الجزء الخامس - الباب الثامن عشر نوادر أشعب

الباب الثامن عشر نوادر أشعب

كان يقول : كلبي كلبُ سوء ، يبصبص للأضياف وينبح أصحابَ الهدايا . وأشعبُ هذا هو الموصوفُ بالطمع . وقيل له : ما بلغ مِنْ طمعك ؟ قال : لم تقُلْ هذا إلا وفي نفْسِك خيرٌ تصنعه بي . ومِن عجيب أخباره أنه لم يمتْ شريفٌ قط من أهل المدينة إلا استعدى أشعب علي وَصيته ، أو وارثه ، وقال له : احلف أنه لمْ يُوصِ لي بشي قبل موته . وقيل له : لقد لِقيتَ رجلاً من أصْحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلو حَفظتَ أحاديث تتحدَّثُ بها ؟ ؟ قال : أنا أعلُم الناسِ بالحديث . قيل : فحدِّثنا . قال : حدثني عِكرمةُ عن ابن عباس ، قال : خلَّتَان لا تجتمعان في مؤمن إلا دخلَ الجنةَ . ثم سكتَ . قيل له : هاتِ ، ما الخلَّتان ؟ قال : نسِي عِكرمةُ إحداهُما ، ونسيُ أنا الأخرى . قال بعضُهم : قلت له : لو تحدثتَ عند العَشيّة فقال : أخافُ أن يجئ إنسانٌ ثقيل : قلتُ : ليس معنا ثالثٌ . فمضَى معي . فلما صليتُ دعوتُ بالعشاء ، فلم يلبثْ أنْ جاء صديقٌ يدقُّ البابَ ، فقال أشْعَبُ : تُرى قد صِرنْا إلى ما نكُرهُ ؟ قال : قلتُ له : عِنْدي فيه عشرُ خِصال لا يُكرهُ منها خَصْلةٌ ، فإن كرهت واحدة لم آذن له . قال . هات . قلت : أولاهن أنه لا يأكل . فقال التسع الباقية لك . أدخله . وكان أشبعُ لا يغب طعام سالم بنِ عبد الله بن عُمَر فاشتهى سالمٌ أنْ يأْكل مع بناتِه . فخرج إلى بُستان له ، فجاء أشعبِ فَخُبر بالقصة فاكترى جملاً بدرهم .

فلما حاذى حائطَ البستان . وثبَ ، فصار عليه ، فغطى سالمٌ بناتَه بثوبه . وقال : بناتي بناتي . فقال أشعبُ : إنك لتعلَم ما لنا في بناتك من حق وإنّك لتعلَم ما نُريد . قيل : بغتْ أم أشعب ، فضُربتْ ، وحُلِقتْ ، وحملت على بعير يُطاف بها ، وهي تقول : منْ رآني فلا يزْنينَّ . فأشرفتْ عليها ظريفةٌ من أهل المدينة : فقالت لها : إنك لمطاعةٌ نهانا الله عنهُ ، فما ندعُه ، ونَدعهُ لقولك ؟ ؟ كان زياد بنُ عبدِ الله الحارثي على شُرطةِ المدينة ، وكان مبخلاً على الطعام فدعا أشعبَ في شهر رمضانَ ليفطرَ عنده ، فقدِّمتْ إليه في أول ليلة بَصَليةٌ معْقُودةٌ ، كانتْ تُعْجِبه ، فجعل أشعبُ يُمِعنُ فيها - وزيادٌ يلمحه - فلما فَرغوا من الأكل قال زياد : ما أظُنُّ أن لأهل السجن إماماً يصلي بهم في هذا الشهر فَلُيصَلِّ بهم أشْعَبُ . فقال أشْعبُ : لو غَير ذلك - أصْلحَك الله - ؟ قال : وما هُو ؟ قال : أحْلِفُ أني لا أذوق بصَلَيّةً أبَدا. فخجل زيادٌ ، وتغَافل عنه . قال أشَعب : جاءتني جاريةٌ بدينار ، وقالتْ هَذِهِ ودَيعةٌ عندكَ . فجعلتُه بيْن ثِنْى الفراش . فجاءتْ بعد أيام فقالتْ : بأبي الدينارَ فقلتُ : ارفعي الفراش ، وخُذي ولدّهُ . وكنتُ تركتُ إلى جَنْبه درهماً فتركت الدينارَ . وأخذت الدرهم وعادت بعد أيام فوجدتْ معهُ درهماً آخرَ ، فأخذته . وعادت في الثَالثة كذلك . فلما رأيتُها في الرابعةِ بكيتُ . فقالت : ما يُبكيكَ ؟ قلتُ ماتَ دينارُك في النِّفاس . قالت : وكيف يكون للدينار نِفَاسٌ ؟ ؟ قلتُ : يا فاسقةُ تُصدقين بالولادة ، ولا تصدقين بالنفاس سأل سالم بنُ عبدِ الله بن عمر أشعبَ عن طمعه ، فقال : قلتُ لصبيان مرَّةً : اذهبُوا . هذا سالم قد فتَح بيتَ صدَقَة عمرَ حتى يُطعمكم تمرْاً . فلمَّا احْتبسوا ظننْتُ انه كما قلتُ لهم فغدوْتُ في أثَرهم . وقيل له : ما بلغ مِنْ طَمَعِكِ ؟ قال : أرى دُخَانَ جَاري فأُرد . وقيل له أيضاً : ما بلغَ من طمعك ؟ قال : لم أر اثنين قطُّ . يتسَارانِ إلا ظننتُ أنهما يأمران لي بشيء .

وقيل أيضاً : ما بلغ من طمَعكَ ؟ قال : ما رأيتُ عروساً بالمدينة تُزفُّ إلا كنستُ بيتي ، ورششتُه طمَعاً في أن تُزفَّ إليَّ . ووقف علىَ رجل خَيْزُراني - وكان يعمل طبقاً - فقال له : وسعْه قليلاً . قال الخَيْزْراني : وما تُريد بذلك ؟ كأنَّك تُريد أنْ تشتريَه ؟ قال : لا ، ولكن يشتريه بعضُ الأشراف ، فَيْهدي إلي فيه شيئاً . وقال له ابنُ أبي عتيق : أمَا تستحي - وعندكَ ما أرى - مِنْ أنْ تسأل الناسَ ؟ قال : معي من لُطفِ المسألةِ مالا تطيبُ نفسي بترْكه . وكان أشعبُ يحدِّث عَنْ عبد الله بن عُمر ، فيقولُ : حدَّثني عبد الله ، وكان يُبغضُني في الله . وجلس يوماً في الشتاء إلى رجل من وَلدِ عُقبة بن أبي مُعَيْطٍ ، فمرَّ به حسنُ بن حسن ، فقال : ما يُقعِدُك إلى جَنْب هذا ؟ قال : أصْطلي بناره . ولما مات ابنُ عائشةَ المغني جعل أشْعبُ يبكي ، ويقول : قلتُ لكم زوجوا ابن عائشة من الشماسيةِ حتى يخرجَ بينهما مزامير داودَ ، فلم تفعلوا وكان لا يُغني حذرٌ مِنْ قَدَر : ولما أخرجت جنازةُ الصريميةِ المغنّيةِ كان أشعبُ جالساً في نفر من قُريش ، فبكى عليها ، وقال : اليومَ ذهبَ الغِناءُ كلهُّ . وترحَّمَ عليها ، ثُم مَسحَ عيْنَيهِ ، والتفتَ إلهيمْ ، وقال : وعلى ذلكَ فقد كانتْ الزانِيةُ شرَّ خلْق الله فضحكوا ، وقالوا : يا أشعبُ ، ليس بين بُكائِكَ عليْها ، وبين لغْنِك إياها فرقٌ . قال: نعم كنا نحبوها الفاجرَة بكَبْش إذا أردْنَا أن نزورَها فتطبخ لنا في دارها ثم لا تُعشينا - يشهد الله - إلا بسلق . وجاز به يوما سبطٌ لابن سُريج وهو جالس في فتية من قريش ، فوثب إليه ، وحمله على كتفه ، وجعلَ يُرقْصُه ويقولُ : فُديتَ من ولَد علي عُودٍ ، واستهل بغناء ، وحُنِّك . بحلْوى ، وقطعت سرتُه بزير وخُتِنَ بمِضْراب .

وتَبع مرةً امرأةً فقالت له : وما تصنَعُ بي ولي زوجٌ ؟ قال : فتسري بين فديتك . وقيلَ له : هل رأيتَ أطْمعَ منك ؟ قال : نعمْ : كَلْب أمِّ حومل ، تبعني فَرسخيْن ، وأنا أمضُع كُنْدراً . ولقد حسدْتُه على ذلك . وخفَّفَ الصلاة مرةً ، فقال له بعضُ أهل المسجد : خفَفتَ الصلاةَ جداً قال : لأنه لم يُخالطْها رياءٌ . وقال له رجل : ضَاعَ معْروفي عندَك . قال : لأنه جاءَ من غير محْتسب ثم وقَعَ عند غير شاكر . قيل له : هل رأيتَ أحداً أطمعَ منك ؟ قال : نعمْ . خَرجْتُ إلى الشام مع رفيق لي ، فنزلنا بعض الديارات ، فتلاحَيْنَا . فقلتُ : أير هذا الراهب في حر أم الكاذب . فلم نشعر إلا بالراهب قط اطلع عليْنَا ، وقد أنعظ وهو يقول : أيُّكم الكَاذِبُ ؟ ودخل يوماً إلى بعض الرؤساء - وهو يَحْتَجم فقال له أشعبك حَجمَك بنُوك . كان أشعب عند الحسن بن الحسن بن علي عليهم السلام ، فدخل عليهم أعرابي مشعث اللِّمة ، قبيح الخلقة متنكِّباً قوساً . فقال أشعبُ للحسن : تأذنُ أنْ أسْلحَ عليه فسمعه الأعرابي ، فوضع سهماً في كبير قوسه ، وفوقه نحو أشعب وقال : لَئِن فَعلت ليكونَنَّ آخِر سلْح تسْلحه أبداً فقال أشعب للحسن : يا سيدي . أخذني والله القولنج. قال رجل لأشْعبَ - وكان صديقَ أبيه - : يا بني . كان أبوك عظيمَ اللحية ، فمنْ أشبهتَ أنت ؟ قال : أشبهتُ أمي .