الباب الثالث عشر: في وضع الجزية والخراج

الأحكام السلطانية والولايات الدينية

الماوردي

علي بن محمد حبيب، أبو الحسن الماوردي المولود عام 364 هـ -974 م والمتوفي عام 450 هـ 1058 م

الباب الثالث عشر: في وضع الجزية والخراج

والجزية والخراج حقان أوصل الله سبحانه وتعالى المسلمين إليهما من المشركين يجتمعان من ثلاث أوجه، ويفترقان من ثلاثة أوجه، ثم تتفرع أحاكمهما.

فأما الأوجه التي يجتمعان فيها، فأحدها أن كل واحد منهما مأخوذ عن مشرك صغاراً له وذمة. والثاني أنهما مالا فيء، يصرفان في أهل الفيء. والثالث أنهما يجبان بحلول الحول ولا يستحقان قبله.

وأما الأوجه التي يفترقان فيها: فأحدها أن الجزية نص وأن الخراج اجتهاد والثاني أن أقل الجزية مقدر بالشرع وأكثرها مقدر بالاجتهاد، والخراج أقله وأكثره مقدر بالاجتهاد. والثالث أن الجزية تؤخذ مع بقاء الكفر وتقسط بحدوث الإسلام، والخراج يؤخذ مع الكفر والإسلام. فأما الجزية فهي موضوعة على الرؤوس واسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغاراً، وإما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً.

والأصل فيها قوله تعالى: " قاتلوا الذي لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

أما قوله سبحانه " الذين لا يؤمنون بالله " فأهل الكتاب وإن كانوا معترفين بأن الله سبحانه واحد فيحتمل نفي هذا الإيمان بالله تأويلين: أحدهما لا يؤمنون بكتاب الله تعالى وهو القرآن: والثاني لا يؤمنون برسوله محمد صلى الله عليه وسلم: لأن تصديق الرسل إيماناً بالرسل.

وقوله سبحانه " ولا باليوم الآخر " يحتمل تأويلين أحدهما لا يعرفون وعيد اليوم الآخر وإن كانوا معترفين بالثواب والعقاب. والثاني لا يصدقون بما وصفه الله تعالى من أنواع العذاب.

وقوله " ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله " يحتمل تأويلين: أحدهما ما أمر الله سبحانه بنسخه من شرائعهم. الثاني ما أحله الله لهم وحرمه عليهم.

وقوله " لا يدينون دين الحق " فيه تأويلان: أحدهما ما في التوراة والإنجيل من اتباع الرسول وهذا قول الكلبي. والثاني الدخول في الإسلام وهو قول الجمهور.

وقوله " من الذين أتوا الكتاب " فيه تأويلان: أحدهما من دين أبناء الذين أوتوا الكتاب. والثاني من الذين بينهم الكتاب لأنهم من اتباعه كأبنائه.

وقوله تعالى " حتى يعطوا الجزية " فيه تأويلان أحدهما حتى يدفعوا الجزية، والثاني حتى يضمنوها لأن بضمانها يجب الكف عنهم.

وفي الجزية تأويلان: أحدهما أنها من الأسماء المجملة التي لا نعرف منا ما أريد بها إلا أن يرد بيان والثاني من الأسماء العامة التي يجب إجراؤها على عمومها إلا ما قد خصه الدليل.

وفي قوله سبحانه وتعالى " عن يد " تأويلان أحدهما عن غنى وقدرة. والثاني أن يعتقدوا أن لنا في أخذها منهم يداً وقدرة عليهم.

وفي قوله " وهم صاغرون " تأويلان: أحدهما أذلاء مستكينين. والثاني أن تجري عليهم أحكام الإسلام، فيجب على ولي الأمر أن يضع الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقروا بها في دار الإسلام. ويلتزم لهم ببذلها حقان: أحدهما الكف عنهم. والثاني الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين. روى نافع عن عمر قال: كان آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: " احفظوني في ذمتي " والعرب في أخذ الجزية منهم كغيرهم وقال أبو حنيفة لا آخذها من العرب لئلا يجري عليه صغار، ولا تؤخذ من مرتد ولا دهري ولا عابد وثن. وأخذها أبو حنيفة من عبدة الأوثان إذا كانوا عجماً ولم يأخذها منهم إذا كانوا عرباً، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى وكتابهم التوراة والإنجيل، ويجري المجوس مجراهم في أخذ الجزية منهم وإن حرم أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وتؤخذ من الصابئين والسامرة إذا وافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم وإن خالفوهم في فروعه، ولا تؤخذ منهم إذا خالفوا اليهود النصارى في أصل معتقدهم. ومن دخل في اليهودية والنصرانية قبل تبديلهما أقر على ما دان به منهما ولا يقر إن دخل بعد تبديلهما ومن جهلت حالته أخذت جزيته ولم تؤكل ذبيحته. ومن انتقل من يهودية إلى نصرانية لم يقر في أصح القولين وأخذ بالإسلام، فإن عاد إلى دينه الذي انتقل عنه ففي إقراره عليه قولان؟ ويهود خيبر وغيرهم في الجزية سواء بإجماع الفقهاء.

ولا تجب الجزية إلا على الرجال الأحرار العقلاء، ولا تجب على امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا عبد لأنهم أتباع وذراري. ولو تفردت منهم امرأة على أن تكون تبعاً لزوج أو نصيب لم تؤخذ منها جزية لأنها تعب لرجل قومها وإن كانوا أجانب منها، ولو تفردت امرأة من دار الحرب فبذلت الجزية للمقام في دار الإسلام لم يلزمها ما بذلته وكان ذلك منها كالهبة لا تؤخذ منها إذا امتنعت ولزمت ذمتها وإن لم تكن تبعاً لقومها.

ولا تؤخذ الجزية من خنثى مشكل، فإن زال إشكاله وبان أنه رجل أخذ بها في مستقبل أمره وماضيه.

واختلف الفقهاء في قدر الجزية، فذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف أغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهماً، وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهماً وفقراء يؤخذ منهم اثنا عشر درهماً. فجعلها مقدرة الأقل والأكثر ومنع من اجتهاد الولاة فيها. وقال مالك لا يقدر أقلها ولا أكثرها وهي موكولة لاجتهاد الولاة في الطرفين وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة الأقل بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل منه وعنده غير مقدرة الأكثر يرجع فيه إلى اجتهاد الولاة ويجتهد الولاة ويجتهد رأيه في التسوية بين جميعهم أو التفضيل بحسب أحوالهم، فإذا اجتهد رأيه في عقد الجزية معها على مرضاة أولى الأمر منهم صارت لازمة لجميعهم ولأعقابهم قرناً بعد قرن، ولا يجوز لوال بعده أن يغيره إلى نقصان منه أو زيادة عليه، فإن صولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم ضوعفت كما ضاعف عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع تنوخ وبهراء وبني تغلب بالشام، ولا تؤخذ من النساء والصبيان لأنها جزية تصرف في أهل الفيء فخالفت الزكاة المأخوذة من النساء والصبيان، فإن جمع بينهما وبين الجزية أخذتا معاً، وإن اقتصر عليها وحدها كانت جزية إذا لم تنقص في السنة عن دينار. وإذا صولحوا على ضيافة من مر بهم من المسلمين قدرت عليهم ثلاثة أيام وأخذوا بها لا يزادون عليها كما صالح عمر نصارى الشام على ضيافة من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون، ولا يكلفهم ذبح شاة ولا دجاجة وتبييت دوابهم من غير شعير وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن، فإن لم يشترط عليهم الضيافة ومضاعفة الصدقة فلا صدقة عليهم في زرع ولا ثمرة، ولا يلزمهم إضافة سائل ولا سابل.

ويشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: ومستحق ومستحب. أما المستحق فستة شروط أحدها أن لا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له. والثاني أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكذيب ولا إزدراء. والثالث أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه، والرابع أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح. والخامس أن لا يفتنوا مسلماً عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا دينه. والسادس أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يودوا أغنيائهم، فهذه الستة حقوق ملتزمة فتلزمهم بغير شرط، وإنما تشترط إشعاراً لهم وتأكيداً لتغليظ العهد عليهم ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضاً لعهدهم.

وأما المستحب فستة أشياء أحدها تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار والثاني أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية ويكونوا إن لم ينقصوا مساوين لهم والثالث أن لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم ولا تلاوة كتبهم ولا قولهم في عزيز والمسيح والرابع أن لا يجاهروهم بشرب خمورهم ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم. والخامس أن يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة، والسادس أن يمنعوا من ركوب الخيل عناقاً وهجاناً ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير، وهذه الستة المستحبة لا تلزم بعقد الذمة حتى تشترط فتصير بالشرط ملتزمة ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضاً لعهدهم، لكن يؤخذون بها إجباراً ويؤبون عليها زجراً، ولا يؤدبون إن لم يشترط ذلك عليهم. ويثبت الإمام ما استقر من عقد الصلح معهم في دواوين الأمصار ليؤخذوا به إذا تركوه، فإن لكل قوم صلحاً ربما خالف ما سواه، ولا تجب الجزية عليهم في السنة إلا مرة واحدة بعد انقضائها بشهور هلالية، ومن مات منهم فيها أخذ من تركته بقدر ما مضى منها. ومن أسلم منهم كان ما لزم من جزيته ديناً في ذمته يؤخذ بها وأسقطها أبو حنيفة بإسلامه وموته ومن بلغ من صغارهم أو أفاق من مجاننهم استقبل به حول ثم أخذ بالجزية، ويؤخذ العقير بها إذا أيسر وينظر بها إذا أعسر، ولا تسقط عن شيخ ولا زمن، وقيل تسقط عنهما وعن الفقير بها إذا أيسر وينظر بها إذا أعسر، ولا تسقط عن شيخ ولا زمن، وقيل تسقط عنهما وعن الفقير: وإذا تشاجروا في دينهم واختلفوا في معتقدهم لم يعارضوا فيه ولم يكشفوا عنه، وإذا تنازعوا في حق وترافعوا فيه إلى حاكمهم لم يمنعوا منه، فإن ترافعوا فيه إلى حاكمنا حكم بينهم بما يوجبه دين الإسلام وتقام عليهم الحدود إذا أتوها ومن نقض منهم عهده بلغ مأمنه ثم كان حرباً، لأهل العهد إذا دخلوا دار الإسلام الأمان على نفوسهم وأموالهم لهم أن يقيموا فيها أربعة أشهر بغير جزية، ولا يقيموا سنة إلا بجزية، وفيما بين الزمنين خلاف، ويلزم الكف عنهم كأهل الذمة، ولا يلزم الدفع عنهم بخلاف أهل الذمة.

وإذا أمن بالغ عاقل من المسلمين حربياً لزم أمانة كافة المسلمين، والمرأة في بذل الأمان كالرجل والعبد فيه كالحر. وقال أبو حنيفة: ولا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذوناً له في القتال، ولا يصح أمان الصبي ولا المجنون، ومن أمناه فهو حرب إلا أن جهل حكم أمانهم فيبلغ مأمنه ويكون حرباً.

وإذا تظاهر أهل العهد والذمة بقتال المسلمين كانوا حرباً لوقتهم فيقتل مقاتلهم ويعتبر حال ما عدا المقاتلة بالرضى والإنكار. وإذا امتنع أهل الذمة من أداء الجزية كان نقضاً لعهدهم، وقال أبو حنيفة وينقض به عهدهم، وقال أبو حنيفة وينقض به عهدهم إلا أن يلحقوا بدار الحرب، ويؤخذ منهم جبراً كالديون.

ولا يجوز أن يحدثوا في دار الإسلام بيعة و لا كنيسة، فإن أحدثوها هدمت عليهم؛ ويجوز أن يبنوا ما استهدم من بيعهم وكنائسهم العتيقة، وإذا نقض أهل الذمة عهدهم لم يستبح بذلك قتلهم ولا غنم أموالهم ولا سبي ذراريهم ما لم يقاتلوا ووجب إخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشرك، فإن لم يخرجوا طوعاً أخرجوا كرهاً.

وأما الخراج، فهو ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها وفيه من نص الكتاب بينة خالفت نص الجزية فلذلك كان موقوفاً على اجتهاد الأئمة، قال الله تعالى: "أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير".

وفي قوله أم تسألهم خرجاً وجهان: أحدهما أجراً، والثاني نفعاً. وفي قوله فخراج ربك خير وجهان: أحدهما فرزق ربك في الدنيا خير منه وهذا قول الكلبي. والثاني فأجر ربك في الآخرة خير منه، وهذا هول الكلبي أيضاً، وقوله فأجر ربك في الآخرة خير منه، هذا قول الحسن أيضاً. قال أبو عمرو بن العلاء: والفرق بين الخرج والخراج أن الخرج من الرقاب والخراج من الأرض. والخراج في لغة العرب اسم للكراة والغلة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان".

وأرض الخراج تتميز عن أرض العشر في الملك والحكم.

والأرضون كلها تنقسم أربعة أقسام: أحدها ما استأنف المسلمون إحياءه فهو أرض عشر لا يجوز أن يوضع عليها خراج، والكلام فيها يذكر في إحياء الموات من كتابنا هذا والقسم الثاني ما أسلم عليه أربابه فهم أحق به، فتكون على مذهب الشافعي رحمه الله أرض عشر ولا يجوز أن يوضع عليها خراج. وقال أبو حنيفة الإمام مخير بين أن يجعلها خراجاً أو عشراً، فإن جعلها خراجاً لم يجز أن تنقل إلى العشر، وإن جعلها عشراً جاز أن تنقل إلى الخراج. والقسم الثالث ما ملك من المشركين عنوة وقهراً، فيكون على مذهب الشافعي رحمه الله غنيمة تقسم بين الغانمين وتكون أرض عشر لا يجوز أن يوضع عليها خراج، وجعلها مالك وفقاً على المسلمين بخراج يوضع عليها. وقل أبو حنيفة يكون الإمام خيراً بين الأمرين. والقسم الرابع ما صولح عليه المشركون من أرضهم فهي الأرض بوضع الخراج عليها وهي على ضربين.

أحدهما ما خلا عنه أهله حصلت للمسلمين بغير قتل فتصير وفقاً على مصالح المسلمين ويضرب عليها الخراج ويكون أجرة تقر على الأبد وإن لم يقدر بمدة لما فيها من عموم المصلحة ولا يتغير بإسلام ولا ذمة، ولا يجوز بيع رقابها اعتباراً لحكم الوقوف.

والضرب الثاني ما أقام فيه أهله وصولحوا على إقراره في أيديهم بخراج يضرب عليهم فهذا على ضربين: أحدهما أن ينزلوا عن ملكها لنا عند صلحنا فتصير هذه الأرض وقفاً على المسلمين كالذي انجلى عنه أهله، ويكون الخراج المضروب عليهم أجرة لا تسقط بإسلامهم ولا يجوز لهم بيع رقابهم، ويكونون أحق بها ما أقاموا على صلحهم ولا تنتزع من أيديهم سواء أقاموا على شركهم أم أسلموا كما لا تنتزع الأرض المستأجرة من يد مستأجرها، ولا يسقط عنهم بهذا الخراج جزية رقابهم إن صاروا أهل ذمة مستوطنين وإن لم ينتقلوا إن الذمة وأقاموا على حكم العهد لم يجز أن يقروا فيها ستة وجاز إقرارهم فيها دونها بغير جزية.

والضرب الثاني أن يستبقوها على أملاكهم ولا ينزلوا عن رقابها ويصالحوا عنها بخراج يوضع عليها، فهذا الخراج جزية تؤخذ منهم ما أقاموا على شركهم وتسقط عنهم بإسلامهم ويجوز أن لا يؤخذ منهم جزية رقابهم، ويجوز لهم بيع هذه الأرض على من شاءوا منهم أو من المسلمين أو من أهل الذمة، فإن تبايعوها فيما بينهم كانت على حكمها في الخراج وإن بيعت على مسلم سقط عنه خراجها: وإن بيعت على ذمي احتمل أن لا يسقط عنه خراجها لبقاء كفره، واحتمل أن يسقط عنه خراجها بخروجه بالذمة عن عقده من صولح عليها ثم ينظر في هذا الخراج الموضوع عليها، فإن وضع على مسائح الجربان بأن يؤخذ من كل جريب قدر من ورق أو حب، فإن سقط عن بعضها بإسلام أهله كان ما بقي على حكمه ولا يضم إليه خراج ما سقط الجربان، فمذهب الشافعي أنه يحط عنهم من مال الصلح ما سقط منه بإسلام أهله، وقال أبو حنيفة يكون مال الصلح باقياً بكماله ولا يسقط عن هذا المسلم ما خصه بإسلامه. فأما قدر الخراج المضروب فيعتبر بما تحتمله الأرض، فإن عمر رضي الله عنه حين وضع الخراج على سواد العرق في بعض نواحيه على كل جريب قفيزاً ودرهماً وجرى في ذلك على ما استوفقه من رأي كسرى بن قباذ، فإنه أول من مسح السواد ووضع الخراج وحدد الحدود ووضع الدواوين. وراعى ما تحتمله الأرض من غير حيف بمالك ولا إجحاف بزارع وأخذ من كل جريب قفيزاً ودرهماً وكان القفيز وزنه ثمانية أرطال ثمنه ثلاثة درهم، وزن المثقال، لانتشار ذلك بما ظهر في جاهلية العرب قال زهير بن أبي سلمى من الطويل:

فتغلل لكم ما لا تغل لأهلـهـا

 

قرى بالعراق من قفيز ودرهم

وضرب عمر رضي الله عنه على ناحية أخرى غيرها غير هذا القدر، فاستعمل عثمان ابن حتيف عليه وأمره بالمساحة ووضع ما تحتمله الأرض من خراجها، فمسح ووضع على كل جريب من الكرم والشجر الملتف عشر دراهم، ومن النخل ثمانية دراهم، ومن قصب السكر ستة دراهم، ومن الرطبة خمسة دراهم، ومن البر أربعة دراهم، ومن الشعير درهمين وكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمضاه وعمل في نواحي الشام على غير هذا فعلم أنه راعى في كل أرض ما تحتمله وذلك يجب أن يكون واضع الخراج بعده يراعي في كل أرض ما تحتمله، فإنها تختلف من ثلاثة أوجه يؤثر كل واحد منها في زيادة الخراج ونقصانه: أحدها يختص بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقل بها ريعها. الثاني ما يختص بالزرع مع اختلاف أنواعه من الحبوب والثمار، فمنها ما يكثر ثمنه، ومنها ما يقل ثمنه، فيكون الخراج بحسبه، والثالث ما يختص بالسقي والشرب، لأن ما التزم المؤنة في سقيه بالتواضح والدوالي لا يحتمل من الخراج ما يحتمله سقي السيوح والأمطار.

وشرب الزرع والأشجار ينقسم أربعة أقسام: أحدها ما سقاه الآدميون بغير آلة كالسيوح من العيون والأنهار يساق إليها فيسيح عليها عند الحاجة ويمنع منها عند الاستغناء وهذا أوفر المياه منفعة وأقلها كلفة. والقسم الثاني ما سقاه الآدميون بآلة من نواضح ودواليب أو دوالي وهذا أكثر المياه مؤنة وأشقها عملاً. والقسم الثالث ما سقته السماء بمطر أو ثلج أو طل ويسمى العذى: والقسم الرابع ما سقته الأرض بنداوتها وما استمكن من الماء في قرارها فيشرب زرعها وشجرها بعرقه ويسمى البل، فأما الغيل وهو ما شرب بالقناة فإن ساح فهو من القسم الأول. وإن لم يسح فهو من القسم الثاني، وأما الكظائم فهو ما شرب من الآبار، فإن نضج منها بالغروب فهو من القسم الثاني، وإن استخرج من القناة فهو غيل يلحق بالقسم الأول. وإذا استقر ما ذكرنا فلا بد لواضع الخراج من اعتبار ما وصفناه من الأوجه الثلاثة، من اختلاف الأرضين واختلاف الزروع واختلاف السقي ليعلم قدر ما تحمله الأرض من خراجها، فيقصد العدل فيها فيما بين أهلها وبين الفيء من غير زيادة تجحف بأهل الخراج ولا نقصان يضر بأهل الفيء نظراً للفريقين، ومن الناس من اعتبر شرطاً رابعاً وهو قربها من البلدان والأسواق ويعدها لزيادة أثمانها ونقصانها، هذا إنما يعتبر فيما يكون خراجه ورقاً ولا يعتبر فيما يكون خراجه حباً وتلك الشروط الثلاثة تعتبر في الحب والورق، وإذا كان الخراج معتبراً بما وصفنا فكذلك ما اختلف قدره وجاز أن يكون خراج كل ناحية مخالفاً لخراج غيرها، ولا يستقصي في وضع الخراج غاية ما يحتمله، وليجعل فيه لأرباب الأرض بقية يجبرون بها النوائب والحوائج.

حكي أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يستأذنه في أخذ الفضل من أموال السواد فمنعه من ذلك وكتب إليه، لا تكن على درهمك لمأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك وأبق لهم لحوماً يعقدون بها شحوماً.

فإذا تقرر الخراج بما احتملته الأرض من الوجوه التي قدمناها راعى فيها أصلح الأمور من ثلاثة أوجه: أحدها أن يضعه على مسائح الأرض. والثاني أن يضعه على مسائح الزرع. والثلث أن يجعلها مقاسمة، فإن وضعه على مسائح الأرض كان معتبراً بالسنة الهلالية وإن وضعه على مسائح الزرع كان معتبراً بالسنة الشمسية، وإن جعله مقاسمه كان معتبراً بكمال الزرع وتصفيته، فإذا استقر على استقر على أخذها مقدار بالشروط المعتبرة فيه صار ذلك مؤبداً لا يجوز أن يزاد فيه ولا ينقص منه ما كانت الأرضون على أحوالها في سقيها ومصالحها.

فإن تغير ومصالحها إلى الزيادة أو النقصان فذلك ضربان: أحدهما أن يكون حدوث الزيادة والنقصان بسبب من جهتهم، كزيادة حدثت بشق أنهار أو استنباط مياه، أو نقصان حدث لتقصير في عمارته؛ أو عدول عن حقوق ومصلحة، فيكو الخراج عليهم بحاله لا يزاد عليهم فيه لزيادة عمارتهم فيه، لا ينقص منه لنقصانها، ويؤخذون العمارة لئلا يستديم خرابها فتعطل:

والضرب الثاني أن يكون حدوث ذلك من غير جهتهم؛ فيكون النقصان لشق انشق أو نهر تعطل، فإن كان سده وعمله ممكناً وجب على الإمام أن يعمله من بيت المال من سهم المصالح، والخراج ساقط عنهم ما لم يعمل، وإن لم يكن عمله فخراج تلك الأرض ساقط عن أهلها إذا عدم الانتفاع بها، فإن أمكن الانتفاع بها في غير الزراعة كمصائد أو مراع جازأ يستأنف وضع خراج عليها بحسب ما يحتمله الصيد والموعى وليست كالأرض الموات التي لا يجوز أن يوضع على مصائدها ومراعيها خراج، لأن هذه الأرض مملوكة وأرض الموات مباحة.

أما الزيادة التي أحدثها الله تعالى فكأنهار حصرها السيل وصارت الأرض بها سائحة بعد أن كانت تسقى بآلة، فإن كان هذا عارضاً لا يوثق بدوامه لم يجز أن يزاد في الخراج وإن وثق بدوامه راعى الإمام فيه المصلحة لأرباب الضياع وأهل الفيء وعمل في الزيادة أو المتاركة بما يكون عدلاً بين الفريقين.

وخراج الأرض إذا أمكن زرعها مأخوذ منها وإن لم تزرع. وقال مالك لا خراج عليها سواء تركها مختاراً أو معذوراً. وقال أبو حنيفة يؤخذ منها إن كان مختاراً ويسقط عنها إن كان معذوراً. وإذا كان خراج ما أخل بزرعه يختلف باختلاف الزروع أخذ منه فيما أخل بزرعه عن أقل ما يزرع فيها لأنه لو اقتصر على زرعه لم يعارض فيه.

وإذا كانت أرض الخراج لا يمكن زرعها في كل عام حتى تراح في عام وتزرع في عام آخر روعي حالها في ابتداء وضع الحراج عليها واعتبر أصلح الأمور لأرباب الضياع وأهل الفيء في خصله من ثلاث: إما أن يجعل خراجها على الشطر من خراج ما يزرع كل عام فيؤخذ من المزروع والمتروك وإما أن يمسح كل جريبين منها بجريب ليكون أحدهما للمزروع والآخر للمتروك وإما أن يضعه بكماله على مساحة المزروع والمتروك ويستوفى من أربابه الشطر من زراعة أرضهم.

وإذا كان خراج الزروع والثمار مختلفاً باختلاف الأنواع لزرع أو غرس ما لم ينص عليه اعتبر خراجه بأقرب المنصوصات به شبهاً ونفعاً.

وإذا زرعت أرض الخراج ما يوجب العشر لم يسقط عشر الزرع بخراج الأرض وجمع فيها بين الحقين على مذهب الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة لا أجمع بينهما واقتصر على أخذ الخراج وإسقاط العشر، ولا يجوز أن تنفل أرض الخراج إلى العشر ولا أرض العشر إلى الخراج، وجوزه أبو حنيفة. وإذا سقى بماء الخراج أرض عشر كان المأخوذ منها عشراً، وإذا سقي بماء العشر أرض خراج كان المأخوذ منها خراجاً اعتباراً بالأرض دون الماء، وقال أبو حنيفة يعتبر حكم الماء فيؤخذ بماء الخراج من أرض العشر الخراج ويؤخذ بماء العشر من أرض الخراج العشر اعتباراً بالماء دون الأرض واعتباراً الأرض أولى من اعتبار الماء لأن الخراج مأخوذ عن الأرض والعشر مأخوذ عن الزرع، وليس على الماء خراج ولا عشر فلم يعتبر في واحد منهما وعلى هذا الاختلاف منع أبو حنيفة صاحب الخراج أن يسقى بماء العشر ومنع صاحب العشر أن يسقى بماء الخراج، ولم يمنع الشافعي رحمه الله واحداً منهما أن يسقى بأي الماءين شاء.

وإن بنى في أرض الخراج أبنية من دور أو حوانيت كان خراج الأرض مستحقاً، لأن لرب الأرض أن ينتفع بها كيف شاء، وأسقطه أبو حنيفة إلا أن تزرع أو تغرس والذي أراه أن مالاً يستغنى عن بنيانه من مقامه في أرض الخراج لزراعتها عفو يسقط عنه خراجه، لأنه لا يستقر إلا بمسكن يستوطنه، وما جاوز قدر الحاجة مأخوذ بخراجه.

وإذا أوجرت أرض الخراج أو أعيرت فخراجها على المالك دون المستأجر والمستعير وقال أبو حنيفة خراجها في الإجازة على المالك وف العارية على المستعير.

وإذا اختلف العامل ورب الأرض في حكمها فادعى العامل أنا أرض خراج وادعى ربها أنها أرض عشر وقولهما ممكن فالقول قول المالك دون العامل، فإن اتهم أحلف استظهار ويجوز أن يعمل في مثل هذا الاختلاف على شواهد الدواوين السلطانية إذا علم صحتها ووثق بكتابها وقلما يشكل ذلك إلا في الحدود. وإذا ادعى رب الأرض دفع الخراج لم يقبل منه قوله، ولو ادعى دفع العشر قبل قوله، ويجوز أن يعمل في دفع الخراج على الدواوين السلطانية إذا عرف صحتها اعتبار بالعرف المعتاد فيها ومن أعسر بخراجه أنظر به إيساره وقال أبو حنيفة يجب بإيساره ويسقط بالإعسار وإذا مطل بالخراج مع إيسار حبس به إلا أن يوجد له مال فيباع عليه في خراجه كالمديون. فإن لم يوجد له غير رض الخراج فإن كان السلطان يرى جواز بيعها باع منها عليه بقدر خراجها؛ وإن كان لا يرى ذلك أجراها عليه واستوفى الخراج من مستأجرها، فإن زادت الأجرة زيادتها، وإن نقصت كان عليه نقصانها. وإذا عجز رب الأرض من عمارتها قيل له إما أن تؤجرها أو ترفع يدك عنها لتدفع إلى من يقوم بعمارتها ولم يترك على خرابها وإن دفع خراجها لئلا تصير بالخراب مواتاً.

وعامل الخراج يعتبر في صحة ولايته الحرية والأمانة والكفاية، ثم يختلف حاله باختلاف ولايته فإن تولى وضع الخراج اعتبر فيه أن يكون فقيهاً من أهل الاجتهاد وإن ولي جباية الخراج صحت ولايته وإن لم يكن فقيها مجتهداً، ورزق عامل الخراج في مال الخراج، كما أن رزق عامل الصدقة في مال الصدقة من سهم العاملين وكذلك أجور المساح. وأما أجرة القسام فقد اختلف الفقهاء فيها، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أجور قسام العشر والخراج مما في حق الذي استوفاه السلطان منهما. وقال أبو حنيفة: أجور من يقسم غلة العشر وغلة الخراج وسط من أصل الكيل. وقال سفيان الثوري: أجور الخراج على السلطان وأجور العشر على أهل الأرض. وقال مالك: أجور العشر على صاحب الأرض وأجور الخراج على الوسط.

والخراج حق معلوم على مساحة معلومة فاعتبر في العلم بها ثلاثة مقادير تنفي الجهالة عنها: أحدها مقدار الجريب بالذراع المسموح به. والثاني مقدار الدرهم المأخوذ به. والثالث مقدار الكل المستوفى به.

فأما الجريب فهو عشر قصبات في عشر قصبات، والقفيز عشر قصبات في قصبة والعشير قصبة في قصبة والقصبة ستة أذرع فيكون الجريب ثلاثة آلاف وستمائة ذراع مكسرة، والقفيز ثلاثمائة وستون ذراعاً مكسرة وهو عشر الجريب، والعشير ستة وثلاثون ذراعاً وهو عشر القفيز وأما الذراع فالأذرع سبع أقصرها القاضية ثم اليوسفية ثم السوداء ثم الهاشمية الصغرى وهي البلالية ثم الهاشمية الكبرى وهي الزيادية ثم العمرية ثم الميزانية.

فأما القاضية وتسمى ذراع الدور فهي أقل من ذراع السوداء بإصبع وثلثي إصبع، وأول من وضعها ابن أبي ليلى القاضي وبها يتعامل أهل كلواذي .

وأما اليوسفية وهي التي تذرع بها القضاة الدور بمدينة السلام فهي أقل من السوداء بثلثي إصبع وأول من وضعها أبو يوسف القاضي.

وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بإصبع وثلثي إصبع، وأول من وضعها الرشيد رحمه الله تعالى قدرها بذراع خادم أسود كان على رأسه وهي التي يعامل بها الناس في ذراع البز والتجارة والأبنية وقياس نيل مصر.

وأما الذراع الهاشمية الصغرى وهي البلالية فهي أطول من الذراع السوداء بإصبعين وثلثي إصبع، وأول من أحدثها بلال بن أبي بردة وذكر أنها ذراع جده أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهي أنقص من الزيادية بثلاثة أرباع عشر وبها يتعامل الناس بالبصرة والكوفة.

وأما الهاشمية الكبرى وهي ذراع الملك وأول من نقلها إلى الهاشمية المنصور رحمه الله تعالى فهي أطول من الذراع السوداء أصابع وثلثي إصبع فتكون ذراعاً وثمناً وعشراً بالسوداء، وتنقص عنها الهاشمية الصغرى بثلاث أرباع عشر، وسميت زيادية لأن زيادتها مسح بها أرض السواد وهي التي يذرع بها أهل الأهواز.

وأما الذراع العمرية فهي ذراع عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي مسح بها أرض السواد وقال موسى بن طلحة: رأيت ذراع عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي مسح بها أرض السواد وهي ذراع وقبضة وإبهام قائمة قال الحكم بن عيينة إن عمر رضي الله عنه عمد إلى أطوالها ذراعاً وأقصرها وأوسطها فجمع منها ثلاثة وأخذ الثلث منها وزاد عليه قبضة وإبهاماً قائمة ثم ختم في طرفيه بالرصاص وبعث بذلك إلى حذيفة وعثمان بن حنيف حتى مسحا بها السواد وكان أول من مسح بها بعده عمر بن هبيرة.

وأما الذراع الميزانية فتكون بالذراع السوداء ذراعين وثلثي ذراع وثلثي إصبع وأول من وضعها المأمون رضي الله عنه، وهي التي يتعامل الناس فيها في ذراع البرائد والمساكن والأسواق كراء الأنهار والحفائر.

وأما الدرهم فيحتاج فيه إلى معرفة وزن ونقده، فأما وزنه فقد استقر الأمر في الإسلام على أن وزن الدرهم ستة دوانيق ووزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل: واختلف في سبب استقراره على هذا الوزن، فذكر قرم أن الدراهم كانت أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطاً ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطاً ودرهم وزنه عشرة قراريط فلما احتيج في الإسلام إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط من جميع الأوزان الثلاثة وهو اثنان وأربعون قيراطاً فكان أربعة عشر قيراطاً من قراريط المثقال فلما ضربت الدراهم الإسلامية على الوسط من هذه الأوزان الثلاثة قيل في عشيرتها وزن سبعة مثاقيل، لأنها كذلك وذكر آخرون أن السبب في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى اختلاف الدراهم وأن منها البعلي وهو ثمانية دونق. ومنها اليمنى وهو دانق قال انظروا الأغلب مما يتعامل به الناس من أعلاه وأدناها فكان الدرهم البغلي والدرهم الطبري فجمع بينهما فكانا اثني عشر دانقاً فأخذ نصفاً فكان ستة دوانق فجعل الدرهم الإسلامي ثلاثة أعشاره كان درهماً فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر درهماً وسبعان. فأما النقص فمن خالص الفضة وليس لمغشوشة مدخل في حكمه وقد كان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم فجاء الإسلام ونقودهم من العين والورق غير خالصة إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفواً لعدم تأثيره بينهم إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص، واختلف في أول من ضربها في الإسلام، فقال سعيد بن المسيب أن أول من ضرب الدراهم المنقرشة عبد الملك بن مروان وكانت الدنانير ترد رومية والدراهم ترد كسروية وحميرية قليلة. قال أبو الزناد فأمر عبد الملك بن مروان الحجاج أن يضرب الدراهم بالعراق فضربها سنة أربع وسبعين. وقال المدائي بل ضربها الحجاج في آخر سنة خمس وسبعين ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين، وقيل إن الحجاج خلصها تخليصاً لم يستقصه وكتب عليها.

" الله أحد الله الصمد " وسميت مكروهة. واختلف في تسميتها بذلك، فقال قوم لأن الفقهاء كرهوها لما عليها من القرآن وقد يحملها الجنب والمحدث. وقال الآخرون لأن الأعاجم كرهوا نقصانها فسميت مكروهة ثم ولي بعد الحجاج عمر بن هبيرة في أيام يزيد بن عبد الملك فضربها أجود مما كانت ثم ولي بعده خالد بن عبد الله القسري فشدد في تجويدها وضرب بعده يوسف بن عمر فأفرط في التشديد فيها والتجويد فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، وكان المنصور رضي الله عنه لا يأخذ في الخراج من نقودهم غيرها.

وحكى يحيى بن النعمان الغفاري عن أبيه أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر أخيه عبد الله بن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة وعليها بركة جانب والحجاج في جانب. وإذا خلص العين والورق من غش كان هو المعتبر في النقود المستحقة والمطبوع منها بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعه المأمون من تبديله وتلبيسه هو المستحق دون نقار الفضة وسبائك الذهب، لأنه لا يوثق بهما إلا بالسك والتصفية والمطبوع موثوق به ولذلك كان هو الثابت في الذمم فيما يطلق من أثمان البيعات وقيم المتلفات، ولو كانت المطبوعة مختلفة القيمة مع اتفاقها في الجودة فطالب عامل الخراج بأعلاها قيمة نظر، فإن كان من ضرب سلطان الوقت أجيب إليه لأن في العدول عن ضربه مباينة له في الطاعة وإن كان من ضرب غيره نظر، فإن كان هو المأخوذ في خراج من تقدمه أجيب إليه استصحاباً لما تقدم، وإن لم يكن مأخوذاً فيما تقدم كانت المطالبة به غبناً وحيفاً.

وأما مكسور الدراهم والدنانير فلا يلزم أخذه لالتباسه وجواز اختلاطه ولذلك نقصت قيمتها عن المضروب الصحيح، واختلف الفقهاء في كراهية كسرها، فذهب مالك وأكثر فقهاء المدينة إلى أنه مكروه لأنه من جملة الفساد في الأرض وينكر على فاعله. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجارية بينهم.