الجزء الخامس - الباب الأول كلام زياد وولده

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

اللهم أنت الراعي لا يُراع سوامهُ ، والحافظ لا يُضاع ذمامُه ، والصادق لا يخلف وَعْده ، والغني لا ينفّدُ مَا عندَه . نحمدُك ونستعينُك ، ونستعصمك ونستخيرُك ، ونؤمن بك ونتوكلُ عَلَيْكَ ، ونخضعُ لَكَ ، ونفزع إليْك . اللهم فوفقنا لكل مَا ترضاه ، وجنبنا بعض مَا نهواه ، وبلغنا من الخير مُنتهاه واهدنا فِي الدنيا إلى مَا نحمدُ فِي الآخرة عُقباه ، وأسِبغْ علينا لباسَ الكرام واعصمْنا مما نتعقبه بالندامة ، وتغمدنا فِي الدُّنيا بنعمة تضفُوا مدَارعُها وَفِي الآخرة برحُمة تصفُو مشارعُها ، وابسُط أيْدَينا إلى خلقك بالأفضال والإسْعاف ، واقْبِض أيْديَنا عنهم بالقناعة والكَفاف ، واجْعلنا عصمةً للخائف منهم إذا استجار ، والحائر إذا استشار ، والسائل إذا استمَار . لَكَ الحمْدُ والمنةُ ، ومنك الإحْسانُ والنِّعمةُ وَعَلَى رسولك محمدٍ وأهلِ بيته الصلاةُ والرحمة . هذا هو الفصلُ الخامسُ من كتاب نثر الدُّر وهو اثنان وعشرون باباً .

الباب الأول كلام زياد وولده الباب الثاني : كلام الحجاج . الباب الثالث : كلام الأحنف بن قيس . الباب الرابع : كلام المهلب وولده .

الباب الخامس : كلام أبي مسلم صاحب الدولة . الباب السادس : كلام جماعة من أمراء الدولتين . الباب السابع : توقيعات وفصول للوزراء والكتاب . الباب الثامن : كلام القضاة في الدولتين . الباب التاسع : كلام الحسن البصري . الباب الحادي عشر : كلام الخوارج . الباب الثاني عشر : الغلط ، والتصحيف . الباب الثالث عشر : نوادر في اللحن والنحو . الباب الرابع عشر : نوادر للمخنثين . الباب الخامس عشر : نوادر اللاطة . الباب السادس عشر : نوادر البغائين . الباب السابع عشر : نوادر جحا . الباب الثامن عشر : نوادر أشعب . الباب التاسع عشر : نوادر السؤال . الباب العشرون : نوادر المعلمين . الباب الحادي والعشرون : نوادر الصبيان . الباب الثاني والعشرون : نوادر العبيد والمماليك .

الباب الأول كلام زياد وولده

قال : إن تأخير جزاء المحسن لؤمٌ ، وتعجيل عقوبة المُسيء دناءةٌ . ثواب المحسن والتثبٌّت في العُقوبة ربُّما أدى إلى سَلامة منها ، وتأْخير الإحسانِ رْبِّما أدَّى إلى ندمٍ لم يُمكن صاحبه أن يتلافاهُ . كتب إلى معاويةُ : اعزل حُرَيثَ بن جابر ، فإني ما أذكُرُ قُبتَّه بصفِّين إلا كانت حَرارةً ، في جلدي . فكتب إليه زيادٌ : خفِّض عليك أميرَ المؤمنين ، فقد بسَق حُريثٌ بُسُوقاً لا يرفُعه عملٌ ، ولا يضعهُ عَزْلٌ . وقال زيادُ لو أن لي ألف ألْف درهم ، ولي بعيرٌ أجربُ لقمتُ عليه قيامَ . رجل لا يملكُ غيرَهُ . ولو أن لي عشرة دراهمَ لا أمْلك غيرَها ، ولزمني حقٌّ لوضعْتُها فيه . وقال لابنه : عليْك بالحجاب ، فإنما تَجَّرأتِ الرُّعاةُ على السباح بكثرة نظرها إليها وخطب فقال : الأُمورُ جاريةٌ بأقدار الله ، والناسُ متصَرِّفون بمشيئة الله ، وهمْ بين متسخِّط وراض ، وكل يجري في أجل وكتاب . ويصيرُ إلى ثواب أو عقاب. ألا رُب مسرور بنا لا نسرُّه ، وخائف ضدنا لا نضُرُّه . وكان مجْلسه الذي يأْذن فيه للناس أربعةُ أسْطْر في نواحيه ، أولُها : الشِّدةُ في غير عُنف ، واللينُ في غير ضعْف . والثاني : المُحسنُ يُجازى بإحسانه ، والمسيءُ يكافأُ بإساءته . والثالث العَطيَّاتُ والأرزاقُ في إبانها وأوقاتها . والرابعُ : لا احتجاب عن صاحب ثغر ولا طارق ليل . وقال : أحْسنوا إلى أهل الخراج ، فإنكم لا تزالون سماناً ما سَمنْوا . قدم رجلٌ خصْماً إلى زياد في حَقٍّ له عَليْه ، فقال: إن هذا يُدلُّ بخاصة ذكرَ أنها له منك . فقال زيادٌ : صدّق . وسأُخبُرك بما ينفعُه عندي منْ مودته إن يكُن الحقُّ له آخذُك به أخْذاً عنيفاً ، وإن يكُنِ الحقُّ لك عليه أقْضِي عليه ثم أقْضي عنه . وقال : ليس العاقلُ الذي يحتالُ للأمْر إذا وقع ، ولكن العَاقل الذي يحتالُ للأمر ألا يقع فيه . قالوا : قدم زيادٌ البصْرة والياً لمعاوية والفسْقُ بالبصْرة ظاهرٌ فاشٍ فخطب خطبةً بَتْرَاءَ لم يحمدِ الله فيها . ويُقالُ : بل قال : الحمد لله على أفْضاله ، ونسْأَلُه المزيدَ منْ نعمه وإكرامه . اللهُم كما زدْتنا نعَماً فأَلهِمنْا شكْراً . أما بعدُ : فإن الجاهلية الجهُلاء ، والضلالة العمْياء والغَيَّ المُوفدَ لأهله على النار ، ما فيه سفهاؤُكمْ ، ويشتعلُ عليه حُلماؤكم ، منه الأمور العظام ، ينبتُ فيها الصغيرُ ، ولا يتحَاشى منْها الكبيرُ . كأنكم لم تقْرءُوا كتاب الله ، ولم تسمعُوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته ، والعذاب الأليم لأهل معْصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزُولُ . أتكونون كمنْ طرفتْ عينه الدُّنيا ، وسَدتْ مَسامعَه الشهواتُ ، واختارَ الفانية على الباقية ولا تذْكُرونَ أنكم أحْدثتُم في الإسلام الحدَثَ الذي لم تُسْبقُوا إليْه : منْ تَرْككُمْ الضعيفَ يُقْهرُ ، ويُؤخَذُ مالُه ، والضعيفةَ المسلوبةَ في النهارِ المُبصِرِ ، والعددُ غيرُ قليل .

ألم يكنُ منكم نُهاةٌ تمنعُ الغُواةَ عنْ دَلَج الليلِ ، وغارةِ النهارِ ؟ قرَّبْتُم القرابة ، وباعْدتُمُ الدِّين . تعتذرُون بغير العُذْر وتُغُضون على المُخْتلسِ ، كلُّ امرئ منكم يذُبُّ عن شَفِيهِه ضنيع مَنْ لا يخافُ عاقبة ، ولا يرجوُ مَعاداً . ما أنتُم بالحُلماء ، ولقد اتَّبعُتم السُّفهاءَ ، فلم يزَلْ بهم ما ترَوْن من قيامِكم دونَهُم ، حتى انتهكٌوا حُرَم الإسلام ، ثم أطْرَقُوا وراءَكم كُنُوساً في مكانِس الرِّيبَ حَرُم على الطعامُ والشرابُ حتى أسَوِّيَها بالأرض هدماً وإحراقاً ، إني رأيتُ آخر هذا الأمر لا يصلحُ إلا بما صلح به أوَّلُه : لينٌ في غير ضعف ، وشدةٌ في غير عنف . إني أقسمُ بالله لآخُذنَّ الولي بالمولىَ ، والمقيمَ بالظاعن ، والمقبل بالمُدبر ، والصحيحَ منكم في نفسه بالسقيم حتى يَلْقى الرجلُ منكم أخاه فيقول : انْجُ سعدٌ فقد هلك سُعَيد أو تستقيمَ لي قناتُكُم . إن كذبَة المنبر . بلقاءُ مشهورةٌ ، فإذا تعلقتم على بكذبة فقد حل لكم معصيَتي . من نُقِبَ عليه منكم فأنا ضامنٌ لمَا ذهب منه ، فإيايَ ودلج الليل ، فإنِّي لا أوتَى بمُدلِج إلا سفكْتُ دمه وقد أجَّلتكُمْ في ذلك بقدر ما يأتي الخبرُ إلى الكوفة ، ويرجعُ إليكم . وإياي ودعَوى الجاهلية ، فإنِّي لا أجد أحداً دَعَا بها إلا قطعتُ لسانَهُ . وقد أحدثْتُم أحداثاً لمْ تكن ، وقد أحْدثْنا لكلِّ ذنبٍ عقوبةً ، فمَنْ غرَّق قوما غرَّقْناه ، ومن أحْرق على قومٍ أحْرَقناه ومَنْ نقَب على قوم بيتاً نقَبْنا عنْ قلبه ، ومن نَبش قبرً دفنَّاه فيه حَيَّاً كُفُّوا عني أيْديكُم ، وألْسنتكُم أكُفَّ عنكم يدي ولساني . ولا يظْهُر مْن أحدكم خلافُ ما عليه عامكم إلا ضربْتُ عُنقَهُ . وقد كانت بيني وبيْن أقوام إحنٌ فجعلُتُ ذلك دبْرَ أذُني ، وتحت قدمي ، فمنْ كان منكم مُحْسناً فليزدَدْ إحساناً ، ومَنْ كان مُسيئاً فليرْتدعُ عن إساءته . إني لو علمتُ أن أحدَكُم قد قتلهُ السُّل منْ بُغْضي لم أكشف عنه قناعاً ، ولم أهُتكْ له ستراً حتى يُبْدي لي صَفحتهُ ، فإذا فعَل لمْ أناظرهُ فاسْتأنفُوا أمُوركُم ، وأعينُوا على أنْفُسكم ، فُرب مُبْتئس بقُدُومنا سَيُسَرُّ ، ومسرور لقُدومنا سَيبْتئسُ . أيُّها الناس : إنا أصْبحنا لكم ساسةً ، وعنكم ذادةً ، نُسوسُكم بُسلْطان الله الذي أعْطاناهُ ، ونذُودُ عنكم بفيءٍ الله الذي خَولَنا . فلنا عليكم السمْعُ والطاعةٌ فيما أحْببْنا ، ولكن علْينا العَدْلُ فيما ولِينا . فاستوجبُوا عَدْلنا وفيْئنا بِمُناصحَتِكُمْ لنا . واعلموا أني مُهَما قصَّرتُ عنه فلن أقصِّرَ عن ثلاث : لستُ مُحْتجباً عن طالب حاجةٍ منكم ، ولن أتاني طارقاً بليل ، ولا حابساً عطاءً ولا رزُقا عن إبانه ، ولا مُجمِّراً لكم بعْثاً ، فادْعوا اللهب الصلاح لأئمتِّكم ، فإنهم ساستُكُم المؤُدِّبون ، وكهفُكمُ الذي إليه تأوُون . ومتى صلحُوا تصَلْحُوا ، ولا تْسْرِبوا قلوبكم بعْضَهُم فيشتد لذلك غيظكُمُ ، ويطول لذلك خُزْنكمُ ، ولا تُدْركُوا حاجَتكم مع أنه لو اسْتُجيب لكم فيهم كان شراً لكم . أسْأَلُ الله أنْ يُعين كُلاً على كُلٍّ . وإذا رأيتْمُوني أنفذُ فيكم الأمرَ فأنفذُه على أذْلاله ، وأيْمُ الله إن لي فيكم لصَرْعى كثيرةً . فليَحْذرْ كل امرئ أنْ يكون من صَرْعاي . قال : فقام عبدُ الله بنُ الأهتم ، فقال : أشهدُ أيها الأميرُ لقد أوتيت الحكمة وفصْل الخطاب . فقال له : كذبْت . ذاك نبي الله داود ( صلى الله عليه وسلم ) . فقامَ إليه الأحْنفُ ابنُ قيْس ، فقال : إنما الثناءُ بعْدَ البلاء ، الحمدُ بعد العطاءِ ، وإنا لا نُثْنِي حتى نبْتلي ، ولا نُحمدُ حتى نُعْطَى . فقال زياد : صدّقْتُ . قال : فقام أبو بلال يهمسُ وهو يقولُ : أنْبأَنا اللهُ - جل وعز - بغير ما قُلت . قال اللهُ تباركَ وتعالى : وَإبْراهيمَ الذي وَفى . ألا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخْرَى . وأن لَّيْسَ للإنسانِ إلا ما سَعَى . وأنَّ سعُيَهُ سوف يُرَى . ثُم يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفىَ وأنت تزْعُم أنك تأْخُذُ الصحيحَ بالسقيم ، والطيع بالعاصي ، والمُقْبِلَ بالمُدْبرِ . فسمعها زيادٌ ، فقال : إنَّا لا نبلُغُ ما نُريدُ بأصْحابك حتى نَخُوضَ إليكمُ الباطل خَوضاً .

وقال يوم على المنْبر : إن الرجلَ ليتكلَّم بالكلمة لا يقطع بها ذنبَ عنز مَصُور لو بَلغتْ إمامه سَفكَت دمَهُ . وقال . ما قرأت كتابَ رجل قطُّ إلا عرفتُ عَقْلَهَ فيه . وخطب فقال : استوصُوا بثلاثة منكم خيراً : الشريف ، والعالم ، والشيخ، فوالله لا يأتيني شَريفٌ يستخفُّ به إلا انْتقمتُ منه ، ولا يأتيني شيخٌ بشاب استخف به إلا أوجعتُه ، ولا يأتيني عالمٌ بجاهل استخف به إلا نكلتُ به . قيل لزياد : ما الحظُّ ؟ قال : منْ طالَ من عُمُرهُ ، ورأى في عَدوِّه ما يَسُرهُ فهو ذُو حظٍّ . وكان يقول : هُما طريقان للعَامة : الطاعةُ ، والسيفُ . وكان المغيرةُ بن شُعبة يقول : لا والله حتى يُحمَلْوا على سبعون طريقاً قبلَ السيف . قال رجلٌ للحسن بن أبي الحسن : ألا أحَدِّثُك بخطبة زياد حين دخَل العراقَ ، وخطبة الحجاج حين قدمَ البصرةَ . أما زيادٌ فحمد الله - عز وجل - وأثْنَى عليه ، ثم قال : إن معاوية غيرُ مخوف على قومه ، ولم يكُنْ ليْلْحِق . بِنَسبه مَنْ ليس منهُ . وقد شَهدتِ الشُّهودُ بما قَد بَلغَكُم ، والحقُّ أحَقُّ أن يُتَّبعَ . واللهُ حيثُ وضعَ البيِّنات كان أعلمَ . وقد رَحلتُ عنكم وأنا أعرفُ صديقي من عدوي وَقَدْ قدمت عليكم وَقَدْ صار العدو صديقاً مناصحاً والصديق عدُوا مُكاشحاً ، فاشتمل كلُّ امرئ على ما في صدرِه ، ولا يكونَنَّ لسانُه شفْرةً تجري على ودَجِه وليعلم أحدُكم إذا خلا بنفْسه أني قد حملتُ سيفي بيده ، فإنْ شَهرهُ لم أغُمدْهُ ، وإنْ أغُمَدهُ لم أشْهره . ثم نزل . وأما الحجاجُ فقال : مَن أعياه داؤهُ فعلينا دوَاؤه ، ومن استَعجَل إلى أجله فعلينَا أنْ نُعجلَه . ألا إن الحزْمَ والجِد استلَبا مني سَوطِيَ ، وجعلا سوطي سيفي ، فنجادُهُ في عنقي وقائِمُه بيدي ، وذُبَابُه قِلادةٌ لمن اغترني . فقال الحَسنُ : البؤسُ لهما . ما أغرهما بربِّهما ؟ اللهم اجعلنا مِمِّنْ يعُتبُر بهما . قال بعضهُم : ما رأيتُ زياداً كاسِراً إحدى عينْيِه ، واضعاً إحْدى زِجْليه على الأخرى ، يخاطِبُ رجلاً إلا رحِمْتُ المخاطبَ . قال عُبْيدُ الله بنُ زياد : نِعم الشيءْ الإمارةُ لولا قَعْقَعةُ البَريد ، وتَشرفُ المنبرِ . تَذَاكُروا عِنْد يزيدَ البصرة والكوفَة ، فقال زيادٌ : لو ضلِّت البصرةُ جعلتُ الكوفة لمن دَلِّني عليها . سمع زيادٌ رجلا يُسبُّ الزمان : فقال : لو كان يدْري : ما الزمانُ . لضربتُ عُنقَه . إن الزمان هو السُّلطانُ . قالب زيادٌ لحاجبه : يا عجلانُ ، إني ولُيتُك هذا الباب ، وعزلْتُكَ عن أربعة : عزلتُك عن هذا المنادي إذا دَعَا للصلاة ، وفلا سبيل لك عليه ، وعن طارق الليل ، فشر ما جاء به . ولو جاء بخير ما كنتَ من حَاجبه . وعن رسول صاحب الثغر ، فإن إبطاء ساعة يُفسد تدبيرَ سنة فأدخله على وإن كنتُ في لِحَافي . وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه فإنه إذا أعيد عليه التسخينُ فَسدَ . وقال يُعجُبني من الرجل إذا سيمَ خُطة الضيم أن يقول : لا يملئ فيه وإذا أتى نادي قومٍ عَلمَ أين ينبغي لمثله أن يجلسَ ، فجلسَ . وإذا ركب دابةً حمَلها على ما يُحب ، ولم يَتبعْها إلى ما يكرَهُ.

وكان حارثةٌ بنُ بدر الغُدَاني قد غلبَ على زياد - وكان الشراب قد غلب عَليه - فقيل لزياد : إن هذا قد غلب عليك وهو مُستهترٌ بالشراب فقال زياد : كيف بأطراح رجل هو يُسايُرني ؟ قد دخلت عليه العراق ، فلم يصك ركابي ركاباه وما راكبني قط فسمت ركبتي ركبتُه ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه ، ولا تأخًّر عني فلويتُ عُنقي إليه ، ولا أخذ علي الشمسَ في شتاءٍ قط ، ولا الرَّوْح في صيف قط ، ولا سألْتُه عن علْمٍ إلا ظنتُه لم يُحسن غيرَه . فلما مات زياد جفاهُ عبيد الله ، فقال له حارثةُ : أيها الأميرُ . ما هذا الجَفاءُ . مع معرفتك بإحلال عند أبي المُغيرة ؟ فقال له عُبيدُ الله: إن أبا المغيرة كان قد برع بُروعاً لا يلحقُه معَهُ وأنا حَدَثٌ ، وإنما أُنَسبُ إلى مَن تغلَّب علىَّ ، وأنت رجلٌ تُديم الشراب ، فمتى قرَّبتُك ، فظهرت رائحةُ الشراب منك لم آمَن أن يُظن بي . فدع النبيذ ، وكُن أول داخل ، وآخر خارج . فقال له حارثةُ : أنا لا أدَعُه لمن يملكُ ضري ونفعي . أفأدعُه للحال عندك ؟ قال : فاختر من عملي ما شئت. قال : تُولِّيني رامهرمز فإنها أرضٌ عَذِيَة وسُرَّق وإنَّ بها شراباً وصف لي عنه فولاه إياهُ . وفيه قيل : أحُارِ بن بدر قد وَليت ولايةً فكُن جُرذاً فيها تَخُونُ وتَسْرِقُ . وقال زياد : كفى بالبخيل عاراً أن أسمه لم يقع في حَمد قطٌّ ، وكفى بالجواد مجداً أن اسمَه لم يقع في ذم قط . وكان عبيدُ الله بن زياد قد لج في طلب الخوارج ، وحَبْسهم ، وقتلهم ، فكُلِّم في بعضهم فأبى وقال : أقمَعُ النفاق قبْل أن يُنجِمَ الكلامُ هولاً أسْرع إلى القلوب من النار إلى اليراع . وقال زيادٌ : المْحظُوظُ المغبوطُ . مَن طال عمرُه ، ورأي في عدوه ما يُسرهُّ . وقال : مِلاكُ السلطان الشدةُ عل المُريب واللين للمُحْسن ، والوفاءُ بالعهد ، وصدقُ الحديث . وقال عبيدُ الله بنُ زياد : نعم الشيء الإمارةُ لولا قعْقعَةُ البريد ، والتشرُّفُ للخُطب . وخطب بالبصرة بعدَ موْت يزيد فقال : يا أهل البصرة . انُسبوني ، والله ما مُهاجَرُ أبي إلا إليكم، وما مَوْلدي إلا فيكم ، وما أنا إلا رجلٌ منكم . والله لقد وَليَكُم أبي ومَا مُقاتِلتُكم إلا أربعون ألفاً . ولقد بَلغ بها ثمانين ألفاً . وما ذُرِّيتُكُم إلا ثمانون ألفاً . وقد بلغ بها عشرين ومائة ألف . وأنتم أوسعُ الناس جِلادا ، وأبعدُه مَقاداً ، وأكثره جنوداً ، وأغنى الناس عن الناس . انظروا رجُلاً تُولُّونه أمركمُ ، يكُفُّ سُفهاءَكم ، ويَجبْي فيْئكم ، ويقسمُهُ بينكم ، فإنما أنا رجلٌ منكم . فلما أبَوْا عليه قال : إني أخافُ أن يكون الذي يَدْعوكُم إلى تأميري حداثةُ عهدٍ بأمْري . وقال زياد : ما أتيْتُ قطُّ مجلساً إلا تركتُ مَا لو أخذتُه لكان لي . وترْكُ مالي أحَبُّ إلي من أخذ ما ليْس لي . وقال : ما قرأتُ مثل كُتُب الربيع بن زياد الحارثي ؟ ما كتب إلى كتاباً إلا في احتواء منفعة ، أو دَفع مضرة ، ولا كان في موْكب قطُّ فتقدم عنانُ من دابته عنانَ دابتي ، ولا مست رُكبتُهُ رُكبتي ، ولا شاورتُ إنساناً قد . في أمر إلا سبقهُ إلي بالرأي . لما بنى عُبيدُ الله بنُ زياد البَيْضاءَ كتب رجلٌ على بابها : شيء ونصفُ شي ، ولا شيء : الشيءُ : مجهدان، ونصفُ شيءٍ : هد شيء أشما ، ولا شيءً : عبيْد الله بن زياد فقال عُبيدُ الله : اكتُبوا إلى جنبه : لولا الذي زعمْت أنه لا شيء ، لما كان ذلك الشيءُ شيئاً ولا ذاك النِّصفُ نصفاً . ولما وردَ الحارثُ بنُ قيس الجَهضمي بعبيد الله بن زياد مَنزل مسْعود بن عَمْرو العَتكي من غير إذن ، وأراد مسعودٌ إخراجه عن منزله - قال عبيدُ الله . قد أجَارتني ابنةُ عمِّك عليك ، وعقدُها العقدُ الذي لا يُحَلّ ، ويلزُمك وهذا ثوبها علي ، وطعامُها في مَدَاخري وقد ألْتَفَّ علي منزلُها . وشهد لهُ الحارثُ بذلك . وأشارُوا مَرةً على عبيد الله بالحقنّة فتفحشها ، فقالوا : إنما يتولاها الطبيبُ . قال : أنا بالصاحب آنس . وقال زياد : لا يغُرنك من الجاهل كثرةُ الالتفاف ، وسرعةُ الجواب . قدم رجلٌ إلى زياد ، فأمرَ بضرْبه بالسياط ، فقال : أسأَلُك بحق عُبَيد قال : دَعوه إلا يكُن والداً فقد كان أباً . قدم زياد فخطب خُطبةً أعجبت مَن حضرهُ ، فقال عَمْرُو بنُ العاص : للهِ أبو هذا لو كان قُرشيا لساق العرب بعصَاه . قال أبو سُفيان : أمَا والله إني لأعرفُ أباه ، والذي وضعَهُ في رحم أمِّه . فقال له علي - عليه السلام - : مَه يا أبا سفيان ، فإنك تعلم أن عمَر إليك بالمساءَة سريعٌ . فلما كان زمنُ علي عليه السلام ، وولي زيادٌ فارسَ تأوي إليها بالليل كما تأوي الطير إلا وُكُورها ، وأيْمُ الله ، إنه لولا انتظاري بك ما الله أعلم به ، ولقلت كما قال العبد الصالح : فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بجنودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بها ولنُخرْجَنَّهم منها أذلةً وهُمْ صاغرون . وكتب في أسْفل كتابه شعراً يقول فيه : تَنْسَى أباك وقد خفَّتْ نعامتُه . . . إذا تخطبُ الناسَ والوَالي لنا عُمَرُ فقام زياد فخطب ، ثم قال : والعَجَبُ كُل العَجب أن ابن آكلة الأكباد ، ورأس النِّفاق يُهددني وبيني وبينه ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وآله ، وزوجُ سيِّدة نساءِ العالمين ، وأبو السِّبْطين ، وصاحبُ الوَلاء والمنزلة والإخاء : أمَا والله لو يَأذنُ لي فيه لوجَدني أحُمرَ مِحَشًّا ضَرْوباً بالسيف قال : وكتب إلى علي عليه السلام بما كتب إلى معاويةُ ، فكتب إليه علي عليه السلام . أما بعد فإني وَليتك ما وليتُك ، وأنا أراك لذلك أهْلاً . وإنه قد كانت من أبي سُفيان فلتةٌ لزمان عُمر من أماني التيه . وكذب اليقين لم تستوجبْ بها ميراثاً ، ولم يستحق بها نسباً. وإن معاوية يأتي الرجل منْ بين يديه من خَلفه ، وعن يمينه وعن شماله كالشيطان الرجيم . فاحذَرْه ثم احذرْه . والسلامُ . فلما كان زمنُ معاوية ، وقدم عليه زيادٌ جمعَ مُعاوية الناس ، وصعد المنبر ، وأصعدَ زياداً معه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناسُ ، إني قد عرفتُ شَبَهنا أهْلَ البيت في زياد . فمَن كانت عنده شهادةٌ فليَقُمْ بها . فقام الناسُ ، فشهدُوا أنه ابنُ أبي سُفيان ، وأقر به قبل موته . ثم قام أبو مريم السلُولي - وكان خَماراً في الجاهلية - فقال : أشْهدُ - يا أمير المؤمنين - أن أبا سفيان قدم علينا الطائفَ ، فأناني فاشتريتُ له لحماً ، وخمراً ، وطعاماً . فلما أكل قال : يا أبا مريم ، أصبْ لنا بغياً . فخرجتُ أتيتُ سُمية فقلتُ لها : إن أبا سفيان مَنْ قد عرفت شرفَه وحاله . وقد أمرني أنْ أصيب له بغياً ، فقالت لي : نعم يجيءُ الآن عُبيدٌ من قبَلِ غنمه - وكان راعياً - فإذا تعشى ، ووضع رأسَه أتيتُه فرجعتُ إلى أبي سفيان فأعلمتُه . فلم تلبثُ أن جاءت تجُرُّ ذيلَهَا ، فدخلت معه ، فلم تزلْ عنده حتى أصبحتْ فقلتُ لما انصرفتْ : كيفَ رأيتَ صَاحبتَك ؟ فقال : خَيْر صَاحب لولا دَفرٌ في إبطَيْها . فقال زياد منْ فوق المنبر : مَهُ يا أباَ مريْمَ : لا تشتمْ أمهات الرجالِ فتُشتَمَ أمكَ . ثم قام زياد ، وأنْصت الناسُ ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناسُ : إن معاوية والشهودَ قد قالوا ما سمعتُم ، ولستُ أدري حق هذا منْ باطله ، وهو والشهودُ أعلمُ بما قالوا : وإنما عبيدٌ أبٌ مبْرورٌ أو والدٌ مشكور . ثم نزل . وقال الشعبي : قَدم زيادٌ الكوفةَ فدنوْتُ من المنبر لأسمعَ كلامَه فلم أرَ أحداً يتكلمُ فيُحسن إلا تمنيت أنْ يسكتَ مخافةَ أن يُسيءَ غيرَ زياد ، فإنَّه كان لا يزدَادُ إكثاراً إلا ازدادَ إحساناً . فقال بعد أن حمدَ الله : إن هذا الأمرَ أتاني وأنا بالبصرة ، فأردتُ أن أخُرجَ إليكم في ألفين مِنْ شُرطِها . ثم ذكرتُ أنكم أهلُ حقٍّ ، وأن الحقّ طالما دَفعَ الباطلَ . فخرجتْ إليكم أهل بيتي . فالحمد لله الذي رفع منَّا ما وضع الناسُ ، وحفظ منا ما ضيعوا . أيها الناس : إنا سُسنا وساسَنا السائسون ، وجَرَّبْنا ، وجربَنا المجَرِّبون ، فوجدنا هذا الأمرَ لا يُصلحُنه إلى شدّة من غير عُنف ، ولينٌ في غير ضعف ، فلا أعلمَنَّ أنَّا أغلقْنا باباً ففتحتُموه ، ولا حللْنا عَقْدا فشدَدتُموه . وإني لا أعدُكم خيراً ولا شراً إلا وفيتُ به ، فإذا تعلقتُم على بكذبة فلا ولاية لي عليكم . وإني آمُرُكم بما آمُرُ به نفسي وأهلي فمَنْ حال دون أمري ضربتُ عنقه . ألا وأني لا أهْتكُ لأحد منكم سِتْراً ، ولا أطلع منْ وراء باب، ولا أقيلُ أحداً منكم عَثْرةً . قال : فحَصبْوه من كل جانب فجلَس على المنبر حتى سكتُوا وأمسكوا ثُم نادى الشرط ، فأخذوا بأبواب المسجد ، وألقى كُرسياً على بعض الأبواب ثم عَرضَ الناسَ أربعةً أربعةً يستحلفهُم ، فمن حلف أنه لم يحصبه تركه ، ومن أبى حبَسَه . قال : فقطع يومئذ أيدي ثمانين إنساناً ممنْ لم يحلف . فقال الحسن البصري : أوعدَ عمرُ بنُ الخطاب فُعوفي وأوعدَ زيادٌ فابتُلي وقال أيضاً : تشبه زيادٌ بعمرَ فأفْرط ، وتشبه الحجاج بزياد فأهْلك الناسَ . قال زيادٌ لابنه : إذا دخلْتَ على السُّلْطان فادعُ له ، ثم اصفح عنه صفْحاً جميلاً . ولا يَرينَّ فيك تهالُكاً عليه ولا انقباضاً منه .

وسمع رجلاً يدعو عليه وهو يقول : اللهمَّ اعزلْ عنا زيادا . فقال له : قل ، وأبْدلْنا به خيراً منه . وقال لابنه عبيد الله عند موته : لا تدنِّس عرضْك ، ولا تَبْذُلَّن وجهك ، ولا تُخْلقن جدتك بالطلب إلى مَنْ ردك كان ردُّه عليْكَ ، وإنْ قضَى ، حاجتَك جعلَها عليْك مَنًّا . فاحتمل الفقرَ بالتنزُّه عما في يد غيرك ، والزم القناعةَ بما قُسم لك ، فإن سُوء حمل الفقر يَضعُ الشريف ، ويُخْملُ الذِّكْر ، ويُوجبُ الحرمانَ . قال زياد : يُعجُبني من الرجل إذا أتى مجلساً أنْ يعلمَ أيْنَ مكانُهُ منْه فلا يتعداه إلى غيره ، وإذا سيمَ خُطةَ خسف أنْ يقول : لا ، بملء فيه .