الباب العاشر التعريضات
حُكي أن بشر بن مروان قال يوماً : من يدّلني على فرس جواد سابق ؟ فقال عكرمة ابن ربعي : قد أصبته - أصلحك الله - عند حوشب بن يزيد ، نجا عليه يوم الرّيّ . يعرّض بانهزامه عن أبيه فذلك قول الشاعر : نجّى حليلته وأسلم شيخه . . . لما رأى وقع الأسنة حوشب فضحك بشر ، واضطغنها حوشب . فقال بشر بعد أيام من يعلم مكان بغلة قوية ؟ فقال حوشب : بغلة واصل بن مساور : فإنه بلغني قوّته ، يحمل واصلاً وعكرمة ، وكان عكرمة يُتّهم بامرأة واصل . اجتمع الشعراء بباب أمير من أمراء العراق ، فمرّ رجل بباز ، فقال رجل من بني تميم لآخر من بني نمير: هذا البازي فقال النميري : إنه يصيد القطا . عرّض الأول بقول جرير : أنا البازي المطلّ على نمير . . . أُتيح من السماء لها انصبابا وأراد الآخر قول الطرمّاح : تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا . . . وإن سلكت طرق المكارم ضلّت قال عبد الملك لثابت بن عبد الله بن الزبير : أبوك أعلم بك حيث كان يشتمك . فقال : يا أمير المؤمنين ، أتدري لم كان يشتمني ؟ قال : لا ، قال : نهيته أن يقاتل بأهل مكة وأهل المدينة ؛ فإن الله لا ينصره بهما قال : وكيف؟ قال : أما أهل مكة فأخرجوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وخانوا ، ثم جاءوا إلى المدينة فأخرجهم منها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وسيّرهم ، يعرّض بالحكم بن أبي العاص . وأما أهل المدينة فخذلوا عثمان حتى قُتل بينهم . فقال : عليك لعنة الله قد علمتُ ما تريد . وقال له مرةً : ما ثابت من الأسماء ، ليس باسم رجل ولا امرأة . قال : يا أمير المؤمنين ، لا ذنب لي ، لو كان اسمي إليّ ما سميت نفسي إلا زينباً . يعرّض بأنه كان يعشق زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وخطبها فقالت : لا أدع نفسي بأبي الذبان . وقال عبد الملك لخالد بن يزيد - وقد ابيضّت عنفقته - : مالك كأنك عاض على صوفة ؟ فقال خالد : إنهنّ يلثمنني لا يكرهن ذلك ولا يُعرضن عنّي . يعرض ببخر عبد الملك وشيب عارضه . عرض معاوية أفراسه على عبد الرحمن بن الحكم ، فقال له عبد الرحمن : هذا أجش ، وهذا هزيم . يعرّض بمعاوية . فقال معاوية : لكنه لا يُشبّب بكنائنه . يعرض به ، وذلك أنه كان يُشبّب بأم أبان بنت عثمان ، وبقطيّة بنت بشر بن عامر بن مالك ملاعب الأسنة . وكانتا عند أخيه مروان . وأراد عبد الرحمن قول الشاعر : ونجّى ابن هند سابح ذو علالة . . . أجش هزيم والرماح دواني دخل مطيع بن إياس على قوم ، وعندهم قينة فقالوا : اسقوه - ولم يكن أكل - فاستحيا وشرب ، فلما أوجعه النبيذ قال لها : تُغنين : خليليّ داويتما ظاهراً . . . فمن ذا يداوي جوى باطنا ؟ فعلم أنه يُعرض بالجوع . فأطعموه .
نظر الفرزدق إلى ابن هبيرة وعليه ثياب تقعقع ، فقال : تُسبح . أراد بذلك قول الشاعر : إذ ألبست قيس ثياباً لزينة... تُسبّج من لؤم الجلود ثيابها لما عُزل إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة عن البصرة شيعوه فقالوا : عففت عن أموالنا وعن دمائنا . فقال : وعن أبنائكم . يُعرّض بيحيى بت أكثم في اللواط . كان جعفر بن يحيى يكني الفضل بن الربيع أبا روح - وهي كنية الفرخ - وأهل المدينة يسمون اللقيط فرخا ، وكان الربيع لقيطاً مجهول الأب ، فختلفاً في نسبه ، فكان جعفر يأكل مع الرشيد يوماً ، فوُضعت بين أيديهم ثلاثة أفراخ ، وقال الرشيد لجعفر يمازحه : قاسمني هذه نستوفي أكلها . قال : قسمة عدل أو قسمة جور ؟ فقال : قسمة عدل . فأخذ جعفر فرخين وترك فرخاً واحداً . فقال الرشيد : أهذا العدل ؟ قال : نعم . معي فرخان ، ومعك فرخان . قال : فأين الآخر ؟ قال : هذا ، وأومأ إلى الفضل ، فتبسم الرشيد وقال : يا فضل ، لو تمسكت بولائنا لسقط هذا عنك . ولم يفهم الفضل ما قالا . قال بعضهم : حضرت عند بعض الكتّاب الأجلاّء ، وقد ناظره رجل في شيء فغصّصه الحجة ، فغاظه ، فقال له : يا مأبون ، فاعتمد الرجل بيديه على الأرض يقوم وأنشد : كلانا يرى الجوزاء يا جًمل إن بدت . . . ونجم الثريا والمزار بعيد قال المأمون لقارئ : اقرأ ، فقرأ : " فسوّلت له نفسه قتل اخيه فقتله " فأمر بحبسه . قال الجاحظ : كان عندنا أناس من الأزد ومعهم ابن حزن ، وابن حزن هذا عدوي ، وكان يتعصب لأصحابه من بني تميم ، وكانوا على النبيذ ، فسقط ذباب في قدح بعضهم ، فقال بعضهم : غط التميمي ، ثم سقط آخر في قدح آخر ، فقال : غطّ التميمي ، فلما كان في الثالثة قال ابن حزن : غطّه فإن كان تميمياً رسب وإن كان أزدياً طفا . يُعرّض بأن أزد عُمان ملاحون . نظر ابن الهفتي إلى دستيجة فيها من كل فاكهة أطيبها ، ومن كل ريحان أحسنه فرمقها ، ولحظها ، وشره إليها ، وكانت في منزل بخيل يعلم أنه يمنعه منها فقال للمغنى : بالله غنّني - تعريضاً بما رآه - . أيا زينة الدنيا التي لا ينالها . . . مُناي، ولا يدنو لقلبي صريمها دخل رجل من محارب قيس على عبد الله بن يزيد الهلالي - وهو بأرمينية فقال له عبد الله : ماذا لقينا البارحة من شيوخ محارب ؟ ما تركونا ننام - يعني الضفادع - فقال المحاربي : أصلحك الله ، إنهم أضلوا برقعا لهم فكانوا في بغائه . أراد الأول قول الشاعر : تكش بلا شيء شيوخ محارب . . . وما خلتها كانت تريش ولا تبرى ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت . . . فدلّ عليها صوتها حيّة البحر وأراد الآخر قول الشاعر : لكل هلاليّ من اللؤم برقع . . . ولابن يزيد برقع وجلال قال أبو عبيدة : بينا أشراف الكوفة بالكناسة إذ أقبل أسماء بن خارجة الفزاري ، فوقف ، وأقبل ابن المكعبر فوقف متنحياً عنه ، فأخذ أسماء خاتماً كان في يده ، فصّه فيروزج فدفعه إلى غلام ، وقال : اذهب إلى ذاك فادفعه إليه . يعني ابن المكعبر ، فأخذ ابن المكعبر شسع نعله ، فربطه في الخاتم وردّه . أراد الفزاري قول الشاعر : لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر . . . كما كل ضبيّ من اللؤم أزرق وأراد الضبيّ قول الشاعر : لا تأمننّ فزاريّاً خلوت به . . . على قلوصك واكتبها بأسيار قال رجل لآخر : مرحباً بأبي المنذر ، فقال : ليست هذه كنيتي ، فقال : نعم ، ولكنها كنية مُسيلمة . يعرّض بأنه كذاب . أسرت طيّء غلاماً من العرب ، فقدم أبوه ليفديه فاشتطّوا عليه ، فقال أبوه : لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبل طيّء ما عندي غير ما بذلته ، ثم انصرف وقال : لقد أعطيته كلاماً إن كان فيه خير فهمه . كأنه قال : الزم الفرقدين على جبل طيّء ، ففهم الابن تعريضه ، وطرد إبلاً لهم من ليلته ونجا . قال عمر بن هبيرة الفزاري لأيوب بن ظبيان النميري ، وهو يسايره : غضّ من بغلتك . فقال : إنها مكتّبة . أراد ابن هبيرة قول جرير : فغض الطرف إنك . . . وأراد النميري قول ابن دارة : لا تأمنن فزاريا خلوت به . . . ومر الفرزدق بمضّرس وهو ينشد قوله : تحمّل من وادي أشيقر حاضره . . .
وقد اجتمع عليه الناس ، فقال الفرزدق ، يا أخا بني فقعس ، متى عهدك بالقنان ؟ قال : تركته تبيض فيه الحمّر أراد الفرزدق قول نهشل بن حرى : ضمن القنان لفقعس سوآتها . . . إن القنان لفقعس لمعمّر وأراد مضرس قول أبي المهوّش الأسدي - يرد عليه - : قد كنت أحسبكم أسود خفيّة . . . فإذا لصاف تبيض فيه الحمّر وإذا تسّرك من تميم خصلة . . . فلما يسوؤك من تميم أكثر مر أبو خليفة المحاربي على أبي عمرو العدوي - عديّ تيم الرباب - وعندهم بقرة قد ذُبحت ، وكانت غثّةً ، فقال أبو خليفة : يا أبا عمرو ، ما ننفي عن دارنا جيفةً إلا صارت إليكم . فقال أبو عمرو : يا أبا خليفة ، إنما هي سحابة تمر فتغسل ذلك كله . أراد أبو خليفة قول الشاعر : إذا ما نفينا جيفةً عن ديارنا . . . رأيت عديّاً حول جيفتنا تسري وأراد أبو عمرو قول الشاعر : إذا كنت ندماني على الخمر فاسقني . . . بماء سحاب لم يخضه محارب عرض ابن هبيرة على ضبيّ كان يمازحه فصّ فيروزج . يعرّض بقول الشاعر : ألا كل ضبيّ من اللؤم أزرق دخل أبو الحسن بن طباطبا العلويّ على أحمد بن عثمان ، قاضي أصبهان - وكان قد هجاه بأهاج كثيرة - فأراد أن ينتصف منه ، فقال له : بلغني أنك تشعر وتُجيد . فقال : كذا يقول الناس . فقال تعريضاً بنسبه : أشعرت أن قريشاً لم تكن تجيد الشعر ؟
قال رجل متّهم في النسب لآخر مثله : يا دعيّ ، فأنشد تعريضاً به : عبد شمس أبوك وهو أبونا . . . لا نناديك من مكان بعيد قال بعضهم : اكتريت من جمّال فكان يحدو بنا في الطريق بقول الشاعر : أبلج بين حاجبيه نوره . . . ولا يزيد عليه ، فلما بلغنا المقصد قال : إذا تغدّى رُفعت ستوره . . . فقلنا : هلاّ حدوت به مع البيت الأول ؟ قال : خشية أن تحسبوا أني أعرّض بزادكم . قيل لابن مجاهد : إن الصّولي قد صنّف كتاباً في القرآن سمّاه " الشامل " فقال هو جيد الدّست . يُعرّض بأنه شطرنجي ، لا يحسن غيره . خرج المأمون يوماً ومعه رقعة مكتوب فيها : يا موسى . فقال : هل تعرفون له معنىً ؟ فقالوا : لا ، فقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري : يا أمير المؤمنين ، هذا إنسان يُحدّر إنساناً ، أما سمعت قوله تعالى : " قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " ؟ فقال المأمون : صدقت ، هذه صرف جاريتي كتبت إلى أختها مُتيّم جارية عليّ بن هشام : أني عازم على قتله ، فحذّرته . قال رجل من بني هاشم لأبي العيناء : يا حلقي ، فقال : مولى القوم منهم . يعرض بولائه فيهم . كان هشام بن عمرو التغلبي على نصيبين ، فخرج يشيّع أبا مسلم ، فقال أبو مسلم : كيف يقول عمك مهلهل : إني لأذكر ميتتي ، ونجيبتي . . . تحتي ، فأدفعها تخبّ ذميلا إني لأكره أن أعيش مظّلماً . . . طول الحياة ، وأن أعيش ذليلا فقال هشام لكاتبه : اكتب إلى أمير المؤمنين ، وعرّفه أن أبا مسلم قد خلع الطاعة . قيل : دخل الحسن بن سهل إلى المأمون فحلف عليه أن يشرب عنده فأخذ القدح بيده ، فقال له : بحقّي عليك إلاّ أمرت من شئت أن يغنّيك فأومأ الحسن إلى إبراهيم ابن المهدي . فقال له المأمون : غنّه يا إبراهيم ، فاندفع وغنّى : تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت . . . كما استعان بريح عشرق زجل فغضب المأمون ، ووثب عن مجلسه ، ودعا بإبراهيم فقال له : لا تدع كيدك وغلّك ؟ أنفت من إيمائه إليك ، فغنيته - معرّضاً بما يعرّض له من السواد - بشعر فيه ذكر الوسواس ؟ والله لقد كنت أقدمت على قتلك حتى قال لي : إن قتلته فعلت ما فعله الناس قبلك ، وإن عفوت عنه فعلت ما لم يفعله أحد قبلك فعفوت عنك لقوله ، فلا تعد . قالوا : ما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله وآلات لم ير مثلها ، فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليهم ، فأمر بدار ففرشت له ، وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم ، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل - والناس جلوس على مراتبهم ، والحضين شيخ كبير - فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة : ائذن لي في معاتبته ؟ قال : لا ترده فإنه خبيث الجواب ، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له ، وكان عبد الله يُضعّف ، وكان تسوّر حائطاً إلى امرأة قبل ذلك ، فأقبل على الحضين فقال : أمن الباب دخلت يا أبا ساسان ؟ قال: أجل . أسنّ عمّك عن تسوّر الحيطان ، يعرض به ، قال : أرأيت هذه القدور ؟ قال : هي أعظم من ألا ترى . قال : ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها ؟ قال : أجل ، ولا عيلان لو كان رآها سُمّي شبعان ، ولم يُسمّ عيلان ، قال له عبد الله : يا أبا ساسان : أتعرف الذي يقول :
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل . . . تجر خصاها تبتغي من تحالف قال : أعرفه ، وأعرف الذي يقول : وخيبة من يخيب على غنيّ . . . وباهلة من يعصر والركاب يريد يا خيبة من يخيب . قال : أفتعرف الذي يقول : كنا فقاح الأزد حول ابن مسمع . . . إذا عرقت أفواه بكر بن وائل قال : نعم و أعرف الذي يقول : قوم قتيبة أمهم وأبوهم... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل قال : أما الشعر فأراك ترويه ، فهل تقرأ من القرآن شيئاً ؟ قال : أقرأ منه الأكثر الأطيب " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا " قال : فأغضبه ، فقال والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حُملت عليه وهي حامل من غيره . قال : فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى ، ثم قال على رسله : وما يكون ؟ تلد غلاماً على فراشي فيقال : فلان ابن الحضين ، كما يقال : عبد الله بن مسلم . فأقبل قتيبة على عبد الله وقال : لا يُبعد الله غيرك . بعث بشّامة بن الأعور العنبري إلى أهله بثلاثين شاةً ونحى صغير فيه سمن ، فسرق الرسول شاةً واحدةً وأخذ من رأس النحي شيئاً من السمن . فقال لهم الرسول ، ألكم إليه حاجة أخبره بها ؟ قالت امرأته : أخبره ، أن الشهر محاق ، وأن جدينا الذي كان يطالعنا وجدناه مرثوما . فاسترجع منه الشاة والسمن .
مر ابن أبي علقمة بمجلس بني ناجية ، فكبا حماره لوجهه ، فضحكوا ، فقال : ما يضحككم ؟ رأى وجوه قريش فسجد . عرّض بنسبهم . كان البراء بن قبيصة صاحب شراب ، فدخل إلى الوليد بن عبد الملك وبوجهه أثر . فقال : ما هذا ؟ قال : فرس لي أشقر ركبته فكبا بي . فقال : لو ركبت الأشهب لما كبا بك . يريد الماء .