الجزء الخامس - الباب الثالث كلام الأحنف

الباب الثالث كلام الأحنف

رأى مع رجل درهماً ، فقال : تحِبُّه ؟ قال : نعم . أما إنه لا ينفعكُ حتى تفارقه . قال : ما عرضتُ الإنصاف على رجل فقبِله إلا هبْتُه ، ولا أباهُ إلا طمعتُ فيه . وقال : الأذى تحكك في ناحية بيتي أحب إلي من أيِّم رددت عنها كُفواً. وقيل له : من السيد ؟ : قال : الذليلُ في نفسه ، الأحمقُ في مالهِ ، المعْنيُّ بأمر قومه ، الناظر للعامّة . وقال : رُب رجل لا تُملُّ فوائده وإنْ غاب ، وأخر لا يسلمَ جليُسه وإن احُترس . وقال : كلُّ ملك غدار وكلّ دابة شرود وكل امرأة خئُوفٌ . وقال : سهرت ليلةً في كلمة أرضى بها سُلطاني ، ولا أسخطُ بِها ربيِّ فما وجدتُها . وقيل له : ما الحلم ؟ قال : الرِّضاءُ بالذُّل .

وقيل لرجل : ليت طول حلمنا عنك لا يدعُو جهل غيرنا إليك . وقال : أكرموا سفهاءَكم فإنهم يكفونكُم العار والنار . وقال : وإياكم والكسل والضجر ، فإنك إن كسلت لم تؤردِّ حقاً ، وإن ضَجِرت لم تصبر على حقِّ . وذكرَ رجلاً فقال: لا يحقر ضعيفاً ، ولا يحسد شريفاً . وقال : الشرفُ مَن عُدَّت سقطاتُه . وقيل له : ما اللؤُّم ؟ قال : الاستعصاءُ على الملهوف . قيل : فما الجود ؟ قال : الاحتيالُ للمعروف . وسمع رجلا يقول : ما بتُّ البارحةً من وجع ضرس . وجعل يُكثر ، فقال له الأحنف : كم تكثر فو الله لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة ، فما قلتُ لأحد . وقيل له : ما الحلم؟ قال : الذُّل . وقال : لستُ بحليم ولكني أتحالم . وقال يومَ قُتل مصعب : انظروا إلى المصعب ، على أي دَابَّة يخرج ؟ فإن خرج على برْذَوْن فهو يريد الموت ، وإن خرج على فرس فهو يريد الهرب . قال : فخرج على برذونٍ يجر بطنه . وقال الأحنف : استميلُوا النِّساء بحسن الأخلاق وفُحْشِ النكّاح . وقال : وجدتُ الحلمَ أنصر لي من الرِّجال . جلس معاويةُ يوماً - وعنده وجُوه الناس ، وفيهم الأحنفُ ، إذا دخل رجلٌ من أهل الشام ، فقام خطيباً ، وكان آخر كلامه : أن لعَن علياً عليه السلام . فأطرق الناس ، وتكلم الأحنفْ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هذا القائل آنفاً ما قال، لو علم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم ، فاتق الله ، ودع علياً ، فقد لقي الله ، وافرد في حفرته ، وخلا بعمله . وكان - والله - ما علمنا المبرِّز بسيفه ، الطاهر في خُلُقه ، الميمون النقيبة ، العظيم المصيبة .

فقال معاوية ، يا أحنفُ لقد أغضيتَ العينَ عن القذى ، وقُلت بغير ما نرى ، وأيْم الله لتصعدنَّ المنبر ، فلتلعننه طائعاً أو كارها . قال الأحنف : إن تُعفني فهو خيرٌ ، وإن تجبرني على ذلك ، فو الله لا تجري به شفتاي . قال : قُم ، فاصعد . قال : أمَا والله لأُنصفنك في القول والفعل . قال معاوية وما أنت قائلٌ إن أنصفتني ؟ قال : أصعد فأحمد الله بما هو أهلُه ، وأصلي على نبيه . ثم أقولُ : أيُّها الناس . إن معاوية أمَرني أن ألعن علياً . ألا وإن علياً ومعاوية اختلفا واقتتلا ، وادعى كلُّ واحد منهما أنه مَبْغِيٌّ عليه ، وعلى فئته ، فإذا دعوتُ فأمِّنوا - يرحمكم الله . ثم أقولُ : اللهم ألعن أنت وملائكتُك ، وأنبياؤُك ، ورسلك ، وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه ، والعن الفئة الباغية على الفئة المبغى عليها . آمين رب العالمين . فقال معاوية : إذن نُعفيك يا أبا بحر . وقال له رجل : بِمَ سُدْتَ ؟ قال : بَتْركي من أمرك ما لا يعنيني ، كما عناك من أمري ما لا يعنيك . وقال : من حقِّ الصديق أن تُحتمل له ثلاثٌ : ظلم الغضب ، وظلم الدالة ، وظلم الهفوة . خطب معاوية مرة ، فقال : إن الله يقول في كتابه : وإن مِّن شَيء إلا عندنا خزائنهُ فعلامَ تلومونني إذا قصرتُ في أعطياتكم ؟ فقال الأحنفُ : فجعلته أنت في خزائنك ، وحُلْت بيننا وبينه ولم تُنزله إلا بقدر معلوم . قال : فكأنما ألُقمه حَجَراً . وقال : ما نازعني أحد قطُّ إلا أخذتُ عليه بأُمور ثلاثة : إن كان فوقي عرفتُ له قدرهُ .

وإن كان دوني أكرمتُ نفسي عنه ، وإن كان مثلي تفضلتُ عليه . وقام بصفِّين ، فاشتد ، فقيل له : أين الحلم يا أبا بحر ؟ . قال : ذاك عند عُقْر الحي . وقال : لم تزل العربُ تستخفُّ بأبناءِ الإمَاءِ حتى لحق هؤلاء الثلاثةُ : عليُّ بن الحسين ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله . فاستقل بنو الإماء ولحقُوا . وقال : لا تشاور الجائع حتى يشبع ، ولا العطشان حتى يَرْوى ، ولا الأسيرَ حتى يُطلق ، ولا المضلَّ حتى يجد ، ولا الراغب حتى ينجح . وأتى مصعبَ بنَ الزبير يكلِّمه في قوم حبسهم ، فقال : أصلح الله الأمير ، إن كانوا حُبُسوا في باطل فالحقُّ يُخرِجُهم ، وإن كانُوا حُبسوا في حقٍّ فالعفو يسعُهم . فخلاهُم . وقال : السُّودَد ، مع السواد . يريد أن السيد مَن أتتهُ السِّيادةُ في حداثته وسَواد رأسه ولحيته . وجلس على باب زياد ، فمرت به ساقيةٌ ، فوضعت قربتها ، وقالت : يا شيخُ . احفظ قربتي حتى أعودَ ، ومضت ، وأتاهُ الأذنُ فقال : انهض . قال : لا ، فإن معي وديعة . وأقامَ حتى جاءَت . وشتمه يوماً رجلٌ وألح عليه فقال لهُ : يَا بن أمي . هل لك في الغداء ؟ فإنك منذُ اليوم تَحْدْو بجَمل ثَفال . وقال : كُنا نختلفُ إلى قيس بن عاصم في الحلم ، كمَا يُختلفُ إلى الفُقهاءِ في الفقه . وشتمه رجلٌ ، فسَكت عنهُ ، فأعادَ ، فسكت ، فقال الرجلُ : والهفاهُ وما يمنعهُ أن يرد عليَّ إلا هَوانِي عَليه . وقال الأحنفُ : مَن لم يصبر على كملة سمع كلمات ، ورُبَّ غيظ قد تجرعتُه مخافةَ مَا هُواَ أشدُّ منه . وكان إذا أتاهُ إنسانٌ أوسع لهُ ، فإن لم يجد موضعاً تحرك ليريه أنه يَوسعُ له .

وقال : ما جلستُ قط . مجلساً . فخفتُ أن أقامَ عنهُ لغيري . وكان يقولُ : إياك وصدر المجلس فإنه مجلس قُلعةٌ . وقال : خير الإخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك في المودة وإن احتْجتَ إليه لم يَنقصك منها ، وإن كُوثرت عَضَّدك ، وإن احتجت إلى معونته رفدك . وقال : العتابُ مفتاحُ التِّقالِي ، والعتابُ خيرٌ من الحقد . ومر بعكرَاش بن ذُؤيب - وكان ممن شهد الجمل مع عائشة - فقُطعت يداه جميعاً . فصاح به عكراش : يا مخِّذلُ . فقال الأحنفُ إنك لو كنت أطعتني لأكلت بيمينك وامتسحت بشمالك . ويقال : إنه لم يُرَ قطُّ ضجرا إلا مرةً واحدة ، فإنه أعطي خياطاً قميصاً بخيطُهُ ، فحَبسه حولين . فأخذ الأحنفُ بيَد ابنه بحر ، فأتى به الخياط ، وقال : إذا متُّ فادفع القميص إلى هذا. وكان يقول : لا صديقِ لملَول ، ولا وَفاءَ لكّذوب ، ولا راحة لحسود ، ولا مروءة لبخيل ، ولا سودَد لسيِّئ الخلْق . وقال : كاد العلماءُ يلونُون أرباباً ، وكل عزٍّ لم يوطِّد بعلمٍ فإلى ذلٍّ ما يصير . قال رجلٌ للأحنف : تسمعُ بالمعيديِّ خير من أن تراه . قال : وما ذممت منِّي يا أخي ؟ قال : الدمامة ، وقِصَرَ القامة . قال : لقد عبت ما لم أؤامَر فيه . وأسمعه رجلٌ ، فأكثر . فلما سكت ، قال الأحنفُ : يا هذا ، ما ستر اللهُ أكثر . وقال : كثرةُ الضحك تُذهبُ الهيبة ، وكثرةُ المَزح تُذهبُ المروءة ، ومَن لزمَ شيئاً عُرف به . لما نَصَّب معاويةُ ابنه يزيدَ لولاية العهد أقعدهُ قبةً حمراء ، فجعل الناس يُسلِّمون على معاوية ، ثم يميلُون إلى يزيدَ حتى جاءهُ رجلٌ ففعل ذلك . ثم رجع إلى معاوية فقال : يا أمير المؤمنين ، اعلم أنك لو لم تُولِّ هذا أمور المسلمين لأضعتها - والأحنفُ جالسٌ - فقال له معاويةُ : ما بالُك لا تقولُ يا أبا بحر فقال :

أخافُ الله إن كذبتُ ، وأخافكم إن صدقتُ . فقال جزاك اللهُ عن الطاعَة خيراً . وأمرَ له بأُلُوف . فلما خرج الأحنفُ لقيَهُ الرجلُ بالباب ، فقال : يا أبا بحر : إني لأعلم أن شر ما خلق الله هذا وابنُه ، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فلسنا نطمعُ في استخدامها إلا بما سمعت . فقال له الأحنفُ : يا هذا أمُسِك ، فإن ذات الوَجهين خليقٌ ألا يكون عند الله وَجيهاً . وقال الأحنف : ألا أدلكُم على المحمَدة بلا مرزئة : الخلقُ السجيح والكفُّ عن القبيح. وقال الأحنف : ألا أخبركُم بأدوأ الداءِ ؟ الخلقُ الدنيءُ ، واللسان البذيء وقال : ثلاثٌ فيَّ ما أقولُهن إلا ليعتبرَ معتبرٌ: ما دَخلتُ بين اثنين حتى يُدخلاني بينهُما ، ولا أتيتُ باب أحد من هؤلاء ما لم أدع إليه - يعني : السُّلطان - ولا حَللتُ حَبَوتي إلى ما يقومُ إليه الناس . وقيل له : أي المجالس أطيبُ ؟ قال : ما سَلم فيه البصر ، واتَّدع فيه البدَنُ . وكان يقول : ما تزالُ العربُ بخير ما ليست العمائمَ ، وتقلدتِ السيوف ولم تَعُدَّ الحلم ذُلاً ولا النواهب بينها ضعةً . قوله : لبست العمائم ، يريد ما حافظت على زيِّها . وقال : ما شاتمتُ أحداً منذُ كنت رجلاً ، ولا زحَمتْ رُكبتاي ركبتيه ، وإذا لم أصل مُجنديَّ حتى يُنتح جبينه - كما تنتح الحميتُ فو الله ما وصلتُه . وقال : إني لأجالس الأحمق الساعة فأتبين ذلك في عقلي .

وقال له معاويةُ : بلَّغني عنك الثقّةُ . فقال : إن الثقة لا يبلِّغُ . وعُدَّت على الأحنف سَقطةٌ ، وهو أن عَمرو بن الأهتم دس إليه رجلاً ليسفِّههُ . فقال : يا أبا برح : مَن كان أبوك في قومه ؟ قال : كان من أوْسطهم ، لم يسدُهم ولم يتخلف عنهم . فرجع إليه ثانيةً ، ففطِن الأحنفُ أنه من قِبل عمرو . فقال : ما كان مالُ أبيك ؟ قال : كانت له صِرمةٌ يمنح منها ، ويقرى ولم يكُن أهتَم سَلاَّحاً . وسمع رجلاً يقول : التعُّلم في الصِّغر ، كالنقش على الحجر . فقال الأحنف . الكبيرُ أكبرُ عَقْلاً ، ولكنه أشْغلُ قلْباً . ولما قدَم على عمرَ في وفْد أهْل البصرة وأهل الكوفة فقضى حَوائجهُم قال الأحْنفُ : إن أهل هذه الأمصار نزلُوا على مثل حدّقة البعير ، من العيون العذاب ، تأْتيهم فواكهُهم لم تتغير . وإنا نزلنا بأرض سبخة نشاشة ، طرَفٌ لها بالفلاة . وطرف بالبحر الأُجاج . يأْتينا ما يأْتينا في مثل مَرئ النعامة ، فإن لم ترفع خسيستنا . بعطاءٍ تُفضِّلُنا به على سائر الأمصار نهلك . قيل : لما أجمَع مُعاويةُ على البيعة ليزيدَ جمع الخطباءَ فتكلموا - والأحنفُ ساكتٌ - فقال : يا أبا بحر . ما منعَك من الكلام ؟ قال : أنت أعلُمنا بيزيدَ ليله ونهاره ، وسره ، وعَلانيته ، فإن كنت تعلُم أن الخلافة خيرٌ لهُ فاستخلفْه وإن كنت تعلُم أنها شرُّ له فلا تُوَلِّه الدُّنَيا وأنت تذهبُ إلى الآخرة ، فإنما لك ما طاب ، وعلينا أن نقُول : سمعنا وأطعنا : وقال الأحنفُ : المروءةُ كلُّها إصلاحُ المال ، وبذلُه للحقوق . وكتب إليه الحسينُ عليه السلام : فقال للرسول : قد بلونا أبا حسن ، وآل أبي حسن ، فلم نجد عندَهُم إيالةً للمُلك ، ولا مكيدةً في الحرب . وقال لعلّي عليه السلام : إني قد عجمتُ الرجل ، وحلبتُ أشطرَهُ فوجدتُه قريب العقْر، كليل المُدْية . يعني أبا موسى الأشعري .

وكان يقول : ما بعدَ الصواب إلا الخطأُ ، وما بعد مَنْعِهِنَّ الأَكْفاءَ بذلُهن للسلفة والغوغاء . وكان يقول : لا تطلُبوا الحاجة إلى ثلاثة : إلى كذوبٍ فإنه يُقرِّبها عليك وهي بعيدةٌ ، ويباعدُها وهي قريبةٌ ، ولا أحمق فإنه يريد أن ينفعَك فيضرك ، ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجةٌ ، فإنه يجعلُ حاجتك وقاية لحاجته . وقال : ما كشفتُ أحداً قطُّ عن حال عنده إلا وجَدتُها دون ما كنتُ أظنُّ . وقال : رُب ملوم لا ذنْب له . وقدم وفد العراق على معاوية : وفيهم الأحنف - فخرج الآذن ، فقال : إن أمير المؤمنين يعزمُ عليك ألا يتكلم أحدٌ إلا لنفسه . فلما وصلوا إليه قال الأحنفُ : لولا عزمةُ . أمير المؤمنين لأخبرتُه أن دفةً دفت ، ونازلةً نزلت ، ونائبة نابت ونابتةً نبتت ، كلُّهم به حاجةٌ إلى معروف أمير المؤمنين ، وبرِّه . قال : حسبك يا أبا بحر ، فقد كفيت الغائب والساعد . وجرى ذكُر رجل عنده فاعتابوه . فقال الأحنفُ : ما لكُم ولهُ ؟ يأكل لَذَّته ، ويكفي قِرنه ، وتحملُ الأرض ثقله . وقال لمعاوية - وقد ذكَّره مقامهُ بصفين - : والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحِنا ، وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتِقنا . ولئن مددت بشبر من غدر لنمدن بباع مِن مَحْتد ، ولئن شئت لتستصِفيَن كدر قُلوبنا بصفو حِلمك . قال : فإني أفعلُ . ولما خطب زيادٌ بالبصرة قام الأحنفُ فقال : أيها الأميرُ ، قد قلت فأَسمعتَ ووعظت فأَبلغت أيُّها الأميرُ ، إنما السيف بحدِّه، والفرُس بشدِّه ، والرجلُ بجِده ، وإنما الثناءُ بعد البلاءِ ، والحمدُ بعد العطاءِ ، ولن نُثني حتى نبتلي .

وقال الأحنفُ : لا تَعْدَّنَّ شتم الوالي شتماً ، ولا إغلاظهُ إغلاظاً ، فإن ريحَ العزة تبسط اللِّسان بالغِلظةِ في غير بأْس ولا سَخط . وقال : لا تنقبضُوا عن السُّلطان ، ولا تتهالكُوا عليهِ ، فإنه من أشرف للسلطان ازدراه ، ومَنْ تفرغَ له تخطاه . وقال : ما جَلستُ مذ كنت مَجِلِسَ قُلْعَةٍ ولا ردَدتُ على كُفو مقالةً تُسوءُه ولا خاصمتُ في أمرِ كريهةٍ لي ، لأن ما بذلُتُ لصاحِبها أكثرُ مما أخاصِمُه فيه من أجْلِها . وقال كفى بالرجلِ حَزْماً إذا اجتمع عليه أمْران ، فلم يدرِ أيُّهما الصًّوابُ أن ينظْرَ أغلبهما عليه فيحذرهُ . ولما حُكِّم أبو موسى أتاهُ الأحنفُ فقال : يا أبا موسى . إن هذا مسيرٌ له ما بَعْدَه من عزِّ الدُّنيا أو ذُلِّها آخرَ الدهر . ادعُ القوْم إلى طاعة علي ، فإن أبَوْا فادْعهُم إلى أن يختار أهلُ الشام من قريش العراق مَن أحبُّوا ، ويختار أهلُ العراق من قريش الشامِ من أحبُّوا . وإياك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحَه بنية أو أن يُقعِدَك على صَدْر المجلس ، فإنها خديعةٌ ، أو أن يَضُمَّكَ وإياه بيتٌ يكمنُ لك فيه الرجالُ ، ودَعْهُ فليتكلمْ لتكون عليه بالخيار ، فإن البادئ مُستغلقٌ ، والمجيب ناطقٌ . فما عمل أبو موسى إلا بخلاف ما أشار به . فقال لَهُ الأحنفُ - والتقيا بعد ذلك - : أدْخِلْ - واللهِ - قدميْك في خُفٍّ وَاحِد . وقال بخُراسان : يا بني تَميم ، تحابُّوا وتباذَلَوا تعْتدل أمورُكم ، وابدءُوا بجهادِ بطونكم ، وفروجِكم يصلُح دينكم ، ولا تَغُلُّوا يسلم لكم جهادكم . وقال لأهل الكوفة : نحن أبعدُ منكم سرَّيةً ، وأعظَمُ منكم تجربةً ، وأكثر منكم دُرِّيةً ، وأعْدى منكم برِّية . ولما قدمت الوفودُ على عُمَر قام هلالُ بنُ بِشر ، فقال : يا أميرَ المؤمنين إنا غُرَّةُ من خَلْفنا مِن قومنا ، وشادةُ من وراءنا من أهلِ مِصْرِنَا ، وإنك إن تصرِفنا بالزيادة في أعطِياتنا ، والفرائض لعيالاتنا - يزددُ بذلك الشريفُ تأميلاً ، وتكُن لهم أباً وَصُولا ، وإن تكُنْ - مع ما نَمُتُّ به من فضائِلكُ ونُدْلي بأسبابك - كالجُدِّ لا يُحلُّ ولا يرْحلُ نرجع بآنُفٍ مَصْلوَمة ، وجُدود عاثرةٍ ، فِمحنا وأهالينا بَسْجلٍ مُتْرَع من سِجالك المُترعة . وقام زيدُ بن جبلة ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، سوِّدِ الشريف ، وأكرم الحسيبَ ، وأزْرعْ عِندنا من أيَاديِك ما تسدُّ به الخصاصة ونطرد به الفاقة . فإنا بقُف من الأرض يابس الأكناف ، مٌقشعرِّ الذروَة ، لا شجر ولا زرع ، وإنا من العرب اليوم إذا أتيناك بمرأى ومسمع . فقام الأحنفُ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن مفاتيحَ الخير بيد الله ، والحرصَ قائدُ الحرمان ، فاتق الله فيما لا يُغني عنك يومَ القيامة قيلا ، ولا قالاً واجعل بينك وبين رعيتك من العدل والإنصاف ، شيئاً يكفيك وفادة الوُفوِد ، واستماحةَ المُمْتاح ، فإن كُل امرئ إنما يجمع في وعائه إلا القُل ممن عسى أن تقتحمهُ الأعينُ وتخونهم الألسن ، فلا يفد إليك .