الجزء السادس - الباب السادس عشر نوادر في الفساء والضراط

الباب السادس عشر نوادر في الفساء والضراط

قال بعض العباديين : من حبس ضرطته ، كتب استه من الكاظمين الغيظ . ضرط أبو الأسود عند معاوية واستكتمه فأراد أن يضع منه ، لما كان عليه من التشيع فلما اجتمع الناس أخبرهم بضرطه قال أبو الأسود : إن امرءاً اؤتمن على ضرطة فلم يكتمها لحريٌّ ، أن لا يؤتمن على أمر الأمة . مشت فتاة في الطريق وإِلى جانبها شيخ فاستعجلت فضرطت فقال الشيخ : سبحان الله . فوقفت وقالت له : سبحت في غل وقيدين ، يا بغيض يا مقيت ، ممن تسبح ؟ قطعت عليك الطريق ؟ فتعلقت لك بثوب ؟ شتمت لك عرضاً ؟ رميتك بفاحشة ؟ حبستك عن حاجة ؟ امض على حالك لا مصحوباً ولا محفوظاً ، فخجل الشيخ حتى كأنه هو الذي ضرط . ضرط الرجل بحضرة عمر فلما حضرت الصلاة ، قال عمر : عزمت على من كانت هذه الريح منه ، إلا توضأ . فقال جرير بن عبد الله : لو عزمت علينا جميعاً أن نتوضأ كان أتسر للرجل وأكرم في الفعل . فقال له عمر : جزاك الله خيراً ، فلقد كنت سيداً في الجاهلية ، سيداً في الإسلام ، عزمت عليكم ألا توضأتم ، فقاموا جميعاً وسترت على الرجل . وكان سعيد بن جبير الكاتب من المعروفين بالضراط ، وكان يضرط على عيدان القيان ويزعم أن الضراط أحسن من السماع . وضارط مرة أبا هفان ثلاثاً . قال : اجعلهما نغمة بين شدوين ، فغلط أبو هفان وضرط ، فقال سعيد : نقضت الشرط ، قال : صدقت ، زدت على قومي ما ليس فيهم ، وكان أبو هفان عبدياً ، وعبد قيس تعير بالفسو . وقال مرة لأبي هفان : والله لئن ضرطت عليك ضرطة لأبلغنك فيها إلى فيه في دفعةٍ . فقال : الله الله يا مولاي ، زدني أخرى ، وبلغني مكة فإني صرورة . فضرط عليه ضرطة أصعقت أبا هفان ، ورجي عليها بالقرآن ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، وقال أبو هفان : يا سيدي ، ردني من الثعلبية فقد كفاني وقال المأمون لحاتم الريش وكان ضراطاً : أنت أمير الضراطين ، وقال : أنا أوسع منك سلطاناً إذن ، لأن الإيمان خاص ، والضراط عام . وقال له مرة : يا حاتم أين بلغ ابنك ؟ فقال : أول ما فسا يا أمير المؤمنين دخل أعرابي إلى الحجاج فجعل يشكو إليه جدب السنة فبينا هو مفرط في ذلك إذ ضرط فقال : أصلح الله الأمير ، وهذه أيضاً من بلية هذه السنة . فضحك وأجازه . وخاصم آخر خصماً له بين يدي بعض الولاة ، فغضب أحدهما وأزرى على صاحبه في الكلام ، فبينا هو على تلك الحال حتى ضرط ، فقال : وهذه أيضاً في لحيتك . قيل للمنصور وكان مريضاً : إن فلاناً ضرط في مجلس فتنبه فقال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . كان بالأهواز عاملٌ أصم ، وكان يضرط في مجلسه ، ويحسب أنه يفسو ، فضرط مرة بين أهل عمله وبين يديه كاتب له ، فأخذ كاتبه رقعة وكتب فيها : أصلح الله الأمير إن هذا الذي يخرج ضراط يسمع، وهو يرى أنه فساء يخفى ، فإن رأى أن يمسك ، فعل إن شاء الله . فوقع في حاشيته : إنما استكفيناك أمر خراجنا ، ولم نصدرك على ضراطنا ، فتغافل كما تغافل القوم ، فأنت واحدٌ منهم .

ذكر أن ابن سيابة كان عند كاتب من كتاب المهدي فسأله حاجةً فمنعه ، وجر الكاتب دواته فضرط فقال : ذلك تقدير العزيز العليم . فقال ابن سيابة : إذا أذنبوا قالوا مقادير قدرت . . . وما العار إلا ما تجر المقادر دخل إعرابي على يزيد وهو يتغدى فقال لأصحابه أفرجو لأخيكم فقال الأعرابي : لا حاجةً لي إلى ذلك أن أطنابي والحمد لله طوال ، فلما جلس وتهيأ ليأكل ، ضرط ، فقال له يزيد واستضحك : ما أظن إلا طنباً من أطنابك قد انقطع . وعطس رجلٌ فضرط وأراد بعض جلسائه أن يقول : يرحمك الله ، فقال : ضرطت والله . فقال : صدقت والله . وحدثني بعض مشايخ الكتاب بالري : لما مات ابن فراشكين صاحب جيش خراسان بالري ، قام بالأمر بعده واحد كان يقال له نبال غز قال : فكنا بين يديه يوماً إذا تقدم صاحب البريد ، وقال له : أيها الأمير قد نزل ركن الدولة خارجاً من أصفهان طامعاً في الري ، قال : وتغير لونه وتحرك وضرط ، وأراد أن يستوي قاعداً فضرط ضرطةً أخرى وثلث وربع ، فقال له صاحب البريد : الرجل منا بعد على ثمانين فرسخاً . قال : فغضب وقال له : يا فاعل تقرر أني أضرط هو ذا من الفزع ؟ أنا إنما أضرط من الغضب . وضرط بعض جلساء الصاحب رحمه الله في مجلسه وكان معه على سرير ، فخجل وأراد أن يدفع عن نفسه ، فقال : هو صرير التخت . يعني السرير ، فقال الصاحب : بل هو صرير التحت . وكان يتكلم يوماً في مسألة من الأصوات فضرط بعض الحاضرين فقال الصاحب : وهذا أيضاً من الأصوات ، ومر في المسألة يتكلم على عادته فيها . قيل لبعضهم : لا تضرط ، فإن الضراط شؤوم . قال : أحرى أن أدعه في جوفي . نظر الحسن البصري إلى رجل عليه بزة سرية فقال : ما يصنع هذا ؟ قالوا : يضرط فقال : ما طلب الدنيا بما يستحق أحد غير هذا . مد رجل رجله إلى أكار له ، وقال : اطلب شوكة قد شاكتني . فجعل الأكار يطلبها بإبرة فانفلتت من الرجل ضرطة فقال الأكار : لست أرى الشوكة ، ولكن هو ذا اسمع صوتها . وتزوج رجل بامرأة فضرطت ليلة الزفاف ، فخجلت ، وبكت ، فقال لها : لا تبكي فقد قيل : إن المرأة إذا ضرطت ليلة الزفاف ، كان ذلك دليلاً على خصب السنة ، قال : فضرطت أخرى ، قال : لا فإن بيتنا الذي ندخر فيه الغلة بيت واحد صغير، ولا يسع أكثر من هذا . قال المدائني : أتى عبد الله بن علي برجل من أصحاب مروان فعرفه فقال : يا غلام الصاعقة بسيف كان لا لمرتشي إلا هتكته . فقال الشامي : من لا يحسن هذا . أما والله لو كان هذا الكلام منك لعلمت أنك لا تقوله : قال : يا ابن الفاعلة ، وتخاطبني أيضاً ، اضربوا رأسه بالعمود ، فضرط الشامي ضرطة وقع العمود لها من يد الغلام ، ونفرت دابة عبد الله ، فضحك ، وقال له : اذهب فأنت عتيقها . قال الشامي . وهذا أيضاً من الإدبار ، كنا ندفع الموت بأسيافنا ، فصرنا ندفعه بأستاهنا . صعد المغيرة المنبر فضرط فحرك يده وضرب بها استه وقال : كل است ضروط ، ثم نزل وتوضأ ، وعاد إلى مكانه . قال بعضهم : كنت جالساً عند صديق لي ، فجاءته رقعة من منزله ، فنظر فيها وضرط ، فحادثته ساعةً واغتفلته ، وأخذت الرقعة ، وقرأتها فإذا فيها : فني ، الدقيق وندر الخبز . تلاعب اثنان بالشطرنج ، وعدلهما آخر فشرطاً عليه أن لا يدبدب ، ولا يعلم واحداً منهما وينبهه على لعب ، فرأى شاه رخ لأحدهما ولم يملك نفسه ولم يقدر أن يتكلم ليمينه ، فضرط من القلق الذي أخذه وفطن الرجل بضرطه لشاه رخ ، فادعى خصمه أن ذلك دبدبة واحتكما إلى الصولي ، فقال : إن كان جرى من هذا الرجل في مثل هذا المجلس وسم الضراط ، فليس ذلك بدبدبة ، وإن لم يعرف منه ذلك قبل هذا ، فهو دبدبة . كان بعض العلماء به طرش ، وكان يرسل الضرطة في مجلسه ويحسبها فسوة ، فعرفه كاتبه ذلك في رقعة فوقع في جوابها : أقل ما لي عند أهل علمي ، أن يحتملوا إلى صرف ما بين الفسوة والضرطة . أدخل إنسان أبخر إلى بعض الرؤساء وساره بشيء فتأذى ببخره ، فلما فرغ من حديثه فساء وزاد البلاء على الرجل فقال له : قم يا ابن الفاعلة ، عافاك الله فإنك غارم الطرفين . دخل رجل من أهل السواد في يوم جمعة ، المدينة ، وأراد تجديد الوضوء ، فأخذ كوز ماء من عند بعض من يجلس على باب الجامع وتطهر به ، فلما أراد أن يذهب . طالبه صاحب الماء بقطعة مما معه ، فقال : ليس معي شيء ، قال : فلم أخذت الماء وتطهرت به ؟ فقال : إن كنت تطهرت بمائك فها ، وضرط ضرطة منكرة ، وقال : خذ طهورك ، فقد رددته عليك ، ودخل المسجد وصلى بحالته . سمع عبادة من جوف ابن حمدون قرقرة ، فقال له : يا ابن حمدون ولدت في شباط ؟ أي أنت كثير الرياح ، وذلك أن ابن حمدون ضرط في مجلس المتوكل وفي ذلك للشعراء أشعارٌ كثيرة . مر ابن علقمة على جماعة من عبد القيس ، فضرط بعض فتيانهم ، فالتفت إليهم فقال : يا عبد القيس ، فسائين في الجاهلية ، ضراطين في الإسلام ، إن جاء دين آخر خريتم . أثنى رئيس وفد على الملك ، فإنه كذلك إذا فلتت منه ضرطة فالتفت إلى استه فقال يخاطبها : مثل هذا الملك ، يصلح أن يثني عليه من جميع الجوارح ، ولكن إذا رأيت اللسان يتكلم فاسكتي . فضحك الملك وقضى حوائجهم . سأل بعض الولاة عن أبي نصر الهروي ليعبر له رؤيا رآها ، فقيل هو ممرور يأوي للصحراء ، فبعث إليه ، فأتى به فقال : إني رأيت كأن في كمي عصافير ، فجعلت تفلت واحدةً واحدة وتطير ، فلما كان آخر عصفورة كادت تفلت فحبستها . قال : أكلت عدسية فبدت تضرط ليلتك فلما كان آخرها أردت أن تسلح فحبسته قال الوالي : اسكت قبحك الله ، قال : هو والله ما قلته . فلما خرج قال : الرجل والله ما أخطأ شيئاً . كان بالمدينة عطاران يهوديان فأسلم أحدهما ولقيه صاحبه بعد حين فقال : كيف رأيت دين الإسلام ؟ قال : خير دين ، إلا أنهم لا يدعونا نفسو في الصلاة قال صاحبه : ويلك افس وهم لا يعلمون . صلى أطروش خلف إمام وإِلى جنبيه أبخر ، فلما سلم الإمام قال الأبخر للأطروش : سهل الإمام في صلاته ، فقال : نعم قد علمت أنه فسا ، وهو ذا أشم الرائحة . قال بعضهم : دخلت على يزيد بن مريد فقال لي : رأيت البارحة رؤيا . فقلت : وما هي ، أعز الله الأمير ؟ قال : رأيت كأني اصطدت طيطوية فذبحته ، وسال الدم قلت : افتض الأمير جارية بكراً . قال : قد كان ذاك ، قلت : ما في الرؤيا شيء آخر ؟ قال : ما هو ؟ قلت : وكان بينكما ضرطة . قال : مني والله كانت ، فمن أين علمت ؟ قلت : رأيت في الرؤيا طيطي فعلمت ذلك . فضحك وأمر لي بجارية . دخل رجل الحمام ومعه أطروش ، فجعل الرجل يضرط ، ثم التفت إلى الأطروش فقال : ما بقي من سمعك ؟ قال ، أسمع الكلام ، بعد الكلام ، والضراط في الحمام . ومرت امرأة في زقاق فضرطت ، والتفتت فإذا شيخ خلفها ، فقالت ، ويلي : مذ كم أنت خلفي ؟ قال الشيخ : مذ قدمت طبق التقل .

كان للمدائني غلام فدعاه يوماً ليغمزه فأقبل الغلام يغمز رجليه ، والمدائني يفسو ، ثم قال : تبارك الله ما أضعف ابن آدم . فقال الغلام بالعجلة : وأفساه قال بعضهم . حضرنا مجلساً فيه قينة . فتحركت فضرطت وقشورت وقطعت الزير ، فتغافلوا ثم قالت لبعضهم : ما تحب أن أغنيك ، فقال : يا ريح ما تصنعين بالدجن . . . كم لك من محو منظر حسن ؟ قال فكأنما خجلها من اقتراحه . أشد من خجلها من ضرطتها . روى أن حجاماً كان يأخذ من شارب عمر فتنحنح عمر ، فضرط الحجام ، فأعطاه أربعين درهماً . صلى أشعب يوماً إلى جانب مروان بن عثمان ، وكان مروان عظيم العجيزة والخلق فأفلتت منه ريح عند نهوضه لها صوت فانصرف أشعب من الصلاة يوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح ، فلما انصرف مروان إلى منزله ، جاء أشعب فقال له : الدية ، قال : دية ماذا . قال : الضرطة التي تحملتها عنك ، وإلا شهرتك والله ، فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحاً . وصلى الله على محمد وحسبنا الله ونعم المعين . الحمد لله للصواب ، والصلاة على سيدنا محمد المؤيد بفصل الخطاب ، وبعد ، قال أحمد ابن نوشراز القاضي ، كبت الله أعاديه وحساده ، وبلغه في الدارين أقصى مراده . كنت قد ابتدأت بتصحيح هذا الجزء السادس من كتاب نثر الدر الذي جميع آخرآيه السبعة موجودة في هذا المجلد يوم السبت سابع عشر من شعبان عقب صبيحة ليلة الصك بيومين لسنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ، فيسر الله سبحانه وتعالى منوى من التصحيح، إلى أن بلغت منتهى السادس المذكور مقيداً النعمة العلمية في هذا الورق يوم الخميس المعمور سادس من شهر رمضان للسنة المذكورة تيسيراً جلياً معلوماً لذوي الأفهام ، مكتوماً عن أعين أولي الأوهام ، ويتلوه الجزء السابع الذي نختم به السياحة في بحار المعاني ومراد المباني ، والسبع المثاني ، انتهى . كتبه المصحح حامداً ومصلياً ومسلماً .