الباب التاسع عشر نوادر السُّؤَّال
قال بعضهم : رأيتُ سائلاً ببغداد في الزياتين - وهم أنصَب منْ في الأرض - يسأل ، ويقول : تَصَدقوا على حُبَّا وكرامةً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب . وليس يلتفتُ إليه أحد ، ولا يُعطيهِ شيئاً . فدفعتُ إليه درهماً ، وقلتُ في نَفْسي : إن هذا المسكين لا يعرفُ هؤلاء وبُعْضهم لعلي - عليه السلام - فأخذ الدرهمَ مني ، وقال : يا صاحب الصدقَةِ ، إنْ كنتَ تصدقتَ بها على وفي قلبك بُغْضٌ لأبي بكر ، وعمرَ ، وعثمانَ ، وفلانٍ ، وفلانٍ ومعاويةَ خَالِ المؤمنين رديفِ المصْطفى ، وكاتب الوحي فقطع اللهُ يديكَ ورجلَيْك وأعْمى عَيْنيكَ . قال : فأخذتُه الدراهمُ مِنْ كل جانبٍ ، وبقيتُ أنا متحيراً . ثُمَّ مضى فلحظتُه . فَعلِم ما في قلبي . فقال : يا فَتى . على رسْلكَ عِنْدك أن هؤلاء القَرانِنةَ لا يصَّدَّقون على إلا بمثْل هذِه الحيلةِ . جاء سائلٌ إلى قوم فسألهم ، فَردَّوا عليه ، وألحَّ عليهم فردَّوا . فألحَّ ، فخرجَ إليه بعضُهم فقال : عَافَاك اللهُ . أمَا سمعتَ الرَّدَّ ؟ قال : ولكنكم غَممتْمُوني فأردتُ أنْ أغمّكم يا قَرانِنةُ . وقف سائلٌ على قوم ، فقال بعضُهم : يضاعتُنا واحدةٌ . فقال السائلُ : أنا أقود علي أمي . أعطي سائلٌ كسرةً صغيرة . فقال : رحم الله من تممها لُقمةٌ . قال بعضهم : رأيتُ ببغداد مكفوفاً : من أعطاني حَبّةً سقاهُ اللهُ من الحوض على يد معاويةً . فتبعتُه حتى خَلوتُ به ، ولطمْتُه ، وقلتُ : يا كذا عَزلتَ أميرَ المؤمنين عن الحْوض . فقال : أردْتَ أنْ أسْقَيهُمْ بحبة على يد أمير المؤمنين علي عليه السلام ؟ ؟ لا ، ولا كرامةَ . سأل أبو فرعون رجلاً ، فمنعهُ . فألحَّ عليْه فأعطاه فقال : اللهم أخْرنَا وإيَّاهُمْ . نسْألهم إلحافاً ، ويعطوننا كُرهاً ، فلا يُبَاركُ اللهُ لنا فيها ، ولا يأْجرهُم عليها . وقف سائل على باب ، فقال : يأهَل الدار . فبادر صاحبُ الدار قبلَ أن يُتم السائلُ كلامه ، وقال : صنَع اللهُ لك . فقال السائل : يا بنَ البَظْراء . كنتَ تصبر حتى تسمع كلامي عسى جئتُ أدعوك إلى دَعوة . وقف أعرابي سائل على بابٍ، وسأل . فأجابه رجلٌ : ليس ها هُنا أحدٌ قال : إنَّك لاحدٌ لوْ جعل اللهُ فيك بَرَكةً . قال الجّمازُ : سمعتُ سائلاً يقول: مَنْ يعطيني حُبَّا لأمينين : جبريل ومعاوية ؟ وقف سائلٌ على بابٍ وكانت صاحبهُ الدار تبولُ على البالوعة . فحسبَ السائلُ أن صوتَ بولها نشيشُ المقلي . فقال : أطعمُونَا مِنْ هذا الذي تقْلُونه . فضرطتْ المرأةُ ، وقالتْ : حطُبنَا - وحياتِك - رطبٌ ليس يشتعل . وكان آخر يقول منْ يعطينى قطعةً حُبًّا لهندِ حماة النبي . ووقف سائل بباب المافروخي عامل الأهواز ، وسأل فأعَطَوه لقمةً من خُبز فسكتَ ساعةً ، ولم يبرح . ثم صاح ، وقالَ : هذا الدّواءُ لأي شيءٍ ينفْعُني ؟ وكيف آخذُه ؟ وقف سائل على باب قوم فقال : تصدقُوا علي فإني جائع . قالوا : لم نَخبزْ بعدُ . قال : فكفّ سَويق ؟ قالوا : ما اشترينا بعدُ . قال : فشربة ماء فإني عطشانْ . قالوا : ما أتانا السقاء بعدُ . قال : فيسيرُ دُهن أضعُه على رأسي . قالوا : ومِنْ أين لنا الدهنُ ؟ فقال : يا أولادَ الزني ، فما قعودُكم ها هُنا ؟ ؟ قومُوا وسلُوا معي . وقف سائل على باب دار فقال : تصدَّقوا علي . فقالت جاريةٌ من الدار : ما عندنَا شيءٌ نعطيكَ ، وسِتى في المأتم . فقال السائلُ : أي مأتم أعظمُ من مأتمكُم إذا لم يكن عندكم شيءٌ ؟ ؟ وقف آخر بباب دارٍ ، فسأل ، فقال صاحبُ الدار : أغْناكَ اللهُ ، فليس صبيانُنا ها هنا . قال : إنَّما طلبْتُ كسرةً : لمْ اطلُب الجماعَ . وقفَ آخر بباب فقال: أوسِعُوا علي مما رَزَقكم الله فإني في ضيق . فقالَ . صاحبُ الدار : إن كُنتَ في الدّهْليز في ضِيق فادخُل الدار فإنه أوسعُ لك فقال السائل : إنما قُلتُ : تأْمُر لي بشيءٍ . فقالَ : قد أمرتُك أنْ تشتري لابني قَلنسوة . فقال السائل : أيش تريدُ مني يا هذا ؟ قال : أريدُ منك عشرةَ دراهم أوديها عَن كِرا الدار . فولى السائلُ هارباً . وقف أعرابي على قوم يسألهم ، فقال أحدُهُم له : بُورك فيكَ . وقالَ آخرُ ما أكثر السُّؤَّال ؟ فقال الأعرابي : تُرانا أكثَر مِنْ بورك فيك ؟ والله لقد علمكُم اللهُ كلمةً ما تُبالُون ولو كُنا مثل ربيعة ومُضر . وقف آخُر على بابٍ ، فأجابتْه امرأةٌ من الدار : ما خبَزْنا اليوم . قال : فأعطني كف دقيق . قالتْ : ما اشترينا بعدُ دقيقاً . قال : فاستقْرضي منْ الجيران رغيفاً . قالت لا يقرضونا . قال قد أحْسَنُوا يا زانيةُ تستقرضين ، ولا تردين . لا يُقْرضُونكِ وقف سائل على إنسان - وهو مقبلٌ على صديق له يحدثهُ ، ويتغافلُ عن السائل - ثم قال لهُ بعد ساعة طويلة : صنع الله لك . فقال له السائل : أين كان هذا يا سيدي إلى هذا الوقت ؟ كان في الصُّنْدوق ؟ وكان رجل ببغداد من الشحاذين فكان دأبُه أن يترصَّد إقبال الربيع ، فيطلبُ وردةً أول ما تطلُع ، وقبْل أن يراها الناسُ فيأْخُذها ، ويحملها إلى الحذائين ويبشِّرهم بمجيء الصيف ، وحاجةِ الناس إلى النّعال ، فيجبّون له شيئاً ، ويعطونه . وإذا أقبل الخريفُ عَمدَ إلى جَزرة قبل أنْ يرى الناسُ الجزر، ويُهديها إلى الخفافين ، ويبشرهم بمجيء الشتاء . فما زال هذا دأبه يتعيش منه طول عُمره .
وكان رجلٌ منْهم معه صحيفة ، ودواةٌ ، فكان يتقدم إلى الرجل منْ أهْل السُّوق وغيرهم ، فيسألهُ أنْ يُعطيه شيئاً ، ثم يقول له : أنا أرْضى بدرهم واحد تُعْطينيه في مثل هذا اليوم من السنة القابلة . فيستحي الرجلُ فيقولُ : أثبتْ لي خطك بهذا الدرهم الواحدِ ، فيأْخُذ خطَّه ، ويعود في القابل ، وفي اليوم الذي يكون قدْ أرخه فيأخذ منه ذلك . فكان يجتمعُ له في كل سنة جملةٌ جَاملةٌ . سمع رجل سائلاً في مسْجد الكوفة يقول : أسألكم بحقِّ أبي بكر وعُمَر ، فما أعطاه أحدٌ شيئاً . فقال : ليسَ لهؤلاء القوم هاهنا جاهٌ . رأى أبو القمقام الهلال على وجه قصرية فقال لها : اضحكي في وجهي وخُذي هذا الدينار مني . فاستظرفته ، وأخذت منهُ الدِّينار عبثاً . فقال : قد تفاءلتُ بَوجْهك ، فما لي عندك؟ قالت : أردُّ دِيناراً . قال : هذا كُما كُنَّا فأينْ حلاوةُ الفأل ؟ وصدقت ، فأعطته ديناراً . فقال : التجارةُ بركةٌ والخديعةُ يُمْنٌ . وكان على عصا ساسان المكري مكتوباً بالذهب : الحركة بركةٌ ، الطراوة سُفتجَة ، الكسل شؤْمٌ ، التمييزُ جُرمٌ . حكى بعضُهم قال : سَمِعتُ أبن سكّرة يقول : كان شرطي مع خمْرة - وهي التي يشببُ بها في شِعْره ، وفيها يقولُ . لِخَمرةَ عندي حديثٌ يطولُ . . . رأتني أبولُ فكادت تبولُ أن أعطيها على كل فرد أربعة دوانيق . فقال: فجاءتني يوماً فأعطيتُها درهمين ونكتها مرتين . ولم ينتشر علي في الثالث ، فأردتُ ارتجاع قسط الواحد منها وامتْنعَتْ من ذلك . فبيْنا نحنُ في ذلك إذْ وقف سائلٌ على الباب ، ودعا وسأل . فقُلْتُ له : ادخُل : فدخل . فقلْتُ : ليْس يحضُرني . ولكنْ نِكْ هذه ، فقد استْوفتْ جذْرها . قال : فأخذ بيدها ، ودخل البيت ، وناكها . وخرجَ - وأيره في يده - وهو يقطُر ، ويشيرُ إليه ، ويقول لي : ثقل اللهُ بهذا مِيزانك يوم القيامةِ .