدقت ، والتزم المائة في ماله . كان مجنونٌ يؤذيه الصبيان ، فقال له رجلٌ: تريد أن أطردهم عنك ؟ . فقال : نعم ، وتنطرد أيضاً معهم . قال مجنونٌ : ليس في الدنيا أجل مني ، لا أحاسب في الدنيا ولا في الآخرة . قال الرشيد لبهلول : من أحب الناس إليك ؟ فقال : من أشبع بطني . فقال : أنا أشبعك ، فهل تحبني ؟ . قال : الحب بالنسيئة لا يكون . كان مجنونٌ يختلف إلى المآتم ، ويدعو ، ورسمه أن يعطى درهمين ، فاتفق أن آل الزبرقان لم يمت منهم أحدٌ سنين كثيرة ، ثم مات منهم واحد فحضر المجنون ، وأعطي درهم واحداً . فقال : من كثرة ما تموتون حتى نقصتم رسمي . وكان مجنونٌ آخر يحضر المآتم ، ورسمه أن يعطى ثلاثة أرغفة فحضر يوماً بعض المواضع وأعطي ستة أرغفة ؛ فلما أراد أن يخرج قال لأصحاب التعزية : اذكروا أنه قد بقى لكم علي ميتٌ آخر . قال : لما ضمت المدينة إلى الحجاج مع مكة خرج إليها ؛ فبينا هو يسير إذ قال لأصحابه : تأخروا حتى أحدث نفسي ؛ فتاخروا . ومضى على حماره حتى انتهى إلى مبقلة ، فإذا رجلٌ جالسٌ على شفير بئرٍ ، فوقف عليه فقال : ما يقول الناس في أميرهم ؟ . فقال : يقولون : ظالمٌ متعدٍ ملعونٌ . قال الحجاج : أتعرفني ؟ . قال: لا . قال : أنا الحجاج . قال الرجل : أتعرفني أنت ؟ . قال : لا . قال : أنا مولى بني ثور ، أصرع في كل شهرٍ ثلاثة أيام ، اليوم أولها وأشدها ؛ فضحك الحجاج ولم يتمالك ، ومضى ، ولحقه الناس .
قيل لبهلول : أتأكل في السوق وأنت تجالس جعفر بن محمد رضي الله عنه ؟ . قال : حدثني مالكٌ عن نافع عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : مطل الغني ظلمٌ لقيني الجوع ، والخبز في كمي ؛ فكرهت أن أمطله . ورثى في مقبرة ؛ فقيل له : هلا خالطت الناس ؟ . فقال : إني بين قوم إن حضرت لم يؤذوني ، وإن غبت لم يغتابوني . قيل له : فادع الله ، فإن الناس في ضر وشدة من الغلاء . فقال : وما علي من ذلك ، ولو بلغت الحبة ديناراً ، وإنما علي أن أعبد الله كما أمرني ، وعليه أن يرزقني كما وعدني . قيل لبهلولٍ : وزن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بالأمة فرجحا . فقال : كان بالميزان غبن . وجاء بهلولٌ فوقف بحذاء حفص بن غياث القاضي ، فقال : هوذا ، أجد البرد في قدمي ورأسي . فأمر له بقلنسوةٍ وخفين . فلما كان اليوم الثاني وقف بهلول بحذائه ؛ فقال له : مالك ؟ . قال : جزى الله القاضي عن الأطراف خيراً ؛ فأمر له بقميصٍ وسراويلٍ . جاءت امرأة دندان المجنون إلى القاضي ؛ فقالت : أصلحك الله ، إنه يجيعني ويضربني . قال القاضي : ما تقول ؟ . قال دندان : أما الضرب فنعم ، وأما الجوع فهي طالقٌ ثلاثاً إن لم تجئ معي إلى منزلي مع أصحابك أيها القاضي ، فقال لأصحابه : قوموا بنا لا يحنث . فقام القاضي ، وذهب معه ، فلما دخل جاء به إلى مزبلة فيها رجيعٌ عظيم ، فقال : أصلحك الله . هذا يخرج من بطن جائعٍ ؟ . قال : أخزاك الله ، فإنك أحمق . قال : أحمق مني من أطاع المجانين . كان بهلول يوماً جالساً والصبيان يؤذونه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله . يعيده مراراً ، فلما طال أذاهم له أخذ عصاه وقال : حمي الوطيس ، وطابت الحرب ، وأنا على بينةٍ من ربي . ثم حمل عليهم وهو يقول : أشد على الكتيبة لا أبالي . . . أفيها كان حتفي أم سواها فتساقط الصبيان بعضهم على بعض ، وتهاربوا ، فقال : هزم القوم وولوا الدبر . أمر أمير المؤمنين - رضي الله عنه - ألا نتبع مولياً ، ولا ندفف على جريح ، ثم رجع وجلس وطرح عصاه ، وقال : فألقت عصاها واستقر بها النوى . . . كما قر عيناً بالإياب المسافر وقفده رجلٌ كانت قد أرضعته امرأةٌ يقال لها مجيبة ، وكانت رعناء ، فقال بهلول : كيف لا تكون أرعن ، وقد أرضعتك مجيبة ؟ فوالله لقد كانت تزق لي الفرخ فأرى الرعونة في طيرانه . وقف رجلٌ علي بهلول ، فقال له : قد وقفت أنت هاهنا ، والأمير يعطي المجانين كل واحد درهمين ، فقال بهلول : فاعرض علي درهميك . قال الفضل بن يحيى لجعيفران المجنون : لم لا تصير إلي ؟ فقال : لأنت بحرٌ ولا أحسن أن أسبح ، فوصله بمالٍ . قيل لبهلول : ما تقول في رجل مات وخلف أماً وزوجة وبنتاً ؟ فقال : للأم الثكل ، وللابنة اليتم ، وللزوجة الحرب ، وما بقي فللعصبة . وقال له الرشيد : أبو بكر وعمر خير من عليٍّ ، فقال : واحدٌ : لا يجوز بإزاء اثنين ، ولكن علي والعباس خيرٌ من أبي بكر وعمر . قال بعضهم : رأيت شيخاً قد سكر وسقط وسط الطريق ، وهو ينخر ، ومجنون واقفٌ على رأسه يقول : يا مخذول ، تسكر وتنخر ؟ . ما تركت للصلح موضعاً .