الجزء السابع - الباب الرابع مواعظ ونكت للزهاد

الباب الرابع مواعظ ونكت للزهاد

قال عمر بن عبد العزيز لبعضهم : " إني أخاف الله مما دخلت فيه " قال : لست أخاف عليك أن تخاف ، إنما أخاف عليك ألا تخاف . قال بعضهم : لا تجعل بينك وبين الله منعماً ، وعد النعم منه عليك مغرماً . دخل سالم بن عبد الله على هشام في البيت فقال له هشام : سل حاجتك ، قال : " أكره أن أسأل في بيت الله غير الله " . وقيل لرابعة القيسية: لو كلّمت أهلك أن يشتروا لك خادماً يكفيك مؤونة بيتك فقالت : " إني أستحي أن أسأل الدنيا من يملكها ، فكيف أسألها من لا يملكها ؟ " . قال بكر بن عبد الله : " أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم " . ولما خبّر أبو حازم سليمان بن عبد الملك أبو عبد الله للمذنبين ، قال : فأين رحمة الله ؟ قال : " قريب من المحسنين " . كان بلال بن سعد يقول : " زاهدكم راغب ، ومجتهدكم مقصر ، وعالمكم جاهل ، وجاهلكم مغتر " . وقال عامر بن عبد قيس : " الدنيا والدة للموت ، ناقضة للمبرم ، مرتجعة للعطية ، وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري ، وكل مستقر فيها غير راض بها ، وذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار " .

باع عبد الله بن عتبة بن مسعود أرضاً له بثمانين ألفاً فقيل له : لو اتخذت لولدك ذُخراً من هذا المال قال : أنا أجعل هذا المال ذخراً لي ، وأجعل الله ذخراً لولدي . رأى إياس بن قتادة العبشمي شيبةً في لحيته فقال : " أرى الموت يطلبني ، وأراني لا أفوته ، أعوذ بك من فُجاءة الأمور . يا بني سعد قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبتي " ولزم بيته فقال له أهله : تموت هُزلاً ، قال : " لأن أموت مؤمناً مهزولاً أحب إليّ من أن أموت منافقاً سميناً " . قال بكر بن عبد الله : وما الدنيا ؟ أما ما مضى منها فحلم ، وما بقي منها فأماني . قال مُوّرق : خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بطاعة . وقال : ضاحك معترف بذنبه خير من باك مدلّ على ربه . وقال بكر بن عبد الله : اجتهدوا في العمل فإن قصر بكم ضعف فكفوا عن المعاصي . قال : أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه ، ومن خدمك فاستخدميه . قيل لرابعة : هل عملن عملاً ترين أنه يُقبل منك ؟ قالت : إن كان شيء فخوفي أن يُرد عليّ . قيل لرجل مريض : كيف تجدك ؟ قال : لم أرض حياتي لموتي . نظر حبيب يوماً إلى مالك بن دينار وهو يقسم صدقةً له علانية فقال له : يا أخي إذا ركزت كنزاً فاستره . دخل الأوزاعي على المهدي فقال له : إن الله قد أتاك فضيلة الدنيا ، وكفاك طلبها ؛ فاطلب فضيلة الآخرة فقد فرّغك لها . قال عمرو بن عبيد للمنصور : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها ؛ فاشتر نفسك منه ببعضها ، وإن هذا الذي أصبح بيدك لو بقي في يد من كان قبلك لم يصر إليك ، فاحذر ليلة تمخّض بيوم هو آخر عُمرك ، قال : فبكى المنصور ، وقال له : سل حاجةً ، قال : نعم ، يا أمير المؤمنين ، لا تعطني حتى أسألك ، ولا تدعُني حتى أجيئك . قيل : ليس من قدر الدنيا أن تُعطي أحداً ما يستحقه ، إما أن تزيده وإما أن تنقصه . قيل لخالد بن صفوان : من أبلغ الناس ؟ قال : الحسن ، لقوله : فضح الموت الدنيا . وقيل لزاهد : كيف سخت نفسك عن الدنيا؟ قال : أيقنت أني خارج منها كارهاً فأحببت أن أخرج منها طوعا . سمع بعضهم سائلاً يقول : أين الزاهدون في الدنيا الراغبون فيما عند الله فقال : اقلب وضع يدك على من شئت . قيل لأبي حازم : كيف الناس يوم القيامة ؟ فقال : أما العاصي فآبق قدم به على مولاه ، وأما المطيع فغائب قدم على أهله . ومر إبراهيم بن أدهم بباب المنصور فنظر إلى السلاح والحرس فقال : المريب خائف . قيل لراهب : ما أصبرك على الوحدة ؟ قال : أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه ، وإن شئت أن أناجيه صلّيت . كان يقال : " خف الله لقدرته عليك ، واستحي منه لقربه منك " . قالوا : " احذر أن يصيبك ما أصاب من ظلمك " . قال الرشيد للفضيل بن عياض : ما أزهدك قال الفضيل : أنت أزهد مني ؛ لأني زهدت في الدنيا وهي فانية ، وزهدت أنت في الآخرة وهي باقية . قال الفضيل : يا رب إني لأستحي أن أقول : توكلت عليك ، لو توكلت عليك لما خفت ولا رجوت غيرك .

قال بعضهم : من اكتسب غير قوته فهو خازن غيره . عوتب بعضهم على كثرة الصدقة فقال : لو أراد رجل أن ينتقل من دار إلى دار ما ترك في الأولى شيئاً . بعث ملك إلى عابد : مالك لا تخدمني وأنت عبدي . فقال : لو اعتبرت لعلمت أنك عبد لعبدي ؛ لأني أملك الهوى ، فهو عبدي ، وأنت تتبع الهوى فأنت عبده . حكيم : أمسك ماض، ويومك منتقل ، وغدك متهم . قال أبو حازم : إنما بيني وبين الملوك يوم واحد ؛ أما أمس فلا يجدون لذته ، ولا أجد شدته ، وأما غد فإني وإياهم منه على خطر ، وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون ؟ . دخل متظلم على سليمان بن عبد الملك فقال : اذكر يا أمير المؤمنين يوم الأذان ، فقال : وما يوم الأذان ؟ قال : اليوم الذي قال الله فيه: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " . فبكى سليمان ، وأزال ظلامته . سئل الفضل عن الزهد قال : هو رفان في كتاب الله " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " . كتب محبوس إلى الرشيد إنه ما مر يوم من نعيمك إلا مر يوم من بؤسي والأمر قريب والسلام . قيل لبعضهم : ما الخبر ؟ قال : طاب الخبر " كتب ربكم على نفسه الرحمة " . وقيل : المحسن في معاده كالغائب يقدم على أهله مسروراً ، والمسيء : كالآبق يُرّد إلى أهله مأسورا . وقف أعرابي على قبر هشام ، وخادم له يقول : ما لقينا بعدك فقال : إيهاً عليك ، أما إنه لو نشر لأخبرك أنه لقي أشد مما لقيتم .

كتب طاوس إلى مكحول : أما بعد ، فإنك قد أصبت بما ظهر من علمك عند الناس منزلةً وشرفا ، فالتمس بما بطن من عملك عند الله منزلةً وزلفى ، واعلم أن إحدى المنزلتين ستزيد الأخرى والسلام . قال ابن المعتمر : الناس ثلاثة أصناف : أغنياء ، وفقراء ، وأوساط ، فالفقراء موتى إلا من أغناه الله بعز القناعة ، والأغنياء سكارى إلا من عصمه الله بتوقع الغير ، وأكثر الخير مع أكثر الأوساط ، وأكثر الراحة مع الفقراء ، والأغنياء تستخف بالفقر من بطر الغنى . قيل لحاتم : علام بنيت أمرك ؟ قال : على أربع خصال : علمت أن رزقي لا يأكله غيري فلم أهتم به ، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به ، وعلمت أن الموت يأتيني بغتةً فأنا مبادره ، وعلمت أني بعين الله في كل حال فاستحييت منه . قال بعض السلف : أنت في طلب الدنيا مع الحاجة إليها معذور ، وأنت في طلبها مع الاستغناء عنها مغرور . دخل سفيان الثوري على المهدي وهو بمكة فقال له : حدثنا أبو عمران أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرمي جمرة العقبة يوم النحر : " لا ضرب، ولا طرد ، ولا إليك إليك " فقد رأيت الناس يضربون بين يديك . وجاء عن عمر بن الخطاب أنه أنفق في حجة حجها بضعة عشر ديناراً و قال : ما أحسب هذا إلا سرفاً في أموال المسلمين ، وما أراك تدري كم أنفقت ؟ فقال له المهدي: لو كان المنصور حياً ما احتمل هذا الكلام منك ، فقال سفيان : لو كان المنصور حياً ثم أخبرك بما لقي ما تقاربك مجلسك . نظر بعضهم إلى رجل يُفحش فقال له : يا هذا إنك إنما تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربك ، فانظر ما تقول . قيل لبعضهم : ولي فلان ولايةً ، فلو أتيته فقال : والله ما فرحت له فأهنيه ، ولا ساءته فأعزّيه . قال إبراهيم النخعي : كم بينكم وبين أقوام أقبلت الدنيا عليهم فهربوا منها ، وأدبرت عنكم فتبعتموها ؟ . قال أبو حازم : إذا تتابعت عليك نِعمُ ربك وأنت تعصيه فاحذره . وقال له سليمان بن عبد الملك : عظني ، قال : عظّم ربك أن يراك حيث نهاك ، أو يفقدك حيث أمرك . قال مطرّف : لأن يسألني ربي ألا فعلت ؟ أحب إلي من أن يسألني لمَ فعلت ؟ . قيل لحكيم : صف الدنيا وأوجز ، قال : ضحكة مستعبر . قال آخر لبعض الصالحين بالبصرة : أنا خارج إلى بغداد فهل لك من حاجة ؟ قال : ما أحب أن أبسط أملي حتى تذهب إلى بغداد وتجيء . قيل للعتابيّ : إن فلاناً بعيد الهمة ، قال : إذن لا يقنع بدون الجنة . وقيل له : إن فلاناً بعيد الهمة عالم ، قال إذن لا يفرح بالدنيا .

كان وهب بن منبّه يقول : " مثل الدنيا والآخرة كمثل رجل له ضرّتان إن أرضى أحدهما أسخط الأخرى " . وقف رجل على قبر بعض الجبابرة فقال : أيها الجبار ، كم من نفس قتلتها طلباً للراحة منها أصبحت اليوم وهي أكثر شغلك . قال الفضل الرقاشي : إنا والله ما نعلّمكم ما تجهلون ولكنا نذكركم ما تعلمون . كان الفضيل ، وهو يعظ ابنه علياً ، كثير الزهد ويقول : يا بني ارفق بنفسك . وكان يوماً خلف الإمام يصلي ، وقرأ سورة الرحمن ، فجعل يتلو إلى قوله تعالى : " حور مقصورات في الخيام " فلما سلّم الإمام سمع أباه ينادي : يا علي ، أما سمعت ما قرأ الإمام ؟ فيقول ابنه : يا أبة شغلني ما كان قبلها : " يُعرف المجرمون بسماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام " . قيل لابن عيينة : إن فلاناً ينتقصك : فقال : نطيع الله فيه على قدر ما عصى الله فينا . قيل لبعضهم : ما مثل الدنيا ؟ قال : هي أقل من أن يكون لها مثل . عوتب سهل بن عبد الله على كثرة الصدقة فقال : لو أراد الرجل أن ينتقل من دار إلى دار أكان يترك في الأولى شيئاً ؟ لا والله . دخل لص على بعض الزهاد فلم ير في داره شيئاً : فقال : يا هذا أين متاعك ؟ قال حوّلته إلى دار أخرى . قيل للربيع بن خثيم : يا ربيع ، أنا ما رأيتك تذم أحداً ، قال : ويلك ما أنا عن نفسي راض فأتحول من ذمي إلى ذم الناس ؛ إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد ؛ وأمنوه على ذنوبهم .

قال عيسى بن موسى ، وهو أمير الكوفة لأبي شيبة قاضي الري : لم لا تغشانا فيمن يغشانا ؟ قال : لأني إن جئتك فقربتني فتنتني ، وإن أقصيتني حزنتني ؛ وليس عندي ما أخافك عليه ، ولا عندك ما أرجوك له . قال بعض الزهاد: تأمل ذا الغنى ، ما أدوم نصبه ، وأقل راحته ، وأخس من ماله حظه ، وأشد من الأيام حذره ، ثم هو بين سلطان يهتضمه ، وعدو يبغي عليه ، وحقوق تلزمه ، وأكفاء يسوءونه ، وولد يود فراقه ، قد بعث عليه الغنى من سلطانه العنت ، ومن أكفائه الحسد ، ومن أعدائه البغي ، ومن ذوي الحقوق الذم ، ومن الولد الملامة . قال سفيان : يا ابن آدم ، إن جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك . قال بعضهم : رأيت صوفياً في البادية فقلت له : أين الزاد ؟ قال: قدّمته إلى المعاد . قال بعضهم : ما تبالي حسّنت جوراً أو دخلت فيه ، وقبّحت عدلاً أو خرجت منه ؟ . قال ميمون بن هارون : في قوله تعالى : " ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون " تعزية للمظلوم ووعيد للظالم . دخل عبد الوارث بن سعيد على رجل يعوده فقال : كيف أنت ؟ قال : ما نمت منذ أربعين ليلة ، فقال : يا هذا ، أحصيت أيام البلاء ، فهل أحصيت أيام الرخاء ؟ . قال آخر : العجب لمن يغتر بالدنيا ، وإنما هي عقوبة ذنب . قال ابن السماك : " خف الله حتى كأنك لم تطعه ، وارج الله كأنك لم تعصه " . قال آخر : العالم طبيب هذه الأمة والدنيا داؤها ، فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرئ غيره ؟ . دخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئاً يقعدون عليه ، فلما خرجوا قال : لو كانت الدنيا دار مقام لاتخذنا لهم أثاثا .

قال بعض الزهاد : قد أعياني أن أنزل على رجل يعلم أني لست آكل من رزقه شيئاً ، قال آخر : يا ابن آدم ، مالك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت ، وتفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت . قال إبراهيم بن ادهم : نحن نسل من نسل الجنة سبانا إبليس منها بالمعصية ، وحقيق على المسبي ألا يهنأ بعيشه حتى يرجع إلى وطنه . قيل لمحمد بن واسع : فلان زاهد فقال : وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها ؟ . كتب زاهد إلى آخر : صف لي الدنيا والآخرة . فكتب إليه : " الدنيا حلم ، والآخرة يقظة ، والمتوسط بينهما الوت ، ونحن في أضغاث ننقل إلى أجداث " . قيل لآخر : مالك تدمن المشي على العصا ، ولست بكبير ولا مريض ؟ قال : لأعلم أني مسافر ، وأنها دار قُلعة ، فإن العصا من آلة السفر . قيل لآخر : أتعبت نفسك ، قال : راحتها أطلب . كتب آخر إلى عابد : بلغني تفرغك للعبادة فما سبب المعاش ؟ فكتب إليه : يا بطال يبلغك عني أني منقطع إلى الله وتسألني عن المعاش ؟ . قال الرشيد لابن السمّاك : عظني وأوجز . فقال : اعلم أنك أول خليفة يموت . قيل لأبي حازم : ما مالك ؟ قال : شيئان لا عدم لي معهما : الرضى عن الله ، والغنى عن الناس . شتم رجل زاهداً ، فقال له : هي صحيفتك أمل فيها ما شئت . قال سفيان : إذا أردت أن تعرف الدنيا فانظر عند من هي . وقال غيره : " كل شيء فاتك من الدنيا فهو غنيمة " . وقال معدان : اعمل للدنيا على قدر مكثك فيها ، وللآخرة كذاك .

مر عبد الله بن المبارك برجل واقف بين مقبرة ومزبلة فقال : يا رجل ، إنك بين كنَزين : كنزِ الأموال ، وكنز الرجال . دخل الإسكندر مدينة فتحها ، فسأل عن أولاد الملوك بها ، فقال أهلها : بقي رجل منهم يسكن المقابر ، فدعا به فأتاه ، فقال له : ما دعاك إلى لزوم المقابر ؟ قال : أحببت أن أميز بين عظام ملوكهم وعظام عبيدهم ، فوجدتهما سواء ، فقال له الإسكندر : هل لك أن تتبعني فأحيي شرفك وشرف آبائك إن كانت لك همة ؟ فقال : همتي عظيمة ، فقال : وما هي ؟ قال : حياة لا موت معها وشباب لا هرم معه ، وغنىً لا فقر معه ، وسرور لا مكروه فيه، قال : ليس عندي هذا ، قال : فدعني ألتمسه ممن هو عنده . قال مطرف : إني لأستلقي بالليل على فراشي فأتدبر القرآن كله ، فأعرض نفسي على أعمال أهل الجنة فأرى أعمالهم شديدة " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون " . " يبيتون لربهم سجداً وقياما " . " أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائما " . " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " . فلا أرى صفتي فيهم . ثم أعرض نفسي على أعمال أهل النار " ما سلككم في سقر " . " وأما إن كان من المكذبين الضالين " فلا أراني فيهم . ثم أمرّ بهذه الآية " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخواننا منهم . قال يحيى بن معاذ : الوعد حق الخلق على الله ، فهو أحق من وفى ، والوعيد حقه على الخلق ، فهو أحق من عفا .

مات ابن لعمر بن ذر فقال : أي بني شغلني الحزن لك عن الحزن عليك . وقالوا : من هوان الدنيا على الله ألا يُعصى إلا فيها ، ولا يُنال ما عنده إلا بتركها . قال عبد الله بن شداد : أرى دواعي الموت لا تُقلع ، وأرى من مضى لا يرجع ، لا تزهدوا في معروف ؛ فإن الدهر ذو صروف ، كم راغب قد كان مرغوباً إليه ، وطالب أصبح مطلوباً إليه ، والزمان ذو ألوان ، من يصحب الزمان ير الهوان ، وإن غلبت يوماً على المال ، فلا تغلبنّ على الحيلة على حال ، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً أقل ما تكون في الباطن مالاً . قال شبيب بن شيبة لأبي جعفر : إن الله لم يجعل فوقك أحداً ، فلا تجعلن فوق شكرك شكرا . وقال عمرو بن عبيد للمنصور : إن الله قد وهب لك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك من الله ببعضها . قال خالد الربعي : كنا نحدّث " إن مما يُعجّل الله عقوبته ، أو قال : لا نؤخر عقوبته : الأمانة تخان ، والإحسان يُكفر ، والرحم تُقطع ، والبغي على الناس " . كان بعض الزهاد يقول : ابن آدم تكلأ بحفظه وتُصبح عازماً على معصيته ؟ . دخل المبارك بن فضالة على المنصور وهو بالجسر فقال : يا أمير المؤمنين ، حدثني فلان أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش من كان له على الله دالة فليقم ، فلا يقوم إلا أهل العفو " فقال أبو جعفر : قد عفوت ، ورجع من الجسر ولم يدخل البصرة .

نسب محمد بن كعب نفسه إلى القُرظي فقيل له : ولمَ لم تقل : الأنصاري ؟ قال : " أكره أن أمن على الله بما لم أفعله" . مر محمد بن واسع بقوم فقيل له : هؤلاء زهاد ، فقال وما قدر الدنيا خحتى يحمد الزاهد فيها ؟ . كان شعبة يقول لأصحابه : " لو أردت الله ما خرجت إليكم ، ولو أردتم الله ما جئتموني " . كان الربيع بن خثيم يقول : " لو كانت الذنوب تفوح ما جلس أحد إلى أحد " . قيل لبعضهم : كيف أصبحت ؟ قال : آسفاً على أمسي كارهاً ليومي : متهماً لغدي " . وقيل لآخر : لك تركت الدنيا ؟ قال : لأني أُمنع من صافيها وأمتنع من كدرها . وقيل لآخر : ما الذي تطلب؟ فقال الراحة ، قيل : فهل وجدتها ؟ قال : قد وجدت أني لا أجدها في الدنيا . وقيل لآخر : لم تركت الدنيا ؟ قال : أنفت من قليلها ، وأنف مني كثيرها . قال أبو هفان : كان مزين يخدم رئيساً وكان الرئيس قد خالطه بياض ، فكان يأمر المزين بلقطه ، فلما انتشر البياض قال المزيّن : يا سيدي قد ذهب وقت اللقّاط وجاء وقت الصرام ، قال : فبكى الرئيس من قوله . دخل سفيان بن عيينة على الرشيد وهو يأكل بملعقة فقال : يا أمير المؤمنين ، حدثني عبيد الله بن يزيد عن جدك ابن عباس في قوله جل وعز : " ولقد كرمنا بني آدم " قال : جعلنا لهم أيدياً يأكلون بها ، فكسر الملعقة .

قيل لميمون بن مهران : إن رقيّة امرأة هشام ماتت فأعتقت كل مملوك لها ، فقال ميمون : يعصون الله مرتين : يتجملون به وهو في أيديهم بغير حق . فإذا صار لغيرهم أسرفوا فيه . عزّى رجل الرشيد فقال : آجرك الله في الباقي، ومتّعك بالفاني : فقال : ويحك ، ما تقول ؟ وظن أنه غلط ، فقال : ألم تسمع الله يقول : " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " فسرّي عنه . دخل عمر بن ذر على ابنه وهو يجود بنفسه فقال : يا بني إنه ما علينا من موتك غضاضة ، ولا بنا إلى أحد سوى الله حاجة ، فلما قضى نحبه ، وصلى عليه ، وواراه ، وقف على قبره فقال : يا ذر، إنه قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك ؛ لأنا لا ندري ما قلت وما قيل لك ، اللهم إني قد وهبت له ما قصّر فيه مما افترضت عليه من حقي ، فهب لي ما قصّر فيه من حقك ، واجعل ثوابي عليه له ، وزدني من فضلك إني إليك من الراغبين . قال بعض الصالحين : لو أنزل الله عز وجلّ كتاباً أنه معذّب رجلاً واحداً لخفت أن أكونه ، وأنه راحم رجلاً واحداً لرجوت أن أكونه ، وأنه معذبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهاداً . لئلا أرجع على نفسي بلائمة . وقال مطرّف بن عبد الله لابنه : " يا عبد الله ، العلم أفضل من العمل ، والحسنة بين السيئتين كقول الحق بين فعل المقصر والغالي " . ومن كلامه : " خير الأمور أوساطها ، وشر السير الحقحقة ، وشر القراءة الهذرمة " . وكان ابن السمّاك يقول : إذا فعلت الحسنة فافرح بها واستقللها ؛ فإنك إذا استقللتها زدت عليها ، وإذا فرحت بها عدت إليها . ويروى عن أويس القرني أنه قال : " حقوق الله لم تدع عند مسلم درهماً " .

قال يحيى بن معاذ الرازي : إن لله عليك نعمتين : السراء للتذكير ، والضراء للتطهير ، فكن في السراء عبداً شكوراً، وفي الضراء حراً صبورا " . دخل ابن السمّاك يوماً على الرشيد فدعا الرشيد بماء ليشربه فقال : ماء ناشدتك الله ، أرأيت لو مُنعت من شربه ما الذي كنت فاعله ؟ فقال : كنت أفتديه بنصف ملكي ، فقال : اشرب هنيئاً لك ، فلما فرغ من شربه قال : ناشدتك الله ، أرأيت لو منعت من خروجه ماك نت تفعل ؟ قال : كنت أفتديه بنصف ملكي ، فقال : إن ملكاً يفتدى بشربة ماء لخليق بألا ينافس عليه . كان يحيى بن معاذ يقول للناس : لا تكونوا ممن يفضحهم يوم موتهم ميراثه ، ويوم القيامة ميزانهز قال المنصور لعمرو بن عبيد : عظني ، فقال : أعمّا رأيت أو ما سمعت ؟ فقال : بل عظني بما رأيت ، فقال له : مات عمر بن عبد العزيز فخلّف أحد عشر ابناً وبلغت تركَتُه سبعة عشر دينارا ، كُفّن منها بخمسة دنانير ، واشترى موضع قبره بدينارين ، وأصاب كل واحد من ولده ثمانية عشر قيراطا ، ومات هشام فخلّف أحد عشر ابناً وأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار ، فرأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله ، ورأيت رجلاً من ولد هشام يسأل الناس ليتصدق عليه . قال بعضهم : الدنيا دار تجارة ، فويل لمن تزوّد منها الخسارة . قال بعضهم : اصبروا عباد الله على عمل لا غنى بكم عن ثوابه ، واصبروا عن عمل لا صبر لكم على عقابه .

قال أبو حازم : ما كرهت أن يكون معك غداً فاتركه اليوم ، وما أحببت أن يكون معك غداً فقدمه اليوم . قال إبراهيم التيمي : مثّلت في نفسي الجنة آكل من ثمارها وأعانق أزواجها ، وألبس حللها : ومثلت في نفسي النار أعالج أغلالها، وآكل من زقومها ، فقلت : يا نفس ، أي شيء تريدين الآن ؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل ، فقلت : الآن أنت في الأمنية فافعل . كان بعض التابعين إذا قيل له : كيف أصبحت ؟ يقول : في أجل منقوص ، وعمل محفوظ ، والموت في رقابنا ، والنار من ورائنا ، ولا ندري ما الله يفعل بنا . وكان روح بن مدرك يقول في موعظته : الآن قبل أن تسقم فتضنى ، وتهرم فتفنى ثم تموت فتُنسى ، ثم تُقبر فتُبلى ، ثم تُنشر فتحيا ، ثم تُبعث فتشقى ، ثم تُحضر فتدعى ، ثم توقف فتُجزى بما قدمت فأمضيت ، وأذهبت فأفنيت ، من موبقات سيئاتك ، وسالفات شهواتك ، وملفقات فعلاتك ، الآن سالمون ، الآن وأنتم مستعتبون . قال أبو حازم : عجباً لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة ، ويتركون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة . قيل لمحمد بن واسع : كيف حالك ؟ فقال : كيف حال من لا يدري كيف حاله ؟ . أراد رجل الحج فقال لامرأته : إني عازم على الحج ، فقالت : بسم الله ، قال : فكم أخلّف عليك من النفقة ؟ قالت : بقدر ما تُخلّف عليّ من الحياة . يُروى عن خالد بن صفوان أنه قال : ملأت البحر الأخضر بالذهب الأحمر ، فإذا الذي يكفيني من ذاك رغيفان وكوزان وطمران . دخل مالك بن دينار على بلال بن أبي بردة - وهو أمير البصرة - فقال : إني قرأت في بعض الكتب : " من أحمق من السلطان ؟ ومن أجهل ممن عصاني ؟ ومن أغرّ ممن اغترّ بي ؟ أيا راعي السوء دفعت إليك غنماً سماناً سحاحا ، فأكلت اللحم وشربت اللبن ، وائتدمت بالسمن ، ولبست الصوف ، وتركتها عظاماً ، ما تقعقع " . قيل : طاف الرشيد بالبيت فوطئ جرادة ، فلم يدر ما عليه فيها ، فبعث المأمون إلى الفضيل بن عياض ، فسلّم عليه وقال : أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول : لنا إليك حاجة فأحب أن تصير إلينا ، فلم يُجب الفضيل بشيء ، فرجع المأمون وقال : رأيت رجلاً ليست به إليك حاجة ، فقام الرشيد مغضباً حتى تخوّفنا على الفضيل منه ، قال : فوقف عليه وسلّم ، فوسّع الفُضيل ، أورد السلام عليه ، فلما جلس أقبل على الفضيل فقال : رحمك الله ، قد كان الواجب أن تأتينا ، وتعرف حقّنا ؛ إذ ولاّنا الله أموركم ، وصيرنا الحكُام في دمائكم ، والذابين عن حريمكم ، وإذ لم تأتنا فقد أتيناك ، إني وطئت الآن في الطواف على جندبة فما ديتها ؟ قال : فبكى الفضيل بكاءً شديداً حتى علا صوته ، وقال : إذا كان الراعي يسأل الغنم هلكت الغنم ، وإنما يجب على الراعي أن يرتاد لغنمه الرعى وجيد الكلأ وعذب الماء ، فإذا كنت يا أمير المؤمنين غافلاً عن معالم الدين فبأي شيء تسوس رعيتك ؟ قال : فخجل الرشيد حتى عرق وانصرف . اختلفوا بحضرة الزهري في معنى قول القائل : فلان زاهد ، فقال الزهري : الذي لا يغلب الحرام صبره ولا الحلال شكره . قال عمر بن ذر : الحمد لله الذي جعلنا من أمة تُغفر لهم السيئات ولا تُقبل من غيرهم الحسنات . قال يونس بن عبيد : سمعت ثلاث كلمات لم أسمع بأعجب منهن : قول حسان ابن أبي سنان : ما شيء أهون من ورع ، إذا رابك شيء فدعه . وقول ابن سيرين : ما حسدت أحداً على شيء قط . وقول موّرق العجلي : لقد سألت الله حاجة أربعين سنة ما قضاها ولا يئست منها ، قيل : وما هي ؟ قال : ترك ما لا يعنيني . قال أبو حازم الأعرج : إن عوفينا من شر ما أُعطينا لم يضرنا فقد ما زوي عنا . وقال : الدنيا غرّت أقواماً فعملوا فيها بغير الحق ففاجأهم الموت فخلّفوا ما لهم لمن لا يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، وقد خلفنا بعدهم فينبغي لنا أن ننظر إلى الذي كرهنا منهم فنجتنبه ، والذي غبطناهم به فنستعمله . قال قتادة : يُعطي الله العبد على نية الآخرة ما شاء من الدنيا والآخرة ، ولا يعطيه على نية الدنيا إلا الدنيا . قال مطرّف بن عبد الله : لا تنظروا إلى خفض عيشهم ، ولين لباسهم ، ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم ، وسوء منقلبهم . لقى ناسك ناسكاً ومعه خف ، فقال له : ما تصنع بهذا ؟ قال : عدة للشتاء ، قال : كانوا يستحيون من هذا . رأى ناسك ناسكاً في المنام فقال : كيف وجدت الأمر يا أخي ؟ قال : وجدنا ما قدّمنا ، وغرمنا ما أنفقنا ، وخسرنا ما خلّفنا . قال أبو حازم : نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب ، ونحن لا نتوب حتة نموت. قالوا : ليس في النار عذاب أشد على أهلها من علمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس ، ولا لضيقهم ترفيه ، ولا لعذابهم غاية ، وليس في الجنة نعيم أبلغ من علمهم بأن ذلك الملك لا يزول . سمع مطرّف رجلاً يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ، فأخذ بذراعه وقال : لعلك لا تفعل من وعد فقد أوجب . قال رجل من الزهاد : إذا ابتليت أن تدخل مع الناس إلى سلطان فإذا أخذوا في الثناء فخذ في الدعاء .

روي أن عبد الملك قال حين ثقل ورأى غسالاً يلوي ثوباً بيده : وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما أكسب يوماً فيوماً فذكر ذلك لأبي حازم فقال : " الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه ، ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه " . كان الربيع بن خشيم إذا قيل له : كيف أصبحت أبا يزيد ؟ قال : مذنبين نأكل أرزاقنا وننظر آجالنا . قال بعض الملوك لبعض الزهاد : اذمم الدنيا ، فقال : أيها الملك ، هي الآخذة لما تُعطي ، الموّرثة بعد ذلك الندم ، السالبة ما تكسو ، الوارثة بعد ذلك الفضوح ، تسد بالأراذل مكان الأفاضل ، والعجزة مكان الحزمة ، تجد في كل من كل خلفا ، وترضى بكل من كل بدلا ، تُسكن دار كل قرن قرنا ، وتُطعم سؤر كل قوم قوما . ذكر أنه كان للنعمان بن المنذر إخوة ثلاثة يقال لأحدهم : مالك ، وللآخر عمرو ، هو محرّق ، والثالث علقمة ، وكان مالك ذا فضل بيّن ، ورأى جزل ، فهلك مالك فأعظم ذلك عمرو وكربه - وكان عمرو مرجوّاً عند عامة مملكته لبوائق الدهر ، وحوادث الأيام - فلما رأى المنذر بن النعمان بن المنذر ما بعمه عمرو من الوجد على مالك أفظعه ذلك وكربه ، وكسف باله وغير حاله ، ودخل عليه من ذلك ما كاد أن يكون شبيهاًَ بموت مالك فسأل المنذر بن النعمان أباه أن يجمع له رؤساء أهل مملكته وعلماءهم وخطباءهم وحلماءهم وذوي الشرف منهم ، ثم يأذن له في الكلام والقيام في أمر مالك، والتعزية بعمه . فأجابه أبوه النعمان إلى ذلك ، وأعجبه ما دعاه إليه ، فلما توافت الرجال احتفل النعمان - يعني حفّل المجلس ، وحشدهم ، وأنزلهم على قدر منازلهم - فلما أخذوا مجالسهم قام المنذر ابن النعمان فثنيت له نمرقة الشرف على منبر الكرامة عن يمين النعمان - وهو كبير المتكلمين في جسيم الأمور - فرفع صوته فقال : يا عمرو ، يا ابن ثمرة الرأي ومعدن الملك ، إنما الخلق للخالق ، والشكر للمنعم ، والتسليم للقادر ، ولا بد مما هو كائن .

يا عمرو ، إنه لا أضعف من مخلوق ، ولا أقوى من خالق ، ولا أقوى ممن طلبته في يديه ، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه . يا عمرو ، إن التفكر نور ، والغفلة ظلمة والجهالة ضلالة ، وقد ورد الأول ، والآخر مسوق متعبد ، وفي الأسى عزاء ، والسعيد من وعظ بغيره . يا عمرو ، إنه قد جاءك ما لا يرد ، وذهب عنك ما ليس براجع ، فما الحيلة لبقاء ما سيذهب ؟ . يا عمرو ، إنما الشيء من مثله ، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها ، فما بقاء فرع بعد أصله . يا عمرو ، انظر إلى طبقات حالاتك من لدن في صلب أبيك إلى أن بلغت منزلة الشرف ، وحد العقل ، وغاية الكرامة ، فهل قدرت - أو قدروا - على أن ينقلوك أو تنتقل عن طبقة قبل انقضائها ، أو بتعجيل نعمة قبل أوان تحيّنها ؟ وانظر إلى آبائك الذين كانوا أهل الملك والأخلاق المحمودة ، هل وجدوا سبيلا - أو وجدت لهم - إلى بقاء ما أحبّوا أو بقوا بعده ؟ . يا عمرو ، فلأي أيام الدهر ترتجي ؟ أيوم لا يجيء بما في غيره ، أو يوم لا يستأخر ما فيه عن أوان مجيئه ؟ وانظر إلى الدهر تجده أياماً ثلاثةً : يوماً مضى لا ترجوه ، ويوماً بقي لا بد منه ، ويوماً يأتي لا تأمنه . يا عمرو أمس موعظة ، واليوم غنيمة ، وغداً لا تدري من أهله : فأمس شاهد مقبول شهادته ، وحكيم مؤدب ، قد فجعك بنفسه ، وخلّف في يديك حكمته ؛ واليوم صديق مودّع ، كان طويل الغيبة ، وهو سريع الظعن ، أتاك ولم تأته ، وقد مضى قبله شاهد عدل ، فإن كان ما فيه لك فأتبعه بمثله ، واتق اجتماع شهادتهما عليك ؛ وغداً يجيء بما فيه . يا عمرو ، إن أكمل الأداة الصبر عند المصائب ، واليقين ، فأين المهرب مما هو كائن ؟ إنما تنقلب في كف الطالب . يا عمرو ، إن أهل هذه الدار سفر لا يحلّون عقد الرحال إلا في غيرها ، وإنما يتبلغون فيها بالعواري ، فما أحسن الشكر للمنعم ، والتسليم للمُعير .

يا عمرو ، من أحق بالتسليم ممن لا يجد مهربا من طالبها إلا إليه ، ولا معيناً له إلا عوناً إليه ؟ . يا عمرو ، انظر مما جزعت ، وما استنكرت ، وما تحاول ؟ فإن كان الجزع ردك إلى ثقة من درك الطلبة ، وكنت قوياً على رد ما كرهت ، فكيف تعجز من الغلبة على ما أحبهت ؟ فإن كنت حاولت - مغلوبا - فمن أفنى القرون الأولى قبلك ؟ . يا عمرو ، إنه من يتناول ثمرة ما لا يكون استقرت في يديه الخيبة . أفمن هذا المعدن ترجو درك الغنيمة ؟ . با عمرو، " إن أعظم المصيبة سوء الخلف منها " . يا عمرو ، " إن العلم لا ينال إلا بالتعلم " فمن رأيت تعلم ما لا يعلم ، وأدرك ما لا يكون فيمن كان قبلك ؟ . يا عمرو ، فما غناؤك في طلب من في طلبك أم كيف رجوت رجعة مالك إليك وأنت تساق إليه ؟ وما جزعك على الظاعن عنك اليوم وأنت مرتحل في طلبه غداً ؟ وما طمعك في رد ما هو كائن بما لا يكون ، فأفق فإن المرجع قريب ، ولا تمعن فيضر بك العمى ، وتنوهك الجهالة ، وأنت ذو الحظ الكثير من الدنيا في قسمك ، وأخو ذي الملك في قرابتك ، وابن الملوك المتبعن في نسبك ، قد أتاك الخبر في كل ما قالوا ، وأنت غافل ، فلا تكونن في الشكر دون الحق عليك . يا عمرو ، إنما ابتلاك بالمصيبة المنعم ، وأخذ منك العطية المعطي ، وما يريد أكثر ، فإن نسيت الصبر فلا تغفل الشكر ، وكلا فلا تدع . يا عمرو ، إنه لا أغنى من منعم ، ولا أحوج من منعم عليه واحذر من الغفلة استلاب النعم وطول الندامة . واعلم أنه لا أضيع ممن غفل عن نفسه ولا يغفل عنه طالبه . يا عمرو ، إن أخاك قد برز لعظيم صلتك ، ولاستكمال كرامتك ولطف بما تراه لموعظتك .

يا عمرو ، فهذا يوم ثناؤه عظيم ، وبقاء ما فيه بعدنا طويل ، وسيحظى به اليوم السعيد ، ويتذكر من منافعه اللبيب . يا عمرو ، إنما جمعت منافع هذا اليوم وجنوده لدفع ضر الجهالة عنك ، وإنما أوقدت مصابيح الهدى لتيه تحيرك وسهلت سبل الخير لرجاء رجعتك ، فلم أر كاليوم ضل مع نوره متحير ، ولا أعيا مداويه سقيم . يا عمرو ، ما أصغر المصيبة مع فائدة أهل الغنيمة غدا ، وكثر فيه خيبة الخائب . يا عمرو ، إن أبت نفسك إلا علم رأى من جميع التجارب فقد كفيت فاسمع جوابهم : زعم فرسان الحروب وقادة الجنود أنه غلب على مالك غالب آبائك أهل التتويج والملك الكبير ، وزعم حفظة الخزائن أنها عوار عند كم أهل البيت ، وانها لا تقبل في فكاك الأسارى ، وزعم رؤساء الأطباء أن مالكاً هلك بداء معلميهم الذين ماتوا به ، ولا دواء لدائهم ذلك ، وزعم أهل التجارب والحيلة الكبرى أن صاحب مالك قد شغلهم بأنفسهم عنك ، فإن فرغوا أتوك . يا عمرو ، وقد أسرع فيك الداعي ، وأعذر فيك الطالب ، وانتهى الأمر بك إلى حد الرجاء ، ولا أحد أعظم رزية في عقله ممن ضيع اليقين واعطى الأمل قياده . قال : ثم أقبل المنذر على الملك أبيه النعمان فقال : أيها الملك المنعم ، إن أعظم العظة اليوم ما أعطيتها بجمعك إيانا وإذنك لنا في الكلام ، وخير الهدية للغائب ما حملتنا ، وإنا أيها الملك الرفيع جده - مع معرفتنا بفضلك - لن نرفعك فوق منزلتك ، وبحسبك ألا يكون فوقك إلا الخالق ، ونعم المخلوق أنت ، ترد المدبر إلى حظه وتكف المتتايع عن حمقه ، وتدل مبتغي الخير على هيئته ، ومثل دوائك شفاء السقيم . قال : ثم أقبل المنذر على الناس بالموعظة فقال : أيها الناس ، إنما البقاء بعد الفناء ، وقد خلقنا ولم نك شيئاً ثم نعود ، ألا إنما العوارى اليوم ، والهبات غدا ، وقد رزئنا من قبلنا ، ولنا وارثون ، قد حان الرحيل عن محل النازل ، ألا وقد تقارب تسلب فاحش ، أو عطاء زل ، فاستصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه ، واسلكوا سبل الخير ، ولا تستوحشوا فيها لقلة أهلها ، واذكروا حسن صحابة الله إياكم . أيها الناس ، إني أعظكم وأبدأ بنفسي ، فاستبدلوا العوارى بالهبات ، وارضوا بالباقي خلفاً ، من الفاني تلفاً ، واحتملوا المصائب بالحسبة تستجلبوا بها النعماء واستديموا الكرامة بالشكر تستوجبوا الزياجة ، واعرفوا الفضل في البقاء في النعمة ، والغنى في السلامة قبل المثلة الفاحشة ، أو المثلات السيئة ، وقبل انتقال النعم، ودول الأيام ، وتصرف الخطوب . أيها الناس ، إنما أنتم في هذه الدنيا أغراض تنضل فيكم المنايا ، وما أنتم فيه نهب للمصيبات : مع كل جرعة لكم شرق ، وفي كل أكلة لكم غصص ، لا تنالون نعمةً إلا بفراق أخرى ، ولا يستقبل معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بإنفاد ما قبله من رزقه ، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر ، فأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم ، وفي معايشكم أسباب مناياكم ، لا يمنعكم شيء منها ، ولا يغيبكم شيء عنها ، لها بكل سبب منكم صريع يحتزز ، ومقرب ينتظر ، لا ينجو من حبائلها الحذر ، ولا يدفع عن مقاتله الأريب ، وهذه أنفسكم تسوقكم إلى الفناء ، فلمن تطلبون البقاء ؟ وهذا الليل والنهار لم يرفعا شيئاً شرفاً إلا أسرعا الكرة على هدم ما شرفا بتفريق ما جمعا . أيها الناس ، اطلبوا الخير ووليه ، واحذروا الشر ووليه . واعلموا " أن خيراً من الخير معطيه ، وشراً من الشر فاعله " . ذكر أن قس بن ساعدة كان يخطب متوكئاً على عصا فيقول : مطر ونبات ، وآباء وأمهات ، وذاهب وآت ، وآيات في إثر آيات ، وأموات بعد أموات ، وضوء وظلام ، وليال وأيام ، وفقير وغني ، وسعيد وشقي ، ومحسن ومسيء . أين الأرباب الفعلة ، ليصلح كل عامل عمله ، كلا بل هو الله إله واحد ، ليس بمولود ولا والد ، اعاد وأبدى ، وإليه المآب غدا . أما بعد : يا معشر إياد ، أين ثمود وعاد ، وأين الآباء والأجداد ، أين الحسن الذي لم يشكر ، والظلم الذي لم ينقم ؟ كلا ورب الكعبة ليعودن ما بدا ، ولئن ذهب يوماً ليعودن يوماً ما ، افهموا ما سمعتم ، واحفظوا وعوا . تمنى قوم عند يزيد الرقاشي فقال : أتمنى أنا كما تمنيتم ، فقالوا : تمن ، فقال : ليتنا لم نخلق ، وليتنا إذ خلقنا لم نعص ، وليتنا إذ عصينا لم نمت ، وليتنا إذ متنا لم نبعث ، وليتنا إذ بعثنا لم نحاسب ، وليتنا إذ حوسبنا لم نعذب ، وليتنا إذ عذبنا لم نخلد . قالوا إن رأس مال أبي خزيمة كان درهماً واحداً ستين سنة ، كان يشترى صوفاً فيغزله ويبيعه . قال محمد بن سلام : قال لنا يونس ذا صباح : إني فكرت في أمر فاسمعوا ، قلنا : هات ، قال : كل من أصبح على وجه الأرض في النار ، فقلنا ما تزيد ؟ قال : إلا أمتنا هذه ، فإذا صرت إلى أمتنا فالسلطان ومن يطيف به هلكي إلا القليل ، وإذا قطعت هذه الطبقة حتى تبلغ الشاش والبطائح ، فأكلة رباً وباعته وشربة خمر وباعتها إلا القليل ، وإذا خلفت هذا الخندق حتى تأتي رمل يبرين وأعلام الروم ، فلا غسل من جنابة ولا إسباغ وضوء ، ولا إتمام صلاة ولا علم بحدود ما أنزل الله على رسوله إلا قليل ، فإذا صرت إلى الأمصار فأصحاب هذه الكراسي من أهل السوق والكلأ فليس إلا ذئب مُستد فر بذئبة ، يختلك عن دينارك ودرهمك ، يكذب في المرابحة ، ويطفف في المكيال ، ويخسر في الميزان ، إلا قليل ، فإذا صرت إلى أصحاب هذه الغلات الذين كفوا المؤونة وأنعم الله عليهم ، فيُمسى أحدهم سكران ، ويصبح مخموراً إلا قليل ، والله الرحمن إن في هذه الدار معب لقطيعاً ، فإذا صرت إلى قوم دون هؤلاء لم يُنعم عليهم بما أُنعم على هؤلاء فواحد طرّار وآخر يستقفي ، فإذا صرت إلى أصحاب هذه السواري فهذا يشهد على هذا بالكفر ، وهذه على هذا بالبراءة ، فوالله لئن لم يعمنا الله بالمغفرة إنها للفضيحة . دخل عمرو بن عبيد على بعض الأمراء وهو يجود بنفسه فقال له : إن الله تعبّدك في حال الصحة بالعمل ، ووضع عنك في هذه الحال عمل الجوارح ، ولم يُكلّفك إلا عملاً بقلبك ، فأعطه بقلبك ما يجب له عليك . كتب ناسك إلى آخر يستوصفه الدنيا والآخرة ، فكتب إليه : الدنيا حلم ، والآخرة يقظة ، والمتوسط بينهما الموت ، ونحن في أضغاث ننقل إلى أجداث . رأى دهثم وهو أحد العبّاد ، رجلاً يضرب غلامه ، فوعظه ونهاه ، فقلب السوط وأخذ يضرب دهثما ، وتسارع الناس ، فقال دهثم دعوه فقد أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأحتاج الآن أن أصبر على ما أصابني ، فبذلك نطق الكتاب . وكان معروف الكرخي يقول : ليكن الله جليسك وأنيسك وموضع شكواك ، فإن الناس لا ينفعون ولا يضرون ، ولا يعطون ولا يحرمون ، و " إن شفاء ما ينزل بك من المصائب كتمامه " .