الجزء السابع - الباب السادس والعشرون اتفاقات عجيبة في الجد والهزل

الباب السادس والعشرون اتفاقات عجيبة في الجد والهزل

قال حمّاد بن الزبرقان : حفظت ما لم يحفظ أحد ، ونسيت ما لم ينس أحد . كنت لا أحفظ القرآن ، فأنفت أن أجيء بمن يعلّمني ، فحفظته من المصحف في شهر واحد . ثم قبضت يوماً على لحيتي لأقص ما فضل عن قبضتي فنسيت أني أحتاج أن أقصّ ما دون القبضة فقصصت أعلاها ، فاحتجت أن أجلس في البيت سنةً إلى أن استوت . حدّث أبو عاصم النبيل بحديث فقال : حدثني أبو بكر ابني عني . وكان الابن كتبه عنه ونسيه الأب فذكّره . وفي ضد ذلك ، ما حكاه الصاحب رحمه الله عن بعضهم ، قال : كان يقول : حدثني ابني عني كأنه أعلم به مني ، على معنى قولهم : " كمعلمة أمّها البضاع " . قال بعضهم : من طرائف المحبان أني بت ليلة عند قوم ، وحركتني الطبيعة في بعض الليل، ولم أعرف موضع الخلاء ، فوقعت على بيت فيه مهد ، وفيه صبي نائم وليس عنده أحد ، فعمدت إلى الصبي فأخرجته من المهد ، وجعلته في حجري ، وجمعت عليه ذيلي ، وحوّلت استي على المهد وخريت فيه ، وقمت أرد الصبي ، فإذا به قد وضع في حجري أضعاف ما خريت في مهده ، فبقيت متحيّراً في محنة ، ما أعلم أن أحداً دُفع إلى مثلها . وحكي أنه فعل مثل ذلك إنسان آخر ببستوقة فيها صحناة ، في دار رجل كان قد أضافه ، وأنه قدّم إليه ذلك في طعامه من غد . قال عبد الملك بن عمر الليثي : دخلت على عبد الملك بن مروان وهو جالس في بهو على سرير ، وقد وضع بين يديه رأس مصعب بن الزبير . فلما رأيته قلت متعجباً : لا إله إلا الله لقد رأيت اليوم عجباً تذكرت به عجائب . قال : وما ذاك ؟ قلت : رأيت عبيد الله بن زياد في هذا البهو جالساً على هذا السرير ، وبين يديه رأس الحسين بن علي ، عليه السلام . ثم دخلت بعد ذلك على المختار في هذا البهو جالساً على هذا السرير ، وبين يديه رأس عبيد الله بن زياد . ثم دخلت على مصعب في هذا البهو على هذا السرير ، وبين يديه رأس المختار . وقد دخلت عليك يا أمير المؤمنين في هذا البهو على هذا السرير ، وبين يديك رأس مصعب . فبادر عبد الملك ونزل عن السرير ، وخرج من البهو ، وأمر بهدمه . قُرئ في أخبار البرامكة : أنه وجد في بعض الأوارجات السلطانية في أولها : وما حُمل إلى الأمير أبي الفضل جعفر بن يحيى أعزه الله لهدية النيروز من العين الطرز مائة ألف دينار . وفي آخر الحساب : وما أُخرج لثمن النفط والبواري والحطب لإحراق جثة جعفر بن يحيى بضعة عشر درهماً . ركب يزيد بن نهشل النهشلي بعيراً له ، فلما استوى في غرزه قال : اللهم إنك قلت : " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " . اللهم إني أشهدك أني له مقرن . فنفر البعير ، وتعلّقت رجله في الغرز ، والبعير يجمز به حتى مات . قال ثعلب : قال السدّيّ : أتيت كربلاء أبيع البزبها ، فعمل لنا شيخ من طيّ طعاماً فتعشينا عنده ، فذكرنا قتل الحسين ، رضي الله عنه ، فقلت : ما شرك في قتله أحد إلا مات بأسوأ ميتة . فقال : ما أكذبكم يا أهل العراق فأنا فيمن شرك في ذلك . فلم نبرح حتى دنا من المصباح وهو يتّقد بنفط ، فذهب يُخرج الفتيلة بإصبعه ، فأخذت النار فيها ، فجعل يطفئها بريقه ، فأخذت النار في لحيته ، فعدا فألقى نفسه في الماء ، فرأيته كأنه حممة . قالوا : كان بمدينة السلام رجل ذو يسار ، فبينا هو ذات يوم في منزله - وقد جلس ليأكل مع امرأته ، وبين يديه سكباجة قد فاحت رائحتها - إذ دنا سائل من الباب ، وكان ممن امتحن بنكبة بعد نعمة ، فقال : أطعموني من فضل ما رزقكم الله. فقامت المرأة وغرفت له من القدر ، وأخذت رغيفين لتناوله . فلما رأى الزوج ذلك حلف عليها ألاّ تدفع إليه شيئاً، ومضى السائل خائباً حزيناً ، واستوفى الرجل طعامه ، وصعد السطح لبعض حوائجه فعثر بشيء وانتكس ، فسقط في الأرض ، ووقص ومات . وحازت المرأة ميراثه وتصرفت فيه ، وفرقّت شيئاً من أسبابه الرثّة في المساكين ، فكان في جملتها مضرّبة خلقة وقعت إلى هذا الرجل السائل ففتّها ليغسلها ويجعلها قميصاً يلبسه ، فوجد فيها ألف دينار ، فأخذها وغيّر بها حاله . وضرب الدهر ، وأتت على ذلك الأيام ، فطلب امرأة يتزوجها . فقالت له بعض الدلاّلات : هاهنا امرأة صالحة قد ورثت ، فما تقول في مواصلنها ؟ فأنعم لها . فسعت الدلالة بينهما حتى اتفقا واجتمعا ، فلما دخل بها تحدثا ذات يوم فقالت المرأة : فاعلم أن هذه الدار التي وقفت عليها ، وأنا تلك المرأة ، وأن زوجي صعد في ذلك اليوم السطح فسقط ومات . وقد أورثك الله ماله ومسكنه وزوجته ، فسجد الرجل شكراً ، وحدّث إخوانه تعجّباً . قال بعض تجار البحر : حملنا مرةً متاعاً إلى الصين من الأبلة - وكان قد اجتمع ركب فيه عشر سفن ، قال : ومن رسمنا إذا توجهنا في مثل هذا الوجه أن نأخذ قوماً ضعفاء ، ونأخذ بضائع قوم - فبينا أنا قد أصلحت ما أريد إذ وقف عليّ شيخ ، فسلّم ، فرددت ، فقال : لي حاجة قد سألتها غيرك من التجار فلم يقضها . قلت: فما هي ؟ قال : اضمن لي قضاءها حتى أقول . فضمنت ، فأحضرني رصاصةً فيها نحو من مائة منّا ، وقال لي : تأمر بحمل هذه الرصاصة معك ، فإذا صرتم في لجّة كذا فاطرحها في البحر . فقلت : يا هذا ، ليس هذا مما أفعله . قال : فقد ضمنت لي . وما زال بي حتى قبلته ، وكتبته في رزنامجي . فلما صرنا في ذلك الموضع عصفت علينا ريح فنسينا أنفسنا وما معنا ، ونسيت الرصاصة ، ثم خرجنا من اللجة وسرنا حتى بلغنا موضعاً ، فبعت ما صحبني. وحضر بي رجل فقال لي : أمعك رصاص ؟ فقلت ليس معي رصاص ، فقال لي غلام : معنا رصاص . قلت : لم أحمل رصاصاً معي . قال : بلى ، الشيخ سلّم إليك ، فذكرت فقلت : خالفناه وبلغنا هاهنا وما عليّ أن أبيعه ، فإن ذلك فيه ما أراد . فقلت للغلام : أحضرها ، وساومني الرجل بها ، فبعتها بمائة وثلاثين دينارا . وابتعت بها للشيخ من طرائف الصين . وخرجنا فوافينا المدينة ، وبعت تلك الطرائف فبلغت سبعمائة دينار ، وصرت إلى البصرة إلى الموضع الذي وصفه الشيخ ، ودققت باب داره ، وسألت عنه ، فقيل : قد توفي قلت : فهل خلّف أحداً يرثه ؟ قالوا : لا نعلم إلا ابن أخ له في بعض نواحي البحر . قال : فتحيّرت ، وقيل لي : إن داره موقوفة في يد أمين القاضي ، فرجعت إلى الأُبُلّة والمال معي . فبينا أنا ذات يوم جالس إذ وقف على رأسي رجل فقال : أنت فلان ؟ قلت : نعم . قال : أكنت خرجت إلى الصين ؟ قلت : نعم . قال : وبعت رجلاً هناك رصاصا ؟ قلت : نعم . قال : أفتعرف الرجل وتأملته ؟ قلت : أنت هو . قال : نعم . إني قطعت من تلك الرصاصة شيئاً لاستعمله ، فوجدتها مجوفة ، ووجدت فيها اثني عشر ألف دينار ، وقد جئت بالمال ، فخذ ، عافاك الله . فقلت له : ويحك والله ما المال لي ، ولكنه كان من خبره كذا وكذا ، وحدثته . قال : فتبسم الرجل ، ثم قال : أتعرف الشيخ ؟ قلت : لا . قال : هو عمي ، وأنا ابن أخيه ، وليس له وارث غيري ، وأراد أن يزوي هذا المال عني ، وهو هرّ بني من البصرة سبع عشرة سنةً ، فأبى الله إلا ما ترى على رغمه . قال : فأعطيته الدنانير كلّها ومضى إلى البصرة وأقام بها . قال بعضهم : جلس رجل إلى قوم ، فصاح به إنسان من خلفه ، فالتفت إليه فمات . فقيل لابنه : كيف مات أبوك ؟ فحكى لهم كيف مات أبوه والتفت ومات هو أيضاً . قال يحيى بن اليمان : رأيت رجلاً بات أسود الرأس واللحية شابّاً ملء العين ، نام ليلةً فرأى في منامه كأن الناس قد حُشروا ، وإذا بنهر من لهب النار ، وإذا بجسر يجوز الناس عليه ، يُدعون بأسمائهم . فإذا نودي الرجل أجاب ، فنجا أو هلك . قال : فدُعي باسمي ، فدخلت الجسر ، فإذا هو كحدّ السيف يمور بي يميناً وشمالاً . قال : فأصبحت أبيض الرأس واللحية . قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر : حدثنب أبو محمد الرباطي - رباط خاوة من عمل جرجان - قال : كنت قباراً ، فبينا أنا في منزلي إذ طرقني ليلاً ركب مستعجلين فركبت ، فإذا أنا بشموع وخدم ، فأمروني بالحفر ، فحفرت قبراً ، وأدعوه تابوتاً ، وعفيت عليه بالتراب ، وأجالوا خيلهم عليه ، تغويراً للموضع فانصرفوا . فظننت أنه كنز ، فأسرعن فانتشته ، وكشفت عن التابوت فإذا فيه رجل فوضعت يدي على أنفه ، فإذا هو قريب من التلف ، فاستخرجته وأعدت التراب إلى ما كان عليه ، واحتملته إلى منزلي . وعاد القوم حذراً أن يكون قد تُنُبّه على ما في التابوت ، ونفضوا الصحراء التي كان فيها ، فلم يجدوا أثراً ولا حسّاً لأحد ، وأنا مشرف من منزلي أرى ما يصنعون . فلما أمنوا مما توهمّوا انصرفوا . وترادّت نفس الرجل ، فسألته عن حاله . فقال : أنا محمد ابن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ ، رضي الله عنهم ، فأقام عندي إلى أن قويت نفسه وتراجعت ، ثم شخص إلى العراق ، ثم إلى الحجاز ، وظهر باليمن ، وبويع له بأمير المؤمنين ، ودخل مكة ، ثم خرج على عهدهم وبايع المؤمنون لابن أخيه عليّ بن موسى بالعهد ، فخرج محمد إلى المأمون بخراسان . وأدركته منيته بجرجان ، فاحتفرت له ودفنته ، فكان بين الدفنين عشر سنين . قالوا : كانت في عبد الصمد بن عليّ عجائب : منها أنه مات بأسنانه التي ولد بها ولم يثّغر وكانت أسنانه قطعةً واحدةً . ومنها أنه كان في قعدد يزيد بن معاوية ، هما في النسب إلى عبد مناف سواء . وقام على منبر قام عليه يزيد وبينهما مائة سنة . وحج بالناس في سنة مائة وسبعين وحجّ يزيد بالناس في سنة خمسين وبينهما مائة وعشرون سنةً . ومنها أنه دخل سربا فيه ريش فطارت ريشتان فلصقتا بعينيه فذهب بصره . ومنها أنه كان يوماً عند الرشيد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا مجلس فيه أمير المؤمنين ، وعمّه ، وعم عمّه وعم عم عمه يعني سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد ، والعباس بن محمد عم أبيه ، وعبد الصمد عم جده . ويقال : إن أم عبد الصمد هي كثيرة التي يقول فيها ابن قيس الرقيات : عاد له من كثيرة الطرب . . . ومن الاتفاقات العجيبة ، ما كان من المعتصم وإبراهيم بن المهدي . قال الصولي : لا نعرف خليفة قبل يد خليفة ثم قبل ذلك الخليفة بعينه يده ، إلا ما كان من فعل المعتصم بإبراهيم ثم فعل إبراهيم بالمعتصم . وحدّث قال: كان المعتصم في فتنة الأمين يمضي مع علي بن الجنيد إلى إسكاف فيقيم عنده ، ولا يقصر علي في خدمته وإكرامه والنفقة عليه . وكان علي أكثر الناس مزاحاً ، واحسنهم كلاماً . فآذاه المعتصم في شيء فقال علي : والله لا تفلح أبداً - على المزح - فحفظها المعتصم ، فلما دخل بغداد خليفةً ، أمر وصيفاً بإحضار عليّ ، فأحضروه ، وكان عدوّاً للفضل بن مروان فقال له : يا عليّ ، زعمت أني لا أفلح أبدا ، هل بعد هذا الفلاح شيء من أمر الدنيا ؟ فقال له : الذي أفلح عندي الفضل بن مروان ، فضحك المعتصم - وكان يقول : من ذلك اليوم اعتقدت أن أنكب الفضل - ثم قال : يا عليّ ، أتذكر حيث وقفت لإبراهيم بن المهدي بمرّبعة الخرسيّ فنزلت فقبّلت يده ، ثم أدنيت ابني هارون فقبّل يده ، وقلت : عبدك هارون ابني ، فأمر له بعشرة آلاف درهم ؟ قال عليّ : أذكر لك . قال : فإنه ترجّل لي اليوم وقبّل يدي في ذلك الموضع بعينه ، ثم قال لي : عبدك هبة الله ابني ، وأدناه وقبّل يدي ، فأمرت له بعشرة آلاف درهم ، ولم تطب له نفسي بغيرها . فقال : بئس والله ما فعل أمير المؤمنين . قال : وكيف ؟ ويلك قال : إبراهيم أمر لهارون بعشرة آلاف درهم وليس في يده إلا بغداد وحدها . وفي يد أمير المؤمنين الشرق والغرب . قال : صدقت ، أعطوه عشرة آلاف دينار . وفرّق المعتصم في أهله ثلاثين ألف درهم . دخل إيتاخ إلى الواثق وهو بآخر رمق لينظر هل مات أم لا ، فلما دنا منه نظر إليه الواثق بمؤخر عينه ففزع إيتاخ ورجع القهقري إلى أن وقع سيفه في ملبن الباب فاندق ، وسقط إيتاخ على قفاه هيبةً لنظرة الواثق . قيل : فلم تمض ساعةً حتى مات الواثق فعُزل في بيت ليُغسل ، واشتغلوا عنه ، فجاءت هرّة فأكلت عينه التي نظر بها إلى إيتاخ فتراجع وسقط واندق سيفه هيبةً منها ، فعجب الناس من ذلك . وكان إيتاخ زعيماً لسبعين ألف غلام تركيّ . ومثله لسان مروان بن محمد ، فإنه لمّا قُتل ، وأخذ رأسه وأرادوا إنفاذه إلى أبي العباس أمروا بتنظيفه ، فجاء كلب فأخذ لسانه وجعل يمضغه . فقال عبد الله بن عليّ : " لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم كلب لكفانا ذلك " . قيل : إنه كان سبب موت المنتصر ، أنه وجد حرارةً ، فقصد بمبضع مسموم فمات . وأن الطبيب الذي فعل به ذلك احتاج إلى الفصد بعد ايام ، فأخرج لتلميذه دست مباضع ليفصده ، وفيها ذلك المبضع ، وقد أُنسيه ، فقصده به تلميذه فمات الطبيب . وحُكي عن المستعين أنه قال : كان المنتصر قد جعلني في ناحية أخيه موسى الأحدب - وكان لأبيه وأمه - وأحسن إليّ ، فلما ثقل اغتممت ، ورأيت موسى مسروراً طامعاً في الخلافة ، فانصرفت إلى بيتي مغموماً فطرقني رسول أتامش ففزعت لذلك ، وودّعت أمي وخرجت مع جماعة من الموالي حتى أُدخلت حجرةً ، وجاءني كاتب فسكّن مني ، وجعل يؤنسني ويحدثني ويخدمني ، فأصبحت يومي صائماً . وأخرجوني في عشيّة ذلك اليوم ، فبايعوني . قال أحمد بن أبي الأصبغ : لما ولى المستعين الخلافة ، دعاني أحمد بن الخصيب - وقد استوزره - فقال لي : أكتب الساعة في إشخاص أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد ، من فارس بأسرع من عندك وأفرههم . فورد أبو صالح بعد شهر ، فمكث جمعة ودب في أمر أحمد بن الخصيب حتى ولّي مكانه ونفي أحمد بن الخصيب إلى أقريطش . قال : فدعاني أبو صالح حين ولّي فقال : اكتب الساعة إلى همذان في إشخاص شجاع بن القاسم إلى الحضرة ، ووجّه إليه بالذي جاء بي من فارس ، قال : ففعلت ذلك ، فوافى شجاع ، فتقلد كتبة أوتامش ، فلما تمكن نكب أبا صالح وقام مكانه .

خرج أبو العيناء - وهو ضرير له نيّف وتسعون سنة - إلى البصرة في سفينة فيها ثمانون نفساً ، فغرقت فلم يسلم غيره ، فلما صار إلى البصرة توفي بها وذلك في سنة اثنتين وثمانين ومائتين . كان الواقدي شيخاً سمحاً ، وأظله شهر رمضان ، ولم تكن عنده نفقة ، فاستشار امرأته بمن ينزل خلّته من إخوانه ؟ فقالت : بفلان الهاشمي . فأتاه فذكر له خلته فأخرج له صرة فيها ثلاثمائة دينار فقال : والله ما أملك غيرها . فأخذها الواقدي . فساعة دخل منزله جاءه بعض أخولته وشكا إليه ، خلته فدفع إليه الصرة بختمها ، وعاد صاحب الصرة إلى منزله . فجاءه الهاشمي فشكا خلته فناوله الصرة فعرفها الهاشمي ، فقال له : من أين لك هذه ؟ فحدثه بقصته ، فقال : قم بنا إلى الواقدي ، فأتوه . فقال له الهاشمي : حدثني عنك وعن إخراج الصرة فحدثه الحديث على وجهه فقال الهاشمي : فأحق ما يعمل في هذه الصرة أن نقتسمها ونجعل فيها نصيباً للمرأة التي وقع اختيارها عليه ، ففعلوا . جاء وفد من اليمن فقالوا : يا رسول الله ، لقد أحيانا الله تعالى ببيتين من شعر امرئ القيس . قال : وما ذاك ؟ قالوا : أقبلنا نريدك حتى إذا كنا بموضع كذا وكذا أخطأنا الماء ، فمكثنا ثلاثاً لا نقدر عليه ، فانتهينا إلى موضع طلح وسمر ، فانطلق كل رجل منا إلى أصل شجرة ليموت في ظلها . فبينا نحن في آخر رمق ، إذا راكب قد أقبل معتم ، فلما رآه بعضنا تمثل : لما رأت أن الشريعة همها . . . وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عندها ضارج . . . يفيء عليها الظل عرمضها طامي فقال الراكب : من يقول هذا الشعر ، فقال بعضنا : امرؤ القيس . قال : هذه والله ضارج عنكم - وقد رأى ما بنا من الجهد - فزحفنا إليها فإذا بيننا وبينه نحواً من خمسين ذراعاً ؛ وإذا هي كما وصف امرؤ القيس يفيء عليها الظل . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ذاك رجل مشهور في الدنيا خامل في الآخرة ، مذكور في الدنيا منسي في الآخرة ، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار " . قالوا : بينا حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي يتذاكران عجائب الزمان وتغير الأيام - وهما في عرصة إيوان كسرى ، وكان أعرابي من غامد يرعى شويهات له نهاراً ، فإذا كان الليل صيرهن إلى داخل العرصة ، وفي العرصة سرير رخام كان ربما عليه جلس كسرى ، فصعدت شويهات الغامدي إلى ذلك السرير - فقال سلمان : " ومن أعجب ما تذاكرنا صعود غنيمات الغامدي إلى سرير كسرى " . قال بعضهم : دخلت على صابح مولى منارة في يوم شات وهو في قبة طارمة مغشاة بالسمو ، مفروشة بالسمور ، وبين يديه كانون من فضة ، وهو يوقد عليه بعود . ثم مرت سنيات فرأيت صابحاً على حمار بإكاف يقف على الناس على الجسر فيقول : أنا صابح مولى منارة ، تصدقوا علي رحمكم الله ، فلا يطيعه كثير من الناس ، وإن أعطاه إنسان ، أعطاه درهماً واحداً فما دونه . قال الجاحظ : نصب ابن لمحمد بن إبراهيم - كاتب ابن أبي داود - فخاً على ظهر الطريق إلى جانب حائط . فجاء بعض الأتراك فبال في موضعه ، فلما أراد أن يتمسح ، نظر إلى نبكة مرتفعة فتمسح بها ، فوقع الفخ في ذكره وخصييه وظن التركي أنه أفعى ، فمر يعدو ، وابن محمد يعدو خلفه ويصيح : فخي ، فخي . والتركي يقول : فخ إيش ؟ ويلك فاجتمع الناس فخلصوا خصيي تركي من الفخ . وكتب بذلك صاحب البريد إلى المعتصم ، فلما دخل ابن أبي داود ، قال له : من كاتبك هذا الذي يصيد ابنه خصى الأتراك بالفخاخ ؟ فقال : والله ما أعرفه يا أمير المؤمنين ، فلما انصرف سأل عن الخبر ، وأخرج الغلام من داره . قال بعض الأعراب : أضللت بعيراً لي فخرجت في طلبه ، فبينا أنا أسير إذ رأيت خباء فإذا فيه جارية جميلة. فاستضفتها فأضافتني ، وقدمت إلي طعاماً ، فلما مددت يدي إليه ، طلع بعلها فقال : ما هذا ؟ قالت : ضيف استقرانا فقريناه .

فقال : وإنما تزوجت لتقرين الضيف ؟ اخرج عافاك الله ، فخرجت من الخباء وركبت بعيري وتركته يذهب حيث شاء ، قال : فأضاء لي الفجر عن فتى كأن وجهه فلقة قمر ، قلت : هل من مضافة ، قال : انزل فقدم إلي طعاماً ، فلما شرعت في الأكل إذا زوجته قد طلعت فقالت : ما هذا ؟ قال : ضيف استضافنا فأنزلناه . فقالت : إنما تزوجتك على أن تقري الأضياف ؟ قم عافاك الله واخرج . قال : فضحكت . فقال لي : مم ضحكت ؛ قلت : نزلت في أول الليل على جارية كان من قصتها كيت وكيت ، ثم نزلت عليك فكان من قصتك ما رأيت . قال : أفلا أخبرك بأعجب من ذلك ؟ قال : بلى . قال : تلك والله أختي لأبي وأمي ، وهذه أخت الرجل لأبيه وأمه . وصلى الله على محمد وآله.