الباب الثامن نكت مستحسنة للقضاة
قال شُريح : إنَّا لا تَعِيبُ الشهودَ ، ولا نلقِّن الخصومَ ، ولم نُسلَّط على أشْعاركم وأبْشاركم ، إنما نَقْضي بينكم ، فمن سَلَّم لقضائنا فَيِها ، ومَنْ لا ، أمَرنْا به إلى السّجن . كتب الفضلُ بن الربيع إلى عبدِ الله بن سوَّار يسألُه أن يشتري له ضيعةٌ فكتب إليه : إن القضاء لا يُدنَّس بالوَكالة . قال الزّهري : ثلاثٌ إِذَا كُنَّ في القاضي فليسَ بقاض إذا كره اللَّوائَم، وأحبَّ المحامد ، وكَرهَ العَزْل . قال أيُّوب : إن مِن أصحابي مَنْ أرجو دعوتَه ، ولا أجيز شهادَته . وقال سوَّار : ما أعُلمُ أحداً من أصحابي أفضلَ من عَطاء السُّلمي ، ولو شَهد عنْدي علي فَلْسين ما أجَزْتُ شهادتَه - يذهبُ إلى أنَّه ضعيفٌ ليسَ . وكان أبو هريرة لا يُجوِّز شهادةَ أصحاب الحمير .
وسُئل قتادة عن شهادة الصَّيرفيَّ . فقال : لا تَجوز شهادتُه . ولِيَ عبيدُ الله بنُ أبي بكرة قضاءَ البصرة فجعل يُحاني الناسَ فقيل له في ذلك ، فقال : وما خيرُ رجل لا يقطعُ لأخيه مِن دينه ؟ قال شريح : الحِدَّةُ كنيةُ الجهل . قال ابنُ شُبُرمة لرجل : أتشربُ النبيذَ ؟ قال : أشربُ الرِّطلين والثلاثة فقال : والله ما شربته شُرب الفِتْيان ، ولا تركتَه ترك القُرآن وقيل لهُ : لم تركت النبيذ ؟ فقالَ إن كان حلالاً فحظي تركتُ ، وإن كان حراماً فبالحزم أخذتُ . وسُئل شَريكٌ عَن النبيذ . فقال : قد شربه قوم صالحَون يُفتدى بهم فقيل : كَمْ أشربُ ؟ قال : مَالا يشْرَبُك . لما ولي يحْيى بنُ أكثم قضاء البصْرة استصغروا سنْهُ ، فقال لهُ رجلٌ كمْ سنُّ القاضي أعزَّهُ الله ؟ فقال : سِنُّ عتاب بن أسِيْدِ حين ولاهُ . رسولُ الله صلى الله عليهِ وسلم مكة ، فجعل جوابه احتجاجاً . ساوَم عُمرُ بنُ الخطّاب أعْرابيَّاً بفرس له فلمَّا قامَت عْلى ثمن أخذها منهُ عمرُ أنهُ فيها بالخيار ، إن رضى أمْسَك ، وإن كره ردَّ ، فحمل عُمَرُ عليْها رجلاً يُشوِّرُها فوقعتْ في بئر فتكَّسرت ، فقال الأعرابي ضمنت فرسي يا أميرَ المؤمنين ، قال : كلاَّ ، فإني لمْ أرْضها . فقال الأعرابي فاجْعل بيني وبينك رجُلاً من المسلمين . فجعلا بينهمَا شريحاً ، فقصَّا عليهِ القصَّة ، فقالَ شريحُ ضمِنْت يا أميرَ المؤمنين فرسَ الرجُل ، لأنك أخذتَها على شيءٍ معْلُوم ، فأنت لها ضامِنٌ حتى تردَّها عليْهِ ، فقبل ذلك عمر ، وبعث شريحاً على قضاء الكوفةِ . سئل شريكٌ عن النبيذِ . فقال : اشربْ مِنْهُ ما وافقك ، ودَعْ منهُ ما جنى عليك ، وذُمَّه إذا ذمَّهُ الناس ، ولا نْصرُهُ ، فبئْسَ المنْصورُ ، واللهِ . سئل الشَّعْبيُّ عَنْ مَسْأَلة فقال : لا عِلمَ لي بها . فقيل : لا تستحي ؟ قال : ولم أسْتحي ممَّا لم يستحي منهُ الملائِكُة حين قال : " لا علمَ لنا إلا ما علَّمْتنا ؟ كان شريحٌ يقولُ : مَنْ سأل حاجةً فقد عَرض نفسه على الرق فإن ، قضاها المسئولُ استبعدَهُ بها ، وإنْ ردَّه عنها رجع حُراً ، وهُمَا ذليلان : هذا بذُلِّ اللُّؤم ، وذاك بذُلِّ الرَّدَّ . قال بكارُ بن محمد رأيتُ سَوار بن عبد الله - وأراد أن يحكمَ فرفع رأسَهُ إلى الَّسماء وترقْرقتْ عيناهُ ثمَ حكم . وكتب إليه المنصور في مَال كَانَ له على سلمة بن سَعيدِ : لماَّ مات سَلمةُ وكان عليه دَيْن للناس وللمنصُور ، وكتب إليه : استوفِ لأمير المؤمنين دَيْنه ، وفرق ما يبقى الغُرمَاء . فلم يلتفِتْ إلى كتابه ، وضرَب للمنصور بسهم في المال كما ضرب لواحد من الغُرمَاءِ ثم كتب إليهِ إني رأيتُ أميرَ المؤمنين غريماً من الغُرماء . فكتب إليه : ملِئتِ الأرض بك عَدْلاً . قال الهيْثم : ما رأيتُ ابن شُبْرمَة قطُّ . إلا وهُو متهيئٌ ، كأنه يُريد الرُّكوب ، فذٌكرَ لك لهُ - وأنا حَاضِرٌ - فقال : إنَّ الرَّجل لا يستجمعُ له رأيه حَّتى يجْمَع علْيه ثيابَهُ ، ثم قال : إنَّ رجلاً من الحي كان له شرفٌ ، قال لدَهْقان الفلّوجة يا هذا ؟ إنما رُبَّما انتشرَ على أمرئ في الرأي ، فهلْ عِنْدَك مشهورةٌ ؟ قال : نعمْ احْتبِ وتهَّيأْ ، والبَسْ ثيابك ، ثم اهمُمْ بما تريد فهو اجمع لرَأيك ، فليسَ مِنْ أحد يفعلُ مثل ذلك إلا اجتمع لهُ رأْيُهُ . قال الحسنُ بنُ قحْطبة : دخلتُ على المهدِي نفسهِ وقدْ دخل شريكٌ فسلّم فقال : لا سَلَّم اللهُ عَليْك يا فاسِقُ . فقال شريكٌ : يا أميرَ المؤمنين ، إنَّ الفاسِق علامات تعرفُ : شرب الخمور ، واتخاذ القينات والمعازفِ ، قال : قتلني اللهُ إن لم أقتلْك . قال : ولِمَ يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيتُ فِي المنام كأنِّي مُقبلٌ عليْك أكلِّمك وأنت تُكلِّمُنِي مِن قفاك . فقال لي المعبِّر : هذا رجلٌ يَطأُ بِسَاطك وهو مُخالِفٌ لك . قال شريك : إن رؤْيَاك ليست برؤْيا يوسف بن يعْقُوب . وإنَّ دِمَاءَ المسلمين لا تُستحلُّ بالأحْلام . فنكّسَ المهديُّ رأسَهُ ، ثم أشار إليه : أنِ اخُرجْ ، فخرجَ وخرجتُ خلفه . فقال لي : أمَا رأيت ما أرادَ صاحبُك أن يفْعَل ؟ فقلْتُ : اسكُتْ فلِلَّهِ أبُوك قال ابن شُبْرمُة لإياس بن معاوية : شكلي وشكلُك لا يتفقان : أنت لا تشْتهي أن تسْكُت ، وأنا لا أشتهي أنْ أسْمَع . كان طارقٌ صاحبَ شرطةِ خالدِ بن عبد اللهِ القسْري ، فمرّ بابنِ شُبْرُمَة وهو في موْكبِه . فقال ابنُ شُبرمة : سَحابةُ صَيف عن قليل تقشَّعُ اللهُمَّ لي ديني ولهُمْ دُنْياهُم . فاستعْملَ ابن شبرمة بعد ذلك القضاء . فقال له ابنهُ أتذكر قولك يومَ مرِّ طارقٌ في موْكبهِ ؟ فقال : يا بُنَّي إنهمُ يجدُون مثل أبيك ، ولا يجد مِثْلهُمْ أبُوك ، إن أباكَ أكل منْ حلوائِهم وحُطَّ في أهْوائِهم . قِيلَ لشريك : أكان مُعاوِيةُ حليماً ؟ قال : لو كان حليماً ما سفَّهَ الحقَّ ، وقاتل علياً . وقال : لو كان حليماً ما حملَ أبناءَ العَبيد على حُرَمه، ولمَا أنْكح إلاَّ الأكْفاءَ . قالوا : وأصوبُ مِنْ ذلك قولُ الآخر : كان معاويةُ يتعرَّضُ ويحلُم إذا أسْمع ، ومَن تعرَّض للسَّفه فهو سفيه . قيل للشعبيِّ : ما أحسنَ البراعة في الإماءِ فقال : تورُّد ماءِ الحياء في وجه الحُرِّ أحسنُ .
دخل شريحٌ على بعض الأُمراء ، فقال الأميرُ : يا جارية ، هاتي عوداً . فجاءته بعُود يضرب . فلما بصُر به الأميرُ خَجل ، وقال : نِعْم هذا أُخذ البارحة مع إنسان في الطَّوف . اكسروهُ . ثم صبر قليلاً ، وقال : يا جاريةُ . هاتي عوداً للبخورِ . فقال شُرَيح : أتخافُ أن تغلطَ مرةً ثانيةً ؟ ؟ شهد رجلٌ من جلسان الحسن بشهادة عند إياس بن معاوية ، فردّه ، فشكا الرجلُ ذلك إلى الحَسن . فأتاه الحسن فقال : يا أبا واثِلةَ ، لم ردَدْتّ شهادة فلان ؟ فقال : يا أبا سعيد ، إن اللَّهَ يقول " مِمَّن ترضوْن مِن الشهداء " وليس فلان مِمّن أرضى . وشهد عند عُبيدِ الله بن الحسن رجلٌ من بني نهْشل على أمر ، فقال له : أترْوي قول الأسْود بن يعْفر : نام الخلِيُّ فما أحِسُّ رُقادي فقال له الرجل : لا . فقال : تُردَّ شهادتُه . وقال : لو كان في هذا خيرٌ لروَى شرف أهلِه . جاء رجلٌ إلى شريح فكلَّمه بشيء ، وأخفاهُ . فلما قام قال له رجل : يا أبا أميَّة ، ما قال لك ؟ قال : بابن أخي . أو ما رأيته أسَّرهُ منك ؟ كان شريح عند زياد - وهو مريض - فلمَّا خرجَ مِن عنده أرسل إليه مسروقُ بنُ الأَجدع رسولاً وقال : كيف تركت الأميرَ ؟ فقال : تركتُه يأْمُر وينهى . قال مسروق : إنه صاحب عويص ، فأرجع إليه وأسأَلْهُ : ما يأْمر وما ينهى ؟ قال : يأْمُر بالوصية وينهى عن النّوْح. ومات ابنُ لشريح فلم يشعر بموته أحدٌ ، ولم تصرخ عليه صارخةٌ ، فقيل له : يا أبا أميّة ، كيف أمسى ابنُك ؟ قال : سكن علزه ورجاهُ أهله . وما كان منذ اشتكى أسكن من الليلة .
حكى عن الشعبي أنه قال : شهدتُ شريحاً ، وجاءته امرأةٌ تخاصم زوجَها ، فأَرسلتْ عينيها ، فبكت . فقلتُ : يا أبا أميَّة ، ما أظن هذه البائسة إلا مظلومةً . فقال : يا شعبيُّ ، إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً يبْكُون . كان شريح إذا قيل له : كيف أصبحْت يا أبا أميَّة ؟ قال : أصبحتُ ونصفُ الناس غضابٌ . تقدم إلى شريح قومٌ فقالوا : إنَّ هذا خطب إلينا فقلنا له : ما تبيعُ ؟ فقال : أبيع الدوابَّ . فزوَّجَّناه ، فإذا هُو يبيعُ السنانيرَ . قال : أفلا قلتُم له : أيَّ الدواب من الدَّواب ؟ وأجاز النكاح . قال الشعْبيُّ : كان شريحٌ : يقولُ : إياكُمْ والجوابَ ، فقُلنا له يا أبا أميَّة . إنَّك لتكُثِر مِن هذا . قال : قد آن لكُم أن تَسلْوني . تقدمَ إلى رجلان ، فأكثرَ على أحدُهما ، فقلتُ : أظنُّك ضعيفاً ؟ قال : ما عَلي ظنِّك خرَجتُ مِن أهلي ، فكرهتُ أن يجيء منه غيرُ هذا فكففتُ عنه . أتى عَدي بنُ أرطاة شريحاً ومعهُ امرأةٌ له من أهل الكوفة يخاصِمُها ، فلما جَلس بين يدي شريح . قال عدي : أين أنت ؟ قال : بينك وبيني الحائظِ . قال إني امرؤ من أهل الشَّام . قال : بعيدٌ سحِيق . قال : وإنِّي قدِمتُ العراق : قال : خيرَ مَقْدم . قال : وقد تزوّجتُ هذه المرأة . قال : بالرِّفاءِ والبنين . قال : وإنَّها ولدتْ غُلاماً . قال : ليْهنِك الفارسُ . قال : وقد أردتُ أن أنقلها إلى داري . قال : المرء أحقُّ بأَهله . قال : قد كنتُ شرطْتُ له دارها . قال : الشرطُ . أمْلكُ . قال : أقض بيْننا . قال : قد فعلتُ . قال : فعلى مَن قضيت ؟ قال : على ابنِ أمِّك .
انصرف شريحٌ يوماً مِن مجلس القضاءِ ، فلقيهُ رجلٌ ، فقال : أمَا حان لك يا شيخُ أن تخاف الله وتستحي ، ؟ قال : ويلك مِن أي شيء ؟ . قال : كبرت سنُّكُ ، وفسَد ذِهنُك ، وكثرُ نِسيانُك ، وادّهن كاتبك وارتشي ابنُك ، فصارت الأُمُورُ تجوزُ عليك . فقال : لا واللهِ لا يقولها لي أحد بعْدَك . واعَتزل عَن القضاءِ ، ولزمَ منِزله : قال الشَّعْبي : أصاب متأَمِّلٌ أوْ كادَ ، وأخطأَ مُسْتعجلٌ أو كاد . كان شريحٌ في منزل القَضاءِ ، فَنظرَ إلى رجل من أعوانه قائِمٍ ، فضحك فقال : أتضحك ؟ ويلك ، وأنَا أتقلَّبُ بَيْنَ الجنَّة والنار . أقام رجلٌ شهوداَ عند شريح فاستَحلَفه ، فتلكَّأ ، فقال له : ساء ما تثنى على شهودك . وقضَى شريحٌ بالكوفة ستين سنة ، ولاه عمرُ بن الخطاب ، وبقي إلى أيام الحجاج . كان رجلٌ يقال له خُنَيْس يجلس إلى الشعْبي ، فتحدَّث الشَّعْبيُّ يوماً ، فقال له خنيسٌ : أتَّق الله ولا تكذب . فقال له الشعْبيُّ : ويحكَ يا خُنَيس ما أحْوجَكَ إلى مُحَدْرَج شديدِ الفتل ، ليِّن المَهزَّة ، عظيم الثمرة ، قد أخذَ مِن عَجْب ذَنَب إلى مغرز عنُق ، فيوضَعُ على مِثل ذلِك منكَ ، فتكثرُ له رقصَائُك من غير جَذل ، قالَ : وما هو يا أبا عَمْرو ؟ قال : هو والله أمرٌ لنا فيه أرَبٌ ، ولَكَ فيه أدبٌ . كان لشريح حائِط مائِلٌ ، فقال له جارٌ له : حائطُكَ هذا مائِلٌ . قالَ : لا تُفَارقني أو يُنْقَض . قال : فنقضَهُ مِن ساعته . . فقال الرجلُ : لا تعْجَل يا أبَا أمية . فذاكَ إليْكَ . قال : بعْد أن أشْهدتَ علَّي ؟ قال الشعبْي : وجَّهني عبد الملك بنُ مروان إلى مِلك الرُّوم ، فلماَّ قدِمتُ عليه ودَفعْتُ إليه كتاب عبد الملك جعل يُسائِلُني عن أشياءَ ، فأُخبرُهَ بها ، فأقمتُ عنده أياماً ، ثم كتب جوابَ كتابي ، فلمَّا انصَرفتُ رفعتُه إلى عبد الملك فجعل يقرؤه ، ويتغَّير لونُه ، ثم قال : يا شعْبيُّ : علمتَ ما كتب الطاغيةُ ؟ قلتُ : يا أميرَ المؤمنينَ . كاتب الكتُبُ مختومةً ولم لْم تكُن مختومةً ما قرأتُها . وهي إليكَ . قال : إنه كتبَ : إنّ العجبَ من قوم يكُونُ فيهم مثلُ من أرَسَلتَ به إلىَّ فيملِّكون غيْرهُ . قال : فقلتُ : يا أمير المؤمنين ، ذاك لأنَّه لم يركَ . قال : فَسرِّىَ عنه ، ثم قال : حسدني علْيكَ ، فأرادَ أن أقْتلك . سأل رجلٌ الشَّعْبيَّ ، قالَ : أتَشْرَبُ نبيذَ الجرِّ الأخْضر ؟ قال : نعمْ ، وأشربُ نبيذ الدَّن . سأل رجلٌ الشعْبيَّ عن رجل لَطم عيْن رجل فشرقتْ أوْاغرَوْقت : متى تقاد منها . قال الشعبي : قدِمتُ على عبدِ الملك ، فما رأيتُ أحسن حديثاً مِنْه إذا حدَّثَ ، ولا أحسَن إنْصاتاً منه إذا حُدِّثَ ، ولا أَعْلَم منه إذا خُولِفَ ، وأخطأتُ عنده في أربع : حدثني يوماً بحديث ، فقلتُ : أعِدْهُ علي يا أمير المؤمنين ، فقال : أمَا عَلمتَ انه لا يُستعادُ أميرُ المؤمنين ؟ وقلت له حين أذنَ لي عليه : أنا الشعْبيُّ يا أميرَ المؤمنينَ . فقالَ : ما أدْخلنَاكَ حتى عرفْناك . وكنَيتُ عند رجلاً فقال : أمَا علمتَ أنه لا يُكنْى أحدٌ عند أمير المؤمنين وسألتُه أنْ يكتبَني حديثاً . فقال : إنَّا نُكْتِبُ ولا نَكْتُب . لما أخذ الحجاجُ الشعبي - وكان خرج عليه مع ابن الأشْعث ، قال : يا شعبيُّ ، ألمْ أرفع مِن قدرك ، وبلغتُ بك شرف العطاءِ ، وأوْفدتُك علي أمير المؤمنين ، ورضيتُك جليساً لي ومحدِّثاً ؟ قال : بلى . أصلح اللهُ الأميرَ . قال : فما أخرجك مع ابن الأشعثِ تقاتلني على غير دين ولا دُنيا ؟ فأين كنت مِن هذه الفِتنةِ ؟ فقال : أصلح اللهُ الأمير ، أوْحش الجنابُ ، وأحْزن بنا المنزلُ ، واستشعرنا الخوف ، واكتحلنا السهر ، وفقدنا صالِحَ الإخوان ، وشملتنا فتنةٌ لم نكن فيها بررةً أتقياءَ ، ولا فجرةً أقوياءَ . فضحِك الحجاجُ ، وعفا عنه . قال الشعبيُّ : مَنْ أمِن الثٌّقل ثقُل .
أسْمَع رجلٌ الشعبي كلاماً ، وعدَّد فيه خِصالاً قبيحةً - والشعبي ساكتُ - فلما فرغ الرجلُ مٍِن كلامه ، قال : واللِّهِ لأغيظنَّ مَن أمَرك بهذا إن كُنت صادقاً ، فغفرَ اللهُ لي ، وإن كنت كاذِباً فغفرَ اللهُ لكَ . قيل : يا أبا عَامر : ومَن أمرهُ بهذا ؟ قال : الشيطانُ . خطب رجل إلى قوم ، فجاؤوا إلى الشعبي يسألونه عنهُ - وكان عارفاً به - فقال : هو والله - ما علمتُ - نافذُ الطَّعنِة ، ركينُ الجلسةِ . فزوَّجوهُ ، فإذا هو خياطٌ . فأتوْهُ ، فقالوا . غدرتنا . فقال : ما فعلتُ ، وإنه لكما وصفتُ . وقيل لهُ وقد بنى بأهلهِ : كيف وجدت أهلك ؟ قال : فلِم أرخيتُ السِّتر إذن ؟ لما قدم الشعبيُّ من البصرة قالوا له : وكيف تركت إخواننا من أهل البصرة ؟ قال : تركُتهم قد سادَهُم مولاهم ، وذاك أنه استغنى عنهُمْ في دُنياهم واحْتاجُوا إليه في ديِنهم . يعني الحسن الصريَّ . وكان الشعبي يقولُ : لو كانت الشَّيعةُ من الطير لكانوا رخماً ولو كانوا من الدوابِّ لكانوا حَمِيراً . قال العشبي : لا تُقدِمُوا على أمْر تخافون أن تقصِّروا فيه ، فإن العاقل يحجزُه عن مراتب المُقدَّمين ما يرى من فضائِل القصِّرين . ولا تعدُوا أحداً عِدَةً لا تستطيعون إنجازها ، فإنَّ العاقل يحجزه عن مَحْمدة المواعيد ما يرى مِن المذمَّة في الخُلْفِ ، ولا تُحدِّثوا أحداً من الناس تخافون تكذيبَهُ ، فإن العاقل يُسلِّيه عما في الحديثِ ما يَرى من مَذلَّة التكذيب ، ولا تسألُوا أحداً من الناس تخافُون منعه ، فإن العاقل يحجزه عما نالهُ السائلُ ما يرى من الدَّناءة في الطَّمَع . تحدث الشعبيُّ يوماً عند ابن عُمر ، فقال : إنه ليحدِّثنا بمواطِن شهدْناها وغاب عنها ، فكأنَّه شهدها وغِبْنا عنها .
قال الشعبيُّ : تعامل الناسُ فيما بينهم بالدِّين زمناً طويلاً ، ثم بالوَفاءِ حتى ذهب الوفاءُ ، ثم بالمروءة حتَّى ذهبت المروءةُ ، ثم بالحياءِ حتى ذهب الحياءُ ، ثم صاروا إلى الرَّغبة والرَّهبةِ . قال : العِلم أكثرُ مِن أن يُحصَى ، فخُذُوا مِن كلِّ شيء أحْسَنهُ . وكان يقول : ما رأيتُ مِثلي : ما أشاءُ أن أرى أحداً أعلمَ بشيء منِّي إكلا وجدتُه . وقيل له : مالك لا تأتي السُّلطان ؟ قال : أخافُ خصلتين : طعامهم الطَّيب ، ولباسَهم اليِّن . وكان يقول : الخالُ زينب ، والثؤلول شيْنٌ . وقال : أقلُّ ما أحسِنُه الشعرُ ، ولو أنشدتكم شهرا لما فني مَا عندي . وذكروا معاوية يوماً عنده ، فقال رجل : كان حليماً . فقال الشعبي : ويحك وهل أغمدَ سيفَه وفي قلبه شيءٌ على أحَدٍ ، ولكن قل : كانت له سياسةٌ وعَقل . وقال الشعبي : إنَّ كرامَ الناس أسرعهم مودةً وأبطؤهم عداوةً مثل الكُوز مِن الفضةِ يبطئُ الانكسار ، ويُسرعُ الانجِبَار ، وإن لئامَ الناس أبطؤهم مَودةً ، وأسرعُهم عداوةً مثلُ الكوز من الفَخَّار يسرع الإنكسار ويبطئُ الانجبار . وقال ابن شبرمة : مَنْ بالغ في الخصومة أثِمَ ، ومن قصَّر خصِم . وقال : منْ لزم العفَاف هانت عليه موجِدةُ الملُبوك. دخل رجلٌ على عيسى بن موسى بالكوفة فكلَّمه ، وحضر عبدُ الله بن شُبْرمة فأعانه ، وقال : أصلحك اللهُ . إنّ له شرفاً ، وبيتاً وقدَماً . فقيل لابن شبرمة : أتعْرفُه ؟ قال : لا . قالُوا : فكيف أثنيتَ عليه ؟ قال : قلتُ : إن له شرفاً ، أي : أذُنين ومَنكبين ، وبيتاً يأوي إليه ، وقدماً يطأُ عليها . وقال له رجل : صنعتَ إلى فُلان ، وصنعت ، فقال : اسكت ، فلا خير في المعروف إذا أحصى . وكان إذا وُلِدَ له غلام يقول : اللهم اجعله بّاتقِيا ، واجعل لذَّته في بلدِه .
قيل : بينا رقبةُ بن مَصْقلةَ القاضي في حَلقة إذ مرَّ رجل غليظُ العُنق ، فقال له بعض جلسائه : يا أبا عبد الله ، وهذا الذي ترى مِن أعبدِ الناس . فقال رقبةُ : إني لأرى لهذا عُنقُاً قلِّما وقذتها العبادةُ . قال : فمضى الرجل ، ثم عاد قاصداً إليهم ، فقال رجل لرقبة : يا أبا عبد الله ، أخبرُهُ بما قلت ، لا تكون غيبةً . قال : نعم . أخْبرهُ حتى تكون نميمةً. وكان رقبةُ يقول : أيُّ مجلسٍ المسجدُ لو كان عليك فيه إذنٌ وقال : ما رأيت كذبةً أحضر من كذِبِة الذين يتّكِئون في المسجد ، فإذا أقيمت الصَّلاةُ قلتَ لأَحدهم : نِمت ، فيقول : واللهِ ما نِمتُ وقد خَرِىَ . ودخل رقيةٌ المسجد الأعظم ، فألقى نفسه إلى حلقةِ قوم ، ثم قال : قتيل فالوذج رحمكم اللهُ . قالوا : عند مَن ؟ قال : عند من حكم في الفُرقة ، وقضى في الجماعة يعني بلال بن أبي بُردْة . ذكرت الآراء عند رقبة ، فقال : أمّا الرافضةُ فإنَّهم اتخذوا البهتان حُجَّةً ، والْعضِيهة مغلبةً . وأما النَّيديَّةُ فإني أظنُ الذي وضع لهم رأيَهُم امرأة . وأما الخوارجُ فأعرابٌ جُفاةٌ لا يعقِلون . وأما المُرْجئةُ فإنهَّم على دين الملك وأما المعتزلةُ فوالله ما خرجتُ إلى ضيعتي قطُّ إلا ظننتُ إني لا أرجعُ حتى يتركوا دينهُم . وقيل له : إنك لتُكثر الشكَّ . قال : وهل ذاكُم إلا المحاماةُ عن اليقين . اختصم إلى شُريح امرأتان في وَلد هِرَّة ، فقال : ألْقُوها مع هذه ، فإن هي قرَّت ، ولزَّت ، واسبطرَّت فهي لها . وإن هي هرَّت ، وفرَّت ، وازبأرّت فليست لها . وقال الشعبي : ما طلع السماكُ قطُّ إلا غارزاً ذنبه في بُرد .
وكان إذا سُئِل عن مُعضلة ، قال : ربَّاهُ ذاتُ وَبر أعيت قائدَها ، وسائقها لو ألقيت على أصحاب محمَّد لأعضلت بهم. قال شريح : القضاء جمْرٌ ، فارفع الجمْر عنك بعُودين ، يعني : الشاهدين . روى عن شقيق بن سَلمة قال : وقعت فتنةُ ابنِ الزبير فاعتزل شريحٌ القضاء ، وقال : لا أقضِي بني اثنين في فتنةً . قال : فغدوتُ عليه ذات يوم . فقلتُ : يا أبا أُمية ، كيف أصبحت ؟ قال : أحمدُ الله العزيزُ الجبّار إليك : وقعت الفتنةُ تسع سنين فما أخبرت ولا اسْتُخبرت . قلتُ : يا أبا أمية لقد صبرتَ . قال : فيكف بهواي في أحدِ الفريقين ؟ قال شريح يوماً لأصحابه : لقد أكلتُ اليوم لحماً قد أتى عليه عشرون سنة . فقالوا : سبحان الله . أبداً تأْتينا بالعجائب . فقال : كانت عندي ناقةٌ قد أتت عليها عشرون سنة ، فنحرْتُها ، وأكلتُ من لحمها . ورُثى شريح بجولُ في الأسواق ، والطرقِ ، فقيل : ما غدَا بِك ؟ فقال : عسْيتُ أن أنظرَ إلى صورة حسنة . كان يقالُ : أوَّلُ من أظهر الجوْر من القضاة في الحكم بلالُ بن أبي بردةَ بن أبي موسى، وكان أميراَ البصرة ، وقاضيَها . وكان يقول : إن الرجُلين ليتقدَّمان إلي ، فأَجدُ أحدَهما أخفَّ على قلبي ، فأَقضى له. وفيه يقول رُؤُبة : وأنت يا بن القاضِيَيْن قاضٍ يريد أبَاهُ أبا بُردةَ . وكان الحجاجُ ولاة القضاءَ حين استعفى شُريح ، فاستشارهُ فيمن يولِّيه . فقال شُريحٌ . عليك بالشريفِ العفيفِ أبي بردة . وجدُّه أبو موسى وهو قاضي عُمر ، وأحدِ الحكمين .
وذُكر أنَّ رجلاً جاء إلى بلال يسعى إليه بآخر . قال : فأقعدهُ ، وأرسل في المسألة عنه . فذُكر له ، أنَّه يُعرفُ بغير أبيهِ المنتسب إليه . فقال بلالٌ : أنا أبو عمرو ، حدثني أبي عن جدِّي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الساعي بالناس لغير أبيه الذي يُنسب إليه " شهد سوَّارُ بن عبد الله العَنبري عند بلال بشهادة ، وشهدَ معه رجلٌ أخرُ ليس بذاكٍ . فقال بلالٌ : يا سوَّارُ ، ما تقولُ في هذا الرجل ؟ قال : إنما جئتُ شاهداً لا مُزكِّياً . قال : فحضر هذا معك هذه الشهادة ؟ قال : نعم : فأجازهُ . خاصم رجلٌ خالد بن صفوان إلى بلال ، فقضى الرجلُ عليه . فقام خالدٌ وهو يقولُ : سحابةُ صيف عن قليل تقشَّعُ . فقال بلال : أما إنها لا تتقشع حتى يصيبك منها شُؤبوبُ برد ، وأمر به إلى الحبس . فقال خالد : علام تحبسُني ؟ فوالله ما جنيتُ جنايةً فقال بلال : يخبرنا عن ذلك بابٌ مُصمَتٌ ، وأقيادٌ ثِقالٌ ، وقيِّم يقال له : حفصٌ . قال بلال : إذا رأيتَ الرجل لجُوجاً مماريا ، معجَباً برأيه ، فقد تمَّت خَسارتُه . كان إياسُ بن معاوية بن قرّة صادق الظنّ ، لطيفاً في الأُمور ، وتولىَّ قضاءَ البصرة في أيام عمر بن عبد العزيز . واختصم إليه رجلان في مُطرف خزِّ ، وأنبجانِّي ، فادَّعى كلُّ واحد منهما المطرف الخزَّ أنه له ، وأنَّ الأنبجاني للآخرِ . فدعا إياس بمشط . وماءٍ ، قبلَّ رأسَ كلِّ واحد منهما . ثم قال لأحدهما : سرِّح رأسك . فخرج في المُشط غفرُ المطرف وفي مشط الآخر غفرُ الأبجاني . فقال : يا خبيثُ ، الأنبجاني لك . فأمرَّ فدفع المطرف إلى صاحبه . استودع رجلٌ رجلاً من أمناءِ إياس مالاً ، وخرج الرجلُ إلى مكة . فلما رجع طالبه بالمال فجحده ، فأتى إياساً فأخُبرهُ ، فقال إياسٌ علِم أنك أتيتني ؟ قال : لا . قال فنازعته عند أحد ؟ قال : لا . لا يعلم أحدٌ بهذا . قال : فانصرِف ، واكتب أمرك ثم عُد إليّ بعد يومين . فمضى الرجل ، دعا إياس أمينه ذلك . فقال : قد حضر مال كثيرٌ ، وأريد أن أصيِّرَه إليك أتحصِّننَّ منزلك ؟ قال : نعم . قال : فأَعِدَّ موضعاً للمال ، وقوماً يحملونه . وعاد الرجل إلى إياس ، فقال له : انطلِق إلى صاحبِك ، فاطلُب مالك ، فإن أعطاك فذاك ، وإن جحدك فقْل له : أنِّي أخُبِر القاضي . فأتى الرجلُ صاحبهُ ، فقال : مالي ، وإلا أتيتُ القاضي ، وشكوتُ إليه . فدفع إليه ماله ، ورجع الرّجلُ إلى إياس فأخبره ، وجاء الأمينُ لموعِدِه ، فزجره إياسُ وقال : لقد بان يا خائن . قال إياس لقوم من أهل مكَّة : قدمنا بلادكم ، فعرفنا خِياركم ، وشراركم قالوا : وكيف عرفتم ؟ قال : كان معنا أخيارٌ ، وأشرارٌ نعرِفُهم ، فلحِق كلُّ جنس بجنسه . كان إياسُ يقول: الخبُّ لا يخدعُني ، ولا يخدع ابن سيرين ، ويخدع الحَسن ، ويخدعُ أبي . وتبصروا هلال شهرِ رمضان وهم جماعةٌ، وفيهم أنسُ بن مالك وقد قاربَ المائةَ ، فقال : قد رأيتُه . فقال إياسٌ : أشِر إلى موضعه . فجعل يشيرُ ، ولا يروْنَه . ونظر إياس إلى أنس فإذا شَعرةٌ من حاجبه بيضاءُ قد انثنتْ ، فصارت على عينهِ ، فمسَحها إياسٌ وسوَّاها ، ثم قال : يا أبا حمزةَ أرِنا موضِع الهلال . فنظرَ ، فنظر ، فقال : ما أرى شيئاً . قال رجل لإياس : هل ترى علي بأْساً إن أكلتُ تمراً ؟ قال : لا قال : فهل ترى بأْساً إن أكلتُ معه كَيُسوماً ؟ قال : لا . قال : فإن شربتُ عليهما ماءً ؟ قال : جائزٌ . قال الرجل : فلم تحرِّم السُّكر وإنما هو ما ذكرتْه لك ؟ فقال إياس : لو صبْبتْ عليك ماءً . هل كان يضرُّك ؟ قال : لا . قال : فإن نثرتُ عليك تراباً وتبناً ، هل كان يضرُّك ؟ قال : لا . قال : فإن أخذتُ ذلك ، وخلطتُه، وعجنتُه ، وجعلتُ منه لبنةً عظيمةً ، فضربت بها رأسَكَ ، أكان يضُرُّك ؟ قال : كنت تقتلُني . قال : فهذا مثلُ ذلك .
كان إياس يقولُ : مَن أرادَ الصلاح فعليه : بحُميدِ الطًّويل وتدرُون ما يقول ؟ يقول لهذا : انقص قليلاً ، ولهذا : زد قليلاً ، فينقطعُ الأثر بذلك . ومن أراد الفُجورَ فليأْخُذ صالحَ بن خلاف وتدرون ما يقولُ للمدَّعي عليه ؟ : اجحَد ما عليك ، وللمدَّعِي : ادَّع ما ليس لك . أتى إياس حلقةً من حلقات قريش في مسْجدٍ دمشقَ ، فاستولى على المجلس ، ورأوْه ذميماً ، باذَّ الهيئة ، فاستهانوُا به . فلما عرفُوه اعتذرُوا إليه ، وقالُوا : الذَّنبُ بينَنَا ، وبينك مقسومٌ ، فإنك أتيتَنا في زيِّ مسكين ، تكلِّمُنا بكلام الملوك . أخذ الحكمُ بنُ أيُّوب إياسَ بن معاوية في ظِنَّة الخوارج ، فقال له الحكمُ : إنك خارجيٌ منافق ، وأوسَعه شتماً . ثم قال له : إيتنِي بكَفيل . فقال : أكْفُل أيُّها الأمير . فما أحَدٌ أعرفَ منكَ بي . قال : وما عِلمِي بك وأنا من أهل الشام ، وأنتَ مِن أهلِ العراق ؟ فقال له إياس : ففِيمَ هذه الشَّهادةُ منذُ اليوم ؟ فضحِكَ وخلَّى سَبيله . كان ابن أبي ليلى وِلي القضاء لبني أمية ، وبعدهم لبني العباس . وقيل : وهو أول من تولى قضاءَ بغداد . وقيل : بل أوَلُ من تولاها من القُضاة شَريك . وقال سفيانُ بن عُيَيْنةَ : شهد محمدُ بنُ عبد الرحمن بن الأسودِ عند ابن أبي ليلى بشهادة ، فتوقَّف في شهادتِه . قال ابْن عيينة : فناظرتُ . بن أبي ليلى في ذَلك ، وقلت له : أني لك بالكوفة رجلٌ مثلهُ ؟ ؟ فقال : هو كذَلك ، إلاَّ أنّ الذي شهد به عظيمٌ ، والرجل فقيرٌ . قال : فأعجبني هذا من قوله . وأخذَ علي ابنِ أبي ليلى رجلٌ جُلَسائه كلمةً ، فقال له ابنُ أبي ليلى : أهد إلينا مِن هذا ما شئت . وكان يقولُ : أحذِّرُكم الثِّقات . دعا المنصورُ ابن أبي ليلى ، فأَرادَهُ على القضاء ، فأبى ، فتوعّده إن لم يفعْل ، فأبى أن يفعل ، ثم إنَّ غدَاء المنصور حضرَ ، فأتى فيما أتى بصحفة فيها مثالُ رأس . فقال لابن أبي ليلى : خُذ أيها الرجلُ مِن هذا . قال ابنُ أبي ليلى : فجعلتُ أضرب بيدي إلى الشيء ، فإذا وضعتُه في فَمي سال ، لا أحتاجُ إلى أن أمضغهُ . فلما فَرغ الرجل جعل يلحسُ الصحفةَ . فقال لي : يا محمدُ . أتدري ما كنت تأكُل ؟ قلتُ : لا - والله - يا أمير المؤمنين . قال : هذا مخُّ النِّينان معقودٌ بالسكَّر الطَّبَرزَذ . وتدري بكم تقوَّم هذه الصَّحفةُ علينا ؟ قلت : لا ، يا أمير المؤمنين . فقال : تقومُّ بثلاث مائة وبضعةَ عشر . أتدري : لِمَ ألحسُها ؟ هذه صفحةُ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وأنا أطلبُ البَركةَ بذلك . فلما خرج ابنُ ليلى من عنده رفعَ رأسَه إلى الربيع . فقال : لقد أكل الشَّيخ عندما أكلةً لا يفلِحُ بعدها أبداً . فلما كان عَشى ذلك اليوم راح ابنُ أبي ليلَى إلى المنصور ، فقال : يا أمير المؤمنين ، فكرتُ فيما عرضت علي ، فرأيتُ أنه لا يسَعُني خِلافُك . فولاه القضاءَ . ثم قال للربيع : كيف رأيتَ حَدسي ؟ روى عن العباس بن محمد أنَّه قال : لمَّا أرادَ المنصورُ شريكَ بنَ عبد الله على القضاءِ قالَ : أريد " ُ أن تكلِّم أميرَ المؤمنين ليُعفيَني . فقلت له : إنَّ أبا جعفر إذا عزم أمراً لم تُردّ عَزماتُه . قال : فلما قام ، وأقَرَّه على القضاء قلتُ له : إن أميرَ المؤمنين المهديَّ ألينُ عَريكةً من الماضي . فقال : أما الآن فلاَ ، فإني أخشى شماتَة الأعداء . قال بعضُ أصحاب الحديث : سأَلتُ شريكاً عن النبيذ ، فقال لي أمّا أنا فلا أتركُهُ حتى يكونَ أسوأ عملي . وقال شريك لرجل : كم تشربُ من النبيذ ؟ فقال : الرِّطلَ والرِّطلين . فقال : يا أخي ، ما شربتَه شُرب الفِتيان ، ولا تركتهُ ترك القرآن . ذكر عند شَريك العربُ والعجمُ ، فغضِب ، وقال ذهبَ العربُ الذين كانوا إذا غضِبُوا كفروا . وقال عبدُ الله بنُ مُصعَب الزُّبيري لِشريك : بلغني أنك تشتُم أبا بكر وعُمَر . فقال : والله ما أشتُم الزبير ، فكيف أشتُمُهما ؟ مر ؟ ّ شريكٌ بالبصرة - وكان خرج مع المنصور إليها - فسألُوه أن يحدثهم فقال : يأْتيني أحدُهم مُشتَمِلاً على أن يسأَلني الحديث . وقال أبو عبيدةَ : البلاءُ مُوكَّلِ بالمنطِق . كانَ جدُّ هذا : شريك يَعملُ الدّنَّ بوزارةً فقتل رجلاً ، وهربَ إلى خُراسان ، فقدم ابنُه وادَّعى إلى العَرب . وكان شريك مِنَ النخع وقيل : إن جدّه هو سنان ابن أنس قاتل الحسين صلى الله عليه ولَعَن قاتِله . ولما عُزل شريك عن القضاءِ قام إليه رجل ، فقال : الحمدُ لله الذي عزَلك فقد كنت تُطيل النَّشوةَ ، وتَقبل الرّشوةَ ، وتوطىُّ العشوةَ . فقال رجلٌ فخنقه . فجَعل يصيح : قتلِني يا أبا عبدِ الله - جعلني الله فِداك - فقال شريك : قد ذلَّ مَن ليس له سَفيهٌ . وسئل عن أبي حنيفة ، فقال : أعلَمُ الناسِ بما لا يكونُ ، وأجَهلُهم بما يكونُ . ودخل على المهدي فقال له : يا شريكُ ، بلغني أنَّك فاطميُّ . فقال : أتحبُّ فاطمةَ ؟ أعثرَ الله من لا يحبُّ فاطمةَ . فقال المهدي : آمين فلما خرج شريكٌ قال المهديُّ لمن عنده : لَعنهُ الله ، ما أظنُّهُ إلا عَنَاني . وقال له يوماً : أيُّنا أشرفُ : نحن أم ولدُ عليَّ ؟ فقال شريك أمَّا مثلَ فاطمة حتى تُساويُهم في الشَّرف . ولما دعاه المهديُّ إلى القضاء قال له : لا اصلُحُ لذلك . قال : ولَم ذلك قال : لأني نسَّاءٌ . قال : عليك بمضغِ اللُّبان . قال : إني حَدِيدٌ . قال : قد فرض لك أمير المؤمنين فالُوذَجةَ توقرك . قال : إني امرُؤ أقضى على الوارد ، والصادرِ .
قال : اقضِ عليَّ ، وعلى والدي . قال : فاكفِني حاشِيتَك . قال : قد فعلتُ . فكانت أول رُقْعة وردت عليه خالصةُ جاريةُ المهدي . فجاءت لتتقدَّم الخصْم ، فقال : وراءَك مع خصْمِك مِراراً . فأبَتْ . فقال : وراءكِ بالخَنْاءُ قالت : يا شيخُ ، أنت أحمقُ . قال : قد أخْبرتُ مولاك ، فأبى عَلي . فجاءت إلى المهدي تشكو إليه فقال لها : الْزميِ بيتَكِ ، ولا تعْرضي له . قال ابنُ أبي ليلى : ما لِقينا مِن هُنئ ، كلما تُوجِّهت لنا قضيةٌ نقضَها علينا أبو حنيفة . وشهد أبو حنيفة عِنْد شريك ، فلم يُجز شهادَته ، وقال : يكف أجيزُ شهادةَ قوم يزعمون أن الصَّلاةَ ليستْ من الإيمان . وكان بانُ شُبْرُمة يقول : لأنْ استعمِلَ خائناً بصيراً بعملِه أحَبُّ إليَّ من أن أستعمل مُضيِّعا لا يُبصِر العملَ . ودخل سوَّارُ بن عبد الله علي المنصور - والمصحفُ من حجره ، وعيناهُ تهملان - فقال السلام عليكم . يا أمير المؤمنين فقال يا سوَّارُ ، ألاَ مرةً على المؤمنين ؟ ؟ هدمتَ ديني ، وذهبت بآخرتي ، وأفسدت ما كان من صالح عملي . قال سَّوارُ : فانتهزتُها فُرصةً ، وطلبتُ ثواب الله في عظته فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنك جديرٌ بالبُكاءِ ، حقيقٌ بطُول الحُزن ما أقمت في الدنيا . وقد استرعاك اللهُ أمر المسلمين ، واستحفظك أموالهم ، يسألك عما عملت فيما أسترعاك في اليوم الذي أعلمت في كتابه ، فقال " يومئذ يصدُرُ الناس أشتاتاً لُيروْا أعمالهم . فمن يَعملْ مِثْقالَ ذرَّةٍ خيراً يّرَهُ ومن يعمل مِثقْال ذَرَّة شراً يره " . فازداد بُكاءً ، وقال : " يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وكُنْتُ نَسْياً مَنّسياً " . ثم قال يا سوَّارُ إني أُعالج نفسي ، وأُعاتبها منذ وليتُ أمور المسلمين على حمل الدِّرّة على عُنقي ، والمشي في الأسواق على قدمي ، وأن أسدَّ بالجريش من الطعام جوْعتي ، وأوارىَ بأَخشن الثِّياب عورتي ، وأضعَ قدر من أراد الدُّنيا ، وأرفع قدْر من أراد الآخرة ، وسعى لها ، فلم تُطْعني ، وعصتْني ، ونفرتْ نُفوراً شديداً .
قال سوّار لا تجتِّسمها يا أمير المؤمنين صعاب الأُمور ، ولا تُحمِّلها ما لا تُطيق ، وألزمها أربع خصال تسلمْ لك دنياك وأخرتُك : أقم الحدود واحكُم بالعدل ، واجْبِ الأموال من وُجوهها ، واقسمها على أهلها بالحقِّ . خاصم عبد الله بنُ عبدْ الأعلى الكريزي مولى له في أرض إلى سوَّار - وكان جدُّهُ أقطعها جدَّه - فقال سوار : إني لأرغبُ بك عن هذا ، تُنازعُه في أرض أقطعها جدُّك جدَّه ؟ فقال الكريزي الشحيح أغدرُ من الظالم . فنكس سوارُ طويلاً ، ثم رفع رأسَه ، فقال : اللهمَّ أردُدْ على قريش أخطارها . دعا الرشيدُ أبا يوسف القاضي ليلاً فسأله عن مسألة ، فأفتاه . فأمر له بمائة ألف درهم فقال : إنْ رأي أميرُ المؤمنين أن يأْمر بتعجيلها قبل الصُّبح . فقال : عجِّلوها له . فقيل : إن الخازن في بيته ، والأبواب مغلقةٌ . فقال أبو يوسف : وقد كنتُ في بيتي والدروب مُغلقة ، فحين دُعي بي فُتِحتُ وقال له الرشيدُ : بلغني أنَّك لا ترى لُبس السَّواد . فقال : يا أمير المؤمنين . ولم ؟ وليس في يدي شيءٌ أعز علي منه. قال : ما هُو ؟ قال : السواد الذي في عيني . وسُئل مرة عن السَّواد ، فقال : النُّورُ في السَّواد - يريد سواد العين وكان خالد بن طليق الخُزاعي قاضياً ، فاختصم إليه اثنان ، فكان أحدُهُما كلما أراد أن يتكلَّم غمزه الشرطي ألا يتكلم. فلما كثُر ذلك عليه قال : أيُّها القاضي ، أتقضي على غائب ؟ فقال : لا . فقال أنا غائبٌ إذا لم أترك أن أتكلَّم . وكان خالد تمياها صلفاً ، وقال يوماً لمحمد بن سليمان - مع محلِّه وشرفه وثروته - نحنُ وأنتُم في الجاهلية كهاتين . وجمع بين إصبعيه . كان عُبيدُ بن ظبيان قاضي الرَّقَّة ، فجاءه رجلٌ واستعدَاه على عيسى بن جعفر ، وكان الرشيدُ إذا ذاك بالرَّقة فكتب ابنُ ظبيان إلى عيسى أمَّا بعد أطال الله بقاءَ الأمير وحفظه وأتم نعمته عليه . أتاني رجلٌ فذكر أنَّ له عَلَى الأمير خمسمائة ألف درهم . فإن رأى الأميرُ - أعزَّه الله - أن يحضر مجلس الحكم ، أو يُوكِّل وكيلاً يُناظر عنه فعل .
ودفع الكتاب إلى الرُّجل ، فأتى باب عيسى ، فدفع كتابه إلى الحاجب ، فأوصله إليه ، فقال له : كُل هذا الكتاب فرجع إلى القاضي فأخبرَه . فكتب إليه : أبقاك الله وحفظك ، وأتمَّ نعمتهُ عليك . حضر رجلٌ يقال له فلانُ بنُ فلان وذكر أنَّ له عليك حقّاً ، فصر معه إلى مجلس الحكم ، أو وَكيلك إِن شاء الله . ووجه الكتاب مع عَوْنَيْنِ من أعوانه ، فحضرا باب عيسى ، ودفعا الكتاب إليه ، فغضب ورمَى به ، فأخبراه . فكتب إليه : حَفِظك الله وأبقاك - لا بُدَّ من أن تصير أنت وخصمك إلى مجلسِ الحُكم ، فإن أبيت أنهيتُ ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله . ووجَّه بالكتاب ، فرَمى به عيسى . فعادا ، وأبلغاهُ ، فختم قِمَطُره ، وانصرف ، وقعد في بيته . وبلغ الخبرُ الرشيدَ ، فدعاه ، فسأله ، فأخبرَه بالقِصَّة حَرفا حَرفاً . فقال لإبراهيم بن عثمان صاحب شُرطته : صِر إلى باب عيسى بن جعفر ، فاختم أبوابَه كلَّها ، ولا يَخرجنَّ أحدٌ منها ، ولا يدخلّنَّ حتى يخرج إلي الرجل من حقه ، أو يصير معهُ إلى الحاكم . فأحاط إبراهيم مع أصحابه بالدار ، وختم الأبواب . فظنَّ عيسى أنه قد حَدث للرشيد رأيُ في قتلهِ ، ولم يدْر ما سببُ ذلك ؟ وارتفع الصِّياحُ ، وصراخُ النساء مِن داره ، وقال مِن وراء الباب ادْعُوا أبا إسحاق لأكلِّمه . فجاء إبراهيمُ ، فقال له عيسى ويلك ما حالُنا ؟ فأخبره بالأمر فأمر بأن يُحضر خمسمائة ألفِ درهم من ساعتها ، وتُدفع إلى الرجل وأخبر الرشيد فأمر بفتح أبوابه . وكان عباد بنُ منصور التاجي على قضاءِ البصرة في أيام أبي جعفر وأصحاب الحديث يُضعفون حديثه ، ويقولُون كان قدريا . وتقدم إليه برذوّيْه ومعه امرأةٌ تخاصمه في مهْرها وكان جميلةً . فقال كمْ مهْرُك ؟ قال: مائتا درهم فقال عباد : ويحك يا برذويه ما أرخص ما تزوَّجْتَها ؟ ؟ قال : أفَلا أوليكها أصلحك الله . ذكر أنه لما حكم وفَرض يحيى بنُ أكثم فرضهُ المشهور للغلمان عابه الناسُ فكتب إلى المأْمون : يا أمير المؤمنين . قد أكرم الله أهل جنَّتِه بأن أطاف عليهم الغِلْمانَ في وقت كرامته ، لفضلِهم في الخِدمةِ على الجواري ، وامتنَّ عليهم بذلك . فما الذي بلغني عاجلاً مِن طلب هذه الكرامةِ المخصوصِ بها أهلُ القُرْبة عند الله ؟ ؟ فوقع المأمون : اذكْر يا يحيى مِنْ كتاب الله ما كنا عنه غافلين ، فلا يُعْترضُ عليه فيما يقدّر من الأرزاق في فرْضِه ، ولا لمبْلغهم في العِدادِ ، وقُرْب الولاء ، فإنَّ أمير المؤمنين يحبُّ ما أحبَّ اللهُ ، ويرضْاهُ لخاصته . وكان له من المأْمون محلٌّ عظيم . وذكر بختيشوعُ أنه سمع المأْمون يقول - لما جاوز الدّرب بالرقة : يا أيها الناس إني لا آمنُ الحِدْثان ، فإن كان فيحيى بنُ أكْثم معكُمْ حتى نُبلغكُم مأْمنكُم ، ثم تختارُون لأنفسكم . ورفع محمد بنُ عمران صاحبُ البريد إلى المأمون ذكر خوْض الناس في يحيى بن أكثم وما يقولون في تهتكه . فدعا به ، ثم قال له : كم تكْثِرُ علي في أمر يحيى ؟ رجل فسد عليه عضْوٌ من أعضائه ، وصلح لي ؟ أأْستفْسِد ؟ ثم سخط عليه . وكتب في معناه كتاباً طويلاً إلى إسحاق بن إبراهيم من الثَّغْر يقول لأبيه : فلما استشفَّ أميرُ المؤمنين حاله وسيرته ألفاهُ بعيداً من الإيمان ، قريباً من الكفر ، لِهجاً باللّواط ، مْؤثراً للحرام على الحلال ، قد أعلن الفِسق ، وأظهر المُرُوق ، وجاهر بالمعاصي ، وأظْهر الملاهي ، ورخّص في الدَّنِّ ، وخالف دين المسلمين ، فرأى أميرُ المؤمنين أن إخراجهُ من عسْكره ، وبعده من جواره ، أسلمُ له ، أصْرف للمكروه عنه ، فأسْلُبهُ - قبحهُ اللهُ - القنا والقلْنسُوة ، وخُذْ منه السَّيف . وكان المأْمون قد أمر بأن يفرض له الحُدود ، وكان الكاتبُ الذي أمرِ فْرضهم يقال له زيدٌ فقال فيه بعضُهم : يا زيدُ يا صاحب فرْض الفراش . . . أكلُّ هذا طلباً للمعاش؟ مالي أرى يا زيدُ حمْلائكُمثبتتْ في الدِّفْتر قبل الكباش ولما خرج المأْمونُ إلى الأُردنِّ - ويحيى معه - شكا الحمالُ الغلمان ، وقال المأُمون : إنه يتظافرُون من محْمل إلى محمل ، فقال له المأْمون : لم لا تنهاهم ؟
فقال : لا ينتهُون . فقال له : لعلك ترى فيهم ما يرى يحْيى . وتقدم المأْمونُ بين يديه مع رجل ادَّعى عليه ثلاثين ألف دينار . فطُرح للمأْمون مُصلَّي يجلس عليه . فقال يحيى : لا تأْخُذْ على خصْمك شرف المجلس ، ولم تكُنْ للرجل بيٍّنةٌ، فحلف المأْمونُ . فلما فرغ وثب يحيى ، فقام على رجْليه ، فقال : ما أقامك ؟ . فقال : إني كنتُ في حقِّ الله حتى أخذتُه منك ، وليَس الآن من حقِّك أن أتصدَّر علْيك . فأعطى الرجل المأْمونُ ما ادَّعاه ، وهو ثلاثون ألف دينار ، وقال : خذْهُ إليك ، إني - واللهِ - ما كنتُ لأحلِف على فجَرة . ثم أسْمح لك بالمال ، فأُفسد ديني ودنيايَ . والله ما دفعتُ إليك هذا المال الساعة إلاّ خوفاً من هذه العامَّة ، فلعلها ترى أنْ تناولْتُك من هذه القُدرة ، ومنعتك حقَّك بالاستطالةِ عليك . فأما الآن فإنك تعلمُ أني ما كنتُ لأسمح باليمين والمال . وأمرَ ليحيى بثلاثين ألف دينار . وتصدَّق بثلاثين ألف دينار . وكان يحيى يقول : سياسةُ القضاء أسدُّ من القضاء . كان أبو خَازِم عبدُ الحميد بن عبد العزيز الكوفي قاضياً للمعتمدِ . ودخلَ إلى عُبيْد الله بن سليمان ، فسأله عن النَّبيذِ ، فقال : هُو عند أصحابي كماء دجْلَة ، غيرَ أنَّه يُودِي . وجَرى بينَه وبين عُبيد الله شيءٌ ، فقام أبو خَازِم عن المجالس ، وأخذ قلَنْسُوته عن رأسه بيده ، فقال عبيدُ الله: انظروا ما صَنَع أبُو خازم ، أخذ قلنسوتَه بيده يُعْلِمنا أنه ما يُبالي إنْ عزلتُه . ومات في أيامه الضّبعيُّ صاحبُ الطعام ، وله أطفالٌ ، وعليه ديونٌ ، وللمعتضِد عليه أربعةُ آلاف دينار : فقال المعتضدُ لعبيد الله بنِ سليمان : قل لعبد الحميد أنْ يدفع إلينا هذا المالَ من تركة الضَبعي . فذكر له ذلك ، فقال أبو خازم : إن المعتضِدَ كأسوة الغُرمَاءِ في تَرِكة الضبعي . فقال له عبيد الله : أتدري ما تقولٌ ؟ فقال أبو خازم : هو ما قلتُ لك . وكان المعتضد يلحُّ على عُبيد الله في اقتضاء المال : وعبيدُ الله يؤخِّرُ ما قال له أبو خازم فلما ألحَّ عليه أخبَرهُ بما قال أبُو خازم ، فأطَرق المعتضدِ، ثم قال : صدَق عبد الحميد ، هو كما قال نحن كسائر الغُرماء وأسْوتهم . تقدم رجل إلى أبي خازم ، وقدَّم أباهُ يطالبُه بدين له عليه . فأقر الأبُ بذلك . فأراد الأبنُ حبس أبيه بالدين . فقال له أبو حازم : هل لأبيك مال ؟ قال : لا أعلمهُ . قال : فُمْذ كمْ داينْتَهُ بهذا المال ؟ قال : منذ كذا وكذا . قال : فقد عرضتُ عليك نفقة أبيك من وقت المُدانية . فحبس الابن ، وخلَّي عن الأبد . وكان إسماعيل بنُ إسحاقُ قاضياً للمعتمد بمدينة السلام . فدخل على الموفق ، فقال له : يا إسماعيلُ : ما تقول في هذا النبيذ ؟ فقال له : أيها الأميرُ ، إذا أصبح الإنسانُ وفي رأسه منه شيء . قال ماذا ؟ قال الموفق : يقُولُ : أنا مخمورٌ . قال : فهو كاسمه . قدم البلاذُري إلى الحسن بن أبي الشوارب في ديْن عليه ، فادَّعى غريمهُ مائتي دينار . فذكر البلاذري معاملةً بينهما . وعادةً جرت بالنّظرة . فقال له القاضي : أنظرهُ . فقال : لم أطالبه إلا وقد علمتُ الساعة نعمته . فقال البلاذري : صدق أيها القاضي ، إني من الله لفي نعم ، لا أقومُ بشكرها ، أولها : نعمةُ الإسلام - وهي التي لا تعدلُها نعمةٌ . ثم نعمةُ العافية - هي أفضلُ النِّعم بعدَها - وما يُقضي من هاتين الدينُ . فقال القاضي لغريمه : انصرف ، ورُحْ إلى فراح إلى القاضي ، فأعطاه عنه مائتي دينار . كان يحيى بنُ سعيد الأنصاري قاضياً للرشيد ، وكان خفيف الحال وكان له مجلس من السُّوق . فلما ولي القضاءَ ، وارتفع شأْنُه لم يترك مجلسه في السوق . فقيل له في ذلك ، فقال : مَن كانت له نفسٌ واحدةٌ لم يغيَّره الإقتارُ ، ولا المالُ . كان البَرْقيُّ عفيفاً ، صالحاً ، وولي قضاءً مدينة السلام أيام المعتمد ، وكان قد ولاه قبل ذلك يحيى بنُ أكثم . فقيل له : وليتَ البرقي القضاءَ - وهو رجلٌ من أهل السواد ؟
فقال يحيى : ألم تسمع قول الله تعالى : " وما أرسلْنا مِن رَّسُول إلا بِلِسَانِ قَوْمه " قال بعضُهم : رأيتُ البرقيّ يوماً . هو يقرأ علينا شيئاً من حديث سُفْيانَ - فقال له رجل كان معنا : يا أبا العباس . فقال إليه البرقي ، وضرب لحيته ، وقال له : أنا قاض مُذ كذا وكذا سنةً تقولُ : هيا يا أبا العباس . وذكر أن البرقي صار إلى عبد العزيز الهاشمي - وكان صديقهُ - فهو معه جالسٌ إذ دخل عليه رجلٌ فسلم ، وقعدَ ، فقال له عبدُ العزيز : ما خبرُك ؟ قال : قد وليت السَّواني لأسني الماء للحاج . ثم دعا بكُوز من ماء فشربهُ . ثم صبر ساعةً ، فدعا بكوز آخر فشربه ، ثم صبر ساعةً، ودعا بكوز آخر - والبرقيُّ يراهُ - فقال لعبد العزيز : يا أبا القاسم ، هذا قد وَلي السواني . لئن خرج هذا إلى مكة ليشربن كل ما يسنى . كان عبد الملك بنُ عمير قاضي الكوفة ، فهجاهُ هُذيلٌ الأشجعي بأبيات فيها : إذا ذاتُ دلٍّ كلمتهُ بحاجة . . . فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل فكان عبدُ الملك يقول : قاتلهُ الله . والله لرُبما جائتني النحنحةُ وأنا في المتوضأ ، فأذكرُ ما قال فأردُّها . قالت امرأةٌ لشُريح : إنك قضيت على وظلمتني - والله يدخلُك النار . فقال شريحٌ لها : أما أنا فلا أدخُلُها إلا بعد سبعة ، وهم : الذي علمني ، والذي ولاني ، والذي جاء بك إلي ، والشاهدان والمُزكِّيان . قال الوايق لأحمد بن أبي دُواد : إن حوائجك ، ومسائلك تستنفد بيوت الأموال . فقال يا أمير المؤمنين ، أتخافُ الفقر والله مادتُك . قال بعضُهم : سمعت ابن أبي دُواد يقولُ : إين لأكرهُ أن أكلِّم الخلفاءَ بحضرة ابن الزيات خوفاً من أن أعلِّمه التأتِّي لها . وكان المعتصمُ غضب على خالد بن يزيد بن مزيد . فلم يزل به أحمدُ بن أبي دواد حتى عفا عنه ، وأعطاه ، وولاه ، وخرج على الناس بالخلع وهم ينتظرون رأسهُ . فقام بعد ذلك رجلٌ إلى خالد ، فقال : يا سيِّد العرب فقال : ذلك ابنُ أبي دُواد . وكان أبو العيناء يقول : كان أحمدُ بنُ أبي دُواد إذا رأى صديقه مع عدوِّه صديقهُ . وقال أبو العيناء : ما رأيتُ مثل ابن أبي دُواد من رجل قد مُكِّن من الدنيا ذلك التمكين ، كنت أراهُ في مجلس سقفُه غير مُغرى ، جالس على مسح وأصحابُه معه يتدَّرنُ القميصُ عليه فلا يبدَّلهُ ، حتى يعاتبَ في ذلك ، ليست له همةٌ ولا لذةٌ من لذات الدنيا إلا أن يحمل رجُلاً على منبر ، وآخر على جذع . وقال له المعتصمُ في أمر العباس بن المأْمون : يا أبا عبد الله ، أكرهُ أن أحبسه ، فأهتكه وأكرهُ أن أدعه فأُهمله . فقال له ابن أبي دُواد : الحبسُ - يا أمير المؤمنين - فإن الاعتذار خيرٌ من الاغترار . وكان الأفشين يحسدُ أبا دُلف ، ويبغضُه للغربية ، والشجاعة أبا والجُود . فاحتال عليه حتى شُهد عليه بخيانة فجلس له ، وأحضرهُ ، وأحضر السياف لقتله . وبلغ ذلك أحمد بن أبي دواد ، فركب مع من حضره من عُدْوله . ودخل على الأفشين وقد جيء بأبي دلفُ ليُقتل . فوقف ، ثم قال : إني رسولُ أمير المؤمنين إليك بألا تحدث في القاسم حدثاً حتى تحمله إليه مسلماً . ثم التفت إلى العُدُول ، فقال : أشهدوا أني أديتُ الرسالةَ والقاسُم حي مُعافى . وخرج فلم يقدم الأفشينُ عليه . وصار ابنُ أبي دواد من وقته إلى المعتصم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد أديتُ عنك إلى الأفشين رسالةٌ لم تقُلها لي ، لا أعتدُّ بعمل عملته خير منها ، وإني لأرجُو لك يا أمير المؤمنين بها الجنة . وخبره الخبر ، فصوب رأيه ، وأمر بالإفرج عن أبي دُلف . . وكان أحمدُ بنُ أبي دُواد بعد ذلك يقرَّظُ أبا دلف ويصفُه للمعتصم ، فقال له : يا أبا عبد الله ، إن أبا دلف حَسنُ الغناء ، جيِّدُ الضرب بالعود فقال : يا أميرَ المؤمنين ، القاسمُ في شجاعته وبيته في العرب يفَعلُ هذا ثم أحب المعتصمُ أن يَسمعهُ ابنُ أبي دُواد . فقال له يوماً : يا قاسْم ، غنّني . فقال ، والله ما أستطيعُ ذلكَ - وأنا أنظرُ إلى أمير المؤمنين - هيبة وإجلالاً . قال : فاجلس من وراءِ ستارة . ففعل وغنى . وأحضر ابن أبي دُواد ، وأجلَسه وقال : كيف تسمعُ هذا الغناء ؟ قال : أميرُ المؤمنين أعلمُ به ، ولكنِّي أسمعُ حسناً . فغمز غلاماً ، فهتك السِّتارة ، فإذا أبُو دلف . فلما رأى أبو دلف ابن أبي دُواد وثب قائماً ، واقبل على ابن أبي دُواد ، فقال : إني أجُبرتُ على هذا . فقال : ما ماجنُ . لولا دربتُك في الغناء ، منْ أينَ كنت تأتي مثل هذا ؟ هبْك أجُبرْت على أن تُغني ، مَنْ أجُبرَك على أن تُحسن ؟ ذكر ابنُ أبي دواد أبا الهذيْل ، فقال : كلامُه مُطلٌّ على الكلام كإطلال الغَمام على الأنام . لما مات عبدُ الله بن طاهر قال الواثقُ لأحَمد بن أبي دُواد: قد عزمتُ يا أبا عبد الله - على أن أقَلِّد إسحاق بن إبراهيم خراسان . فقال : لرأي أمير المؤمنين فضْلُه ، غير أني رأيتكُم تحفظُون الأخْلافَ للأسلاف . فقال : حسْبُك . وعقد لطاهر بن عبد الله . قال العدلي الشِّطْرنجي للواثق : يا أمير المؤمنين . ما قَمرني فلانٌ إلا أني كنت سكْرانَ . فقال لابن أبي دُواد : يا أبا عبد الله . فأقم عليه الحد . قال : ولم يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأنه قد أقرَّ على نفسه بالسُّكْر . فقال : هذا إقرارُ افتخار لا إقرارُ اعتراف . قال يحيى بنُ أكثم : نلتُ القضاءَ ، وقضاءَ القُضاة ، والوزارة ، ما سُررتُ بشيء مثل قول المُستمْلي : من ذكرتَ - رحمك الله؟ دخل عبدُ الرحمن بنُ إسحاق القاضي على إسحاق بن إبراهيم الظاهري ، فبينا هو يخاطبُه إذا وقعت عينُه على قطعة وتر للعود كانتْ على البَساط ، فأخذها ، وجعل يلفُّها على يده ، ويبعثُ بها سَهْوا . ورآهُ إسحاق فقال : يا أبا محمد : لا تغلطْ ، وتخرجْ وفي يدك ما فيها ، فتلْقَى من العامة مثلما لقينا منك . فاستحى عبدُ الرحمن وألقاها ، وضرب إسحاقُ الفراشين ألْف مقْرعة بهذا السَّبب . لما قال دِعْبلُ في المعتصم : ملوكُ بَنِي العباسِ في الكُتب سبعةٌ . . . ولم يأتينا في ثامن لهم كُتبُ كذلك أهلُ الكهف في الكهف سبعةٌ . . . خيار إذا عُدُّوا وثامنُهم كلبُ لقد ضاع أْمرُ الناس حين يسُوسُهم . . . وصيفٌ وأشْناسٌ وقد عظُم الخطبُ نذر المعتصمُ دمَه ، وطُلب طلباً شديداً ، فتوارى وهرب . فسمع ابنُ أبي دواد المعتصم يوماً يقول : لأقْتلن دْعَبلا . قال : ولم ؟ قال : هجاني . قال : يا أمير المؤمنين . إن دعبلا شريفٌ ، وعنده من الفضل ما يردَهُ عْن هذا . ولكن أخبرني من المُبْلغُ لك ذلك عنْه ؟ قال : عمِّي إبراهيمُ المهدي . قال : أتاك الخبرُ ، أنَّ إبراهيم موتورٌ ، ففي حُكْمك قبولُ قول حاقد مُحْفظَ . قال : معاذَ الله . قال : إن دعبلاً هتك إبراهيم عمَّك بقوله أيام تولِّيه الخلافة : إن كانَ إبراهيمُ مُضْطلعاً بها . . . فَلتصلُحن من بعده لمخارق ولتَصْلُحَنْ من بعد ذاك لزلزلٍ . . . ولتصلحن من بعده للمارق فضحك وقَال : أجلْ . إن كانَ إبراهيمُ خليفةٌ فمخارق وليُّ عْهد ، وقد صفَحنَا عمَّا أَردْنا . قال : إن أمير المؤمنين أجلٌّ من أن يعْمُرَ قلباً بحزْن ساخطاً ، ولا يعمره بسرور راضياً . قال : فاحكُمْ يا أبا عبد الله . قال : خمسون ألف درهم يرمٌّ بها حاله . فقبض المال ، وأنفذ الكتابُ إلى مصرَ ، وكان دعبلٌ بها فلمْ يشكْرهُ دعبل وكافأه بأن قال فيه : سحقتْ أمُّهُ ولاط أبُوه . . . ليت شعْري عنه ، فمنْ أين جاء ؟ في أهاج كثيرة له فيه . وسُعي بأبي تمام إلى المعتصم أنَّه قال في شعريٍ مدح به أبا سعيد الثفري . تزحزحي عن طريق المُجِد يا مضرُ . . . هذا ابنُ يوسف لا يُبقي ولا يذرُ فنذر المعتصمُ دمه . فقام ابنُ أبي دواد ، فكذب عنه ، وحَلف مجتهداً : أن هذا الشعر ليس من طرفِ شعر أبي تمام حتى استنقذه من سَخطِهِ . فكافأَهُ أبو تمام أحسن مكافأة، وشكره أحسن شكر ، ومدحهُ بقصائدهِ المشهورة فيه . غضب المهديُّ يوماً على شريك فقال : يا بن الزانية . فقال شريك : أمة يا أمير المؤمنين . فما عِلمتُها إلا صوّامةً قوّامة . فقال له : يا زنديقُ ، لأقتْلنَّك . فقال شريك ، وكان جهوريَّ الصوتِ - : إن للزنادقة علامات يُعرفون بِهَا ، شربهم القهواتِ ، واتخاذهم القّيناتِ ، ونومهم عن العتماتِ فأطَرق المهديُّ ، وقام شريك ، فخرج . ذكر أنَّ جماعةً من الرؤساء باتُوا عند أبي دُواد فلما أخذوا مضاجعَهم إذا الخدمُ قد أخرَجُوا لكل واحد منهم جاريةً . قال : فاحتشموا مِن ذاك . وبات الجواري ناحيةً ، وقام ، بعضُهم ، فلما أصبحنا وجه بجاريةِ كل واحد إلى منزله ، ومعها وصيفةٌ . دخل ابنُ أبي دُواد إلى الواثق - وقد أتى بابن أبي خالد الذي كان بالسِّند ، فقال : والله ، لأضربنَّك بالسِّياط . ووالله لا يكلٍّمُني فيك أحدٌ من الناس إلى ضربتُ بطنه ، وظهرَه. فسكت حتى ضربه عشرين سوطاً . ثم قال : يا أمير المؤمنين ، في هذا أدبٌ ، وفي دُونِه استصلاح ، ومجاوزتُه سرفٌ . وإنما أبقى عليك من القصاصِ . قال : أو ما سمِعتَ يميني ألا يكلمني فيه أحدٌ إلا ضربتُ ظهره وبطنه . قال: قد سمعتُ . لكن يُكفِّر أميرُ المؤمنين ، ويأتي الذي هُو إلى الله عز وجل أقربُ ، وعنده أفضلُ . قال : خليا عنه. كفِّر يا غلامُ عن يميني . سُئل رجلٌ من البُلغاءِ عن يحيى بن أكثم ، وأحمدَ بن أبي دُواد : أيُّهما أنبلُ ؟
فقال : كان أحمد يجدُّ مع جاريته وابنته ، ويحيى يهزلُ مع خصمه وعدوِّه . وكان ابنُ أبي دواد يتحلل عن أن يخاطب بالوزارة ، والقضاء فلا يخاطبُ إلا بالكُنيه . وكذلك روحُ بنُ حاتم المهلَّبي ولِي إفريقية والبصرة ، والكوفة ، وأرمينية وغير ذلك ، فلم يُسُمَّ بالإمرة قطُّ ، وإنما كان يكنَّى بكُنيته ، وكان يكنَّى أبا خلف . وكذلك السِّنديُّ بنُ شاهك. وقال ابنُ الزيَّات يوماً لابن أبي دواد في مناظرة بينهما : لستُ بنبطي ، ولا دَعي - يعرض به . فقال : ما دُونك أحدٌ فتنزل إليه ، ولا فوقك من يقبلُك فتنتمي إليه . قال الحسنُ بن وهب : شكرتُ أبا عبد الله أحمد بن أبي دواد على شيء كان منه . فقال لي : لا أحُرَجك اللهُ ، ولا إيّانا إلاّ أن نعرف مَالنا عند الأصدقاء . وتخطى بعضُ بني هاشم رقاب الناس عند ابن أبي دواد ، فقال : يا بُني ، إن الأدب ميراثُ الأشراف ، ولست أرى عِندك مِن سَلفِك ميراثاً . فاستحسَن كلامَه كلُّ من حضر . قال الواثق يوماً لأحمد بن أبي دواد في رجل حُمِل إليه من بعض النواحي : قد عزمَتُ على ضرب عُنقه . فقال : لا يحِلّ لك يا أمير المؤمنين . قال : فأضربه بالسِّياط . قال : ظهر المسلم حِمى إلا من حد . قال له : أنت أبداً تعترض علي . قال : يا أمير المؤمنين ، أخافُ عليك العامَّة . قال : وما عسى العامَّةُ تفعلُ ؟ قال : أقولُ : يا أمير المؤمنين ولا تغضب . قال : قُل . قال إذا رأوْك قد جُرْت في الحكم ، أخذوا بيدك فأقامُوك عن مجْلِسِك ، وأجْلْسوا غيرك . قال : فأمْسك الواثقُ ، ولم يحر جواباً ، وزال المكروه عنْ ذلك الرجل . وقال ابنُ أبي دْواد : موتُ الأحرار أشدُّ من ذهاب الأموال . وقال : الشجاعةُ شجاعةٌ في القلب ، والبخلُ شجاعةٌ في الوَجْهِ .
قال رجل لابن شُبْرُمة : ذهب العلمُ إلا غُبَّراتٍ في أوعيةِ سوء . وقال الشعبي : كان بين عبدِ الله بنِ شريح وبين قوم خصومةٌ . فقال : يا أبهْ . إن بيني وبين قوم خصومةً ، فإنْ كان الحقُّ لي خاصمتهُم . قال : اذكر لي قصَّتك . فذكر ماله ، قال : إيتني بهم . فلما أتاهُ بِهم قضى على ابنه ، فقال لمْا رجع : يا أبه . لو لمْ أخُبِرك بقصتي كان أعذر لك عندي . فقال : يا بُني أنت أعزُّ علي من ملءِ الأرض مثلهمْ ، واللهُ أعزُ علي منك ، كرهتُ إن أخبَرتُك أن القضاء عليك أن تخافهم فتصالحهم .