الجزء السابع - الباب السادس الكبر المستحسن والمستقبح

الباب السادس الكبر المستحسن والمستقبح

قال أبو عثمان : من الكبر المستحسن قول وكيع بن أبي سود لعدي بن أرطاة حين قال : سو عليّ ثوبي فقال له : أذكرتني ضيق خفّي ، أيها الأمير ، خذ خفّي ، فضحك عدي و قال : يا أبا مطرف ، إن الجليس ليلي من جليسه أكثر من هذا . فقال : إذا عُزلت فكلفنا ما أحببت ، ثم ركب الحسن البصري فأخذ وكيع - متبرعاً - بركابه حتى ركب ، فاستحسن ذلك الكبر مع هذا التواضع . دخل عمارة بن حمزة على المنصور فقعد في مجلسه ، وقام رجل فقال : مظلوم يا أمير المؤمنين ، قال : من ظلمك ؟ قال : عمارة غصبني ضيعتي ، فقال المنصور : يا عمارة قم فاقعد مع خصمك ، فقال : ما هو لي بخصيم ؛ إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها ، وإن كانت لي فهي له ، ولا أقوم من مجلس قد شرفني أمير المؤمنين بالرفعة إليه لأقعد في ادنى منه بسبب ضيعة . لما عزل الحجاج أمية بن عبد الله عن خراسان أمر رجلاً من بني تميم فعابه بخراسان وشنّع عليه ، فلما قفل لقيه التميمي فقال : أصلح الله الأمير لا تلمني فإني كنت مأموراً فقال : يا أخا بني تميم ، وحدثتك نفسك أني وجدت عليك ؟ قال : قد ظننت ذلك ، قال : إن لنفسك عندك قدرا . جرى بين الرشيد وزبيدة نزاهة نفس عمارة بن حمزة وكبره ، فقالت له : ادع به وهب له سبحتى هذه ، فإن شراءها خمسون ألف دينار ، فإن ردها عرفنا نزاهته ، فوجّه إليه فحضر ، فحادثه وأعطاه السبحة ، فجعلها عمارة بين يديه ، فلما قام تركها ، فقالت : أنسيها ؟ فأتبعوه خادماً بالسبحة ، فقال للخادم : هي لك ، فرجع وقال : وهبها لي عمارة ، فأعطت زبيدة بها الخادم ألف دينار وأخذتها . وقد روي أن هذا الخبر كان مع أبي العباس السفاح وزوجته أم سلمة . كان مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب ، أحد بني قيس بن ثعلبة ، وإليه تنسب المسامعة ، سيد بكر بن وائل في الإسلام ، وهو الذي قال - لعبيد الله بن زياد بن ظبيان ، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة ، وكان حدثه أمر مسعود بن عمرو من الأزد ولم يعلمه فقال له عبيد الله ، وهو أحد فتاك العرب ، وقاتل مصعب بن الزبير - : أيكون مثل هذا الحديث ولا تعلمني ؟ لقد هممت أن أضرمها عليك نارا ، فقال مالك : اسكت أبا مطر ، فوالله إنك في كنانتي سهم أنا أوثق به منك ، فقال له عبيد الله : أنا في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها ، ولو قعدت فيها لخرقتها ، فقال مالك - وأعجبه - : أكثر الله في العشيرة مثلك ، فقال : سألت ربك شططاً . خطب عبد الملك بن مروان إلى عقيل بن علّفة ابنته على أحد بنيه - وكانت لعقيل إليه حاجات - فقال : أما إذ كنت فاعلاً فجنبني هجناءك . وحدث الجاحظ قال : أتيت أبا الربيع الغنوي ، وكان من أفصح الناس وأبلغهم ، ومعي رجل من بني هاشم فناديت : أبو الربيع ها هنا ؟ فخرج إلي وهو يقول : خرد إليك رجل كريم ، فلما رأى الهاشمي استحيا من الفخر بحضرته فقال : أكرم الناس رديفاً ، وأشرفهم حليفا فتحدث ملياً ، ونهض الهاشمي ، فقلت : يا أبا الربيع من خير الخلق ؟ قال : الناس والله ، قلت فمن خير الناس ؟ قال : العرب والله ، قلت فمن خير العرب ؟ قال : مضر والله ، قلت : فمن خير مضر ؟ قال : قيس والله ، قلت : فمن خير قيس ؟ قال : يعصر والله ، فقلت : فمن خير يعصر ؟ قال : غني والله ، قلت : فمن خير غني ؟ قال : المخاطب لك والله ، قلت : فأنت خير الخلق ؟ قال : إي والله ، قلت : أيسرّك أن تكون ابنة يزيد بن المهلب تحتك ؟ قال : لا والله ، قلت : ولك ألف دينار ، قال : لا والله ، قلت : فألفا دينار ، قال : لا والله، قلت : ولك الجنة ، فأطرق ملياً ثم قال : على ألا تلد مني .

قوله : أكرم الناس رديفاً وأشرفهم حليفا ، فإن أبا مرئد الغنوي كان رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وحليف حمزة بن عبد المطلب رحمه الله . يروى عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزيرة في يوم قر فقال له : ممن أنت يا مقرور ؟ قال : أنا ابن الوحيد ، أمشي الخير لي ، ويدفئني حسبي . وقيل لآخر في مثل هذه الحال : أما يوجعك البرد ؟ قال : بلى ، ولكنني أذكر حسبي فأدفأ . كان عوف ابن القعقاع بن معبد بن زراة من أتيه الناس وأشدهم وأجفاهم ، قال له رجل مرةً : الطريق يا عبد الله ، فقال : أعبد الله أنا ؟ فكان الحجاج يقول : لو أدركته لقتلته تقرباً إلى الله عز وجلّ . كان جذيمة الأبرش لا ينادمه أحد تعظماً ويقول : إنما ينادمني الفرقدان ونظن أن قول الشاعر : وكنا كندماني جذيمة حقبةً . . . أراد به الفرقدين ، وليس كما ذكرته الرواة من حديث مالك وعقيل ، فإنهما كان يجوز عليهما الافتراق ولا يجوز ذلك لفرقين . حكى ابن ثوابة أنه قال لغلامه : اسقني ماء فقال : نعم ، إنما تقوا: من يقدر أن يقول : لا ، وأمر بصفعه . ودعا يوماً أكارا وكلمه ، فلما فرغ دعا بماء وتمضمض استقذاراً لمخاطبته .