الباب العشرون نوادر ابن أبي عتيق
دخل على عائشة - وكانت عمّته - في مرضها الذي ماتت فيه ، فقال : كيف أصبحت ؟ جعلني الله فداك ، قالت : أجدني ذاهبة . قال : فلا إذن . كانت له جارية ، ولها صديق ، فكان يجيء كل عشية فيصيح من الباب : اقدحوا لنا ناراً ، فتخرج إليه الجارية . فخرجت الجارية مرة إلى البستان ، وجاء الرجل على العادة فقال : اقدحوا لنا نارا . فصاح ابن أبي عتيق : يا هذا ، قدّاحنا في هذه الليلة في البستان . قال : بينا هو مرّة على سطحه ، وجارية له تعشّيه، إذ مطرت عليه حجارة من فوق السطح ، فأشرف فإذا فتىً يرمي بها ويؤذن الجارية بمجيئه . فقال له : عافاك الله . الساعة تعشّيني وتنزل إليك . وقالت له جاريته يوماً : إن فلاناً القارئ - وكان يُظهر التنسك - قد قطع عليّ الطريق وآذاني ويقول لي : أنا أحبك . فقال لها : فقولي له : وأنا أيضاً أحبك ثم واعديه المنزل ، ففعلت ، وأدخلته المنزل ، وكان قد واعد جماعة من أصحابه ؛ ليضحكوا من الرجل . ودخلت الجارية إلى البيت الذي فيه الرجل ، فدعاها ، فاعتلت عليه ، فوثب إليها ، فاحتمالها ، وضرب بها الأرض . فدخل عليه ابن أبي عتيق وأصحابه ، وقد تورّكها ، فخجل وقام ، وقال : يا فساق ، ما تجمّعكم هنا إلا لريبة . فقال ابن أبي عتيق وأصحابه : استر علينا ، ستر الله عليك.
تغدّى يوماً عند عبد الله بن جعفر ، في عدّة من قريش ، وإذا الكريم رثّ الثياب ، فقال ابن أبي عتيق : أصلحك الله ، ما تُطعمنا إلا في كفارة يمين . وقع بين حيّين من قريش منازعة ، فخرجت عائشة على بغلة ، فلقيها ابن أبي عتيق فقال : إلى أين ؟ جُعلت فداك . فقالت : أُصلح بين هذين الحيين . قال : والله ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل ، فكيف إذا قيل يوم البغل ؟ فانصرفت . ولما بلغه قول نُصيب : وُلدت ولم أُخلق من الطير إن بدا . . . سنا بارق نحو الحجاز أطير قال : قل : غاق غاق وطر ، أي أنك غراب ، لأنه كان أسود . ولقي ابن أبي عتيق عبد الله بن عمر فقال له : ما تقول في إنسان هجاني ، فقال لي : أذهبت مالك غير مُترك . . . في كل مومسة وفي الخمر ذهب الإله بما تعيش به . . . وبقيت وحدك غير ذي وفر ؟ فقال : أرى أن تأخذ بالفضل وتصفح . فقال له ابن أبي عتيق : أنا ، والله أرى غير ذلك . قال : وما هو ؟ قال : أرى أن أنيكه . فقال عبد الله : سبحان الله ما تترك الهزل ؟ وافترقا ، ثم لقيه ابن أبي عتيق بعدما ظن أن ابن عمر قد نسي ذلك ، فقال له : أتدري ما فعلت بذلك الإنسان ؟ قال : أي إنسان ؟ قال الذي أعلمتك أنه هجاني . قال : ما فعلت به ؟ قال : كل مملوك لي فهو حر إن لم أكن قد نكته ، فأعظم ذلك ابن عمر ، واضطرب . فقال له ابن أبي عتيق : امرأتي - والله - هي التي قالت الشعر وهجتني . قال : وامرأته أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله .
كان ابن أبي عتيق يتعشّى ، ومعه رجل من الأنصار ، فوقع حجر في الدار ، ووقع آخر ، وثالث . فقال لجاريته : اخرجي فانظري أذنّوا للمغرب ؟ فخرجت وجاءت بعد ساعة وقالت : قد أذنّوا وصلّوا . فقال له الرجل الذي كان عنده : أليس قد صلينا قبل أن ندخل ؟ قال : بلى ، ولكن لو لم أرسلها تسأل عن ذلك لرُجمنا إلى الغداة ، أفهمت ؟ قال : نعم قد فهمت . ولما سمع قول عمر بن أبي ربيعة : من رسولي إلى الثريا فإني . . . ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب ركب بغلته من المدينة يريد مكة ، فلما بلغ قيل له : أحرم . قال : إن ذا الحاجة لا يحرم . وجاء حتى دخل على الثريا ، فقال : ابن عمّك يقول : ضقت ذرعاً بهجرك والكتاب . . . ثم ركب بغلته وعاد . وقال مروان بن الحكم يوماً إني مشغوف ببغلة للحسن بن عليّ - عليهما السلام - فقال له ابن أبي عتيق : إن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجة ؟ ومروان يومئذ أمير بالمدينة . قال : نعم ، قال : إذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش ، وأمسك عن ذكر الحسن ، فلُمني على ذلك ، فلما أخذ القوم مجالسهم أفاض في أوليّة قريش . فقال له مروان : ألا تذكر أوليّة أبي محمد ، وله في هذا ما ليس لأحد ؟ قال : إنما كنا في ذكر الأشراف ، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدّمنا لأبي محمد ماله . فلما خرج ليركب تبعه ابن أبي عتيق ، فقال له الحسن - عليه السلام ، وتبسّم - ألك حاجة ؟ فقال ذكرت البغلة ، فنزل الحسن ودفعها إليه . ولما ولي عثمان بن حيان المُرّيّ المدينة اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار ، فقالوا : إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والزنا .
ففعل ، وأجلّهم ثلاثاً ، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة ، فحطّ رحاله بباب سلاّمة الزرقاء ، وقال لها : بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي . فقال : أو ما تدري ما حدث ؟ وأخبرته الخبر . فقال : أقيمي إلى السحر حتى ألقاه . قالت: إني أخاف ألاّ نغني . قال : إنه لا بأس عليك . ثم مضى إلى عثمان بن حيّان ، فاستأذن عليه وأعلمه أن أجدّ ما أقدمه حب التسليم عليه ، ثم قال : إن أفضل ما عملت تحريم الغناء . فقال : إن أهلك أشاروا عليّ بذلك . فقال : إنك قد وُقّفت ، ولكني رسول امرأة إليك ، تقول : قد كانت هذه صناعتي ، فتبت إلى الله منها ، وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي عليه السلام . فقال عثمان : إذا أدعها لك . قال : إذن لا يدعك الناس . ولكن تدعو بها فتنظر إليها ، فإن كانت ممن يُترك تركتها . قال : فادع بها . فأمرها ابن أبي عتيق فتقشّفت وأخذت بيدها سبحةً ، وصارت إليه ، فحدثته عن مآثر آبائه ، ففكه لها ، فقال لها ابن أبي عتيق : اقرئي للأمير ، فقرأت ، فأُعجب بذلك . فقال لها : احدى للأمير . فحّركه حُداؤها . فقال له ابن أبي عتيق : فكيف لو سمعتها في صناعتها ؟ فقال : قل لها فلتقل ، فأمرها فغنت : سددن خصاص الخيم لما دخلنه . . . بكل لبان واضح وجبين فنزل عثمان عن سريره حتى جلس بين يديها ، وقال : لا والله ، ما مثلك يخرج عن المدينة . فقال ابن أبي عتيق : يقول الناس : أذن لسلامة في المقام ، ومنع غيرها . قال عثمان : قد اذنت لهم جميعا . وقيل لابن أبي عتيق لما خُصي المخنثون : إن الدلال قد خُصي . فقال : إنا لله ، أما والله لئن فُعل ذلك به لقد كان يحسن : لمن ربع بذات الجي . . . ش أمسى دارساً خلقا ثم استقبل القبلة يُصلّي ، فلما كبّر سلّم ثم التفت إلى أصحابه وقال : اللهم كان يُحسن خفيفه ، فأما ثقيله فلا ، الله أكبر .
وجاء إليه رجل : فقال : جئتك خاطباً موّدتك . قال : فهلاّ سفاحاً فهو ألذ ؟ وجلس يوماً مع أبي بكر حزم في مجلس القضاء - وأبو بكر يومئذ على المدينة وعلى قضائها - فخاصمت إليه امرأة متنقبة ، لها عين حسنة حوراء ، فأقبل أبو بكر على ابن أبي عتيق فقال : ما تقول في أمر هذه المرأة ؟ فقال : لها عين مظلومة ، إلى أن طالت الخصومة وأزلفتها ، فكشفت وجهها ، فإذا أنف ضخم قبيح ، فقال ابن أبي عتيق : لها أنف ظالمة . وجلس يوماً يتغدّى ، ومعه أولاده ، فجعلوا يتناولون اللحم من بين يديه . فقال : يا بني ، إن الله أوصى بالوالدين ، فقال : " فلا تقل لهما أفّ " والله لأن تقولوا لي : أفّ ثلاثين مرةً أيسر عليّ من أخذكم اللحم من بين يديّ . وكان يخاصم القاسم بن محمد في صدقة أبي بكر ليليها معه ، فوكّل القاسم عبد الرحمن ابنه بخصومته ، وكانت دار يزيد بن عبد الملك تُبنى بالمدينة بالّلعابين الدفوف ، والزمر ، والصنج . فتقدّم ابن أبي عتيق يوماً من ذاك إلى القاضي ، وهو في رحبة القضاء ، فجعل عبد الرحمن يُخاصمه ويحتج عليه ، وابن أبي عتيق نفسه وعينه في ذلك اللعب ، فعلاه عبد الرحمن يومئذ . فقيل لابن أبي عتيق : ما كانت قصّتك ؟ ما قُمت اليوم له ، ولا قعدت ، ولا احتججت عليه ؟ فقال : " ألوى بحُجّتي الزامر " . وكان يوماً مع عروة بن الزبير ، وهم يجمع ، إذ ترنم ابن أبي عتيق بقول الشاعر : ألم ترها لا يبعد الله دارهاإذا ما مشت في مشيها كيف تصنع ؟ فقال عروة : سبحان الله أفي هذا الموضع وعلى هذه الحال ؟ فقال : أما والله لو سمعته من جارية حسنة الوجه والخلق ما أدركت ذكائك ومرّ بصبيان يلعبون ، فقال : يا أصحابي ، ما ذقنا عيشاً منذ فارقناكم . اشتاق عبد الله بن عروة إلى حديث ابن أبي عتيق ، فبعث إليه يسأله أن يجيئه . فقال للرسول : قل له : موعدك الحوض . فقال عبد الله بن عروة : هذا موعد مغمّس ، ارجع إليه فقل له : أيّ حوض ؟ فقال : حوض القيامة . فرجع الرسول وأخبره . فضجر عبد الله وقال : قل له : يا سفيه ، أتعدني حوضاً لا ترده ؟