الباب العشرون نوادر المعلمين
قال بعضُهم : مررت ببعض سككِ البصرة وإذا معلمٌ قد ضرب صبياً ، وأقام الصبيان صفاً ، وهو يقولُ هلم : اقرءوا. ثم جاء إلى صبي بجنْب الصبي الذي ضربه ، فقال : قُل لهذا يقرأُ ، فإني لست أكلمه . قال أبُو عثمان : كان ابنُ شُبرمة لا يقبلُ شهادة المعلِّم ، وربما قبل شهادة المؤدِّب . وكان يحيى بنُ أكثم أسوأ الناس رأياً فيهم . وكان السنديُّ بنُ شاهك لا يستحلِفُ المكاري ، ولا الحائكَ ، ولا الملاحَ ، ويجعلُ القولَ قولَ المدَّعي ويقولُ : اللَّهم إني أستَخيرُك في الحمَّال ومعلِّم الكتاب . وصفَ بعضُهم معلِّماً فقال : هو أفْرهُ الناسِ وصيفاً ، وأكثرهُم رغيفاً . قال بعضهم : مررْتُ بمعلم وإذا صِبيانُه يلعبُون ويقتَتِلُون ، فقلتُ للمعلم : ما بالُ صبيانكَ ليْسُوا يَفْرَقُون منك قال : وأنا أيْضاً لستُ أفُرقُ منْهم . قال : وقال غُلام لأبيه : لا أريد هذا المعلم . فقال له أبُوه : ما لَهُ ؟ ؟ قال : يصْنُع بي أمْراً عظيماً . قال : يسْتخدِمُك ؟ قال : أشد مِنْ ذلك . قال : فيضربُك ؟ قال أشد من ذاك . قال : فيعُفجُك ؟ قال أشد مِن ذَاك . قال : فأيُّ شيءٍ ويلك يفعلُ بك ؟ قال : يأكُل غدايَ . قال : كان معلمٌ يُقيمُ الصبيانَ صَفَّين ، ويتكئ صبيين بيديه ، ويقولُ : أربعةُ وأربعةٌ : ستةٌ . فقلت له : إذا كانَ أربعةٌ وأربعةٌ ستةً ، فكمْ يكونُ ثلاثةٌ وثلاثةٌ ؟ قال : صدقتَ. لم آخذْ جذْره .
وكان لأبي دواد المعلِّم ابنُ ، فَمرضِ ، فلما نَزعَ قال : اغْسِلوه . قالوا . لم يمتْ بعد . قال : إلى أن يُفرغَ من غَسْله ما قد ماتَ . وقال شريكُه : تعلِّم الصبيانَ - وعليك قميصٌ جديدٌ فيسودونه عليك ؟ قال : قد اشتريتُ قطْناً ، وقلت لأهِلنا : يغْزلُون قميصاً خَلَقاً . قال : مررتُ يوماً بمعلِّم - والصبيانُ يحذِفُون عينَه بالقَصب - وهو ساكتٌ - فقلت : ويحْكَ أرى منك عَجَبا . فقال : وما هُو ؟ قلتُ : أراكَ جالِساً والصبيانُ يَحْذفُون عَيْنِك بالقَصب فقال : اسكتْ ، ودَعْهُم. فما فَرحي والله إلا أنْ يُصيبَ عَيْني شيءٌ ، فأريكَ كيفَ أنتِفُ لِحَي آبائهم . كان بحمص مُعلم يُكنى أبا جعفر يتعاطى عِلْمَ الحساب ، فصارتُ إليه يوماً امرأةٌ ، فقالتْ : يا أبا جعفر : ؛ قفيزُ دقيق بثمانيةِ دراهم كم يُصيبُني بأربعة دراهمَ ؟ فقال لها ، بعد أن فكَّرَ : في هذه المسألةِ ثلاثةُ أقوال : أحدهما أنْ تُعطى الرجُل أربعةٌ أخرى ، وتأْخُذي قفِيزاً، والآخر : لك قفيزٌ إلا بأربعةِ دراهم . والثالث : تدفعين دِرْهمَ درهمَ ، وتأْخذين مَكُّوكَ مكُّوكَ حتى تستوفين . وصار إليه ثلاثةُ روز جارتين قد أخذوا أجْرتَهم دِرهمين فقالوا : يا أبا جعفر ، كيف نَقْتٍسم الدِّرهمين ونحنُ ثلاثةٌ ؟ قال : أسْقِطوا منكم واحداً ، وخُذوا دِرهماً درهما . قالوا : سبحانَ الله كيفَ نُسْقِط أحدَنَا وقد عمِلَ ؟ قال : فزيدوا واحداً . وخذوا نِصْفَ نصف . قالوا : كيف نزيد فينَا من لم يعمل ويأْخذ كرانا ؟ قال : فخذوا نِصْفاً نصْفاً واشتروا بالباقي تمراً ، وكُلوه . وسألته امرأةٌ ، فقالت : أربعةُ أرطال تمر بدرهم ، كم يُصيبُني بدانق ونصف ؟ ففكر ساعةً طولة ، وأدخلَ يديه تحت ذَيْلِه ، وجعلَ يحُسِبُ بهما ثم أخْرج يديْه وقد جَمعُهما ، وقال : كُتلةٌ مثلُ هذه كبيرةٌ . وقال بعضهم مررتُ بمعلم وهو جالسٌ وحده ، وليس عِنْده من الصّبيان أحدٌ ، فقلتُ له : يا معلِّمُ ، ما فعل صبيانُك ؟ فقال : خلْف الدُّور يتصافَعون . فقلتُ : أريد أن أنظرَ إليهم . فقال : إن كان ولا بُدَّ فغط رأسكَ ، لا يحسبُونك أنا فيصفعُوك. قال : ورأيتُ مُعلِّماً وقد جاء غلامان قد تعلَّق أحدهما بالآخر ، وقال : يا معلِّمُ ، هذا عضَّ أذُني . فقال الآخر : واللهِ ما عضَضْتُها ، وإنَّما هو عضّ أذن نفْسِه . فقال له المعلم : يا بنَ الخبيثةِ . صار جَمَلاً حتى يعضَّ أذنَ نفسِه ؟ قال : رأيتُ معلماً بالكوفة - وهو شيخٌ مخضوبُ الرأس واللحْية - وهو يجلس يبكي فوقفتُ عليه ، وقلتُ : يا عمّ : مِمَّ تبكي؟ فقال : سرق الصبيانُ خُبْزي . قال : وسمعتُ معلِّماً وهو يقرئُ صبيّاً وما أمْرُنَا إلا واحدةُ كَلمح بالبصر والصبيُّ يقول : كلحم بالبَصِل فقال له : يا فاعلُ ، أحسبك تشتهي بصَليَّة قال : وقرأ صبي على معلِّم " الذين يقولون لا تُنْفقُوا على مَنْ عند رسول الله " فقال المعلم : من عِند أبيك القرنَان أوْلى ، فإنه كثير المال يَا بنَ الفاعلة ، هو ذا؟؟ تُلْزمُ النبي نفقةً لا تجبُ عليه . أعجبكَ كثرة ماله ؟ ؟ قال : ورأيت معلماً وقد جاء صبي ، فصفعة محكمة . فقال له المعلم : أيّهما أصْلبُ : هذه أم التي صَفعْتُك أمْس ؟ قال : وكان بالمدينة معلِّم يُفْرط في ضرْب الصبيان ، ويشتمهُم . فلاموه على ذلك ، فسألني أن أقْعدَ عنده ، وأشاهدَ حاله معهم ، فقعدْتُ عنده ، فإذا بصبي يقول : يا معلمُ : " وإن عليك اللعنةَ إلى يوم الدين " فقال : عليكَ وعلى أبويْكَ . وجاء آخر ، فقال : يا معلِّم : " فاخرجْ منها فإنك رَجيم " قال: ذاكَ أبُوك الكَشْخَان . وجاء آخر ، فقال : يا معلِّم : إني أريد أن أنْكِحَك " قال : انكح أمَّك الفاعلة . وقال آخر : يا معلم: " ما لنا في بَنَاتِك من حقِّ " قال : لا ، ولا كرامَة ، فلا يزالُ معهم في مثل هذا وهو يَضْربُهم ، ويُزَنِّيهم . قال : ومررت بمعلِّم وقد جاء صبي صغير ، فصفعه . فقلت له : لمَ تَدَعُ هذا الصبي يجترئُ عليك ؟ فقال : دعْهُ فإني أشكُوه غداً إلى أبيه . قرأ غلامٌ علي معلم : " إنا وجدْنا آباءنا على " أمْك " وإنا على آثارهم " فرد عليه المعلم " على أمَّةٍ " فقال : على أمِّك . فلما تكَّررَ قال المعلِّم : قُلْ : على أمِّي . فقال على أمِّي . فقال المعلم : على أي حال إذا وجَدْتَ أباكَ على أمِّك خيراً من أن تَجدَه على أميِّ أنَا واستفتحَ غلامٌ ، فقال : يا معلِّم " إن أبي يدعوكَ " فقال : هَاتُمْ نعْلِي . فقال الغلامُ : إنما استَفْتحتُ . فقال : قد أنكرتَ أن يُفْلح أبُوك . قال معلم لغلام : قُلْ : " قد أفْلحَ مَنْ زَكَاهَّا . وقد خَابَ من دسَّاها " . فقال : وقد داس مَنْ خبَّاها . فلم يزل يكرِّرُ ذلك عليه إلى أن أعْيَتْه العِلَّةُ . فقال المعلم : وقد داسَ مَنْ خبَّاها . فقال الغلامُ " وقد خاب من دسَّاها " . فقال المعلم لأبيه : قد قلتُ لكَ إنه لا يُفْلِح . قالوا : إذا قال المعلّم للصبيان : تَهجَّوْا ذَهبّ عقْلُهُ أربعينَ صَباحاً . وكان بعضُ المعلمين يعلِّم صبياً ، وأمُّهُ حاضرةٌ ، فقال له : اقرأ وإلا قمتُ ونكتُ أمَّك . فقالت الأمُّ : إنَّه صبي ، ويتيم ، واليتيمُ فيه لجَاجٌ ، ولا يؤمِنُ بالشيء حتى يراه . أراد معلم أن يتزوجَ امرأةً كان ابنُها عنده ، فامتنعتْ عليه ، فأمر بحْمل ابنها وضرْبه ، وقال : لم قلتَ لأمك إن أير المعلم كبير؟ فلما رجع الصبي إلى أمه قال : ضربني المعلمُ وقال لي : كذا ، وكذا . فوجَّهتْ إلى المعلِم : احضِرْ شهودَك تتزوجُّ . وتزوجته . قال آخر : مررت بأحدِهم وصبي يقرأ عليه : " فذلك الذي يدُعُّ اليَتِيمَ " والمعلمُ يرد عليه : يدْعُو اليتيمَ ، ويضربُه . قال : فجئتُ إليه ، وقلتُ : هذا من الأمْر بالمعروفِ . ففسَر . فقلتُ : يا شيخُ ، الصبي على الصَّواب ، وأنت على الخطأ . وإنهما معنى يدعُّ : يدْفعُ . قال : فزبرني ، وأغْلظَ لي وقالَ : إنما معْناهُ يدعُو اليتيمَ ليفْسِقَ به . قال : فوليتُ وقلتُ : أنت لا تَرْضى أن تُخطئ حتى تفسرَ .
وقال : مررتُ بمعلم وهو يضرب صَبيْانَه كلَّهم ، فسألتُه عن الذَّنْب فقال : يُرْجفُون بي . قال : بماذا ؟ قال : يزعُمون أني أحجُّ العامَ ، وأمُّ مَنْ نوى هذا قَحبةٌ . قال : كان يعلم معلمٌ صبيّاً : " وإذا قال لقمان لابْنهِ " " لا تقصُصْ رؤياك على إخُوتك فَيَكيدُوا لك كَيْداً " قيل : ما هذا ؟ قال : أبوه يدخلُ مشاهرة شهر في شهر ، وأنا أدخله مِن سورة في سورة . وقرأ صبي على معلِّم : أريدُ أن أنكحكَ . فقال : هذا إذا قرأتَ على أمِّك الزانيةِ . وقرأ آخر وأمَّا الآخرُ فتصلَبُ . فقال : هذا إذا قرأت علي أبيك القَرنَان . قالت امرأةٌ لمعلم : إذا كان مكُّوكُ دقيق بدرهم . كم يكون بربع درهم ؟ فتحير ، ثم قال : ممن اشتريتِ ؟ قالت : مِنْ فلان الدَّقاق . قَال : اقْنعي بما يعطيك فإنه ثِقةٌ . قال جرابُ الدولة : كان عندنا بسجستانَ معلمٌ سخيف اجتزتُ يوماً به يقولُ لصبي بين يديه : اقرأ يا بنَ الزَّانية . فأخذت أوبِّخه ، فقال : اسكتْ . فقد نكتُ أمَّه كثيراً . قال : أبو دواد لشريكه : يا أبا الحسين ، دارُ جعفر بن يحيى ، خيرٌ أو دارُ وردِ؟ فأطرقَ ، ثم قال : خَيُرهما عند الله أتْقاهُما . قال بعضُهم : مررتُ بمعلِّم وهو يتلَوى ، فقلتُ : ما شأْنُكَ يا شيخُ ؟ قال: ما نمتُ البارحةَ من ضربان العُرُوق . فنظرْت إليه ، وقلتُ : أنتَ والله صحيحٌ سليمٌ مثلُ الظلِيم . فغضِب واستشَاط ، وقال : أحدُكم يضربُ عليه عِرقٌ واحد فلا ينامُ الليلة كله من الصياح ، وأنا يَضْربُ على حُزمة عروق ، وتريدونَ مني ألا أصِيحَ ؟ فقلتُ : وأيُّ حزمة تضربُ عليك ؟ فكشفَ عن أير مثل أير البغل وقال : هذا . وقال بعضُهم : سألتُ معلماً : أنت أسَنُّ أمْ أخوك ؟ فقال : إذا جاء رمضانُ استوينا .
حُكي أنه كان في بعض دُروب بغدادَ معلمٌ ، فاجتازَ به أبو عمر القاضي يوماً بزينة تامَّة ، وهيئة حسنة ، فقال المعلم: تَرونَ هذا ؟ إن خشخشةَ ثيابه ، وقَعْقَعةَ مرْكبهِ هو تظْلُّم الأرامل والأيْتَام . فبلغ ذلك أبا عُمر ، فدعاهُ ، وأدْنَاهُ، وأحْسنَ إليه ، فكان إذا رآه بعد ذلك يقول : ما خَشْخشةُ ثيابه ، وقعقعةُ مرْكبه إلا تسبيحُ الملائكةِ وتهلُيلهم .