الجزء السابع - الباب الثامن الشجاعة والجبن

الباب الثامن الشجاعة والجبن

قيل لبعضهم : ما الشجاعة ؟ قال : صبر ساعة . حُكي عن ابن أبي عتيق قال : نظرت إلى عبد الله بن الزبير و عبد الله بن صفوان ، وقد ذهب الناس عنهما ، فلم يبق معهما أحد ، وهما نائمان يغطان في الليلة التي قتلا في صبيحتها . قيل لبني الحارث : كيف كنتم تفعلون ؟ قالوا : كنا لا نبدأ أحداً بظلم ، ولم نك بالكثير فنتواكل ، ولا بالقليل فنتخاذل وكنا نصبر بعد الناس ساعةً . قال بعض الشجعان لرفيق له ، وقد أقبل العدو : اشدد قلبك ، قال : أنا أشده ولكنه يسترخي . اجتاز كسرى في بعض حروبه بشيخ قد تمدد في ظل شجرة ونزع سلاحه وشد دابته فقال له : أنا في الحرب وأنت على مثل هذه الحال ؟ فقال الشيخ : أيها الملك ، إنما بلغت هذه السن باستعمالي هذا التوقي ، فقال كسرى : زهٍ . خرج المعتصم إلى بعض متصيّداته فظهر له أسد ، فقال لرجل من أصحابه أعجبه قوامه وسلاحه وتمام خلقه : هل فيك خير ؟ فقال بالعجلة : لا يا أمير المؤمنين ، فضحك المعتصم و قال : قبّحك الله وقبّح طللك ؟ . لما ذُهب بهدبة ليقتل انقطع قبال نعله ، فجلس يصلحه ، فقيل له : تصلحه وأنت على ما أنت عليه ؟ فقال : أشد قبال نعلي لن يراني . . . عدوّي للحوادث مستكينا كان الحارث بن هشام المخزومي في وقعة اليرموك ، وبها أصيب ، فاثبتته الجراح ، فاستسقى ماءً ، فأُتي به ، فلما تناوله نظر إلى عكرمة بن أبي جهل صريعاً في مثل حاله ، فردّ الإناء على الساقي وقال : امض إلى عكرمة ليشرب أولاً فإنه أشرف مني ، فمضى به إليه ، فأبى أن يشرب قبله ، فرجع إلى الحارث فوجده ميتاً ، ورجع إلى عكرمة فوجده أيضاً ميتاً ، لم يشرب أحد منهما الماء . قال الموصلي : حدثني رجل من أهل الأدب قال : كان لفتىً من قريش وصيفة نظيفة جميلة الوجه حسنة الأدب ، وكان بها معجباً ، فأضاق ، فاحتاج إلى ثمنها ، فحملها إلى العراق ، زمن الحجاج ، فباعها فوقعت إلى الحجاج ، فكانت تلي خدمته ، فقدم عليه فتىً من ثقيف أحد بني أبي عقيل ، فأنزله قريباً منه وألطفه ، فدخل عليه يوماً والوصيفة تقمز رجل الحجاج ، وكان للفتى جمال وهيئة ، فجعلت الوصيفة تسارق الثقفي النظر ، وفطن الحجاج فقال للفتى : ألك أهل ؟ قال : لا ، قال : خذ بيد هذه الوصيفة فاسكن إليها واستأنس بها ، إلى أن أنظر لك بعض بنات عمك ، فدعا له وأخذها مسروراً ، وانصرف إلى رحله ، فباتت معه ليلتها وهربت بغلس فأصبح ، لا يدري أين هي ، وبلغ الحجاج ذلك فأمر منادياً فنادى برئت الذمة ممن آوى وصيفةً من صفتها وأمرها كيت وكيت ، فلم يلبث أن أتي بها فقال لها : يا عدوة الله ، كنت عندي من أحب الناس ، واخترت لك ابن عمي شاباً حسن الوجه ، ورأيتك تسارقينه النظر ، فدفعتك إليه ، وأوصيته بك ، فما لبثت إلا سواد ليلتك حتى هربت . قالت يا سيدي اسمع قصتي ثم اصنع ما أحببت ، قال : هات ، قالت : كنت لفلان القرشي ، وكان بي معجباً ، فاحتاج إلى ثمني ، فحملني إلى الكوفة ، فلما صرنا قريباً منها دنا مني فوقع عليّ ، فلم يلبث أن سمع زئير الأسد فوثب عني إليه ، واخترط سيفه ، ثم حمل عليه فضربه وقتله ، ثم أقبل إليّ وما برد ما عنده ، فقضى حاجته . وقالت : ابن عمك هذا الذي اخترته لي ، لما أظلم الليل قام إليّ ، فإنه لعلى بطني إذ ةقعت فأرة من السقف عليه فضرط ثم وقع مغشياً عليه ، فمكث زماناً طويلاً أقلّبه وأرش على وجهه الماء وهو لا يفيق ، فخفت أن تتهمني به فهربت فزعاً من القتل ، فما ملك الحجاج نفسه وقال : ويحك لا تُعلمي بهذا أحداً فإنه فضيحة ، قالت : يا سيدي على ألا تردني إليه ، فقال لها : لك ذاك . سمعت عائشة الناس يوم الجمل يكبرون فقالت : لا تكبّروا فإن كثرة التكبير عند القتال من الفشل . قال عمر لعمرو بن معدي كرب : أخبرني عن الحرب ، قال : مرة المذاق ، إذا قلصت عن ساق ، من صبر فيها عُرف . ومن ضعف عنها تلف . حدّث جار لأبي حية النميري قال : كان لأبي حية سيف ليس بينه وبين الخشب فرق ، وكان يسمّيه " لعاب المنية " ، فأشرقت عليه ، وانتضاه واستذفره ، وهو واقف على باب بيت في داره ، وقد سمع حسّاً وهو يقول : أيها المغتر بنا ، والمجترئ علينا ، بئس والله ما اخترت لنفسك ، خير قليل ، وسيف صقيل ، لعاب المنية الذي قد سمعت به ، مشهورة : ضربته ، لا تُخاف نبوته ، اخرج بالعفو عنك ، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك ، إني والله إن أدع قيساً تملا الفضاء خيلاً ورجلاً ، فيا سبحان الله ما أكثرها وأطيبها ، ثم فتح الباب على وجل ، فإذا كلب قد خرج ، فقال : الحمد لله الذي مسخك كلباً ، وكفاني حرباً ، قال رجل من العرب انهزمنا من قطريّ وأصحابه ، فأدركني رجل على فرس، فسمعت حساً منكراً خلفي ، فالتفت فإذا أنا بقطري ، فيئست من الحياة ، فلما عرفني قال : أوجع خاصرتها ، واشدد عنانها ، قطع الله يدك ، قال : ففعلت ومضيت . قال عمير بن الحباب : إذا رأيت سواداً بليل فلا تكن أشد السوادين فرقاً ؛ فإنه يهابك كما تهابه ، ولو صدمت الأسد لحاد عنك . قيل لعمرو بن معدي كرب : إن الآثار في ظهرك لكثيرة ، قال : لأني كُفيت أمامي ولم يكفني أحد ما وراء ظهري . قيل لعباد بن الحصين الحبطي : في أي جنة تحب أن تلقي عدوك ؟ قال : في اجل مستأخر .

سئل المهلب عن رجل في شجاعته فقدّمه ، فقال له : فأين ابن الزبير : وابن خازم ؟ فقال : إنما سألتني عن الإنس ولم تسأل عن الجن . كان عمير بن الحباب السلمي فارس الإسلام ، وكان مع ابن زياد لما حارب ابن الأشتر فقال : لما كان في الليلة التي يريد ابن الأشتر أن يواقع في صبيحتها خرجت إليه ، وكان لي صديقاً ، ومعي رجل من قومي ، فصرت في عسكره فرأيته وعليه قميص هروي وملاءة وهو متوشح بالسيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى ، فالتزمته من ورائه ، فوالله ما التفت إليّ ولكن قال : من هذا ؟ قلت : عمير بن الحباب ، فقال : مرحباً بأبي المغلّس كن بهذا الموضع حتى أعود إليك ، فقلت لصاحبي : أرأيت أشجع من هذا قط ؟ يحتضنه رجل من عسكر عدوّه ولا يدري من هو فلا يلتفت ثم عاد إليّ فقال : ما الخبر ؟ - وكان في أربعة آلاف - فقلت : القوم كثير ، والرأي أن تناجزهم ، فإنه لا صبر بهذه العصابة على مطاولة هذا الجمع الكثير ، فقال : نصبح إن شاء الله فنحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا ، قلت : فأنا منخزل عنك بثلث الناس غداً . سأل ابن هبيرة عن مقتل عبد الله بن خازم فقال رجل ممن حضر مجلسه : سألت وكيع بن الدورقية كيف قتلته ؟ فقال : غلبته بفضل فتاء كان لي عليه ، فصرعته وجلست على صدره ، وقلت : يا لثارات الدويلة - يعني أخاه من أمه - فقال من تحتي : قتلك الله ، تقتل كبش مضر بأخيك وهو لا يساوي كف نوى ؟ ثم تنخّم فملأ وجهي نخاما ، فقال ابن هبيرة هذه والله البسالة . استدل عليها بكثرة ريقه في ذلك الوقت . كان حبيب بن مسلمة الفهري يغزو الترك ، فخرج ذات مرة إلى بعض غزواته فقالت له امرأته : أين موعدك ؟ قال : سرادق الطاغية أو الجنة ، قالت : إني أرجو أن أسبقك إلى أي الموضعين كنت فيه ، فجاء فوجدها في السرادق : سرادق الطاغية تقاتل الترك . قال : عرض الأسد لأهل قافلة ، فخرج رجل ، فلما رأى الأسد سقط وركبه الأسد ، فشدوا عليه بأجمعهم واستنقذوه ، فتنحى الأسد ، فقالوا : ما حالك ؟ قال : لا بأس ولكن الأسد خري في سراويلي .

قال المهلب : أشجع الناس ثلاثة : ابن الكلبية ، وأحمر قريش ، وراكب البغلة : فابن الكلبية : مصعب بن الزبير ، أفرد في سبعة وأُعطي الأمان ، وأحمر قريش : عمر بن عبيد الله بن معمر ، ما لقي خيلاً قط إلا كان في سرعانها ، وراكب البغلة : عباد بن حصين الحبطي ، ما كنا في كربة قط إلا فرّجها ، قال : فقال الفرزدق وكان حاضراً : فأين أنت من عبد الله بن الزبير ، و عبد الله بن خازم السلمي ؟ فقال : ويحك إنما ذكرنا الإنس فأما الجن فلم نذكرهم بعد .