الباب التاسع كلام السحن البصري
كان الحجاجُ يقولُ : أخطبُ الناس صاحبُ العمامة السوداءِ بين أخصَاص البصرة ، إذا شاء تكلمَ ، وإذا شاءَ سكت يعني الحسن كتب إليْه عُمر بنُ عبد العزيز : أن أعني ببعض أصحابك . فكتب إليه الحسنُ : أما بعد . فإنه مَن كان من أصحابي يريد الدنيا فلا حاجة لك فيه ، ومَن كان يريد الآخرة فلا حاجة له فيما قَبَلك ، ولكن عليك بذوي الإحسان فإنهم إن لم يتقوا استحيُوا ، وإن لم يستحيُوا تكرموا . وقال : كن في الدنيا كالغريب الذي لا يجزعُ من ذُلِّها ولا يشارك أهلها في عزِّها . للناس حالٌ وله حالٌ أخرى ، قد أهمته نفسه ، وعلم لما بعْد الموت ، فالناس منه في عاقبة ، ونفْسهُ منه في شُغل . ذكروا أنه سمع رَجلاً يقُولُ : أهْلَك اللهُ الفُجَّارَ فقال : إذن نَسْوحِشُ في الطُّرق . قال أعرابي المحسن : علِّمني ديناً وسُوطا ، لا ذاهباً شطُوطاً ، ولا هابطاً هبوطاً . فقال الحسنُ : لئن قُلت ذلك ، إن خيرَ الأمور لأوْساطُها . وقال لهُ رجلٌ : إني أكرَهُ الموت . قال : ذاك أنك أخرت مالك ولو مقدمتهُ لسرك أن تلحق به . وقال : اقدّعُوا هذه النُّفوسَ فإنها طُلعةٌ ، واعْصُوها فإنكُمْ إن أطعتموها تنزِع بكُمْ إلى شرِّ غاية ، حادثُوها بالذِّكر فإنها سَريعةُ الدُّثور . قال عنبَسَةُ : شهدْتُ الحسن يقُولُ - وقال له رجلٌ بلغنا أنك تقولُ : لوْ كان علي بالمدينة يأْكُل من حَشفها كان خيراً لهُ مما صَنع - فقال الحسنُ : يالُكِعُ أما والله لقد فقدتُموه سَهماً من مَرَامي الله غير سَئُوم عن أمر الله ولا سروقة لمال الله . أعْطى القرآن عَزائمَهُ فيما عليه ، ولهُ ، فأحلَّ حلالهُ ، وحرّم حَرامَهُ ، حتى أورْدَهُ ذلك رياضاً مونقةٌ ، وحدائق معدِقةً ذاك ابنُ أبي طالب يا لُكعُ . وقال الحسَنُ : لا تزُولُ قدمُ ابن أدَم حتى يُسْأَل عَن ثلاث : شبابه: فيم أبلاه ؟ وعمْره : فيم أفناهُ ؟ وماله : من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ ورأى رجلاً يكيد بنفسه فقال : إن أمْرأً هذا آخرهُ لجديرٌ أن يزهدَ في أوله ، وإن امرأً هذا أولُه لجدير أن يخاف آخره . وقال : بع دنياك بآخرتك تربحُهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرَهُما جميعاً . وقال : مَن أيقن بالخلف جادَ بالعطية . وقال : مَن خاف الله أخاف الله منه كل شيءٍ ، ومَن خاف الناسَ أخافهُ اللهُ من كل شيءٍ . وقال : ما أُعْطى أحدٌ شيئْاً من الدُّنيا إلا قيل لهُ : خذه ومثله من الحرْص . قال الحَسنُ : إن قوماً جعلُوا تواضُعَهُمْ في ثيابهم ، وكبرَهُمْ فِي صرورهم حتى لصَاحبُ المدْرعة في مدْرعَته أشدُّ فرحاً من صاحب المُطرف بمطْرفه . وقال : مَن كان قبْلكُم أرقُّ قلوباً ، وأصْفقُ ديناً ، وأنتُمْ أرقَّ منهُمْ ديناً ، وأصْفقُ قلوباً . قيل لخالد بن صفوان : مَن أبلغُ النَّاس ؟ قال : الحَسنُ البصريُّ لقوله فضحَ الموْتُ الدُّنيا . لوْ عقل أهلُ الدُّنيا خربت الدُّنيا . وقال : أهينُوا الدُّنيا فو الله لأهنأُ ما تكُونُ حين تُهينُونها . وقال له رجلٌ : ما تقول في الدُّنيا ؟ قال : حَلالُها حسابٌ ، حرامها عذابٌ .
فقال له : ما رأيتُ أوْجز من كلامك . فقال الحسنُ بل كلامُ عمرَ بن عبد العزيز أوجزُ من كلامي . كتب إليه بعضُ عُمَّال حمْص : أما بعد : فإنَّ مدينة حمْص قد تهدمت ، واحتاجَت إلى إصلاح . فكتب إليه عمر : حصِّنها بالعْدل ، ونقِّ طُرقها من الجورْ . والسلامُ . قال الحسن لفرقْد : يا أبا يعْقُوب . بلغني أنَّك لا تأكل الفالوُذج . قال : يا أبا سَعيد. أخافُ ألا أودي شُكرَهُ . قال : يا لكُع هلت تؤدى شكرَ الماء البارد ؟ ؟ وسَمعَ رجلاً يشكُو علَّةً به إلى آخر . فقال : أمَا أنَّك تشكُو مَن يرحمك إلى مَن لا يرْحَمك . وقيل لهُ : مَن شرُّ الناس ؟ قال : الذي يرى أنَّهُ خيرُهم . وقال : قدْ ذم اللهُ الثِّقَل في القُرآن بقوله " فإذا طعمْتُمْ فانتشروا " وقال : الدُّنيا كُلُّها غمُّ ، فما كان فيها من سرور فهو ربحٌ . وقال : إن الله - جل ثناؤهُ - لم يأْمرْ نبيَّه عليه السلامُ بمشاوَرة أصحابه لحاجة منهُ إلى آرائهمْ ، ولكنَّهُ أحبَّ أن يُعَلِّمه ما في المشورة منْ البَركة . ويُروي عَنهُ أنه قال منذُ دَهر ندْعُو الله فنقولُ : اللهم استعمل علينا أخيارنا فأعظمْ بها مصيبةً ألا يُسْتجاب لنا ، وأعظمُ من ذلك أن يكون اسْتجيب لنا فيكون هؤلاءِ خيارنا . وذكر الدنيا فقال : المؤمنُ لا يجزعُ من ذُلِّها ولا يُنافس في عزِّها . وقال : أربعٌ قواصم للظهر : إمامٌ تُطيعُه ويُضلُّك ، وزوْجةٌ تأْمنُها وتخونُك ، وجارٌ إن علم خيراً سترهُ ، وإن علم شرّاً نشرَهُ وفقرٌ حاضرُ لا يجدُ صاحبُه عنه شارداً . ووصف الأسواق . فقال الأسْواقُ موائد الله مَن أتاها أصَاب منها .
وقال : من عمل بالعَافية فيمَن دونه رزُق بالعافية ممن فوقهُ وقيل لهُ : كيف رأيت الوُلاة يا أبا سَعيد ؟ قال رأيتهُمْ يبْنون بكل ريع أيةً يعْبثُون . ويتخذُون مصانع لعَلهُمْ يخلدون . وإذا بطشُوا بطشُوا جبارين . وكان يقولُ : ذمُّ الرجل نفسَهُ في العَلانية مدَحٌ لها في السِّر . وقال : مَن وسَع اللهُ عليه في ذات يده فلم يخف أن يكُون ذلك مكراً من الله به فقد أمن مخُوفاً ، ومَن ضيق اللهُ عَليه في ذات يده فلم يرْجُ أن يكُون ذلك نظراً من الله لهُ فقد ضيّع مأْمولاً . وقال : إن من عظيم نعم الله على خلقه أنْ خلق لُهمْ النار يحُوشُهم بها إلى الجنة . وقال لرجُل : كيْف طلبك للدُّنيا ؟ قال شديد. قال : فهل أدْركت منها ما تُريد ؟ قال : لا . قال فهذه التي تطلُبها لم تدرك منها ما تريد فكيف بالتي لا تطلُبها؟ وقال : ابنُ آدم أسبرُ الجُوع ، صريعُ الشَّبع . وذكر يوماً الحجاج فقال : أتانا أعيْمشَ أخيفشَ . له جُمَيْعةٌ يُرَجِّلُها فأخرج إلينا لماماً قِصارا ، والله ما عرق فيها عنانٌ في سبيل الله . فقال : بايعوني . فبايعْناهُ ثم رقى هذه الأعوادَ ينظر إلينا بالتصغير ، وننظر إليه بالتعظيم ، يأْمُرنا بالمعروف ويجتنبُه ، وينهانا عن المنكر ويرتكُبه . وسُئل عن قوله تعالى : " إنْ الذين يَشْتَرُون بعَهْد الله وأيْمانِهِمْ ثمناً قليلاً " ما الثمنُ القليلُ ؟ قال : الدُّنيا بحذافيرها . وقال : الدنيا تطلبُ الهاربَ منها ، وتهرُبُ من الطالب لها ، فإن أدْركت الهارب منها جرحَتهُ ، وإن أدركها الطَالبُ لها قتلتُه . وقال : رُب هالك بالثناء عليْه ، ومغرور بالستر عليْه ، ومسْتدرَج بالإحُسان إليه . وقال : عن لمْ تُطعْك نفسُك فيما تحملُها عليْه مما تكرَهُ فلا تُطعْها فيما تِحملُك عليه . مما تهوى .
وقال تشبه زيادٌ بعمرَ فأفرط . وتشبه الحجاج بزياد فأفرط ، وأهلك الناسَ . وقال : المؤُمنُ لا يحيفُ على مَن يُبْغِض، ولا يأْثم فيمن يُحبُّ . وقال لهُ بعضُ الجُند في زمن بني أمَية : تُرَى أن آخذ أرزاقي أوْ أتركها حتى آخذ من حَسَناتهم يوم القيامَة ؟ قال : مُرْ فخُذ أرزاقك ، فإن القوم يوم القيامة مفاليُس . وكتب إلى أخ له : أما بعد : فإن الصِّدق أمانةٌ ، والكذب خيانةٌ والإنصاف راحةٌ ، والإلحاح وقاحةٌ ، والتواني إضاعةٌ ، والصِّحة بضاعةٌ ، والحزم كباسةٌ ، والأدَب سياسة . وقال : يا ابن آدم . اصحب الناسَ بأي خُلأق شئت يصحَبُوك بمثله . وقال : الرِّجالُ ثلاثةٌ ، رجلٌ بنفسه ، وآخر بلسانه ، وآخر بماله . وقال له رجُل : لي بُنيةً وأنها تُخطبُ . فمّن أزوِّجُها ؟ قال : زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمَها ، وإن أبغضها لمْ يظلمْها . وقال : كنا في أقوام يخزُنُون ألسنتهُم ، ويُنفقُون أوراقهم ، فقدْ بقينا في أقوام يخزنُون أوراقُهم ، وينفِقُون ألْسِنتهم . وكتب إلى عُمرَ بن عبدِ العزيز . أمَّا بعدُ : فكأنْك بالدنُّيا لم تكُن ، وكأنْك بالآخرة لم تَزَلْ . وقيل له في أمير قدِم البصرة ، وعليه دَيْنٌ قد قضاهُ . فقال : ما كان قطُّ أكثر دَيْناً منه الآن . وقال : ينادي مناد يوم القيامةِ : من لهُ عَلى الله أجرٌ فليقُمْ ، فيقُومُ العافُون عن النّاس . وتلا قوله تعالى : " فمن عفا ، وأصْلح فأجْرهُ على الله " اجْتاز نخَّاسٌ مع جارية بهِ . فقال أتبيعُها ؟ قال : نعَمْ . قال : أفترضى أن تقبض ثمنها الدِّرهم والدِّرهمْين حتى تستوفي ؟ قال : لا : قال : فإن الله عزَّ وجل قد رضى في الحُور العين بالفلسِ والفلسَين . وطلب ثوباً ليَسْتتِر به ، فقيل لهُ : بثلاثةَ عَشر درهماً ونِصف . فقال خُذ أربعة عشر . فالمُسْلم لا يُشاطرُ أخاهُ الدِّرهمَ. وقيل له : ما بالُ الناس يُكرمون صاحب المال ؟ قال : لأن عشيقهُم عنده . وكان بلالُ بن أبي بُردة أكُولاً . فقال الحسنُ فيه : يتكئ على شمالهِ . ويأْكل غيرَ مَاله ، حتى إذا كظَّه الطعامُ يقولُ : ابغُوني هاضُوما . ويَلك وهل تهضم إلا دينك وكان الحسنُ إذا دخل خَتَنُة تنحى عن مكان له ، ويقول : مرْحباً بمن كفى المؤنثة ، وستر العورةَ . ومن كلامه : مسكينٌ بانُ آدم ، مكتومٌ الأجَل والعِلل ، أسيرُ الجُوع والشَّبع . ونظر إلى جنازة قد ازدحَم الناسُ عليها فقال : ما لكُم تزدَحُمون ؟ ؟ ها هي تلك ساريتُه في المسجد اقعدوا تحتها ، وصنعُوا ما كان يصنع حتى تكونوا مثله . وقال لشيخ في جنازة : أتُرى أن هذا الميِّت لو رجع إلى الدنيا يعملُ علماً صالحاً ؟ قال : نعمْ قال له : إن لم يكن ذاك فكنْ أنتَ ذاك . ونظر إلى قصور المهالبةِ ، فقال : يا عجباً رفعوا الطين ، ووضعُوا الدِّين ، وركُبوا البراذِين ، واتخذوا البساتين ، وتشبهوا بالدَّهاقين فذرهم في غمُرنهم حتى حِين . وكان يقول في دعائه : اللهم إنا نعوذُ بك أن نملَّ معافاتك . فقيل له في ذلك . فقال : أن يكون الرجلُ في خفض عيش فتدْعُوه نفسهُ إلى سَفر . ودخل إلى مريض قدْ أبلَّ من علَّته ، فقال له : إنَّ الله ذكرك فاذكُرْه وأقالك فاشكُره . ويقالُ : إنَّ أوّل كلامه أنَّه صلى يوماً بأصحابه ، ثم انفتل ، وأقبل عليهم ، فقال : أيها الناسُ ، إني أعظُكُم ، وأنا كثيرُ الإسْراف على نفسي ، غير مصلح لها ، ولا حاملها على المكروه من طاعة ربِّها . قد بلوْتُ نفسي في السراءِ والضَّراءِ ، فلمْ أجدْ لها كثير شُكر عند الرجاء ولا كبير صبر عند البلاء ولو أن الرجل لَمْ يعظ أخاه وحتى بحكمَ أمْرَ نفسه ، ويكمل في الذي خُلق له من طاعة ربه لقلَّ الواعظونُ الساعون إلى الله بالحثِّ على طاعته ، ولكن في اجتماع الإخوان واستماع حديث بعضهم من بعض حيّاة للقلوب ، وتذكيرٌ من النِّسيان . أيها الناسُ إنما الدنيا دارُ مَن لا دار لَهُ ، وبها يفرحُ من لا عَقل لهُ ، فأنزلُوها منزلتها. ثُمَّ أمْسَك . ولما مات أخوهُ بكى ، فقيل لَهُ : أتبكي يَا أبا سَعيد ؟ فقال : الحمد لله الذي لمْ يجعل الحزنَ عاراً على يعقُوب . وقال : إذا خرجتَ من منزلك فلقيت من هُو أسنُّ منك فقُل : هَذَا خيرٌ مني عبَدَ الله قبْلي ، وإذا لقيت من هُوَ دونك فِي السنِّ فقل : هَذَا خيرٌ مني عصيْتُ الله قبلهُ . وإذا لقيتَ من هو مثلُك فقل : هذا خيرٌ مني أعرفُ من نفس مَالاً أعرفُ منه . وكان يقولُ : يَا عجباً لقوم قَدْ أمروا بالزاد ، وأوذنُوا بالرحيل ، وأقام أولهُم عَلَى آخرهم ، فليْت شعري مَا الَّذِي ينتظرون ؟ ونظرَ إلى الناس فِي مصلى البصرة يضحكُون ، ويلعبون فِي يوم عيد ، فقال : إن الله - عزّ وجلّ - جعلَ الصوم مضماراً لعباده ليستبقُوا إلى طاعته ، ولعمْري لو كُشف الغطاءُ لشُغل محْسنٌ بإحسانه ، ومسيءٌ بإسَاءته عن تجْديد ثوم ، أو ترطيل شعر : وكان يقول : اجعل الدُّنيا كالقنطرة تجوزُ عَلَيْهَا ولا تعمرها وقال تلقى أحدهُم أبيْض بضا يملخُ فِي الباطل مَلخاً ، وينفض مذروْيه ، ويضربُ أصدريه ، يقولُ هأنذا فاعرفُوني قَدْ عرفناك ، فمَقتك اللهُ ومقتك الصالحُون . وقال : نِعَمْ اللهِ أكثر من أن تُشكرَ إلا مَا أعان عَلَيْهِ . وذُنوب ابن آدم أكثر من أن يسْلم منها إلا ما عفا عنه وَكَانَ يقولُ ليسَ العجبُ ممن عطب كَيْفَ عطب ؟ إنما العجبُ ممن نجا كَيْفَ نجا ؟
وكان يقولُ : حادثُوا هَذِهِ القُلُوب فإنها سريعةُ الدُّثُور ، واقدَعُوا هَذِهِ الأنفس فإنها طلعةٌ ، فإنكم إلا تقدعُوها تنزع بكُم إلى شرِّ غاية . وقال لمطرِّف بن عبد الله بن الشخير : يَا مطرَفُ ، عظ أصحابك . فقال مطرِّفُ : إني أخافُ أن أقولَ مَالا أفعلُ . فقال الحسنُ : يرحمك الله وأيُّنا يفعلُ مَا يقُولُ ؟ يود الشَّيطانُ أنه ظفِر بهذهِ منكم ، فلمْ يأْمرْ أحدٌ بمعروف، وَلَمْ ينه عن منكر . وكان يقولُ : مَا حَاجةُ هؤلاء ، السلطان ، إلى الشرطِ . فلما ولي القضاءَ ، كثُر عَلَيْهِ الناس فقال: لا بُدَّ للِنَّاسِ مِن وزعَةٍ . وكان يقُولُ : لِسَانُ العاقِل مِن وراءِ قلبهِ فإن عرض لَهُ القولُ نظرَ فإن كَانَ لهُ أن يقول قال ، وإنْ كَانَ عليْه القولُ أمسْك ، ولسانُ الأحمق أمام قلْبه فإذا عرَض لهُ القولُ قال عليهِ أوْ لهُ . وكان الحسنُ ينُكر الحكُومة ، وكان يذكر عُثمان فيترحم عليْه ، ويلَعنُ قتلتهُ ، ويقول : لو لم نلعْنهُم للَعُنَّا . ثم يذكُر علياً - عليه السلام - فيقول : لمْ يزلْ أمير المؤمنين علي رحمهُ الله - يتعرفُ النصر ، ويساعدهُ الظفر حتى حكّم . ولمَ تُحكِّم والحقُّ معك ؟ ألا تمضي قدُماً - لا أباك - وأنْت على الحقِّ . ؟ ؟ قال المبِّرد : قوله : لا أبالك كلمةُ فيها جفاءُ . والعربُ تستعمُلها عند الحثِّ على أخْذ الحّقِّ والإغْراءِ . وذكر الخوارج : فقال : دعاهم إلى دين الله فجعلُوا أصابَعْهم في آذانهم وأصرُّوا واستكبروا استكباراً ، فسار إليهم أبوُ الحسن فطحنهُم . وقال : لو لم يُصب ابنُ آدم الصِّحة والسَّلامة لأوشكا أن يرداه إلى أرْذل العمُر فحدِّث بذلك محَّمدُ بن جعفر فأعجَبه ، وقال : سبحان الله ما أعجَب كلام العرب وأشبه بعضه ببعض ؟ ؟ والله لكان النَّمر بنْ توْلب ، سمع هذا . فقال : يُسر الفتى طولُ السَّلامة جاهداً . . . فكيف ترى طول السَّلامة يفْعلُ ؟ وقال حميد بن ثور وحسْبُك داءً أنْ تصحَّ وتسْلما . وكان يدعُو ويقُولُ : اللَّهُم أعْطنا قوةً في عبادتك ، وبصراً في كتابك ، وفهْماً في حكمك ، وأتنا كِفْلين مِنْ رحْمتِك . بيِّض وجُوْهنا بنُورك ، واجْعلْ راحتنا في لِقائِك ، واجعلْ رغبتنا فيما عنْدَك مِن الخير . اللهمَّ إننَّا نعُوذُ بك منْ العَجز والكسل ، والهرم ، والجُبْن ، البُخل اللهم إنَّا نعوذُ بك مِنْ قُلُوب لا تخشعُ ، وأنْفُس لا تشبعُ ، اللَّهُم إنَّا نُعِيذ بك أنْفسَنا وأهلينا وذرارينا من الشيطان الرَّجيم . وقال : إنَّما تعظُ مُسترْشداً ليفهم ، أو جاهلاً ليتعلم ، فأمَّا منْ وضع سيفه وسوطهُ : أحذرني فما لك ولهُ ؟ وقال : إنَّ قوماً لسُوا هذه المطارف العتاق ، والعمائِمَ الرِّقاق ، وأوْسعُوا دُورهم ، وضيَّقُوا قبورهُم ، وأسْمنُواً دواتهم ، وأهزلُوا ديِنهُم ، طعام أحدهمْ غصْب ، وخادِمُه سُخره ، يتكئ على شمالهِ ، ويأْكل من غير مالهِ ، حتى إذا أدركْتهُ الكظَّةُ ، قال : هلمي يا جَاريةُ . هاضُوماً . ويلك وهل تحطم إلا دينك ؟ . . أين مساكينك ؟ أيْن يتامالك ؟ أيْن ما أمَرك اللهُ به أين ؟ أين ؟ ؟ . ورأى رجلاً يمشي مشيةً منْكرةً . قال : يخْلجُ في مشْيِه خلجان المجنُون . لله في كلِّ عُضْو منهُ لقمةٌ، وللشَّيطْان لعبةٌ . كان أبو الحسن اسمُه يسارٌ ، واسُم أمِّه خيرةُ ، مولاةٌ لأمِّ سلمة أمِّ المؤمنين ، وكانت خيرةُ ربما غابتْ فيبْكي الحسنُ فتعطيه أمُّ سلمة ثدْيها تُعلِّلُه بهِ ، وإلى أن تجيءَ أمهُّ فدرَّ عليه ثديُها . فيرون أن تكل الحكمة والفصاحة ، مِنْ برَكةِ ذلك . ونشأَ الحسنُ بوَادي القُرىِ . وشكا إليه رجلٌ ضِيق المعاش ، فقال : ويحَك أهاهُنا ضيقٌ أوْ سعةٌ إنَّما الضيقُ والسَّعةُ أمامك . وقال : لوْلا قِصَر هِمَم الناس ما قامتْ الدُّنيا . وقال : يا بْن آدَم : إنما أنْت عَدَدْ أيامك إذا مضى يومٌ مضى بعْضُك وتذاكُروا عنْدهُ أمْرَ الصَّحابةِ . قال الحسنُ : رحمهُم الله ، شهدُوا وغِبنْا وعَلموا وجَهلْنا ، وحفِظْوا ونسينا . فما أجْمعُوا عليْه اتبْعَناهُ ، وما اختلفُوا فيه وقفناه . وقال : حَقُّ الوَالِد أعظمُ وبر والوَالدة ألزمُ . وقال : عاشر أهْلك بأحسن أخْلاقك ، فإنَّ الثَّواءَ فيهم قليلٌ . وقال : السُّؤالُ نصفُ العِلْم ، ومُدَاراةُ الناس نصفُ العَقْل ، والقصدُ في المعيشة نصفُ المعيشة . وما عال مُقْتصدٌ . وقال : خف الله خوفاً أنَّك لو أتيتهُ بحَسناتِ أهْل الأرض لم يقبلْها منْك وأرْجُ الله رجاءً ترى أنَّك إنْ أتيتهُ بسيِّئاتِ أهْل الأرض غفرها لك . وقال : مَا استْودَع اللهُ رجلاً عقْلاً إلا اسْتنْقذهُ به يوماً ما . وقال : المؤمنُ من لا يَحِيفُ على مَنْ يُبغْض ، ولا يأْثُم فيمَنْ يحب . ودخل إليْهِ أمْردُ حَسنُ الوجْهِ ، فالتفت إلى أصْحابه ، فقال : لقد ذكَّرني هذا الفتى الحُور العِين . ووُلِدَ لهُ غلامٌ فقال لهُ بعضُ جُلسَائِه : بارك الله لك في هِبَتِه ، وزادَك في نعْمتِهِ . فقال الحسنُ : الحمدُ للهِ على كلِّ حَسنة ، ونسْأَلهُ الزيادَة مِنْ كلِّ نعْمة ، ولا مرْحباً بمَنْ كُنْتُ مُقِلاً أنْصبَني ، وإنْ كُنْتُ عنيّاً أذْهلني لا أْرضى بسعْي له سَعْياً ، ولا بكدِّي عليه في الحياة كدَّاً ، حتى أشْفِق عَلْيهِ بعد وفاتي من الفاقةِ ، وأنا في حَال لا يصلُ إلى مِنْ همةً حُزنٌ ، ولا مِن فرَحه سُرُورٌ .
وقال : عِزُّ الشَّريف أدبُهُ ، وعزُّ المؤمِن استِغْناؤه عن الناس . وقال : العلمُ في الصغر كالنَّقْش على الحجَر ، وفي الكبرَ كالرِّقُم على الماءِ . وقال : ما أنْعَمَ اللَّهُ على عبد نعُمةً إلا وَعَليِهُ فيها تبعةٌ إلا سُليمْان فإنَّ الله - قال : " هذا عطاؤنا فأمننُ أو أمسكْ بغير حساب . وقال : لا أبالك ، إنْ لم تكُنْ حليماً فتحلَّمْ فإنَّه قلَّ رجلٌ يتشبَّهُ بقوم إلا أوشك أنْ يكُون مِنهُمْ . وقال : لا تشترِين عَداوَة رجل بمودَةِ ألفِ رجُل . وقيل أهلك فلانٌ فجْأةً . فقال : لوْ لمْ يهْلِكْ فجأةً لمرض فجْأةً . وقال : مَنْ زهِدَ في الدُّنْيا ملكها ، ومَن رغِب فيها عبدَها . وكان يقولُ : الحُريصُ الجاهِدُ ، والقانعُ الزِّاهدُ كِلاهُمَا مُسْتْوفٍ أكُلهُ عز فُنقص شيئاً قُدرَّ لهُ ، فعَلام التَّهافُتُ في النَّار ؟ . وسَمع رجُلاً يقُولُ : الشَّحيحُ أعْذر مِن الظَّالِم فقال : والله إنَّ رجُلين أعْذرُهما الشَّحيحُ لرَجُلاَ سوءٍ . وقال : إنَّ الله تفرَّدَ بالكمالِ ولمْ يُعَرِّ أحَداً من النُّقصانِ . قال له رجلٌ : يا أبا سَعيد ، ما تقُولُ في الغناء ؟ قال : نِعْم الشيءُ الغني تصلُ به الرَّحِمَ ، وتفُكُّ بهِ العاني، وتُنفِّسُ به عن المكُروب . قالَ : لستُ عنْ هَذَا أسْأَلُكَ ، إنما أسْأَلُكَ عَن الغنِاء قَالَ يوماً هو أتعرفُ منْهُ شيئاً ؟ قالَ : نعَمْ : قالَ : فهاتِهِ . فانْدَفَع يُغني ، ويَلْوي شِدقَيْهِ ، ومِنخَريْهِ ، ويكسِرُ عيْنيْهِ : قَالَ : فَبُهِتَ الحسَنُ ، وجَعَل يعْزُبُ عنهُ بعضُ عَقْله حتى فَعَلَ كَمَا فَعَلْ الرَّجلُ يحركِ عَيْنيهِ ، وكَسْر حاجبْيهِ ، ثم قَالَ لما تَنبَّهَ مِنْ سِنَتِه : أمسكْ يا هَذا ، قَبَّح اللهُ هَذَا . مَا كْنتُ إلا في حُلْم . قالُوا : وَلي الحَسنُ القضَاء فَمَا حُمِدَ . يريدُ أنَّه لَوْ حُمِدَ إنْسانٌ فِي ولاية أوْ فضاء لحُمِدَ الحسَنُ .
وقال : يا بُنَ أدَمَ تعفَّفْ عنَ مَحارم الله تكُن عابداً ، وارْضَ بما قَسَم اللهُ لكَ مِن الرزق تكُنْ غنياً . صَاحب الناسَ بما تُحبُّ أنْ يُصاحِبُوكَ بهِ تكُنْ عَدْلاً ، وإيَّاكَ وكثرةَ الضَّحكِ فإنَّه يُميتُ القَلْبَ . لقَدْ كانَ قَبلَكَ أقْوامٌ جَمَعُوا كَثيراً ، وأمَّلوا بَعيداً ، وبَنَوْا شديداً ، فأصْبحَ جمْعُهم بُوراً ، ومَسَاكنهُم قُبوراً ، وأمَلُهْم غُرُوراً . وقالَ : يا بْنَ آدَمَ لا تُجاهِدِ الطلب جهادَ الغَالِب ، ولا تَتَّكلْ علَى القَدَر اتكالَ المُسْتسْلم ، فإنَّ ابتغاءَ الفضل من الشرةِ ، والإجُمالَ في الطَّلب مِنْ العِفَّةِ ، وليْسَتِ العِفَّةُ بدافعة رزْقاً ، ولا الحِرصُ بجالب فضْلاً ، وإنَّ مِن الحِرصُ اكتسابَ الإثْم . وقَالَ : اشْكُرْ لِمنْ أنُعَمَ عليكَ ، وأنعِمْ على مَنْ شَكَر لَكَ ، فإنَّهُ لا زَوَالَ للنعم إذا شَكَرْتَهَا ، ولا إدَامةً إذا كَفَرْتَهَا ، والشَّكُر زَيادةٌ في النِّعم ، وأمَانٌ من الغِيرَ . وقالَ : إنَّ الله تباركَ وتعالى لمْ يقْصُصْ عليْنا ذُنُوبَ الأنبياءِ عليْهم السلامُ تعييراً لهُمْ ، إلا إزْرَاءً بهمْ ، ولكنَّهُ قَصَّها عليْنَا كليلا نَيْأًس من التوبة . وقال : مثلُ المنافِق مَثلُ الدرهم القسي ينفُق في الناس ما لمْ يُعرفُ ، فإذا عُرفِ كسدَ . وقيل لهُ : أيحسد المؤمنُ أخاهُ ؟ قال : لا أبَالَك ؟ إنِستَ إخُوَةَ يُوسف عليْهِ السلامُ . وقالَ : أوْعَد عمُر فَعوفي ، وأوْعَد زيادٌ فابْتلُي . عادَ الحسنُ عبد الله بن الأهْتَم في مرضِهِ الذي ماتَ فيه ، فأقْبلَ عبدْ الله بضْربُ ببَصرِه إلى صُنْدوق في جَانبِ البيْتِ ، ثم قالَ للحَسن ، يا أبا سعيد : ما تقُولُ في ماِئة ألف من هذا الصُّندوقِ لم يؤد منها زكاةٌ ، ولمْ يُوصَلْ بِها رحمٌ ؟ فقال الحسن ثكلتك أمك فلم أعددتها قال أعددتها لورعة الزمان ومكاثرةِ الإخْوانِ ، وجَفْوةِ السُّلطانِ ، ثم مَاتَ فحضَر الحسنُ جنازتهُ فلما دفِنَ ضَربَ بإحْدى يديهِ على الأخرى ، ثم قَالَ : إنْ هَذَا أتَاهُ شيْطانُهُ ، يخذرهُ روية زمانه ، وجفوةَ سلْطانه ، ومكَاثُرة إخْوانِهِ فيما اسْتودَعَهُ اللهُ إيَّاهُ ، ثُمَّ خرجَ منْه حَريباً سليباً لم يؤدِّ مِنْها زكاة ، ولمْ يصل منها رحِماً . ثم التفَتَ فَقالَ : أيُّها الوارِثُ كلْ هنيئاً ، فقَد أتاكَ هذا المالُ حلالً ، فلا يكُنْ عَلْيكَ وَبَالاً . أتاك مِمنْ كَانَ له جَمُوعاً مَنُوعاً ، يلجّجُ فِيه لُججَ البحار ، ومفاوز القفار . مِنْ باطل جَمعَهُ ومِنْ حق منَعهُ ، لم ينْتفع بهِ . فِي حياته ، وضرهُ بعد وفاتِه ، وجمعَهُ فأوعَاهُ ، وشدَّه فأوْكَاهُ ، إنَّ يومَ القيامة ليومٌ ذُو حَسرات ، وإنَّ أعْظَامَ الحسَرات أنْ تَرى مالكَ في ميزانِ غَيْركَ ذَاكَ رجلٌ أتاهُ اللهُ مالاً حلالاً فبَخلَ أن يُنْفقَهُ في طاعةِ اللهِ فورثَهُ اللهُ غَيْرَه . فأنفقَهُ في طاعةِ الله . فيا لَهَا حسرةً لا تُقَالُ ، ورحمةً لا تُنَال ، فإنا لله وإنَّا إليه راجعُون . وقال : ابنَ آدم : بعْ دُنْياكَ بآخِرتِك تربَحْهُما جميعاً ، ولا تَبعْ آخرتكَ بدنْياك فتخسرهما جميعاً . يا بن آدم : وإذا رأيْت النَّاس في الخير فنافسُهم فيهِ ، وإذا رأيتَ الناس في الشرِّ فلا تغبطهم الثواء قليل ها هنا والبقاء طويل هناك أمتكم أخِر الأُمم وأنتُمْ آخِر أمّتِكُمْ ، وقدْ يسرِعُ بخياركُمْ فماذا تنتظُرون ؟ المعاينة : فكأنْ قَد . هيْهاتَ هيهاتَ ذهبت الدنيا لحالِ بالها ، وبقيتِ الأعمالُ قَلائدَ في أعُناقِ بني آدم ، فيا لها موعظةً لو وافقَتْ قبولاً إنهُ والله لا أمة بعد أمتكُم ، ولا نبي بعد نبيكم ، ولا كتابَ بعدَ كتابكم . أنْتُم تسوقُونَ الناسَ والساعةُ تسُوقُكُمْ ، وإنما ينُتظرُ بأولكمْ أن يَلْحق أخِركم . مَنْ رأى محمداً صلى الله عليه فقد رآهُ غَادياً رائِحاً ، لم يَضَعْ لَبنةً على لبنة ولا قصَبةً عَلَى قصبة رفع لَهُ علم فشمر إِلَيْهِ فالوحاء العطاء والنجاء علام تعرجون . أتيتُهم ورب الكعبةِ أسرع بخياركم وأنتُم كل يوم ترذُلُون . فما تَنْظرون ؟ ؟ إن اللهَ بعثَ محمداً صلى الله عليه عَلىَ علم مِنْهُ ، واختارَهُ لنفْسِهِ ، وبعثَهُ برسالته ، وأنْزَالَ عليهِ كتابهُ ، وكانَ خَيرتَهُ من خَلقِهِ ، ورسولهُ إلى عباده ، وثُم وضَعَهُ من الدّنْيا موضِعاً ينظُرُ إليْه أهلُ الأرْض ، وأتَاهُ مِنْها قوتاً وبُلْغةً ثم قَالَ : " لقد كان لكم في رسُول اللهِ أسوةٌ حسنةٌ " فرغب قومٌ عَنْ عَيشهِ ، وسَخطوا ما رضي لهُ ربهُ ، فأبعدَهُمُ اللهُ واسْحقَهُم . وابنَ أدمَ: طأْ بقدمكَ الأرْضَ فإنها بعد قليل قبرُكَ واعْلم أنكَ لم تزَلْ في هَدْم عمرك مذُ سقطتَ من بطن أمك . رحِم الله عبداً نظر ففكر ، وفكر فاعتبرَ ، واعتبر فأبصَر ، وأبصرَ فصبرَ ، فلقدْ أبْصَرَ أقوامٌ فلمْ يصبرُوا فذهبَ الجزعُ بقلوبهم ، ولم يُدْركُوا ما طَلَبُوا ، ولم يَرْجعُوا إلى ما فارقُوا يا بنَ آدَمَ اذكر قولهُ " وكلُ إنُسان ألزَمناهُ طائِرهُ في عُنقُهِ ونُخرجُ له يومَ القيامة كتاباً يلُقَاهُ منْشوراً . اقُرَأ كتابكَ كفى بنفْسِكَ اليومِ عليكَ حسبياً " ابن آدمَ عَدَل عليك من جعلكَ حسيبَ نفسكَ . خُذُوا مِن الدُّنيا ما صَفَا ، وذرُوا ما كدر . فليْس الصفْوُ ما عادَ كَدراً ، ولا الكَدر ما عادَ صَفَاء . دَعُوا ما يُريُبكُمْ إلا مالاَ يُريبكُمْ . ظَهَر الجفاءُ ، وقلتِ العُلَماء ، وعَفَتِ السُّنةُ وشاعَت البدْعةُ . لَقدْ صَحبتُ أقواماً صُحْبتَهُم قرةٌ العْين وجلاءُ الصدْر ، ولقد رأيتُ أقْواماً كانُوا مِنْ حَسناتهم أنْ تُرَد عليهم أشفقَ منكُم من سيئاتكم أن تُعذبُوا عليها، وكانُوا فيما أحَل اللهُ لهم مِن الدنْيا أزْهدَ مِنْكُم فيما حَرمَ عليْكُم مِنْها أسْمَعُ حسيساً ولا أرى أنيساً . ذَهبَ الناسُ، وبقيتُ في النِّسْنَاس ، لو تكاشَفْتُم ما تَدافَنْتُمْ . تَهاديْتُم الأطباق ، ولم تهادَوْا النصائح . قال عمرُ بنُ الخطاب : رحمَ اللهُ مَنْ أهدى إليْنا مَساويَنَا . أعِدوا الجوَابَ فإنكُم مسئُولُون . المؤمن من لا يأخذ دينهُ عن رأيه ، ولكنه يأخذُهُ من قبَل ربه ، وإن هذا الحق قد أجْهدَ أهْلهُ ، وما يَصْبُر عليْه إلا مَنْ عرفَ فضلهُ ، ورجا عاقبتَهُ ، فمن حمد الدنيا ذم الآخرة، وليس بكرهُ لقاءَ الله إلا مقيمٌ على سخطه . بابن آدَمَ إن الإيمانَ ليس بالتحلي ولا التمني ، ولكنهُ ما وقَر في القلْب ، وصدقتْهُ الأعمالُ . وكانَ إذا قرأ " ألْهَكُمُ التكاثُرُ " قالَ : عم ألهاكم ؟ عن نَار الخُلود ، وجنة لا تبيد . هذا والله فضَحَ القَوْمَ ، وهتك السترْ ، وأبدي العورةَ ، تُنْفِقُ مثل دينك في شهوتكَ سرفاً ، وتمنع في حق الله درهماً ستعلَم يالُكَع . الناسُ ثلاثةٌ : مؤمنٌ ، وكافرٌ ، ومنافقٌ : فأما المؤمنُ فقدْ ألجَمهُ الخوفُ وقومهُ ذكرُ العَرْض . وأما الكافرُ فقد قمعهُ السيفُ ، وشردَهُ الخَوفُ ، وأذعَنَ بالجزْيةِ ، وأسْمَح بالضريبة . وأما المنافقُ ففي الحُجراتِ والطرقَات ، ويُسروُّن غَيرَ ما يُعْملُون ، ويُضْمُرونَ غَيْرَ ما يُظْهرُونَ ، فاعُتبرُوا إنْكارَهُم ربهُم بأعْمَالهمْ الخَبيثَةِ . ويْلَكَ قَد قَتَلْتَ وَليَّهُ ، ثُم تَتَمَنى عليهِ جنتهُ ابنَ آدمَ . كيف تكونُ مُسْلماً - ولم يسْلَمْ مِنْكَ جارُك ؟ وكيفَ تكُونَ مؤمناً - ولمْ يأمنْك الناسُ . وكانَ يقولُ : رحِمَ اللهُ أمرأً اكْتَسَب طيِّباً ، وأنْفَقَ قصْداً ، وقَدم فضْلاً . وجِّهُوا هذِهِ الفضولَ حيثُ وجهَها اللهُ ، وضَعُوهَا حيثُ أمَر اللهُ ، فإن مَنْ كانَ قَبْلكُمْ كانُوا يأْخُذُون مِن الدُّنْيا بُلْغَتَهُمْ ، ويْؤثرون بالفَضْل ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها فلا والله ما وجدَ ذُو لُب فِيَها فرحاً ، وإياكُم وهذه السُّبُلَ المُتفرِّقة التي جماعُها الضلالةُ وميعْادُها النارُ. ابنَ أدَم : إنْ كانَ لا يُغْنيكَ مَا يكُفيكَ فليْسَ هَاهُنَا شيءٌ يُغْنيكَ ، وإنْ كانَ يُغْنيكَ ما يَكفيكَ فالُقليلُ مِنَ الدُّنْيا يَكفيكَ. ابْنَ أدَمَ : لا تَعْملْ شيْئاً مِن الحقِّ ريَاءً ولا تَتْركُهُ حَيَاءً . وكانَ إذَا ذُكرَ الحجاجُ قال : يتْلُوا كتابَ الله على لخْم وجذام ويَعظُ عظةَ الأزَارقِة ، ويَبْطِشُ بَطْش الجبارين . وبعث عمرُ بنُ هُبيرةَ إلى الحسنِ ، وابنِ سيرين ، والشْعبي فقدمُوا عليْهِ فقال : إنهُ تأْتيني مِنْ أمير المؤمنين كتبٌ أعرِفُ في تنفيذِها الهلَكةَ فإنْ أطَعتُه عَصيْتُ الله فماذا تَروْن ؟ فقال الحَسنُ . يا بنَ سيرين أجبِ الأمير فسَكَتَ ثم قالَ : يَا شعْبيُّ أجبِ الأمير - فتكلم الشعْبي بكلام هَيْبةً وتقيةٌ فقال : يا أبا سَعيد ، وما تَقُول ؟ فقالَ : أما إذْ سألْتنِي فإنه يَحِقُّ على أنْ أجِيبَكَ ، وإن الله مَانُعِكُ مِنْ يزيدَ ، ولن يمنعَكَ يزيدُ مِن اللهِ ، وإنه يوشكُ أن ينظلَ بكَ مَالكٌ من السماء فيَسْتنزِلكَ مِنْ سريرك إلى سعةِ قَصْركِ ثُم يخرجَكَ من سَعةِ قَصْرِك إلى بَاحةِ دَارِك ثم يخرجكَ من باحة دَارِكَ ، إلى ضيق قَبْركِ ، ثُم لا يُوسِعُ عليْكَ إلا عملُك . يا بْنَ هُبيرةَ إني أنْهَاكَ عنِ الله أن تعرضَ لهُ فإنما جَعلَ اللهُ السلطانَ ناصراً لعبادِهِ ، ودِينِه ، فلا ترْكَبُوا عبادَ الله بُسلْطان الله فتُذلوهُم ، فإنه لا طاعةَ لمخلُوق في مَعْصيةِ الله . يا بْن هُبيرةَ إني قَد أدُركتُ ناساً من صَدْرِ هذِه الأمةِ كانوا فيما أحَل الله لهُم أزهدَ مِنكُمْ فيما حرم الله علْيكُمْ ، وكانُوا لِحَسنَاتِهِم ألا تُقْبلَ أخُوَفَ مِنكُمْ لسيئاتِكم ألا تُغُفَرَ . وكانُوا والله لثوابِ الآخرِة بِقلوبهم أبصرَ مِنْكُمْ لمتاع الدُّنيا بأعُينكمِ ، فكانُوا والله عَن الدنُّيا وهي إليهِمْ مُقْبلةٌ أشد إدباراً مِنْ إقبالكم علْيها وهي عنكم مُدْبرةٌ . يا عُمَرُ ، إني أخوفُكَ مقاماً خَوفكَهُ اللهُ مِنْ نفْسِهِ ، فقالَ : " ذلكَ لمن خافَ مقامي وخَافَ وَعيد " . يا عُمرُ . وإن تكُنْ مَعَ يَزيد يكْفك الله بائَقَتَهُ . وإنْ تكُنْ مَعَ يَزيدَ عَلى الله يَكلِكَ إليهِ . قال فبكَى عُمَرُ ثم قامَ بعَبْرَتِهِ وأرْسَلَ إليهِمْ مِنَ الغَد بإذنهم وجائزتهمْ وأعْطَى الحَسنَ أرْبَعةَ آلاف دِرهم وكُل واحد منهُما ألَفيْنِ ألفَينِ فخرج الشعبي إِلَى المسجد فحدث الناس ساعة ثُمَّ قال : من قدر منكم يَا أيُّها الناسُ أنْ يُؤْثَر اللهَ على خَلْقه فليَفْعَلْ ، فإن الأميرَ ابنَ هبيرةَ أرسَلَ إلي وإلى الحسنِ وبنِ سِيرينَ ، فسألَنَا عَنْ أمْرِ اللهِ . فوالله ما عَلمَ الحسنُ مِنْه شيئاً جهِلتُهُ ولا علمتُ شيئاً جَهِلهُ ابنُ سِيرينَ ، ولكن أردْنا وجَه ابن هبيرةَ فأقصَانا الله ، وقصّرنا فقصّر لنا ، وأراد الحسنُ وَجْه الله فحباهُ وزاده. وروى أن الشعْبي قال لابنِ هُبيرة : لا عليكَ أيها لأميرُ . إنما الوالي والدٌ يخطئ ويصيبُ ، وما يرد عليك مِنْ رأي أمير المؤمنين فإن استطعت أن ترده فرده وإلا فلا ضيْرَ عليك . فقال : مَا تقُول يا أبا سَعيد ؟ فقال الحَسنُ : قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم : " من استرعاهُ اللهُ رعيةً فلم يُحطْ من ورائِها بالنَّصيحةِ حرمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنة " . وأمَّا رأيُ أمير المؤمنين فإذا وردَ عليْك فاعُرضْهُ عَلَى كتاب الله فإنْ وافقَه فأمْضهِ ، وإنْ خالفهُ فأرْددهُ ، فإنَّ الله يمنعك مِنْ يزيدَ من الله ولن يمنعك يزيد من الله . ثم أقْبَل على الشعبي فقال : ما لك ويْلك يا شعُبيُّ يقولُ الناس : الشعبي فقيهُ أهُله الكُوفةِ تدْخُلُ عَلى جَبَّار مِن الجَبابرَةِ فتُزيِّنُ له المعصية . فقال : واللهِ يا أبا سَعيد لقد قُلْتُ وأنا أعُلم ما فيه . قال: ذاك أؤكُد للُحجِةَّ عَليك وَأبْعد لك مِن العذر . وقال الحسنُ : لا دين إلا بمروءة . وشتمَهُ رجلٌ وأربى عليْهِ . فقال لهُ الحسنُ : أمَّا أنْتَ فَمَا أبْقيْتَ شيئاً وما يَعْلَم اللهُ أكثر . ودَخَلَ عليْه فَرْقد وعليه صٌوفً وعَلَى الحَسن مُطْرف خَزٍّ ، فجعَلَ ينظُر إليْه ، فقَال الحسنُ : ما تَنْظرُ ؟ على ثيابُ أهْل الجنة ، وعليك ثيابُ أهْل النَّار ، وإنَّ أحَدهُمْ جَعَلَ زُهْدهُ في ثيابِه ، وكِبرَهُ في صدرْه ، فَلَهُواَ أَشدُّ عجَباً بصُوفِه مِنْ صَاحب المطرفِ بمْطرَفِهِ .
وقالَ الحَسَنُ : ذكَر اللهُ الثِّقَلَ في القرآن فقال عزَّ وجَلَّ : " فإذا طِعمتُمْ فانتشِرُوا " وقال : حَسْبُك مِنْ شرفِ الفَقْر أنَّكَ لا تَرىَ أحداً يَعْصِي الله ليَفتقِرَ . وقال : مَا أحْسَنَ الرُّجُلَ نَاطِقاً عالماً ، ومسْتَمعاً وَاعياً ، وخَائِفاً عَامِلاً . وقال : إنَّ أهل بَدْر أسْلَموا مِنْ خشية اللهِ ، وإنَّ الناسَ أسْلموا مِن خشَيَةِ أهُل بدْر . وقالَ : لولاَ أن الله عَزَّ ذِكُرهُ أذَلَّ ابن أدَم بثلاث ما طَأْطَأ رأسَهُ ، وإنَّهُ مَع ذلكَ لوثابٌ : يمْرَضُ فجأَةً ، ويموتُ فجْأةً ويَفْتقِر فَجْأةُ . وقَالَ : السِّوَاكُ مطْهَرةٌ للفم ، مَرضاةٌ للرَّب ، مقُرَبَةٌ مِن الملائِكةِ ، مَنْفَرَةٌ للشَّيَاطين ، ويَجْلُو البَصَر ، ويُقِلُّ البَلْغم ، ويُصْلِحُ المعِدَة ، ويشُد اللَّثَتةَ ويُذْهِبُ الحفر . وقالَ : أشدُّ النَّاس صُرَاخاً يومَ القيامة رجلٌ سَنَّ ضلالةً فاتُّبع عليها ، ورَجلٌ سيءُ المَلكة ، ورجلٌ فَارغ مكفي استعَان على مَعَاصِي الله بِنعَمِهِ . ولما مات الحجَّاجُ قالَ الحسنُ : الَّلهُمَّ أنْتَ أمتَّهُ فاقْطعْ عَليْنَا سُنَّتهُ ، فإنَّهُ أتَانا أخَيْفِشَ أعَيْمِش ، يمدٍ بيد قصيرة البَنان . والله ما عَرق فيها عنانٌ في سَبيل الله ، يُرجِّلُ جُمَّته ويخْطِر في مشيته ، ويَصْعَد المنبرَ فيهْدِرُ حتى تفوته الصَّلاةُ ، لا مِن اللهِ يتقي ، ولا مِن الناس يستحي ، فَوْقهُ الله وتحتهُ مائةٌ ألف أوْ يزيدون ، لا يقُولُ لَهُ قائلٌ : الصَّلاةَ أيُّها الرَّجلُ . ثمَّ يقولُ الحسنُ هَيْهاتَ . حَالَ دُونَ ذَلِكَ الَّسيْفُ والسَّوْط . وكَانَ يقُولُ : إنما كانتْ خطيئةُ أبيكُمْ أدَم عليْهِ السلامُ في أكْلَة وهي بليَّتكُمْ إلى يومِ القيامةِ . وقَالَ للصُّوفيينَ : إنْ كانَتْ هَذِهِ سَرِيرَتَكُم فَقْدَ أظهر تمُوهاً ، وإنْ كانَتْ خلافاً لما أعْلَنْتُمْ فقدْ هَلَكْتُمْ . وقَالَ : العِصْمةُ مَا لَمْ تجدْ ، والعِفةُ إذَا قَدرْتَ .
وقَالَ : مَنْ بَدَلَ دِرهَمَهُ أحبهُ الناسُ طَوْعاً وكَرْهاً . وقَالَ : كيْفَ للرجُل بإحُراز دينهِ وهُو يطلُبُ معَاشَهُ مِمنْ لا يُزَكى عَملَهُ . وقال : مَنْ تعززَ بالمعْصِيةٍ أوْرَثُهُ الله الذِّلةَ . وقالَ : مَن اتكلَ على حُسْنِ اختيارِ اللهِ لهُ لم يتمَن أنهُ في غَيرِ حَالتهِ التي اختارها اللهُ لهُ . وقال : مَنْ لمْ يُؤمن بالقدرِ كَفرَ ، ومن حملَ ذنبهُ على اللهِ فجرَ . وقال : رُب مَحْسُود عَلَى رَجاءٍ هو بلاؤهُ ، ومَرْحوم مِنْ سقَم هُوَ شِفاؤُه ، ومغُبوطِ بِنعمة هي داؤه . وقالَ : لهذه القُلوبِ إقْبَالٌ وإدبارٌ ، فإذا أقْبَلتْ فاحُملُوها على النوافِل ، وإذا أدْبرتْ فاحُمِلُوها على الفَرائضِ . وقَالَ : تجري الأمورُ على المقاديرِ والناس لا يَقْبلُونَ المعَاذِيرَ . وقال : حَسْبُكَ مِن العِلمْ أن تَخْشَى اللهَ ، وحَسْبُكَ مِنَ الجَهْل أنْ تُعْجَبَ بِعِلُمِكَ . وقالَ : وجدتُ خَيْرَ الدُّنْيا والآخرة في صَبْرِ ساعة . وقال : جَهد الحقُّ الناسَ فلا يَصْبِرُ لهُ إلا مَنْ عَرفَ فضْلَهُ ورجَا عاقِبتَهُ . وسألَه رجلٌ فَقَالَ : غُلامٌ يتعلمُ القِرآنَ ، وأبُوهُ بأْمُرهُ أنْ يتعلمَ الشِّعْرَ فقال . يتعلمُ القُرآنَ ويتعلمُ مِنَ الشِّعْرِ ما يُرْضِي أَبَاهُ . وقَالَ : لأن أقْضِي حاجةَ أخ أحبُّ إلي مِنْ أنْ اعْتَكِفَ سنَةً . وروُي عَنْ أبي عَمُرِو بن العلاء أنهُ قال : ما رأيتُ قَرَوييْنِ أفْصَحَ مِن الحًسن والحجاج .
ونَظَرَ أعْرابي إلى الحَسن ، فقيلَ لهُ : يكفَ تراهُ ؟ فقال : أرى خيْشُوم حُرٍّ . وقَالَ لهُ رجلٌ يا أبو سعيد . فقَالَ الحسنُ: شغلَكَ كَسْبَ الدوَانِيقِ عنْ أنْ تقُولُ يا أبَا سَعيد . وقَالَ لهُ آخَرُ : يا بُو سَعيد . فقالَ : أينَ غذيِتَ قالَ : بلا يلة . قال : مِنْ هذا أتيتَ . وقال : من دخلَ مَدَاخِلَ التُّهَمةِ لَم يكُنْ لَهُ أجرُ الغَيْبةِ . وقال : من أمَّلً فَاجِراً كانَ أدنَى عُقُوبَتِهِ الحرمانُ . دخَل أعْرابيُّ البَصْرة ، فقال : مَنْ سَيِّدُّهُم ؟ قَالُوا : الحَسنُ بنُ أبي الحَسن . قال : وبِمَ ؟ قالوا : اسْتَغْنَى عما في أيْديهم من دُنْيَاهُمْ . واحُتَاجوا إلى ما في يديه من دينه . فقالَ : بخ بخ . بهذا سَادهُمْ . وسَمعَ الحسنُ رجلاً يصفُ الفالوذَج فقالَ : فُتَاتُ البُرِّ بلُعابِ النحُلِ بخالِصِ السمْنِ . مَا عَابَ هَذا مُسْلِمٌ .