الباب الحادي عشر كلام الخوارج
من كلام أبي حمزةَ : تَقْوى اللهِ أكرمُ سَريرة ، وأفضلُ ذَخِيرة ، مِنْها ثقَةُ الوَاثق ، وعليْها مِقَةُ الوَامِق . ليعمَل أمرؤ فِي فكَاك نَفْسِهِ وهو رخي اللبَب ، طويلُ السَبَب ، وليعْرفَ مَمدَّ يَدِه ، ومَوضِعَ قَدَمِهِ ، وليَحْذَر الزَّلَلَ والعلَ التي تقْطَعُ عَنِ العمَل . رحِمَ اللهُ عبداً آثَرَ التَّقْوىَ ، واستشْعرَ وشعارَها واجتنىَ ثمارها . باعَ دَارَ النفدِ بدار الأبَدِ . الدُّنْيا كروْضَة اعتمَّ مَرْعَاهَا ، وأعْجَبتْ مَنْ يَراهَا ، تمجُّ عروقُها الثرى ، وتنظفُ فروعها الندي ، حتى إذا بلغَ العُشْب إناهُ ، وانْتَهى الزبرج منتهاه ، ضعفَ العُمودُ ، وذوي العُودُ ، وتولي مِن الزَّمان مالا يُعود ، فَحنَتِ الرياحُ الورقَ ، وفرقتْ مَا أتسقَ ، فأصبحَ هشيماً تذروهُ الرياحُ وكان اللهُ على كل شيء مُقْتَدِراً . كان شبيب يقُولُ : الليلُ يكْفيكَ الجَبَانَ ونِصْفَ الشُّجَاع . أتى الحجاجُ بامْرَأة مِنْ الخَوارج ، فقالَ لِمنْ حَضَر : ما تروْنَ فِيها ؟ قالُوا : اقْتُلْها . فقالَتْ : جُلُساءُ أخيكَ خيرٌ مِنْ جُلسائكَ : قال : مَنْ أخي ؟ قالتْ : فِرْعُونُ : لما شاورَ جُلساءهُ في موسى " قالوا أرْجِهُ وأخَاهُ وأبعثْ في المدَائِنِ حاشرين " فأمَرَ بقَتْلِهَا .
مرَّ رجلٌ من الخوارج بدار تُبنى ، فقال : مَنْ هذا الذي يُقيم كفيلاً ؟ أخذ ابنُ زياد بنَ أديَّةَ : أخَا أبي بلال ، فقطعه يديه ، ورجليه ، وصلبه على بابِ دارِه فقال لأهله وهو مصْلوبٌ : انظروا إلى هؤلاء الموكَّلين بي فأحسِنُوا إليهم فإنهم أضيافكم . أني عتابُ بن وَرْقَاء بامرأة من الخوارج فقال لها : يا عدوةَ الله ، ما دعاكِ إلى الخروج ؟ أمَا سمعتِ الله تعالى يقول : كُتِبَ القتل والقتال علينا . . . وعلى المحصنات جرُّ الذيول قالت : يا عدو الله ، أخرجني قلةُ معرفتك بكتاب الله . كان الجنيد بن عبد الرحمن يلي خراسان في أيام هشام ، فظفر بصبيح الخارجي ، وبِعده ، مِن أصحابه ، فقتلهُم جميعاً ، غيرَ رجل أعمى كان فيهم . فقال له الأعمى : أنا أدلُّك على أصحاب صبيح ، وأجازيك بما صنعتَ ، فكتب له قُوماً . فكان الجنيد يقتلهم حتى قتل مائةً . فقال له الأعمى عند ذلك : لعنكم الله . تزعُم أنه يحلُّ لك دمي . وأني ضالَ . ثم تَقبلُ قولي في مائة فتقتلهم . لا - والله - ما كتبتُ لك من أصحاب صبيح رجلاً وما هُمْ إلا منكم فقدَّمه ، وقتله . دخل أبو حمزة - واسمه يحيى بن المختار - مكة ، فصعد منبرها متوكئاً على قَوْس له عربية ، فحمد الله ، وأثنى عليه . ثم قال : أيُّها الناسُ ، إن رسولَ الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يتقدمُ ولا يتأخَّرُ إلا بأمْرِ اللهِ وإذْنِه ووحيهِ ، أنَزلَ اللهُ له كتاباً بيَّنَ لهُ فيهِ ما يأْتي وما يتقي ، فلم يَكُ في شَكِّ مِنْ دينهِ ، ولا شُبْهة منْ أمْرهِ ، ثم قبضَهُ اللهُ إليهِ ، وقد علمَ المسْلمينَ معالم دينهِ ، وولى أبا بكر صلاتَهُمْ وولاه المسلمونَ أمر دُنْياهُمْ حيثُ ولاهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليْه وسلم أمْرَ دينهِم ، فقَاتَل أهْلَ الردِة ، وعملَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ ، ومَضى لسَبيِلهِ - رحمهُ اللهُ - وولي عمرُ بنُ الخطاب ، فسارَ بسيرةِ صَاحبهِ ، وعَمِلَ بالكتابِ والسُّنَّةِ ، وجبى الفيءَ ، وفَرضَ الأعْطِيةَ ، وجمَعَ الناسَ في شَهْرِ رمضانَ ، وجلدَ في الخَمْرِ ثمانينَ ، وغَزَا العدوَّ في بلادِهمْ ، ومَضَى لسبيلهِ رحمهُ اللهُ . وولي عثمان بن عفانَ فسارَ ستَّ سنين بسيرةِ صاحبيهِ ، وكانَ دُونَهَما ثم سَارَ في الستِّ الأواخرِ بما أحبطَ الأوائلَ ، ثم مَضى لسبيلهِ، وولي علي بنُ أبي طَالب فلم يَبْلُغ من الحق قصْداً ، ولم يرفْع له منَاراً . ثُم مضَى لسبيله ، وولي معاوية بنُ أبي سُفيانَ لَعينُ رسولِ الله وابنُ لعينِه فاتخذَ عبادَ الله خولاً ، ومالَ اللهِ دُولاً ، ودينهُ دَغَلاً فالعنُوهُ لعنَهُ اللهُ . ثم ولي يزيدُ بن معاوية ، يزيدُ الخمورِ ، ويزيدُ القُرودِ ، ويزيدُ الفُهودِ ، الفاسقُ في بطنِهِ ، المأبُونُ في فَرْجِهِ ، ثم اقتصهُمْ خليفةً خليفةً . فلما انتهى إلى عُمَرَ بن عبد العزيزِ أعْرَضَ عن ذِكْرِهِ . ثم ولي يزيدُ بنُ عبد الملك الفاسقُ في بْطِنه المأبُونُ في فَرِجهِ الذي لم يؤنس منه رُشدٌ ، ولم يُرْعَ له عهْدٌ . وقد قالَ اللهُ في أموال اليتامى " فإن آنستُمْ منهُمْ رُشداً فادْفعُوا إلَيهِمْ أموْالَهُم " . فأمرُ أمة محمد أعظمُ يأكلُ الحرامَ ، وبِشرْبُ الحرامَ ، ويلْبس الحُلَّة قُومِّتْ ألفَ دينار قد ضُرِبتْ فيها الأبشارُ ، وهُتِكتْ فيها الأسْتَارُ ، وأخِذتْ مِن غير حِلِّها . حَبابة عن يمينِهِ ، وسلامةُ عن يَسَارهِ يُغنيانِه حتى إذا أخذَ الشرابُ مِنْهُ كلَّ مأخذ قَدَّ ثوبَهُ ، ثم التفَتَ إلى إحداهُمَاَ فَقالَ : ألا أطيرُ ؟ نَعمْ ، فِطِرْ إلى النَّارِ . وأما بنُو أمية فَفِرقَةٌ الضلالةِ ، بْطشُهمْ بطْشُ جَبْريَّة ، يأخُذُونَ بالظنة ، ويقْضُونَ بالهوى ، ويقتُلُون على الغضبِ ، ويحْكُمون بالشفَاعة ، ويأخُذُونَ الفَريضَةَ مِنْ غيرِ موضعها ، ويضعُونَها في غير أهْلِها ، وقد بيَّن الله أهْلَهَا فجعلَهُم ثمانيةَ أصناف . قالَ : " إنِّما الصدقاتُ للفقراء " إلى آخر الآية فأقبلَ صِنْفٌ تاسعٌ لَيْسَ مِنْهمَا فأخَذَها كلَّها . تْلكُمُ الأمةُ الحاكِمةُ بغَيْرِ مَا أنْزَل اللهُ .
خطبة قطري بن الفجاءة
أمَّا بعدُ : فإني أحذِّرُكم الدنيا فإنها حُلوة خَضِرةٌ ، حُفَّتْ بالشهوات وراقتْ بالقليل ، وتَحبَّبتْ بالعاجلةِ ، وخلّبتْ بالآمال، وتَزيَّنتْ بالغُرور ولا تَدْمَ حَبْرتها ، ولا تؤْمنُ فجيعتْها ، وغرارة ضرارة ، وحائلةٌ زائلةٌ ، ونافِدةٌ بائدةٌ ، أكالةٌ غَوَّالة ، لا تعْدُو - إذا تناهتْ إلى أمنية أهل الرغبة فيها ، والرِّضَا عنها - أنْ تكونَ كما قال اللهُ تعالى " كماء أنْزَلَناهُ من السماء ، فاختلط به نباتُ الأرض فأصبحَ هشيماً تذروه الرياحُ وكان اللهُ على كل شيء مقتدراً .
مع أن امرأ لم يكن منها في حَبْرة إلا أعقبتْهُ بعدها عبرة ولم يلْقَ من سرائها بطناً إلا منحتْه من ضَرائها ظهْراً ولم تَظِله غيمةُ رخاءٍ إلا هطلتْ عليه مُزْنةُ بلاء ، وحريةٌ إذا أصبحتْ له منتصرةً ، أنْ تُمسي له خاذلةً مُتنَكرة ، وإن جانِبٌ مِنْها أعذوذبَ واحد ولي أمر عليه منها جانبٌ وأوبى . وإنْ آتت امرأ من غضارتها ورقاً أرهقته من نوائبها تعباً . ولم يْمس منها امرؤ في جنَاح أمنٍ إلا أصبحَ مِنْها على قوادمِ خوف . غرّارةٌ غرورٌ ما فيها ، فانيةٌ فإن من عليها لا خيرَ في شيء من زاد منها إلا التقوى . من أقل منها استكثرَ مما يؤمنهُ ، ومن استكثر منهَا استكْثَر مِما يُوبقُه ويطيل حُزنه ، ويبكي عينَه ، كم واثقٍ بها فجعته ، وذي طمأنينة إليها قد صرعتْه ، وذي احتيال فيها قد خدعته، وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيراً ، وذي نخوة قد ردْتهُ ذليلاً ، ومن ذي تاج قد كبتْه لليدين ، وللفَم . سلطانُها دُوَلٌ ، وعيشُها رنَق وعذبها أجَاجٌ وحُلوُها صَبرٌ ، وغذاؤها سِمامٌ ، وأسْبابها رِمامٌ ، وقطافُها سَلَع ، حيُّها بعَرَضِ موت ، صحيحُها بعَرَضِ سقم ، منيعُها بِعَرضِ اهتضَام . مليكُها مسلُوب ، وعزيزُها مغْلوبٌ ، وسليمُها منكُوب ، وجارها محروبٌ ، مع أنَّ وراء ذلك سكراتِ الموت ، وهولَ المطلعِ ، والوقوفَ بين يدي الحكم العدل " ليجزي الذين أساءْوا بِما عَملوا ويجزي الذينَ أحْسنُوا بالحُسْنى " . ألستُم في مساكن من كان قَبْلكم أطولَ أعْمارً ، وأوضح منكُم آثاراً ، وأعد عديداً ، وأكثفَ جُنوداً ، وأشدَّ عُنوداً . تُعبِّدوُا للدنيا أي تعبُّد ، وآثَرُوها أي إيثار ، وظعَنُوا عنها بالكُره والصغَار فهل بلَغكُم أنَّ الدنيا سمحَتْ لهم نفْساً بِفدْية ، أو أغْنَتْ عنهم فيما قد أهلكتْهُم بخَطْب ؟ بل قدْ أرهقتْهُم بالفوادح ، وضَعْضَعْتهُمُ بالنوائب ، وعقرتهُم بالفجائع . وقد رأيتُم تنكُّرَها لمنْ دَانَ لها ، وآثَرها وأخْلَدَ إليها حين ظَغنُوا عنها لفراقِ الأبَد إلى آخرِ المُسْند . هل زودتَهْمُ إلا السغَب ، وأحلَّتهم إلا الضّنْكَ ، أوْ نورت لَهم إلا الظُّلمةَ أو أعقُبتْهم إلا الندامة ؟ أفهذه تُؤثرون أمْ علي هذه تَحْرِصُون ؟ أم إليها تطمئنون ؟ يقولَ الله عز وجل : " مَنْ كان يُريد الحياةَ الدنيا وزِينتَها نُوَفِّ إليهم أعْمالهم فيها وهم فيها لا يُبْخَسُون " فبئستْ الدارُ لمنْ أقامَ فيها فاعلُموا - وأنتم تعلمون - أنكم تَارِكُوها لا بُدَّ ، فإنما هي كما وصفَها اللهُ باللعب ، واللهو . وقد قال الله تعالى : " أتبنْون بكُلِّ ريع أيةً تَعْبَثُون وتتَّخذُونَ مصانعَ لعلكم تَخْلُدون وإذا بطشتُم بطَشتُم جبارين " . ذكر الذين قالوا : " من أشدُّ منا قوةً " ثم قال : حُملُوا إلى قُبورهم فَلا يُدعَون رُكْباناً ، وأنْزِلوا فلا يُدعَوْنَ ضيفَاناً ، وجعل الله لهم من الضريح أجْناناً ، ومن الترابِ أكْفاناً ، ومن الرفُّات جِيراناً ، وهم جِيرةٌ لا يُجِيبون داعياً ، ولا يمنعُون ضَيماً . إن خَصبوا لم يَفْرحُوا ، وإن قَحطوا لم يقُنطوا . جَميعٌ وهم آحاد ، جِيرةٌ وهم أبْعادٌ ، مُتَناءْون لا يزورُون ولا يُزَارُون . حُلماءُ قد ذهبتْ أضْغانُهم، وجُهلاءُ قد ماتتْ أحقادهُمْ ، لا يُخشى فجْعهُمُ ، ولا يُرْجَى دَفْعُهمُ ، وكما قال الله تعالى : " فتلْكَ مساكُنهم لم تُسْكَنْ منْ بعْدِهِم إلا قليلاً وكُنَّا نحنُ الوارِثين " . واستبدلَوا بظَهْرِ الأرض بطْناً ، وبالسَّعة ضِيقاًُ ، وبالأهل غُربةً ، وبالنور ظُلمة ، ففَّارَقُوها كما جاءُوها حُفاةً ، عراةً ، فُرادى ، غيرَ أنْ ظعنُوا بأعمالهم إلى الحياد الدائمة ، وإلى خلود الأبَد ، يقولُ الله تبارك وتعالى : " كما بدأنا أول خلق نُعيدُه وعداً علينا إنا كُنَّا فَاعِلينَ " . فاحذَروا ما حذَّركُم الله ، وانتفعُوا بمواعظه ، واعتصمُوا بحَبْله . عَصَمنا اللهُ وإياكم بطاعته ، ورزَقنا إياكُم أداءَ حقِّه . قالوا : لما أخذ أبو بيهس الخارجي ، وقُطِعتَ يداهُ ، ورِجْلاهٌ ، تُرك يتمرغُ في الترابِ . فلما أصْبح قال : هل أحدٌ يُفْرِغُ على دَلْوين ؟ فإني احتلمتُ في هذه الليلةِ . هذا إن كان صَادقاً فهو عجيبٌ ، وإنْ كان قالهُ استهانةً بمَنْ فَعلَ ذلك فهو أعجبُ . قال بعضُهم : سمعتُ أبا بلال في جنازة وهو يقولُ : ألا كلُّ ميتةٍ ظنُونٌ إلا ميتةَ الشجاء . قالوا : وما ميْتةُ الشجاء ؟ قالَ : امرأةٌ أخذها زيادٌ فقطعَ يديْها ، ورجليها ، فقيل لها : كيف تريْنَ يا شجَاءُ ؟ قالتْ : قد شَغلني هولُ المطَّلَع عن بَرْدِ حَدِيدكم . قال الحجاج لامرأة من الخوارج : اقرئي شيئاً من القرآن . فقالتْ : " إذا جاء نَصْر الله والفتْحُ ، ورأيتَ الناسَ " " يخرجونَ فقَالَ : ويحك يدخُلُون . قالتْ : قد دَخَلُوا ، وأنتَ تُخْرِجُهم . وقال الحجاجُ لأخرى : لأحصدنكُمْ حصْداً . قالتْ : أنتَ تحصُدُ ، والله يزرَعُ ، فانظُرْ أينَ قُدْرةُ المخلُوقِ من قدرةِ الخالق ؟ رأت أخرى منهُمْ رجلاً بضًّا فقالتْ إني لأرى وجهاً لم يُؤثِّرْ فيه وضوء السبرَات . كان شبيبُ الخارجي ينعى لأمة : فَيُقَالُ : قُتِلَ : فلا تُصَدِّقُ ، إلا أنْ قِيل لَها : غَرِقَ : فولولتْ ، وصدقَتْ . فَقِيلَ لَهَا في ذلكَ . فقالتْ : إني رأيتُ حين ولدتُهُ إنهُ خَرجَ مني نارٌ فعِلمتْ أنهُ لا يُطفئُهُ إلا الماءُ . وقَفَ رجُلٌ على أبي بيْهَسَ وقَدْ أمِرَ بقَطْع يديه ورجليه فقال : ألا أعْطيكَ خاتماً تتختُم بِهِ ؟ فقالَ لَهُ أبو بيْهسُ : أشْهَد أنَّكَ إنْ كُنت مِنَ العَرب فأنت مِن هذيل ، وإن كنت مِن العجَم فأنت بَرْبَري . فسُئِل عَنه فإذا هو منْ هذيل وأمهُ بَربْرِيَّةٌ . أتى رجُلٌ من الخَوارج الحسنَ البصري ، فقالَ لَهُ : ما تَقولُ في الخَوارج قالَ : هُمْ أصْحَابُ دُنيا ، وقَالَ : ومن أينَ قُلتَ وأحدهُمْ يمْشي في الرُّمح حتى ينكَسرَ فيه ، ويخرج من أهله ووَلَده ؟ فَقَالَ الحسنُ : حدثني عن السلطان أيَمْنعُكَ من إقَامَة الصلاة ، وإيتَاءٍ الزَّكَاة ، والحجِّ والعُمْرة ؟ " قَالَ لاَ . قَالَ : فأرَاهُ إنما مَنَعَكَ الدنُّيا فقاتلتَ . نَزَلَ رجُلٌ من الخَوارج عَلى أخ لهُ منهُمْ في اسْتتارة منَ الحجَّاج ، وأرادَ صاحبُ المنزل شُخُوصاً إلى بلد آخَرَ لحَاجة لهُ ، فقَالَ لامرأته : يا زرقَاءُ أوصيك بضَيْفي هَذا خيراً وبَعُدَ لِوجهتهِ . فلما عَادَ بَعْدَ شهر قال لَهَا : يا زرقاءُ . كيف رأيْتِ ضيفنا ؟ قالت ما أشغلهُ بالعمى عن كلِّ شيء وكان الضيفُ أطبقَ عينهُ فلم ينظُرْ إلى المرأة والمنزل إلى أنْ عَادَ زَوْجُهَا . اجتمعَ ثلاثةٌ من الخوارج فعقد اثْنَان لِواحِد ، وخَرجُوا يمْشُونَ خلْفَهَ يَلْتمِسونَ شيْئاً يركَبُهُ ، فجعَلَ الأثْنان يِتَلاحيان ، فالتَفتَ إليهمَا وقال : ما هذهِ الضَّوضاءُ التي أسمَعُهَا في عَسْكِري ؟ ؟ كبرَ رجُلَ منهمْ وهَرمَ حتى لم يكُنْ بهِ نهوضٌ ، فأخَذّ منزلاً على ظهر الطريق ، فكلما جاءَ مطرٌ وابتلتْ الأرضُ أخذَ زجاجاً ، وكَسَرهَ ، ورماهُ في الطريق ، فإذا مر إنسانٌ وعَقَرَ رجلَهُ الزُّجاجُ قَالَ الخارجي من وَرَاءِ البَاب : لأحُكْمَ إلا لِلَّهِ ثُم يقولُ : اللهُمَّ إنَّ هَذا مجْهُودي . لِقي رجلٌ بعضَ الخوارج بالموْقِفِ عشيةَ عرفةَ ، فَقال لهُ : مَنْ حج في هَذِه السنةِ منْ أصْحابكم ؟ فَقالَ : ما حَجَّ غيري . فقالَ لَه : إنِّما بَاهي اللهُ عزَّ وجَلَ ملائِكتَهُ في هّذِهِ السنةِ بشقِّ محُملِهِ . وأحْضَرا الحجَّاج رجُلاً من الخوارج ، فمنَّ عليهِ ، وأطْلَقُه ، فلما عَادَ إلى أصْحابِه ، قالُوا لَهُ : إنَّ اللهَ مخَلِّصُك مِنْ يدِهِ ليزيدَك بصيرةً في مذهبكِ ، فلا تُقصِّرْ في الخُروج عليْهِ . فقالَ . هيْهاتَ . غل يداً مطلقُها ، استرقَّ رقَبَةً معْتِقُهَا . نَظرَ رَجلٌ مِنَ الخوارج إلى رَجل مِنْ أصُحاب السُّلطان يتصدَّقُ على مِسْكين فقَالَ : انظْرْ إليهم : حَسناتُهم مِنْ سيِّآتِهم. قال المنْصُورُ لبعَض الخوارج - وقد ظَفِرَ بهِ : عرفني مَنْ أشدُّ أصحابي إقْداماً كَان في مبارزتِك . فقالَ : ما أعَرِفهُمْ بوجُوهِهم ، ولكني أعْرفُ أقْفَاءَهُمْ . فقُلْ لَهُمْ يُدْبروا حتى أصِفَهم ، فاغتَاظَ وأمَر بقتْلِهِ . قال الحجاجُ لرجل منهمْ : والله إني لأبْغِضُكُم . فقالَ الخارجيُّ : أدْخَل اللهُ أشدنا بُغْضاً لصاحِبهِ الجنةَ . وقيلَ إنَّ أوَّلَ مَنْ حكَّم عُروةُ بن أدَيَّة وهو عروة بنُ حُدير أحد بني ربيعةَ ابن حنظلةَ . وأديَّة جَدَّةٌ له وهو ممَّن نجا مِن حرْب النَهْرَوان ، وبَقِي إلى أن أتى به زياد فقتَلًهُ ثم دَعَا مؤْلاهُ ، فقالَ : صِفْ لي أمورَهْ . فقالَ : أأُطِنبُ أمْ أخْتصِر ؟ فقَالَ : بلْ اختَصِرْ فَقالَ : ما أتيتُهُ بطَعام بنهار قطُّ ، ولا فَرَشْتُ له فِراشاً بلّيْل قطُّ . وكان زيادٌ سألهُ عن مُعاوية فَسَبَّهُ ، وسألهُ عن نفْسهِ ، فقالَ : أولكَ لزينْةَ ، وآخركَ لدعْوة وأنتَ بعد عاص لربِّك . قالَ المبِّردُ : قد اسْتَهْوى رأيُ الخوارج جماعةً من الأشرَاف ، يُروْى إنَّ المُنْذِرَ بنَ الجارودِ كان يرى رأيهُمْ ، وكانَ يزيدُ بن أبي مسلم صاحبُ الحجَّاج يراهُ ونُسِبَ إليه عِكْرَمةُ مَولى ابْن عبَّاسِ ومالكُ بنُ أنس . وروى أنَّه كان يذكُرَ عثمانَ ، وعلياً ، وطلحَةَ ، والزُّبيرَ فيقولُ : واللهِ ما اقْتَتَلوا إلا على الثريدِ الأعْفَر . وأما أبُو سَعيد الحسنُ البصريُّ فإنه كان يُنْكرُ الحكُومةَ ولا يرى رأيَهُمْ . ذكَرُوا أنَّ عبدَ الملك أتوهُ برجل من الخَوارج ، فأرادَ قتله ، فأدخل على عَبد الملك ابن لهُ صغيرٌ - وهو يْبكي - فقال الخارجيُّ : دَعْهُ بيكِ فإنَّهُ أرْحبُ لِشدتُهِ ، وأصَح لدِمَاغِه ، وأذْهُبُ لصَوتِهِ ، وأحُرى ألا تأْبى عليهِ عينُه إذا حَفزَته طاعَةُ الله فاستدْعى عَبْرَتَها . فأُعجبَ عبدُ الملكِ بقولهِ . وقالَ لهُ مُتعجِّباً : أمَا يشغَلُكُ ما أنْتَ فيه عَن هَذَا ؟ فقالَ : ما يَنْبغي أنْ يَشْغَلَ المؤمِنَ عَنْ قول الحقِّ شيءٌ . فأمَرَ عبْدُ المَلكِ بحَبْسِه ، وصَفَحَ عَنْ قَتْلِهِ . كانَ جماعةٌ من الخَوارج تجمعَتْ بعْد حرب النَّهروان فَتأسفُوا علي خِذْلانِهم أصْحابَهُمْ ، فقَامَ مِنْهُم قائمٌ يقالُ لهُ المُسْتَوردُ مِن بني سَعْدِ ابن زيدِ مناة ، فحمدَ الله ، وأثنى عليه ، وصلى على محمد صلى اللهُ عليهِ ، ثُمَّ قالَ : إن رسُول اللهِ - صلى الله عليهِ - أتانا بالعَدْل تخْفقُ راياتُه ، وتَلْمع مَعَالُمه ويبلِّغُنَا عَنْ رَبِّهِ وينصَحُ لأمتِه حتى قبضَهُ اللهُ مخيراً مختاراً ، ثُم قَامَ الصدِّيقُ فَصدّقَ عن نبيهِ، وقاتَل مَنْ ارْتدَّ عَن دِين ربِّهِ ، وذكَرَ أن الله عز وجَلَ قَرَنَ الصلاةَ بالزَّكاةِ ، فرأى تْعطيلَ إحداهُما طعْناً على الأخرى، لا بل عَلَى جميع منازِلِ الدينِ ، ثم قبَضَهُ اللهُ إليه مَوفُوراً . ثم قَامَ الفارُوقُ ، ففرق بين الحق والباطل مسوياً بين الناس ، ولا مؤثراً لأقاربه ، ولا مُحَكماً في دين ربه ، وها أنتُم تَعلَمُون ما حَدَثَ : واللهُ يقولُ : " وفضَّل اللهُ المُجاهدين على القاعدين أجرأ عظيماً " وكان المستوردُ كثيرَ الصلاة شديدَ الاجتهاد ، وله آدابٌ محفوظةٌ عنْه . كان يقول : إذا أفُضيت بسرى إلى صديقي فأفشاه لم ألمه لأني كنْت أولى بحفظه . وكان يقول : لا تفْش إلى أحد سراً . وإنْ كانَ لك مخْلصاً إلا على جهة المشاورة . وكان يقول : كن أحْرصَ على حفْظ سر صَاحبك منكَ على حَقْن دَمك وكانَ يقول : أقَلُّ ما يدلُّ عَلَيْه عائب النِّاس معْرفته بالعيوب ولا يعيب إلا معيبٌ . وكان يقول : المال غير باقٍ فآشْتَر به منَ الحمْد ما يبْقى عليكَ . وكان يقول : بذل المال في حقه استدعاءٌ للمزيد من الجواد . وكانَ يُكثِرُ أنْ يَقولَ : لو ملكت الدُّنْيا بحَذافيرها . ثم دُعيت إلى أنْ أسْتقيلَ بها خطيئةً علي لفعَلْت . ولما أتى عبيدُ الله بن زياد بعروةَ بن أدية - وكانَ قد أصيبَ في سَريَّة للعلاء بن سُويْد في استتاره - قال له عبيدُ الله : جهزْتَ أخاكَ علي : فقال : والله لقد كنت به ضَنيناً وكانَ لي عزاً . ولقد أردت له ما أريده لنفسي ، فعزَم عزماً فمضَى عليه ، وما أحبُّ لنفسي إلا المقامَ وتَرْكَ الخروج . قال له : أفأنتَ على رأيه ؟ قال : كنَّا نعبد رباً واحداً . قال أما لأمثلنَّ بكَ . قال فاخترْ لنفسك من القصَاص ما شئْتَ . فأمرَ به فَقطعوا يَديْه ورجْلَيه . ثم قال : كيفَ تَرى ؟ قال أفسدتَ علي دنْياي وأفسدتُ عليك آخرتَك . وفي كتاب لنافع بن الأزرق كتبه إلى قعدَة الخوارج : ولا تطْمَئنُّوا إلى الدنيا فإنها غّرارةٌ ، مكَّارة ، لذتها نافذةٌ ، ونعيمها بائد . حُفت بالشهوات اغترارا ، وأظهرتْ حَبْرةً ، وأضمرتْ عَبرة ، فليس لآكلٍ منها أكلةٌ تسرُّه ، ولا شربة تونقه إلا دنا بها درجةً إلى أجله ، وتباعدَ بها مسافةً منْ أمله . وإنما جعلها الله دار لمنْ تزوَّد منها إلى النَّعيم المقيم ، والعيش السليم ، فلَنْ يرضى بها حازمٌ داراً ، ولا حكيم بها قراراً ، فاتقوا الله ، " وتزودوا فإنَّ خَيْرَ الزادِ التَّقْوى " والسلام على من اتبع الهدى . ولما حاربهم المهلّب يسلى ، وسليري فُقتِل رئيسهم : ابن الماخور اجتمعوا على الزبير بن علي من بني سليط ، وبايعوه ، فرأى فيهم انكسار شديداً ، فقال لهم : اجتمعوا . فحمد الله وأنثى عليه ، وصلى على محمد صلى الله عليه - ثم أقبل عليهم فقال : إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجرٌ ، وهو على الكافرين عقوبةٌ وخزي . وإن يُصبْ منكم أميرُ المؤمنين فما صار إليه خيرً مما خلف . وقد أصبتم فيهم مسلمَ بن عُبيْس ، وربيعاً لأجْذم ، والحجاجَ بن بَاب ، وحارثه بن بدر ، وأشجيتم بالمهلب ، وقتلتم أخاه المعارك . والله يقول لإخوانكم من المؤمنين : " إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القومَ قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصاً ، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالاً . فلا تُغلبُنَ عن الشكر في حينه ، والصبْر في وقته . وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض والعاقبة للمتقين . ولما استرد مصْعبٌ المهلبَ من وَجْه الأزارقة ، وولاه الموصلَ شاور الناسَ فيمن يستكفيه أمْرَ الخوارج ، فقال قومٌ : وَلِّ عبيدَ الله بنَ أبي بكرة . وقال قوم : ولِّ عمر بن عبيد الله بن معمر . وقال قوم : ليس لهم إلا المهلبُ فارْدده إليهم . وبلغتْ المشورة الخوارجَ ، فأداروا الأمَر بينهم . فقال قطريُّ بن الفجاءة المازني : إنْ جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة أتاكْم سيدٌ ، سمح ، كريم ، جواد ، مُضيعٌ لعسكره ، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم شجاعٌ بَطلٌ ، فارسٌ ، يقاتل لدينه ، ولملكه ، وبطبيعة لم أرَ مثلها لأحد ، فقد شهدتُه في وقائع فما نودي فِي القوم لحرب إلا كان أولَ فارس يطلع حتى يشدِّ على قِرنْه فيضربه . وإنْ ردّ المهلب فهو مَنْ قد عرفتموه ، إن أخذْتم بطرَف ثوب أخَذَ بطرفه الآخر ، ويمدُّه إذا أرسلْتموه ، ويرسله إذا أمْددتموه . لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه ، وإلا أن يرى فرصةً فينتهزَها ، فهو الليث المبرُّ ، والثعلب الرواغ ، والبلاء المقيم . ولما قُتل مُصعب أتى الخبر الخوارجَ ولمْ يأْت المهلَّبَ وأصُحابه ، فتواقفوا يوماً على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المُصعب ؟ فقالوا : إمام هدي : قَالوا : فما تقولون في عبْد الملك ؟ قالوا : ضَالُّ مُضل . فلما كان بعدَ يومين أتى المهلب قتلُ المصعَب ، وأنَّ النَاسَ قدْ اجتمعوا على عبد الملك ووردَ عليه كتاب عبد الملك بولايته . فلما تواقفوا نَاداهمُ الخوارج ما تقولونَ في مصْعب ؟ قالوا : لا نخبركمْ . قالوا : فما تقولونَ في عبد الملك قالوا : إمام هُدى . قالوا : يا أعْداءَ الله ، بالأمْس ضالٌّ مُضل ، واليومَ إمام هدي . يا عَبيدَ الدُّنْيا عليْكمْ لعنة الله . أتى الحجاج بأمْرأة منَ الخوارج فجَعلَ يكلِّمها ، وهي مُعْرضةٌ عنْه فقالَ لها بعْض الشُّرط : يكلمكِ الأمير وأنْت معُرضةٌ عنْه ؟ قالت إني لأستحي من الله أن أنظر إِلَى من لا ينظر إليه أتى زياد بامرأة منهم فقال : أما والله لأحصدنكم حصداً ولأخفينكم عداً قالت : كلا إِن القتل ليزرعنا قَال : فلما هَمَّ بقَتْلها تسترَتْ بثوبْهَا فقالَ : اتَتسْترينَ - وقد هَتَكَ الله ستْرَك ؟ قالَتْ : أي والله أَتَستر ولكن الله أبدى عورةَ أمكَ على لسانك ، إذْ أقرَرْتَ أنَّ أبَا سفْيَانَ زَنَى بها ، فأمَرَ بقَتْلهَا . وقال الحجَّاج لرَجل منْهمِ : أجَمعْتَ القرآنَ ؟ فقال : أمَتفرِّقاً كان فأجمَعه قالَ : أتقرؤه ظاهراً قالَ : بَلْ أقرؤه وأنا أبْصره . قَالَ أفتحفظه ؟ قالَ : أخَشيت فراره فأحْفَظه . قال : ما تَقول في أمير المؤمنين عَبدْ الملك ؟ قال : لعَنه الله ، ولَعَنكَ مَعَه . قالَ ، : إنكَ مقْتولٌ . وكيْفَ تلْقَى الله ؟ قالَ : ألقاه بعَملي وتلْقَاه بدمي . كَانَ عمْران بن حطان منْ أقُبح النَّاس وجْهاً ، وأسْمَجهم منظراً ، وكانتْ له امرأةٌ كأنَّها القمَرُ أديبةٌ ، فَصيحةٌ . فقالَتْ له يوْماً : أنَا وأنْتَ في الجنَّة جميعاً . قَالَ : وكيْفَ عَلمت ؟ قالَتْ : لأني ابتليت بكَ فصَبْرت ، وأعْطيتَ مثلىَ فشكرت ، والصابرون والشاكرون في الجنة . قَتَل زياد رجلاً منْ الخوارج بعْد أنْ سأله عَنْ عثمانَ فتبرأ منه ، وعن معاويةَ فسبه ، وعَنْ نفْسه فقَالَ : إنكَ أولكَ لزينة ، وآخركَ لدعوة وأنتَ بعْد - عاص لربكَ . فأمَرَ به فضربتْ عنه . ثم قال لمؤمن له : صفُ لي أمورَه قالَ : أأطنبُ أم أختصرُ ؟ قال : بل اختصر . فقالَ مَا أتيْه بطعام بنهار قطُّ ، ولا فرشت لَهُ فراشاً بليل قط . كان بالمدينة رجلٌ من الخَوارج قالَ بعْضهم : فرأيته يَحْذف قنَاديل المسْجدِ بالحصى ، فيكْسرها . فقلْت لَهُ : مَا تصْنَع ؟ قَالَ : أنَا - كما ترى - شيخٌ كبيرٌ ، لا أقْدر لهُمْ عَلَى أكْر من هَذَا ، أغرمُهُمْ قنْديلاً ، قنْديلَيْنِ فِي كلِّ يوم . وصلى الله عَلَى محمد وآله . وهذا مختصر عمله الصاحب رحمهُ الله وسماه
الكشف عن مناهج أصناف الخوارج
الحمد لله رب العالمين . وصلى الله عَلَى النبي محمد ، وآله أجمعين . سألتَ أن أذكرَ لَكَ ألقابَ طوائف الخوارجِ ، وذَرْواً من اختلافها . وأنا أثبتُ مَا يحضر حفْظي . عَلَى أنَّ هَذِهِ الألقابَ تجمع أصولاً ، وفروعاً ، فربَّ طائفة لحقها لقبٌ ثُمَّ تفرّد من جملتها فريق فلحقهم لقبٌ آخر . والذي يجمعهم من القول تكفير أمير المؤمنين - صلوات الله عَلَيْهِ وتكفيرُ عثمان ، وإنكارُ الحكمين ، والبراءةُ منهما ، وممَّن حكَّمهما أو تولى أحداً ممن صوَّبهما . وأول من حكم بصفيِّن عُروة بن حُدَير : أخو أبي بلال مرْداس ، وقيل عاصم للمحاربي ، وأول من تشرى رجلٌ من يشكُرَ ، وَكَانَ أميرهم - أولَ مَا اعتزلوا - عبد الله بن الكَوَّاء ، وأمير قتالهم شبت بن ربعي ، ثُمَّ بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبي .
ذكر ألقاب فرَقهم مع جمل منْ مذاهبِهم
الأزارقة : أصحاب نافع بن الأزرق ، يبرءُون من القعَدة .
النجدية : أصحابُ نَجْدةَ بنِ عامر الأسدي . تتولى أصحاب الكَبائر من الخوارجِ إذ لمْ يُصِروا . ومَن أصر منهُم فهو مُشرِكٌ عندَهُمْ . الإباضية : أصحابُ عبد الله بن إباضِ التميمي . فأما عبد الله بنُ يحيى الأباضي الملقَّب بطالب الحق فهُواَ منْسُوبٌ إليهمْ ومعهُ خَرجَ أبُو حمزَةَ الخارجي الصفرية : أصحابُ زياد بنِ الأصفرِ وقيلَ أصحابُ عبدْ الله الصفار العطرية : أصْحابُ عطيةَ بنِ الأسْود الحنفي منْ المنكرينَ عَلَى نَافع . العَجَاردة : أصحابُ عبد الكريم بن عجرد ، وهم عَطوية ، إلا أنهم يوجِبُونَ دُعاءَ الأطفال عند بُلُوغهم والبراءةَ منهُمْ قبْلَ ذَلِكَ . الميمْونيةُ : ميْمون هَذَا عبدُ لعبد الكريم بنِ عجرَد ويقولُ بالعَدْلِ ، ويَرَى قتْلَ السُّلطانِ خاصَّة ، ومَنْ رضى ظُلْمةَ ، وأعَانَهُ دُونَ سائر الناس ويحكى عنهم أن التزوجَ ببنات الأبنِ وبنات البنَات ، وبنات بنَات الأخَوات وبنات بني الإخوة جائزٌ ، وأن سُورة يوسُفَ ليستْ من القرآنِ . وأكَثرُ من بسجِسْتان ميْمونيةٌ ، وعجاردةُ . وقيلَ ميمون رجلٌ من أهلِ بلْخ . الخلفية : يقولُون بالجَبْرِ ، ويخالفُون الميْمونيَّةَ فِي العَدْلِ . الحمزْيَّة : أصحابُ حَمزة بن أدْرك . يقولُون . بالعَدْل . وَلَهُ فارَقُوا الخَليفيةَ . الخازمية : وهم الشعيبية أصلُهم عجاردة ، وهمْ أصحابُ شُعيب يقولُون : إنَّ الولاية والعَداوَة صفتَان فِي ذات القديم . وهُم مجْبِرة . المعْلومية : مِنَ الخَازميَّة يقولون : مَنْ لَمْ يَعْلمِ الله بجميع أسْمائه ، وعرَفَه ببعضها فَهُو عارفٌ بِهِ . المجْهولية يقولون : مَنْ لَمْ يعلم الله عَز وجل بجميع أسمائه فهو جاهلٌ بِهِ . الصلتية : عَجَاردةٌ أصحابُ عثمان بن أبي الصلْت . يقولُون : إذا استجاب الرجلُ للإسلام برِئْنا من أطْفالهم حَتَّى يُدْركوا . الثعالبة : عجاردةٌ ، وصاحبهُم ثعلبةُ ، خالفَ عبْد الكريم بن عجرد فيما قاله فِي الطفل .
الأخْنَسيَّة : أصحابُ ، الأخْنَس يحرِّمون البنات ، والغيلة ويقفون عَمَّن فِي دار التَّقية حَتَّى يعُرفوه . العبْدية : رأوا أخْذَ زكاةِ أمْوالِ عبيدهم إذا استَغَنَوا ، وإعْطاءهُم إذا افتقروا . الشَّيبانيةُ أصحابُ شَيبان بن سَلَمة . الزيادية : أصحابُ زياد بن عبد الرحمن . العُشريَّة : وهم الرشيدية ، كانوا يرون فيما سُقي بالأنهار الجارية نصف العْشر ، وخالفت الزياديةَ فِي إيجابها العُشرَ . المكرمية : أصحاب أبي مكرم . قالت : تارك الصلاة كافرٌ . ومن أتى كبيرةً فهو جاهلٌ بالله . وقالت بالموافاة . الفُدَيكية : أصحاب أبي فُديك الَّذِي غلب عَلَى عسكره نجدةُ ، وأنكر عَلَيْهِ . الحَفْصيَّة وصاحبهم حَفْصُ بن أبي المقدام وهم إباضيّة : زَعم أنَّ مَنْ عَرف الله ثُم أنكر الأنْبياء أو غير ذَلك فهو كافر . وَلَيْسَ بمشْرك . اليزيدية : رئيسهم يزيد بنُ أنيسة يتولى الإبَاضيَّة كلَّها . والمحكِّمة الأُولى . ويزعم أن الله يبعثُ رسولاً من العجم ويُنْزل عَلَيْهِ كتاباً بغيْر شريعتنا ويكونون صابئبين . الحارِثية : أصحابُ الحارث الإباضي . يقولُون بالعدلِ وأنَّ مخالفيهم كفارٌ غيْر مشْرِكين تحلُّ مناكحتُهم ، ويحرم سبيهم . ودارُ مخالفيهم دارُ توحيد إلا عسكرَ السُّلطان فإنه دارُ بغي . وأنِّ مُرْتكبي الكبائر موحَّدون غير مؤمنينْ . الواقفية : وقفتْ فِي جَوازِ بيع الأمَةِ مِنْ مُخالفيهم ، ويُسمونَ: صاحب المرأةِ . الضحاكية : يقالُ لهم : أصحابُ النِّساء . وجوزوا تزويج المرأةِ المسلمة مِنْ كُفّارِ قومِهِم فِي دار التَّقية . البَيْهسيَّة : أصحابُ أبي بَيْهَس هَيْصم بن جابر . كفَّر مَنْ حرَّم بيعَ الأمَة من المخَالفين . وكلُّ ذنْب لَمْ يحكُمْ اللهُ تعالى فِيهِ حُكْماً مُغلظاً فهو مغْفُورٌ عنده .
الْعَونْيَّةُ : تقولُ : إذا كفَرَ الإمامُ كفرتِ الرعيةُ : الغائبُ ، والشاهد . السؤالية : تقُولُ : مَنْ أقام الشَّهادتين ، وواليَ أولياء الله ، وعادي أعداءهُ فهو مُسْلِمٌ إلى أن يُبْتَلى فِي غير ذَلِكَ . التَّفْسيريةُ : رئيسُهم الحكم بن يحيى الكوفي . ومِنْ قَوْلهم : إنِّ مَنْ شَهد شَهادة أخِذَ بتْفسيرها وكَيْفيَّتها . الصالحية : أصْحابُ صالح بن مسَرح . الشَّمراخية : مِنْ قولهم : إنَّ قتْلَ الأبوين المخَالِفّيْن حرامٌ فِي دار التقيَّة ، ودار الهجرة . البدعية : يقْطعونَ عَلَى أنفسِهم وموافِقيهم أنَّهم فِي الجنَّةِ . الخشَبيَّة : رئيسُهم أبُو الخَشب . المغْروريًّة : صُفريةٌ وموضِعُهم البيضاءُ من المغرب ، وصاحِبُهم المغْرورُ بنُ طالُون . والبلاد الَّتِي يغْلِبُ عَلَيْهَا الخارجيةُ الجزيرةُ وأطرافُ الموْصلِ . وشهرزور ، والبحرين وسِجِسْتانَ ، وتَاهرت . وكثير مِن أذْرَبيجانَ . وهم يُلقَّبون بالخوارج لخروجِهم عَلَى الإمام العادل عَلَيْهِ السلام ، والمَارقةِ لإخبار النبي صلى الله عَلَيْهِ وسلم وَعَلَى آله لأنهم . يَمْرقُون من الدِّين ، والحَرُورية لنزولهم حَروراءَ . والمُحكمة لقولها كثيراً : لا حُكْمَ إلا لله . ولقَّبتْ أنفسَها : الشُّراة ، أي أنا شريْنا أنفسَنا فِي طاعة الله . ومضَغوا كتبهم عبد الله بن يزيد، ومحمد بن حرب ، ويحيى بن كامل ، واليمانُ بن دياب . وأصولُ الخوارج الإباضيَّةُ ، والأزارقةُ والصُّفرية ، والنجدِية . فإذا ذكِرتْ فِرقةٌ مِن هَذِهِ الفرق عُلِم أنها مُباينةٌ للفِرَق الثَّلاثِ . ثم سائرِ الألقاب تتبيَّن بتفْصيلِ مقالاتِهم ، وإلى الله نبْرأ من جماعتهم ، ونسأله أن يصلي عَلَى النبي . وابنِ عمه الرضى ، وأهلِ بيته الذين أذهبَ الله عنهم الرِّجسَ وطهرَّهم تطهيرا .
أدْخِلَ رجلٌ من الشُّراة إلى الحجاج فاسْتحقرهُ ، ثُمَّ قال لَهُ : ويْحكَ مَا أخرجَك ؟ ؟ فواللهِ مَا أظنُّك تعْرِفَ مواقِيتَ الصَّلاة . فقال : ذاكَ لو اتكلتُ عَلَى تعْليمك يَا حجّاجُ ، كنتُ بالحري أن أنزلَ بهذهِ المنزلةِ . قال : مَا أخْرجَكَ ؟ قال : مَخافَةُ يوم أنا وأنتَ إلى نصير . قال : وَمَا ذَالك اليوم ؟ قال : أول آخِرٌ ، وأخِرٌ أولٌ . مستقبلٌ أول ، مستدْبِرٌ آخِر . لا بعدَهُ أجَلٌ ولا فِيهِ عمَل ، ولا فِيهِ مسْتغِيثٌ ، ولا إلى غيره مَذْهب ، يأْمَنُ فِيهِ الخائفُ ، ويخف فِيهِ الأمِنُ ، ويعزُّ الذليلُ ويذلُّ فِيهِ العزيزُ وَفِي مِثْل هذا مَا أقْلقَ مِثلي عن الفِراش ، والأئمةُ تعْدِلُ ، فكيْفَ إذا كانتْ تَضِلُّ وتُضلِّلُ ؟ فاقضِ مَا أنتَ قاضٍ . قال : أجزِعتَ من الموتِ ؟ قال : واللهِ مَا جزعتُ مِن قضاءِ ، ولا أسفتُ من بلاءٍ ، ولا كرهت لربي لقاءً ، وللموت مَا خلقتُ ، ومالي حاجةٌ إلا فِيهِ . فهل يجزعُ الرجلُ من قَضاء حاجتِهِ ؟ قال : أمَا والله لأعجِّلنَّ لَكَ من العذابِ الأدْنَى دُونَ العذابِ الأكبر . قال : أمَا واللهِ لو علمتُ أنَّ بيدك تعْجيلَه لعلمْتُ أنَّ بيدك تأْخيرَه. قال : والله لأقتُلنَّك . قال : لا يعزُّ اللهُ بقتلي باطِلاً ولا يُبطِلُ بِهِ حقاً . ولئن قتلْتَني لأُخاصمنَّكَ بحيث يزولُ عنْكَ وعن أبي الزَّرقاء عزُّكُما ولا يدْفعُ عنكُما سلطانُكُما ، وحيثُ لا يُقْبل لكما عذْرٌ ولا تنفعكُما حجُةٌ . أمر بقَتْله .