الجزء الرابع - الباب السابع في سياسة السلطان وأدب الرعية

الباب السابع في سياسة السلطان وأدب الرعية

قال بعض الحكماء : إن قلوب الرعية خزائن واليها فما أودعه وجده فيها . قالوا : صنفان متباينان إن صلح أحدهما صلح الآخر : السلطان والرعية . قال بعض الحكماء : إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك له مداراة المرأة القبيحة لزوجها ؛ فإنها لا تدع التصنع له في كل حال . قال الأعمش : إذا رأيت العالم يأتي باب السلطان فاعلم أنه لص . 435 قال بعض الحكماء : ليغلق السلطان باب الأنس بينه وبين كفاته الذين تنفذ أمورهم في ملكه ؛ فإن مؤانسته إياهم تبعث عليه بهم الجرأة وعلى الرعية الغشم . قالوا : صنفان لو صلحا صلح جميع الناس الفقهاء والأمراء . قيل: من داخل السلطان يحتاج أن يدخل أعمى ويخرج أخرس . قيل للعتابي : لم لا تقصد الأمير ؟ قال : لأني أراه يعطي واحداً لغير حسنة ولا يد ، ويقتل آخر بلا سيئة ولا ذنب . ولست أدري أي الرجلين أكون أنا ، ولست أرجو منه مقدار ما أخاطر به . قيل : العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان ، فإنه إن عف جنى عليه العفاف عداوة الخاصة ، وإن بسط جنى عليه البسط ألسنة العامة . قال سعيد بن حميد : مجلس السلطان كالحمام ؛ من فيه يريد الخروج ومن هو خارج يريد الدخول فيه . ابن المقفع : إقبال السلطان تعب ، وإعراضه مذلة .

وقال آخر : السلطان إن أرضيته أتعبك ، وإن أغضبته أعطبك . قالوا : ينبغي للملك أن يتفقد أمر خاصته في كل يوم، وأمر عامته في كل شهر ، وأمر سلطانه في كل ساعة . قال بعضهم : إذا كنت حافظاً للسلطان في ولايتك ، حذراً منه عند تقريبه لك ، أميناً له إذا ائتمنك ، تشكر له ولا تكلفه الشكر لك ، تعلمه وكأنك تتعلم منه ، وتؤدبه وكأنه يؤدبك ، بصيراً بهواه ، مؤثراً لمنفعته ، ذليلا إن ضامك ، راضياً إن أعطاك ، قانعاً إن حرمك ، وإلا فابعد منه كل البعد . قال حكيم : محل الملك من رعيته محل الروح من البدن ، ومحل الرعية منه محل البدن من الروح . فالروح تألم لألم كل عضو من أعضاء البدن ، وسائره لا يألم لألم غيره ، وفي فساد الروح فساد جميع البدن ، وقد يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن صحيح . قال سهل بن هارون : ينبغي للنديم أن يكون كأنما خلق من قلب الملك ؛ يتصرف بشهواته ، ويتقلب بإرادته ، إذا جد جد ، وإذا تطلق تطلق ؛ لا يمل المعاشرة ، ولا يسأم المسامرة ، إذا انتشى تحفظ ، وإذا صحا تيقظ . ويكون كاتماً لسره ، ناشراً لبره ، ويكون للملك دون العبد ؛ لأن العبد يخدم نائباً والنديم يحضر دائباً . كان مسروق بن الأجدع ينهي عن عمل السلطان ، فدعاه زياد وولاه السلسلة ، فقيل له في ذلك، فقال : اجتمع علي زياد وشريح والشيطان ، فكانوا ثلاثة وكنت واحداً فغلبوني . قيل لبعض من يتصرف مع السلطان : لا تصحبهم ؛ فإن مثلهم مثل قدر أسود كلما مسه إنسان سوده . فقال : إن كان خارج القدر أسود فإن داخله لحم سمين ، وطعام لذيذ . كان يقال : لا سلطان إلا برجال ، ولا رجال إلا بمال ، ولا مال إلا بعمارة ، ولا عمارة إلا بعدل وحسن سياسة . قال بعض الملوك في خطبة : إنما نملك الأجساد لا النيات ، ونحكم بالعدل لا بالرضا ، ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر . قيل : أفضل من عوشر به الملوك قلة الخلاف وتخفيف المئونة . قيل : لا يقدر على صحبة السلطان 436 إلا من يستقل لما حملوه ، ولا يلحف إذا سألهم ، ولا يغتر بهم إذا رضوا عنه ، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه ، ولا يطغى إذا سلطوه ، ولا يبطر إذا أكرموه . قيل لبعض الملوك وقد زال عنه ملكه : ما الذي سلبك ما كنت فيه ؟ قال : دفع عمل اليوم إلى غده ، والتماس عدة بتضييع عدد ، وبذل أبطر وأضغن . ابن المقفع : الناس على دين السلطان إلا القليل ؛ فليكن للبر والمروءة عنده نفاق فسيكسد بذلك الفجور والدناءة . وفيما قال أبو حازم لسليمان بن عبد الملك : السلطان سوق ؛ فما نفق عنده أتى به . قالوا : شر الأمراء أبعدهم من القراء ، وشر القراء أقربهم من الأمراء . قيل : إذا جعلك السلطان أخاً فاجعله رباً ، وإن زادك فزده . قال مسلم بن عمرو : ينبغي لمن خدم السلطان ألا يغتر بهم إذا رضوا ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه ، ولا يستثقل ما حملوه ، ولا يلحف في مسألتهم . قالوا : مثل صاحب السلطان مثل راكب الأسد ؛ يهابه الناس وهو لمركبه أهيب . للكاتب على الملك ثلاث : رفع الحجاب عنه ، واتهام الوشاة عليه ، وإفشاء السر إليه . يجب على الملك أن يعمل بثلاث خصال : تأخير العقوبة في سلطان الغضب ، وتعجيل مكافأة المحسن ، والعمل بالأناة فيما يحدث ، فإن له في تأخير العقوبة إمكان العفو ، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة في الطاعة من الرعية ، وفي الأناة انفساخ الرأي واتضاح الصواب .

قال رجل لبعض السلاطين : أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك ، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر من يرى برئي أحب إليه من سقمي وبراءتي أحب إليه من جرمي . ابن المقفع : لا ينبغي للملك أن يغضب ؛ لأن القدرة من وراء حاجته . ولا يكذب ؛ فإنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد ، ولا يبخل فإنه يخاف الفقر ، ولا يحقد لأن خطره قد جل عن المجازاة . قال أبو حازم : للسلطان كحل يكحل به من يوليه ، فلا يبصر حتى يعزل . حكي عن بعضهم أنه قال : حاجب السلطان نصفه ، وكاتبه كله . وينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس ، ويديم العبوس ، ويستخف بالشفاعات . ابنلي بعض الملوك بصمم فقال : لئن كنت أصبت بسمعي ، فلقد متعت ببصري . ثم نادى مناديه : من ظلم فليلبس ثوباً مصبوغاً وليقم حيث أراه فأدعو به وأنظر في أمره . كان يقال ، إن الملوك من الفرس وغيرهم كانوا يهنئون بالعافية ، ولا يعادون من العلة ؛ لأن عللهم كانت تستر نظراً وإبقاء عليهم ، ولا يعلمها إلا خواصهم . وكانت عافيتهم تشتهر ؛ لما للناس من الصلاح بها، ودوام الألفة ، واستقامة الأمور عنها . قال بعضهم : إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك مداراة المرأة القبيحة للزوج المبغض لها ؛ فإنها لا تدع التصنع له بكل حيلة . قال فيلسوف : إذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان ، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك ، وارفق به رفقك بالصبي ، وكلمه بما يشتهي . ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على المنصور فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ توسع توسعاً قرشياً ، ولا تضق 437 ضيقاً حجازياً . وقال : يا أمير المؤمنين ، إن سلطانكم حديث ، وإمارتكم جديدة ، فأذيقوا الناس حلاوة عدلها ، وجنبوهم مرارة جورها ، فوالله يا أمير المؤمنين لقد مخضت لك . ثم نهض فنهض معه تسعمائة من قيس ، فأتأره المنصور بصره ثم قال : لا يعز ملك فيه مثل هذا .

قالوا : عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان . كان الفضل بن الربيع يقول : مساءلة الملوك عن أحوالهم من كلام النوكى فإذا أردت أن تقول : كيف أصبح الأمير ؟ فقل : صبح الله الأمير بالكرامة . وإن أردت أن تقول كيف يجد الأمير نفسه ؟ فقل : وهب الله الأمير العافية ونحو هذه الأشياء فإن المساءلة توجب الجواب فإن لم يجبك اشتد عليك وإن جابك اشتد عليه . قيل لابن عباس : إن الناس قد فسدوا ولا يصلحهم إلا الشر . قال : بالله الذي لا إله إلا هو للجور أشب للشر ، والعدل أطفأ للجور . وفي العدل كفاية ، وإليه انتهت السياسة . وقد يصيب الوالي في رعيته بأربع من نفسه وأربع من أنفسهم ؛ فأما الأربع اللواتي منهم فالرغبة والرهبة والأمانة والنصيحة . وأما الأربع اللواتي من نفسه فإعطاء من نصحه ، والجزاء لمن أبلاه ، وعقوبة ذي الذنب بقدر ذنبه ، والتنكيل بمن تعدى أمره . فإن هو لم يفعل ذلك وتراخى ابتلى منهم بأربع : بالغش والخذلان والخيانة والنكد . قيل : ليعلم من نال شرف المنزلة من السلطان وهو دني الأصل أنه ثأر الأشراف ، وأنه لا نجاة له منهم إلا أن يعمرهم بالإحسان إليهم . إذا كان الملك ضعيفاً ، والوزير شرها ، والقاضي كذوباً فرقوا الملك شعاعاً . ملك عسوف أجدى على الرعية من ملك مقتصد السيرة ضعيف ؛ لأن العسوف القوي قد يدفع عن البيضة بقوته ، ومعه أنفة يحمي بها حوزته ، والضعيف لا يستقصي حقة ، ولا يأخذ حقوق رعيته ، ولا قوة به على دفع عدوه وعدوهم . إذا قنع الملك بإفساد دينه لم تقنع رعيته إلا بإزالة ملكه . ظلم الرعية استجلاب البلية . أحزم الملوك من ملك جده هزله ، وقهر رأيه هواه ، وعبر عن ضميره فعله ، ولم يخدعه رضاه عن حظه ، ولا غضبه عن كيده .

قالوا : أربعة أشياء تقبح بأهلها : ضيق ذرع الملك ، وسرعة غضب العالم ، وبذاء النساء ، وكذب القضاة . خير الملوك من حمل نفسه على خير الآداب ، ثم حمل رعيته على الإقتداء به . أعجز الملوك أضعفهم عن إصلاح بطانته . إذا اضطر الملك إلى الكذب فليهرب من ملكه . العجب ممن استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه بطاعتهم . إذا رغب الملك عن العدل رغبت رعيته عن طاعته . إذا لم يرجع الملك إلا إلى رأى وزيره ، فالوزير هو الملك ، والملك سوقة مسخر . من لم يصلح نفسه من الملوك عسر عليه إصلاح رعيته ، وكيف يعرف رشد غيره من يعمى عن ذات نفسه ؟ لا تخف صولة الأمراء مع صداقة الوزراء . طال حزن من غضب على الملوك وهو لا يقدر على الانتقام منهم . صحبة السلطان بلا أدب كركوب البرية بغير ماء . اثنان ينبغي للملك أن يحذرهما : الزمان 438 والأشرار . إذا امتهنت خاصة الملك فالملك هو الممتهن . ينبغي لصاحب السلطان أن يستعد لعذر ما لم يجنه ، وأن يكون آنس ما يكون به أوحش ما يكون منه . فإذا سلمت الحال عنده فلا ينبغي له أن يأمن ملالته . أقوى الملوك في الدنيا أعلمهم بضعفه في الآخرة . لا أحد أمر عيشاً وأكثر نصباً وأطول فكرة من الملك العارف بالعواقب ، الموقن بالمعاد . موت الملك الجائر خصب شامل ، لأنه لا قحط أشد من جور السلطان . إذا تفرغ الملك للهوه تفرغت رعيته لإفساد ملكه .

إذا وقفت الرعية على سرائر الملوك هان عليها أمرها . ينبغي للملك أن يأنف من أن يكون في رعيته من هو أفضل ديناً منه ، كما يأنف أن يكون فيهم من هو أنفذ أمراً منه . أعجب الأشياء ملك يطلب نصيحة رعيته مع ظلمهم . ليعلم الملك أن الذي له عند رعيته مثل الذي لرعيته عنده . وضع الشدة في موضع اللين سوء بصر بالتدبير ، والاستسلام لرأي الوزراء هو العزل الخفي . إذا لم يشرف الملك على أموره فليعلم أن أغش الناس له وزيره . من استكفى الأمناء ربح التهمة . قضاء حق المحسن أدب للمسيء ، وعقوبة المسيء حسن جزاء المحسن . لن تجد الحرب الغشوم أسرع في اجتياح الملك من تضييع المراتب ، حتى يصيبها أهل النذالة والفسولة ، ويزهد فيها أولو الفضل ، ويطمع فيها الأراذل . قالوا : إذا أراد الله إزالة ملك عن قوم جبنهم في آرائهم . العجب من سلطان يبتدئ على رعيته والسيف والسوط بيده . لا شيء أذهب بالدول من تولية الأشرار . الملك لا تصلحه إلا الطاعة والرعية لا يصلحها إلا العدل . دخل أبو مجلز على قتيبة بخراسان وهو يضرب رجلاً بالعصا فقال : أيها الأمير ؛ إن الله جعل لكل شيء قدراً ، ووقت له وقتاً ؛ فالعصا للأنعام والهوام والبهائم العظام ، والسوط للحدود والتعزير ، والدرة للأدب ، والسيف لقتال العدو والقود . قالوا : عمل السلطان حديث فكن حديثاً حسناً . إذا ضيعت الملوك سنن أديانها أنها تهدم أساس ملكها . لا ينبغي للملك أن يكون سفيها ومنه يلتمس الحلم ، ولا جائراً ومنه يلتمس العدل . إذا لم يثب الملك على النصيحة غشته الرعية . وفد على معاوية عبيد بن كعب النميري فسأله عن زياد وسياسته فقال : يستعمل على الجد والأمانة دون الهوى ، ويعاقب فلا يعدو بالذنب قدره ويسمر ليستجم بحديث الليل تدبير النهار قال : أحسن . إن التثقيل على القلب مضرة بالرأي . فكيف رأيه في حقوق الناس فيما عليه وله ؟ قال : يأخذ ماله عفواً ويعطي ما عليه عفواً . قال : فكيف عطاياه ؟ قال : يعطي حتى يقال جواد ، ويمنع حتى يقال بخيل . قالوا : التذلل للملوك داعية العز والتعزز عليهم ذل الأبد . كثرة أعوان السوء مضرة للأعمال . الدالة على الملوك تعرض للسقوط . خير الملوك من ملك جهله بحلمه ، وخرقه برفقه ، وعجلته باناته ، وعقوبته  بعفوه ، وعاجله بمراقبة آجله ، وأمن رعيته بعدله ، وسد ثغورهم بهيبته ، وجبر فاقتهم بجوده . يعلم وكأنه لا يعلم ، ويحسم الداء من حيث استبهم . بغض الملوك كي لا يبرأ ، وحسدهم عر يتفشى . السلطان في تنقله وتنقل الناس معه كالظل الذي تأوي إليه السابلة . شدة الانقباض من السلطان تورث التهمة ، وسهولة الانبساط تورث الملالة .

من سعادة جد المرء ألا يكون في الزمان المختلط مدبراً للسلطان . من سكرات السلطان أن يرضى عمن استوجب السخط ، ويسخط على من استوجب الرضا من غير سبب معلوم . بلغ بعض الملوك حسن سياسة ملك فكتب إليه : قد بلغت من حسن السياسة مبلغاً لم يبلغه ملك في زمانك ، فأفدني الذي بلغكه . فكتب إليه : " لم أهزل في أمر ولا نهي ، ولا وعد ولا وعيد ، واستكفيت أهل الكفاية ، وأثبت على الغناء لا على الهوى ، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت ، ووداً لم يشبه كذب ، وعممت بالقوت ومنعت الفضول " . أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالتفرد به، ولا يصلح الآخر إلا بالتعاون عليه : وهما الملك والرأى ؛ فإن استقام الملك بالشركاء استقام الرأي بالتفرد به . لا شيء أهلك للسلطان من صاحب يحسن القول ولا يحسن العمل . اصحب السلطان بإعمال الحذر ، ورفض الدالة ، والاجتهاد في النصح واصحبه بثلاث : بالرضا والصبر والصدق . اعلم أن لكل شيء حداً ، فما جاوزه كان سرفاً ، وما قصر عنه كان عجزاً . فلا تبلغ بك نصيحة السلطان أن تعادي حاشيته من أهله وخاصته ؛ فإن ذلك ليس من حقه عليك . ولكن أقضى لحقه عنك ، وأدعى للسلامة إليك أن تستصلح أولئك جهدك ، فإنك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته ، وأمنت حجته ، وفللت عدوك عنده . إذا جاريت عند السلطان كفئاً من أكفائك فلتكن مجاراتك إياه بالحجة ، وإن عضهك ، وبالرفق وإن خرق بك ؛ واحذر أن يستلجك فتحمى ، فإن الغضب يعمي عن الفرصة ، ويقطع عن الحجة ، ويظهر عليك الخصم . احترس أن يعرفك السلطان باثنين : بكثرة الإطراء للناس عنده ، وبكثرة ذمهم ؛ فيعد ذلك غلاً منك فإنه إذا رأى كثرة إطرائك للناس وذمهم ضر ذلك صديقك وإن كان محقاً ، وأمن عدوك كيدك وإن كان معوراً . وعليك بالقصد والتحرز ؛ فإنه إن يعرفك به كنت لعدوك أضر ولصديقك أنفع . لاتتورد على السلطان بالدالة وإن كان أخاك ، ولا بالحجة وإن وثقت أنها لك ، ولا بالنصيحة وإن كانت له دونك فإن السلطان تعرض له ثلاث : القدرة دون الكرم ، والحمية دون النصفة ، واللجاج دون الحظ . سئل بعضهم : أي شيء أرفع بذكر الملوك؟ قال : تدبيرهم أمر البلاد بعدل ، ومنعهم إياها بعز . قيل : فما الذي على الملوك لرعيتهم ، وما الذي على الرعية لملوكهم ؟ قال : على الملوك لرعيتهم ما تأمن عليه أنفسهم ويرغد عليه عيشهم . وللملوك على رعيتهم الشكر والنصيحة . اعلم أن الملوك تحتاج إلى الوزير ، وأشجع الرجال يحتاج إلى السلاح وأجود الخيل يحتاج إلى السوط ، وأحد الشفار يحتاج إلى المسن . صلاح الدنيا بصلاح الملوك ، وصلاح الملوك بصلاح الوزراء ، ولا يصلح الملك إلا لأهله ولا تصلح الوزارة إلى لمستحقها . أفضل عدد الملوك صلاح الوزراء الكفاة ؛ لأن في صلاحهم صلاح قلوب عوامهم لهم . خير الوزراء أصلحهم للرعية ، وأصدقهم نية في النصيحة ، وأشدهم ذباً عن المملكة ، وأشدهم بصيرة في الطاعة ، وآخذهم لحقوق الرعية من نفسه وسلطانه . ليس شيء للملوك أولى بالفرح والسرور به في ملكها من سيرة حسنة يسيرونها ، وسنة صالحة يجرونها ، ووزير صالح يؤيدون به . الوزير الخير لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحاً حتى يتصل بصلاح الملك ورعيته ، وتكون عنايته فيما عطف الملك على عامته ، وفيما استعطف قلوب العامة على الطاعة لملكه ، وفيما قوم أمر الملك والمملكة من تدبيره ، حتى يجمع إلى أخذ الحق وتقديمه عموم الأمن والسلامة ، ويجمع إلى صلاح الملك صلاح أتباعه . وإذا طرقت الحوادث ، ودهمت المظائم ، كان للملك عدة وعتاداً ، وللرعية كافياً محتاطاً ، ومن ورائها ذاباً ناصراً ، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها . مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسداً مثل الماء الصافي العذب الذي فيه التماسيح ؛ لا يستطيع الإنسان وإن كان سابحاً ، وإلى الماء ظامئاً ، دخوله حذراً على نفسه . لا ينبغي للوالي أن يسرع إلى حبس من يكتفي له بالجفاء والوعيد . ينبغي للوالي أن يكون عالماً بأمور عماله فإن المسيء يخاف خبرته قبل أن تنزل به عقوبته ، والمحسن يستبشر بعمله قبل أن يأتيه معروفه . ينبغي للوالي أن تعرفه رعيته بالأناة ، وألا يعجل بالعقاب ولا بالثواب ؛ فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ، ورجاء الراجي . ينبغي للوالي أن تعلم رعيته أنه لا يصاب خيره إلا بالمعونة له على الخير ، فإن الناس إذا علموا ذلك تصنعوا ، والمتصنع لا يلبث أن يلحق بأهل الفضل . من طلب ما عند السلطان والنساء بالشدة بعد عنه ما يطلب ، وفاته ما يلتمس . ودخل محمد بن كعب القرظي على عمر بن عبد العزيز حين استخلف فقال له : إني مستعين بك على عملي . قال : لا . ولكني سأرشدك : أسرع الاستماع ، وأبطئ في التصديق ، حتى يأتيك واضح البرهان ، ولا تعملن سجنك فيما يكتفى به بلسانك ، ولا تعملن سوطك فيما يكتفى فيه بسجنك ولا تعملن سيفك فيما يكتفى فيه بسوطك . كان بعضهم يوصي عماله فيقول : سوسوا الناس بالمعدلة ، واحملوهم على النصفة ، واحذروا أن تلبسونا جلودهم ، أو تطعمونا لحومهم ، أو تسقونا دماءهم . بالولاية يعرف الرجل الحازم . إذا أردت أن يقبل الوالي مشورتك فلا تشبه بشيء من الهوى ؛ فإن الرأي يقبل ، والهوى يرد .

لا يخطرن للملك أنه إن استشار الملك الرجال ظهرت منه الحاجة 441 إلى رأي غيره ؛ فإنه ليس يريد الرأي للافتخار به ، وإنما يريد للانتفاع به . قال حذيفة : إياكم ومواقف الفتن ، فإن أبواب الأمراء ، يدخل الداخل على الأمير فيقول له الباطل ليرضيه . قال ابن المقفع : لتكن حاجتك في الولاية ثلاث خصال : رضا ربك ورضا سلطانك ، ورضا صالح من تلي عليه . ولا عليك أن تلهو عن المال والذكر . فسيأتيك منهما ما تكتفي به . إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعيته فاعلم أنك خيرت بين خلتين ليس فيهما خيار ، إما الميل على الرعية فهو هلاك الدين ، وإما الميل على الوالي مع الرعية فهو هلاك الدنيا . تبصر ما في الدنيا من الأخلاق التي تحب أو تكره ، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحب ويكره ؛ فإن هذه رياضة صعبة تحمل على الإباء والقلى . قلما يقدر على نقل رجل عن طريقته التي هو عليها بالمكابرة ، ولكن تقدر أن تعينه على أحسن مذاهبه ؛ فإنك إذا قويت له المحاسن كانت هي التي تبصره المساوي بألطف من تبصيرك في نفسه . إن كان سلطانك على جدة دولة فرأيت أمراً استقام بغير رأي ، وعملاً استتب بغير حزم ، وأعواناً أجيزوا بغير نيل ، فلا يغرنك ذلك ولا تستنيمن إليه ؛ فإن الأمور تصير إلى حقائقها وأصولها . وما بني منها على غير أصل وثيق ، ودعائم محكمة ، أوشك أن يتداعى وينصدع . لا تطلبن من قبل السلطان بالمسألة ، ولكن اطلبه بالاستحقاق ، واستأن به ولا تستبطئه ، فإنك إذا استحققت ما عنده أتاك عن غير طلب ، وإن لم تستبطئه كان أعجل له . اعلم أن السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول ، وأن أرحامه مقطوعة ، وحباله مصرومة إلا عمن رضي عنه . إياك أن يقع في قلبك التعنت على الوالي ، والاستزادة له ؛ فإن ذلك إذا وقع في قلبك بدا في وجهك إن كنت حليماً ، وعلى لسانك إن كنت سفيها ؛ وإذا ظهر ذلك للولي كان قلبه أسرع إلى التغير والتعتب من قلبك . إذا أصبت الجاه والخاصة عند السلطان فلا تتغير لأحد من أهله وأعوانه ؛ فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذل لهم ، وفي ذلك من العار ما فيه . لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقى عنه الأنفة ويحتمل الأذى ويكظم الغيظ . ويرفق بالناس إلا كاد يخلص إلى حاجته عند السلطان .