الجزء الخامس - الباب السادس كلام جماعة من الأمراء

الباب السادس كلام جماعة من الأُمراء

خطب يوسف بن عُمر ، فقال : اتقوا الله عباد الله . فكم من مُؤمِّل أملاً لا يبلُغُه ، وجامعٍ مالا يأْكله ، ومانعٍ ما سوف يترُكه ، ولعله من باطلٍ جمَعَهُ ، ومن حقٍّ منعه . أصابه حراما وورثه عدُوا ، واحتمل إصره ، وباءَ بوزره ، وورَد عَلَى ربه آسفاً لاهفاً خسر الدُّنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسْران المبينُ . صعد وردُ بن حاتم المنبر ، فلما رآهم قد فتحُوا أسماعَهم ، وشَقُّوا أبْصارهم نحوه قال : نكِّسوا رؤوْسكم ، وغُضُّوا أبْصاركم ، فإن أوَّل مركبٍ صعبٌ ، وإذا يسَّر الله فتْحَ قُفْلِ تَيسَر . كان يوسفُ بنُ عُمر يقول : كان الحجاج الدُّخان وأنا اللهب ؟ قام خالدُ بنُ عبد الله على المنبر بواسط خطيباً . فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : أيُّها الناس تنافُسوا في المكارم ، وسارعُوا إلى المغانم ، واشتُروا الحمد بالجُود ، ولا تكتسبُوا بالمَطْل ذماً ولا تعتدُّوا بالمعروف ما لم تُعجِّلُوه ، ومهما يكُن لأحدكم عند أحد نعمةٌ فلم يبلُغ شكرَها فالله أحسنُ لها جزاءً وأجزلُ عليها عطاءً . واعلُموا أن حوائج النّاس إليكُم نعمَ من الله عليكُم ، فلا تملُّوا النِّعم فتتحولَ نقماً . وأعلمُوا أن أفضل المال ما أكسبَ أجراً ، وورَّث ذكراً ، ولو رأيتُم المعروف رجلاً رأيتُموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين ولو رأيتم البخل رجلاً رأيتموه مُشوَّهاً قبيحاً تنفر عنهُ القُلوبُ وتغضِي عنهُ الأبصارُ . أيها الناسُ : إن أجود الناس من أعطى من لا يرجُوهُ ، وأعظمَ الناس عفواً من عفا من قُدرة ، وأوصل الناس من وصل من قطعهُ ومن لم يطب حرثُه لم يَزْكُ نبتُه . والأصولُ عن مغارسها تنمُو ، وبأُصولها تسمُو . أقولُ قولي هذا وأستغفر الله لي ولكُم . أراد رجلٌ أني مدح رجلاً عند خالد بن عبد الله ، فقال : والله لقد دخلتُ إليه فرأيته أهدى الناس داراً وفَرْشاً وآلةً . فقال خالدٌ : لقد ذممتُه من حيث أردت مدحهُ هذا والله حال من لم تدع فيه شهوتُهُ للمعروف فضلاً . حدث بعضُهم قال : لما وَلي أبُو بكر بنُ عبد الله المدينة وطال مُكُثهُ عليها كان يبلُغُهُ عن قوم من أهلها تناولٌ لأصحاب رسُول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإسعافٌ من آخرين لهُم على ذلك، فأمر أهل البُيوتات ، ووجوه الناس في يوم جُمعة أن يقرُبُوا من المنبر ، فلما فرغ من خطبة الجُمعة قال : أيُّها الناسُ: إنِّي قائلٌ قولاً ، فمن وعاهُ وأدأه فعلى الله جزاؤُه ومن لم يعه فلا يَعْدَمَنَّ ذماً . مهما قصرتُم عنْهُ من تفْضِيلة فلن تعجِزُوا عن تحصيلهِ ، فأرعُوه أبصَاركُم ، وأوعُوهُ أسمَاعَكُم ، واشْعِرُوه قُلُوبَكُم ، فالموعِظةُ حَيَاةٌ والمؤمنُون إخُوةٌ . وعَلى الله قصدُ السبيل ، ولو شاءَ لهداكُم أجمعين . فأْتوا الهدّي تهتدوا ، واجتنبوا الغي ترشُدوا وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون . والله جل ثناؤه . وتقدست أسماؤه أمَرَكم بالجماعة ، ورضيَها لكم ، ونهاكم عن الفرقة ، وسخطها منكم " اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحَبل الله جميعاً لا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " . جعلنا الله وإياكم ممن تتبع رضوانه ، وتجنبَ سخطه ، فإنما نحن به وله . إن الله بعث محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالدِّين ، واختاره على العالمين ، واختار له أصحاباً على الحقِّ ، ووزراءَ دون الْخلق ، اختصم به ، وانتخبهم له ، فصدقوه ، ونصروه ، وعَزروه ، ووَقروه ، فلم يُقدِموا إلا بأَمره ، ولم يُحْجِموا إلا عن رأيه ، وكانوا أعوانه بعهده ، وخلفاءَه من بعده ، فوصفهم فأحسَن صفتهم ، وذكرهم فأثنى عليهم ، فقال وقوله الحقُّ : " محمدٌ رسول الله والذين معه أشداءُ على الكفاء رُحَمَاء بينهم تراهم رُكَعاً سُجّداً يَبْتغُونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً سِيماهم في وجوههم من اثر السُّجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرجَ شطأه فآزره فاستغلظ . فاستوى على سوقه يعجب الزُّراع ليغيظ بهم الكفار وعدّ الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةٌ وأجراً عظيماً . فمن غاظوه فقد كفرَ ، وخاب ، وفجر ، وخسر ، وقال عز وجل : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً الله ورسوله أولئك هم الصادقون . والذي تبوءُوا الدار والإيمان من قبلهم يحبُّون مَن هاجرَ إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصَاصَةٌ ومن يوق شح نفسه فأُولئك هم المفلحون . والذي جاءُوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعَل في قلوبنا إلاّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤُوفٌ رحيم " . فمن خالف شريطة الله عليه لهم ، وأمْرَه إياه فيهم ، فلا حق له في الفيء ، ولا سَهمَ له في الإسلام في آيٍ كثيرة من القرآن . فَمَرقت مارقةٌ من الدِّين وفارقوا المسلمين ، وجعلوهم عِضين ، وتشعبوا أحزاباً أشابات ، وأوشابا ، فخالفوا كتاب الله فيهم ، وثناءَه عليهم ، وآذوا رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) وآله وسلم - فهيم ، فخابوا ، وخسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين . " أفمن كان على بينة من ربه كمن زيِّن له سوءُ عَمله واتبعوا أهواءَهم " . مالي أرى عيونا خُزْرا ، ورقاباَ صُعْرا ، وبطونا بُجْرا ، وشجى لا يسيغه الماء ، وداءً لا يشرب فيه الدواء . " أفنضرب عنك الذكرَ صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين " . كلا والله ، بل هو الهناءُ ، والطلاء حتى يظهرَ العذر ، ويبوح الشرُّ ، ويَضِحَ الغيْب ، ويُسَوَّسَ الجُنُب ، فإنكم لم تخلقوا عبثاً ، ولن تتركوا سدى . ويحكم إني لست أتاوياً أعَلم ، ولا بَدَوياً أفهم . قد حلبتكم أشطرا ، وقلبتكم أبطناً ، وأظهرا ، فعرفت أنحاءكم ، وأهواءَكم ، وعلمت أن قوماً أظهروا الإسلام بألسنتهم ، وأسروُّا الكفرَ في قلوبهم ، فضربوا بعض أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وولَّدْوا الروايات فيهم ، وضربوا الاثنين . ووجَدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعواناً يأْذنون لهم ، ويُصْغُون إليهم . مهلاً مهلاً . قبل وقوع القوارع وحلول الروائع ، هذا لهذا ، ومع ذلك فلست أعتنش آئباً ، ولا أؤنب تائباً . عفا الله عما سلف وَمن عادَ فينتقم الله منه والله عزيزٌ ذو انتقام : فأسرُّوا خيراً ، وأظهروه ، وأجهَروا به ، وأخلصوا ، فطالما مَشيْتُم القهقرى ناكصين . وليعلمْ مَن أدبَر وأسَرَّ أنها موعظةٌ بين يَدَي نقمةٍ . ولست أدعوكم إلى هوى يتبع ، ولا إلى رأي يبتدع . إني أدعوكم إلى الطريقة المُثلى التي فيها خير الآخرة والأُولى . فمن أجاب فإلى رُشْده ، ومَن عَمِىَ فعن قصده . فَهلُم إلى الشرائع لا إلى الخدَائع ، ولا تَوَلًّوا عَن سَبيل المؤمنين ، ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ ، بئسَ للظالمين بدلاً . وإياكم وبُنَيَّات الطريق ، فعندها الترنيق ، والرهق وعليكم بالجادة فهي أسدُّ وأورد ، ودَعُوا الأماني فقد أردَتْ من كان قبلكم . وليس للإنسان إلا ما سَعى ، ولله الآخرة والأولى و " لا تفتُروا على الله كذباً فُيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " " ربنا لا تزع قلوبَنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لُدنك رحمةً إنك أنت الوهابُ " قالوا : إن قتيبة بن مُسلم قال لما قدم خراسَان : مَن كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فليَنبذه ، وإن كان في فيه فليلفظه ، وإن كان في صَدره فليَنفثه . فعجب الناس من حسن ما فصًّل وقسَّم . وقال قتيبة : إن الحريصَ يستعجل الذِّلة قبل إدراك البُغية . أهدى عبيدُ الله بن السّدي إلى عبد الله بن طاهر لما وَلي مصرَ – مائة وصيف ، مع كلِّ وصيف ألف دينار ، ووجهَ بذلك ليلاً . فرده ، وبَعَثَ إليه : لو قبلت هديتك ليلاً لقبلتها نهاراً وما " أتاني الله خيرٌ مما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرَحُون " قال المأمون لطاهر بن الحسين : صف لي عبد الله ابنك . قال : عن مدَحتُه هجّنتُه ، وإن هجوتُه ظلمتُه . ولدَ الناسُ ابناً ، وولدت ابناً يُحِسن ما أحسن ولا أحسن ما يحسن . وليّ عبدُ الله بن طاهر رجلاً بريدَ ما وراء النهر ، فكتب إليه : أنَّ ها هنا قوماً من العرب قد تعصبُوا وتأشبوا ، أظنُّ أمَرهم سيرتقي إلى ما هو أغلظ . منه . فكتب إليه عبدُ الله : إنما بُعِثْتَ للأخبار السابقة والحوادث الظاهرَة لا للكهانة والتظنَّي . قال عبيدُ الله بن عبد الله بن طاهر : لا ينقضي عَجبي من ثلاثة : إفلات عبّاس بن عمرو من القرمطيِّ ، وهُلْك أصحابه ، ووقوع الصغار ، وإفلات أصحابه . وولاية ابني الجسريْن وأنا متعظل . وقال محمدُ بن عبد الله بن طاهر لولده : عِفُّوا تشرُفوا ، واعشقوا تَظْرُفوا وقال عُبيدُ الله بن عبد الله في علته : لم يبق على من بأْس الزمان إلا العلة والخَلة وأشدهما على أهونهما على الناس . ولأنَّ ألمَ جسمي بالأوجاع أهون علي من ألم قلبي للحقِّ المُضاع . جرى ذكرُ رجل في مجلس سَلم بن قتيبة ، فنال منه بعضهم ، فأقبل سَلم فقال : يا هذا ، أوحَتْستَنا من نفسك ، وأيأَستنا من مودتك ، ودَللْتَنا على عورتك . قال بعضهم : كنت عند يزيد بن حاتم بإفريقية ، وكنت به خاصاً فعرض عليه تاجرٌ أدراعاً ، فأكثر تقليبها ، ومزاولة صاحبها . فقلت له : أصلح الله الأميرَ . فعلامَ تلوم السُّوق ؟ فقال : ويحَك إين لست أشتري أدراعاً إنما أشتري أعماراً .

قال المأمون لطاهر بن الحُسَين : أشر علي بإنسان يكفيني أمرَ مصرَ والشّام . فقال له طاهرٌ : قد أصبته . قال : من هو ؟ قال : عبدُ الله ابني ، وخادُمك ، وعَبدُك . قال كيف شجاعته ؟ قال : معه ما هو خيرٌ من ذلك قال له المأْمون : وما هو ؟ قال : الحزم . قال : فيكف سخاؤه ؟ قال : معه ما هو خير من ذلك . قال : وما هو ؟ قال : التنزُّه وخُلْفُ النفس . قال : فولاه فَعَفَّ عن إصابة خمسة آلاف ألف دينار . وَهب المأمون لطاهر الهني والمري - وهما نهران بقرب الرقة - فقال : يا أمير المؤمنين : كفى بالمرء شرَهاً أن يأخذ كل ما أعطي . ما هما يا أمير المؤمنين من ضياع السُّوقة ، ما يصلحان إلا لخليفة أو وليّ عهد . فلم يقبلهما . كتب الحجاجُ إلى قتيبة بن مُسلم : أني قد طلقت أم خالد بنت قطن الهلالية عن غير ريبة ، ولا سوءٍ ، فتزوَّجْها . فكتب إليه قتيبة : إنه ليس كلُّ مَطالع الأمير أحِبُّ أن أطلع . فقال الحجاج : ويَل أمِّ قتيبة . وأعجبه ذلك . وكان خالدُ بن عبد الله القسري مال عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وتنقّصه على المنابر . وذُكر أنه اتخذ طستاً في المسجد بالكوفة ميضأةُ ، وخَرق قناةً من الفرات إليها . ثم أخذ بيد أسقف النصارى يمشي في مسجد علي حتى وقف على الطست . ثم قال للأسقف : ادع فيها بالبرَكة . فوالله لدُعُاؤك عندي أرجى من دُعاء علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه وسلامُه على علي ، وغضبُه على خالد . وقدم عليه محمدُ بن عبد الله بن عمرو عثمان يَسْتمْنِحُه ، فلم يفعل بما يُحب . فقال : أما المنافع فلهذين الهاشميَّين . يعني داودَ بن علي بن عبد الله بن العباس ، وزيدَ بن علي عليه السلام .

وأما نحن فليس لنا إلا شتمُةُ علياً على المنبر . فبلغ ذلك خالداً فقال : إن أحب تناولنا له عُثمان بشيء . وكان لعنهُ الله يلعن على المنابر عَلياً - عليه السلام - فيقول : لعن الله لاعن عليِّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف ، وابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وزوج ابنته ، وأبا الحسن والحُسين ، ثم يُقبِل على الناس فيقولك أكَنَيْتُ . وبنى خالدٌ بِيعةً لأمِّه - وكانت نصرانيةً فاستعفاه المسلمون منها . فقال : لعن الله دينهم إن كان شراً من دينكم . قال المأمون لطاهر : يا أبا الطيب صف لي أخلاق المخلُوع . قال : كان يا أمير المؤمنين واسع الطرَب ، وضيِّق الأدَب ، يُبيح لنفسه ما تعافهُ هِمَمُ ذوي الأقدار . قال : كيف كانت حرُوبُه ؟ قال : كان يجمع الكتائب بالتبذير، ويفضُّها عنه بسوء التّدبير . قال : فكيف كنتُم له ؟ قال : كنا أُسْداً تبيتُ ، وفي أشداقها حُلوقُ الناكثين ، وتحت صدورها صدورُ المارقين . قال : إمَا أنه أولُ مَن يأْخذُ اللهُ بدَمه يومَ القيامة ثلاثةٌ : لستُ أنا ولا أنت رابعَهم ، وخامسهُم : الفضل بنُ الربيع ، وبشر بن المُعتمر ، والسندي بن شاهك . واللهُ ثأَر أخي ، وعندهم دَمُه . مرض عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ، فركب إليه الوزيرُ ، فلما انصرف عنه كتب إليه عبيدُ الله : ما أعرفُ أحداً جزى العلة خيراً غيري ، فإن جزيتُها الخيرَ ، وشكرتُ نعمتها علي ، إذ كانت إلى رُؤيتك مؤديةً . فأنا كالأعرابي الذي جزى يومَ الروع خيراً فقال : جَزى اللهُ يوم الروع خيراً فإنهُ أرانا على علاته لُقى ثابت وكتب المأْمونُ إلى طاهر يسألهُ عن استقلال ابنه عبد الله .

فكتب طاهرٌ إليه : عبدُ الله - يا أميرَ المؤمنين - ابني . وإن مدحتُه ذممتُه وإن ذممتُه ظلمتُه . ولنعمم الخلَفُ هو لأمير المؤمنين من عَبده . فكتب إليه المأْمونُ : ما رضيتَ أنْ قرَّظتهُ في حياتك حتى أوصَيتَنا به بعدَ وفاتك . قال طاهرٌ : طولُ العمر ثائر مولاه لأنه لا يُخْليك من رؤية محَبة في عدوَّ . قال الكبيُّ : قال لي خالدُ بنُ عبد الله بن يزيد القسري: ما يُعدُّ السُّؤدد . فيكُم ؟ فقلتُ : أما في الجاهلية فالرِّياسةُ ، وأما في الإسلام فالولاية ، وخيرُ من هذا وذاك التقوى . فقال لي : صدقت . كان أبي يقولُ : لم يُدرك الأولُ الشرف إلا بالفعل ، ولا يُدركُ الأخِرُ إلا بما أدرك به الأوِّلُ . قال : فقلت : صدق أبُوك ساد الأحنفُ بحمله ، وساد مالكُ بنُ مِسمع بمحبة العشيرة له ، وساد قُتيبة بدهائه ، وسادَ المهلب بجميع هذه الخِلال . فقال لي : صدقت . كان أبي يقولُ : خيرُ الناس للناس خيرُهُم لنفسه إنه إذا كان كذلك أبقى على نفسه من السرَق لئلا يُقطع ، ومِن القتْل لئلا يُقادَ ، ومِن الزِّنى لئلا يُحد ، فسَلمَ الناسُ منه بإبقائِه على نفسِهِ . قيل : وكان عَبدُ الله بنُ يزيدَ أبو خالد مِن عقلاء الرِّجال . وقال له عبدُ الملك يوما : ما مالُك ؟ فقال : شيئان لا عَيْلة علي معهما : الرِّضا عن الله عزّ وجل ، والغني عَن الناس . فلما نهض مِن بين يَديه قيل له : هلا خبرتهُ بمقدار مالِك ؟ فقال : لم يعدُ أن يكون قليلاً فيَحقِرني ، أو كثيراً فيحْسدني . وخطب عبدُ الرحمن بنُ محمد بن الأشعث بالمِربْد عند ظهور أمّر الحجاج عليه ، فقال : أيها الناسُ . إنه لم يبْق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغَة ، تضرب يميناً وشمالاً ، فلا تلبثُ أن تموت .

فسمعه رجلٌ من بني قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصة فقال : قبح الله هذا . يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ، ويعدُهْم الغُرَور . وقيل لنصْر بن سيار : إن فلاناً لا يكتُبُ . فقال : تلك الزِّمانةُ الخفيةُ . وقال: لوْلا أن عمرَ بن هُبيرة كان بَدويّاً ما ضبَط . أعمال العراق ، وهو لا يكْتبُ . اعتذر رجلٌ إلى مُسْلم بن قتيبة من أمْر بلغهُ عنه ، فعذرُه ثم قال له : يا هذا : لا يحْملنك الخروجُ مِن أمر تخلصْت منه على الدخول في أمْر لعلك لا تتخلصُ منه . وقال مُسلُم بنُ قتيبة : الشبابُ الصحةُ ، والسُّلْطانْ الغني ، والمروءةُ الصبرُ على الرجال . وقال خالد بن عبد الله القسْري : يُحَمدُ الجودُ مَا لمْ يسْبقُه مَسْألةٌ وَمَا لم يتبعه مَن ، ولم يُزْر به قصورٌ ، ووافق موضع الحاجة . قال الرشيد لسعيد بن سَلْم : يا سعيدُ ، مَنْ بيتُ قيس في الجاهلية ؟ قال : يا أمير المؤمنين . بنُو فزارة . قال : فمَنْ بيتُهُم في الإسلام ؟ قال : يا أمير المؤمنين : الشريفُ مَنْ شرفتُموه . قال : صدقت . أنت وقومُك . قال بعضهم : أريت نصْرَ بن سيار على المنبر بسَرْخس . وقد حسَر ذراعيه - وكان أشعرَ طويل الساعدَين . وهو يقول : اللهم إنك تعلُم أن جعُفرَ بن محمد حدثني عن آبائه أن رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - قال : ما منْ أحد أنْعمَ على قوم نعمةً فكفرُوا نعمتَه ، فدعا الله عليهم إلا أجيبتْ دعوته . اللهم إنك تعلُم أني أحسَنْتُ إلى ألِ بسَّام فكفروا نِعْمتي . اللهم افعل بهم . ودَعَا عليهم . قال : فلم يَحُلِ الحولُ وعلى الأرض منهم عين تطرف : وكانوا سبعين رجلاً ، كلُّهم قد ركب الخيل .

كان أبو هبَيرة يقول : أعوذ بك من كلِّ شيطان مستغرب وكل نبطي مستعرِب . خطب بلال بن أبي بُردَة بالبصرة ، فعرف أنهم قد استحَسنوا كلامَه ، فقال : لا يمنعنكم أقبحُ ما تعلمون فينا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا . قال ابن هبيرة لبعض ولده : لا تكونن أول مشير ، وإياك والهوى والرأي الفطيرَ ، وتجنب ارتجال الكلام ، ولا تشر على مستبدٍّ ولا على وغد ولا مثلوِّن ولا لجوج ، وخَفِ الله في موافقة هوى المستثير ، فإن التماسَ موافقته لؤمٌ ، وسوءَ الاستماع منه خيانةٌ . قال رجل ليزيدَ بن أسد يدعو له : أطال الله بقاءَك . فقال : دَعوني أمُتْ ، وفي بقيةٌ تبكون بها علي . وشخصَ يزيد بنُ عمرَ بن هبيرة إلى هشام بن عبد الملك فتكلم فقال هشام : ما مات من خلف مثل هذا . فقال الأبرشُ الكبيُّ : ليس هناك ، أمَا نراهُ يرشح جَبينُه لضيق صَدره . فقال يزيد : ما لذلك أرشحُ ولكن لجُلوسك في مثل هذا الموضع . ودخل يزيدُ بن عمر على المنصور - وهو يومئذ أميرٌ - فقال : أيُّها الأميرُ إنَّ عَهدَ الله لا يُنكث ، وعَقدَهُ لا يُحَل ، وإن إمارتكُم بِكْرٌ . فأذيقُوا الناسَ حلاوَتها ، وجنِّبُوهم مَرارتها . اتخذ يزيدُ بنُ المهلب بستاناً بخُراسَان في داره فلما ولي قتيبةُ بنُ مُسلم جعل ذلك لإبله . فقال له مَرزُبانُ مَروٍ : هذا كان بستاناً وقد اتخذته لإبلك؟ فقال قتيبةُ : عن أبي كان أشترباذ وأبو يزيدَ كان بستان باذ . قال عبد الرحمن بن أبي الحكم : لولا ثلاثٌ ما بالَيْتُ متى متُّ : تزحُّف الأحرار إلى طعامي ، وبذلُ الأشراف وجوهَهُم إلى ، وقولُ المنادي : الصلاة أيُّها الأمير . وقال عبد الرحمن بن الأشعث : لولا أربعُ خصال ما أعطيتُ أحداً طاعةً ، لو ماتت أمُّ عمران - يعني : أمه ، ولو شاب رأسي ، ولو قرأتُ القرآن ، ولو لم يكُن رأسي صغيراً . خطب قُتيبةُ بن مسلم بخُراسان حين خُلع ، فقال : أتدرُون لمن تُبَايعون ؟ إنما تبايعون يزيدَ بن ثروان ، يعني هينقة القيسي كأني بأمير من حاء وحكم ، قد أتاكم يحكم في دمائكم وفروجكم وأموالكم وأبشاركم ثم قال : الأعراب . وما الأعراب ؟ ؟ لعنةُ الله على الأعراب جمعتكم كما يُجَمع قَزَع الخريف من منَابت الشِّيح والقيصُوم ، ومنابت الفلفل ، وجزيرة أبر كاوَان . تركُبون البقر ، وتأكلُون القضْب فحملتكُم على الخيل ، وألبستكُم السِّلاحَ ، حتى منع الله بكم البلاد ، وأفاءَ بكم الفيءَ . قالوا : مُرنا بأمرك . قال : غُرُّوا غيري . وخطب مرةً أخرى فقال : يا أهل العراق . ألست أعلمَ الناس بكم ؟ أما هذا الحي من أهل العالية فنعَمُ الصدَقة . وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعِلْجةُ بظراءُ لا تمنعُ رجليها ، وأما هذا الحي من عبد القيس فما ضرب العَيْر بذنبهِ . وأما هذا الحيُّ من الأزد فعُلوجُ خَلْقِ الله وأنباطُه . أيمُ الله لو ملكتُ أمرَ الناس لنقشتُ أيديهم . وأما هذا الحيُّ من تميم فإنهم كانوا يسمُّون الغدْر في الجاهليةِ كَيسان . وخطب مَرةً أخرى ، فقال : يا أهل خُراسَان . قد جربتُم الوُلاة من قبلي أتاكُم أميةُ ، فكان كاسمه أميةَ الرأي ، وأميةَ الدين . فكتب إلى خليفته إن خراجَ خُراسان وسجستان لو كان في مَطبخه لم يكفهِ . ثم أتاكُم بعَده أبو سعيد يعني المهلب بن أبي صُفرة فدوم بكم ثلاثاً . أما تدرُون في طاعة أنتم أم في معصية ؟ ؟ ثم لم يَجْب فيئاً ولم يَنْكَ عدوا ، ثم أتاكُم بنُوهُ بعده مثل أطباء الكلبة ، منهم ابن دحمة : حمار يَضْربُ في عانةٍ ، ولقد كان أبوه يخافهُ على أمهاتِ أولاده . ولقد أصبحتُم - وقد فتح اللهُ عليكم البلادَ ، وأمن لكن السُّبل . حتى أن الظعينةَ لتخرجُ مِن مَرو إلى سَمرقَند في غير جوار . صعد خالد بنُ عبد الله القسْري المنبرَ بالبصْرة فأرْتج عليه . فقال : أيُّها الناس إنَّ الكلام يجيءُ أحياناً فيتسبَّبُ سَببه ، ويعزُّ أحياناً فيعزّ طالبه . فربما طلب فأبى ، وكُوبر فعسا فالتأني لِمَجِيه أصوبُّ من التعاطي لأبيِّه . ثم نزل . قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر : كان أبي كثيراً ما يقولُ إذا سر : هذا يومٌ جريريُّ . قال : فسألته عن ذلك ، فقال : لقوله : فيالك يوماً خيرهُ قبْلَ شرِّه تغَّيب واشِيِه وأقصَرَ عاذِلُه ومثل ذلك ما حكى عن عبد الله بن طاهر : أنَّه كان يقولُ : هذا من أيام الكوزِ . فسئل عن ذلك فقال : كان رجلٌ إذا مرَّ له يومٌ طيبَّ ألقى حصاة في كوز . فإذا سئل عن عمره عد الحصى وقال كذا يوماً . كان مسلم بن قتيبة يقول : أحزمُ الناس من وقى ماله بسلطانهِ ، ووقى نفسَه بمالهِ ، ووقى دينه بنفسه وقال إذ تخالجتك الأمورُ فاسْتقِلَ بأعظمها خطراً ، فإذا لم تستبن فأرجَاها ، فإن اشتبهت فأحُراحا ألا يكُون لها رجوعٌ عليك . وقال : احملوا الأمور فيما بينكم على أشُدِّها ، ولا تراضْوا بالقول دون الفعْل . وخطب خالد بنُ عبد الله ، فقال : أيّها الناس ، عليكُم بالمعروفِ ، فإنَّ فاعله لا يعدم جوازيَه . مهما ضعف النَّاس عن أدائه قوى اللهُ على جَزائِه. أيُّها الناس ، لا يعتدَّنَّ أحدٌ منكم معروفاً لم يخرج منه سهلاً ، إنكم لو رأيتُم المعروف شخصاً لرأيتُموه حسَناً جميلاً . أعاذنا اللهُ وإياكم من الكُفر والبخل . وقال خالدٌ : أيلبس الرجلُ أجودَ ثيابه . ويتطيّب بأطيب طيبه . ثم يتخطى إلى القبائل ، والوجوهَ ، لا يُريد إلا قضاء حقي ، وتعظيمي بسؤالهِ حاجته . فلا أعرفُ ذلك له ولا أكافئُه عليه ؟ تخطيتُ - إذن - مكارمَ الأخلاق ومحاسنها إلى مساويها . اغتاب رجلٌ رجلاً عند قتيبة فقال له قتيبةُ : أمْسِكْ عليك فلقد تلمَّظْت بُمضْغة طالما لفظها الكرامُ . لما وَلي عثمانُ بن حيَّان المرِّي المدينة بعد عمر بن عبد العزيز نزل دار مروان بن الحكم وهو يقولُ : مِحْلالٌ مِظعانٌ . المغرورُ من اغترَّ بك