الجزء السابع - الباب الثالث والعشرون نوادر ابن الجصاص

الباب الثالث والعشرون نوادر ابن الجصاص

كان ابن الجصاص يتّجر في الجواهر ، وكانت له ثروة عظيمة ، ومحلّ عند الخلفاء . ونُكب في أيام المقتدر ، فبلغت مصادرته التي أداها ثمانية آلاف ألف دينار ، وكان مغفّلاً . وهو الذي كانت في فمه درة وأراد أن يبصق ، فبصق على الخليفة ورمى بالدرة في دجلة ، وهو يظن أنه قد ناول الخليفة الدرة وبصق في الماء . وعرض على بعض الخلفاء عقداً مثمّناً فقال : هل رأيت في عرس أمك مثله ؟ وكان إذا قنت يقول في دعائه : يا أويس القرني ، يا كعب الأحبار بحقّ محمد وجرجيس إلا وسعت أمتك على الدقيق . وكان يقول أيضاً في دعائه : اللهم اغفر لي من ذنوبي ما تعلم وما لا تعلم . ودخل يوماً على ابن الفرات فقال : يا سيدي ، عندنا في الجزيرة كلاب لا يتركونا ننام من الصياح والقتال . قال : أحسبهم جراءً . قال : لا تظن ذلك أيها الوزير ، كل كلب مثلي ومثلك . ونظر يوماً في المرآة فقال : اللهم سوّد وجوهنا يوم تسودّ الوجوه ، وبيّضها يوم تبيض الوجوه .

وقال بعضهم : اطلعت عليه وهو يقرأ في المصحف ويبكي وينتحب ويشهق ، فقلت له : مالك ؟ قال : أكلت اليوم مع الجواري المخيض بالبصل فآذاني ، فلما رأيته في المصحف " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض " قلت : ما أعظم قدرة الله قد بيّن كل شيء حتى أكل اللبن مع الجواري . وأراد مرة أن يدنو من بعض جواريه فمنعته وتشاجت عليه ، فقال : قد - والله - أغضبتني ، أُعطى الله عهداً إن قربتك سنة ، ولا قربك أحد بسببي. وقرأ مرةً في المصحف ، فجعل يقول : رخيص ، فقيل له في ذلك . فقال : ويحك أما ترى تفضّل الله جلّ وعزّ ، يقول : " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا " أما هذا رخيص ؟ وعزّاه إنسان عن ميّت له وقال : لا تجزع واصبر . فقال: نحن قوم لم نتعوّد الموت . وقال يوماً : أنا أشتهي بغلة مثل بغلة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أسميها دلدل . وقال يوماً : قد خريت على يدي ، لو غسلتها ألف مرة لم تتنظف حتى أغسلها مرتين . ونظر في المرآة ثم قال لإنسان عنده : ترى لحيتي قد طالت ؟ فقال له ذلك الحاضر : المرآة في يدك . فقال : صدقت ، ولكن يرى الشاهد ما لا يرى الغائب . ودخل عليه بعضهم ، ومعه ابن له ، فقال له : هذا ابنك ؟ قال : نعم . قال : وليس لأمه غيرك ؟ قال: ويصلح في دينكم لامرأة زوجين ؟ قال : لا ، ولكني اردت صحة أمرها منك ، وكيف جاء هذا الولد الذي لا يشبهك . وسمع رجلاً ينشد شعراً في هند . فقال : لا تذكروا حماة النبي إلا بخير . وقال بعضهم : كنت عند أبي إسحاق الزجاج النحوي أعزيه بأمه وعنده الرؤساء إذ أقبل ابن الجصاص ودخل ضاحكاً ، وهو يقول : الحمد لله يا أبا إسحاق . قد - والله - سرّني . فدهش الزجاج ومن حضر ، فقال بعضهم : يا هذا ، كيف سرّك ما غمّه وغمنا له ؟ قال : ويحك إنه بلغني أنه هو الذي ، فلما صح عندي أنها هي التي ، سرني . فضحك الناس . وقرأ يوماً في المصحف : " أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرّطت في جنب الله " فقال : فديت جنبك يا سيدي ، أيش أصاب جنبك يا مولاي ؟ عز عليّ ، ليت بي ما بك يا سيدي . كان يكسر مرة بين يديه لوز ، فطفرت لوزة ، وأُبعدت ، فقال : لا إله إلا الله تعجباً من كل شيء هرب من الموت حتى في البهائم . ومن دعائه : اللهم أرخص السوق على الدقيق ، اللهم إنك تجد من تغفر له غيري ، ولا أجد من يعذبني سواك ، حسبي الله اللهم امسخني حورية وزوجني من عمر بن الخطاب . فقالت زوجته له : سل أن يزوجك من النبي عليه السلام ، إن كان ولا بد فقال : لا أحب أن أصير ضرة عائشة . وصلّى خلف الإمام ، فلما قال : " ولا الضالين " قال ابن الجصاص : أي لعمري أراد آمين . وقرأ يوماً في المصحف " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ثم قال : يحق له أن يخري - والله - من أدخل النار ، يخرى ثم يخرى . وقال لابن الفرات يوماً : أعز الله الوزير ، امنع هؤلاء الزنادقة من الاجتماع ؛ فإنه بلغني أنهم يتكلمون بالكبائر . قال : وما الذي يقولون ؟ قال : بلغني أنهم يقولون : إن الصور ليس هو من قرن . وأتاه غلامه يوماً بفرخ وقال : انظر هذا الفرخ ، ما أشبهه بأمه قال : أمه ذكر أم أنثى ؟ . وقال يوماً أتبّرك بكتب أحمد بن حنبل، وما أعمل كل يوم شيئاً حتى أمرّها على وجهي . قيل له : فأين أنت من القرآن ؟ قال : أما هذا فقد جربته . وسمع آية من القرآن في بعض المجالس ، فقال : حسن والله ، هاتوا دواةً وقرطاساً اكتب هذا . قالوا له : هذا من القرآن ، وفي دارك خمسون مصحفاً .

فكتبها وقال : لكل جديد لذة ، وبعث بها إلى معلّم ولده وأمره أن يحفّظهم ذلك . وبنى ابنه دارا ، فأدخل أباه إليها ليبصرها ، وقال : انظر يا أبة ، هل ترى عيباً ؟ فطافها حتى دخل المستراح ، فاستحسنه ، وقال : فيه عيب واحد ، وهو ضيق بابه فإن المائدة لا تدخله . وكتب إلى وكيل له بأن يحمل إليه مائة مناً قطناً ، فحملها فلما حُلجت استقل الحليج وكتب إلى وكيله : إنه لم يحصل من هذا القطن إلا ربعه ، فلا تزرع بعدها قطناً بحبه ، وازرع الحليج ، ويكون معه أيضاً شيء من الصوف . وقال مرة لمغنية غنّي : خليليّ هُبّا نصطبح بسماد يريد : بسواد . فقالت له : إذا عزمت على هذا فاصطبح وحدك . وقال يوماً : ينبغي للإنسان أن يصير إلى المقابر ليغتاظ . يريد : ليتعظ . وقال يوماً لصديق له : وحياتك الذي لا إله إلا هو . واستأذن يوماً على بعض الوزراء ، وعرض عليه شيئاً من الجوهر وقال : وقع هذا في السيق . فضحك الوزير . فقال : أعز الله الوزير ، إن في تحفض ما بعدها . وتردد إلى بعض النحوين ليصلح لسانه ، فقال له بعد مدة : الفرس بالسين أو بالصين ؟ وقال يوماً : قمت البارحة إلى المستراح ، وقد طُفئ القنديل ، فما زلت أتلمّظ المقعدة حتى وجدتها .

وقال يوماً لعبيد الله بن سليمان : أيها الوزير ، أنت سيف الله في أرضه ، فلا تقع على شيء إلا هرّيته ، ولا يقع عليك شيء إلا هرّاك ، فأنت مثل الشوك لا يمشي عليه إنسان إلا دخل في رجله ، ولا يدخل في رجل إنسان إلا أوجعه . وانبثق له كنيف ، فقال لغلامه : بادر وأحضر من يُصلحه حتى نتغدّى به قبل أن يتعشّى بنا . وأهدى إلى العباس بن الحسن الوزير نبقاً وكتب إليه : تفيّلت بأن تبقى . . . فأهديت لك النبقا فكتب في جوابه : لم تتفيل يا أبا عبد الله ، ولكنك تبقّرت .