الباب الثامن عشر: في وضع الديوان وذكر أحكامه

الأحكام السلطانية والولايات الدينية

الماوردي

علي بن محمد حبيب، أبو الحسن الماوردي المولود عام 364 هـ -974 م والمتوفي عام 450 هـ 1058 م

الباب الثامن عشر: في وضع الديوان وذكر أحكامه

والديوان موضع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وفي تسميته ديواناً وجهان: أحدهما أن كسرى اطلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم فقال ديوانه أي مجانين فسمى موضعهم بهذا الاسم ثم حذفت الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفاً للاسم فقيل ديوان، والثاني أن الديوان بالفارسية اسم الشياطين فسمى الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور وقوتهم على الجلي والخفي وجمعهم لما شذ وتفرق، ثم سمى مكان جلوسهم باسمهم فقيل ديوان: وأول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

اختلف الناس في سبب وضعه له، فقال قوم سببه أن أبا هريرة قدم عليه بمال من البحرين فقال له عمر ماذا جئت به؟ فقال خمسمائة ألف درهم فاستكثره عمر فقال له أتدري ما تقول؟ قال نعم مائة ألف خمس مرات فقال عمر أطيب هو؟ فقال لا أدري فصعد عمر المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلاً وإن شئتم عددنا لكم عداً، فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدونون ديوناً لهم فدون أنت لنا ديواناً. وقال آخرون بل سببه أن عمر بعث بعثاً وكان عنده الهرمزان فقال لعمر هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلف منهم جل وآجل بمكانه فمن أين يعمل صاحبك به فأثبت لهم ديواناً فسأله عن الديوان حتى فسره لهم. روى عابد بن يحيى عن الحارث بن نفيل أن عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الديوان فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك سنة شيئاً. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه أرى مالاً كثيراً يتبع الناس، فإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فقال خالد بن الوليد قد كنت بالشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديواناً وجندوا جنوداً فدون ديواناً وجند جنوداً فأخذ بقوله ودعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من شبان قريش وقال اكتبوا الناس على منازلهم فبدءوا ببني هاشم فكتبوهم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه ثم عمر وقومه وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة ثم رفعوه إلى عمر. فلما نظر فيه قال لا. ما وددت أنه كان هكذا ولكن ابدءوا بقربة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله فشكره العباس رضوان الله عليه على ذلك وقال وصلتك رحم وروى زيد بن أسلم عن أبيه أن بني عدي جاءوا إلى عمر فقالوا إنك خليفة إنك خليفة رسول الله وخليفة أبي بكر وأبو بكر خليفة رسول الله، فلو جعلت نفسك حيث جعلك الله سبحانه وجعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا فقال بخ بخ يا بني عدي أردتم الأكل على ظهري وأن أهب حسناتي لكم لا، ولكنكم حتى تأتيكم الدعوة وأن ينطبق عليكم الدفتر يعني ولو تكتبوا آخر الناس؛ إن لي صاحبين سلكا طريقاً فإن خالفتهما خولف بي، ولكنه والله ما أدركنا الفضل في الدنيا ولا نرجو الثواب عند الله تعالى على عملنا إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو شرفنا وقومه أشراف العرب ثم الأقرب فالأقرب، ووالله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بغير عمل لهم أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم منا يوم القيامة، فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه. وروى عامر أن عمر رضي الله عنه حين أراد وضع الديوان قال بمن أبدأ؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف ابدأ بنفسك، فقال عمر أذك أني حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبدأ ببني هاشم وبني عبد المطلب فبدأ بهم عمر بمن يليهم من قبائل قريش بطناً بعد بطن حتى استوفى جميع قريش، ثم انتهى إلى الأنصار، فقال عمر ابدءوا برهط سعد بن معاذ من الأوس ثم بالأقرب فالأقرب لسعد. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه كان ذلك في المحرم سنة عشرة فلما استقر ترتيب الناس في الدواوين على قدر النسب المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه يرى التسوية بينهم في العطاء ولا يرى التفضيل بالسابقة، كذلك كان رأي علي رضي الله عنه في خلافته وبه أخذ الشافعي ومالك، وكان رأي عمر رضي الله عنه التفضيل بالسابقة في الإسلام، وكذلك كان رأي عثمان رضي الله عنه بعده، وبه أخذ أبو حنيفة وفقهاء العراق.

وقد نظر عمر أبا بكر حين سوى بين الناس فقال أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف؟ فقال له أبو بكر إنما عملوا لله وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ للراكب فقال له عمر لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه؛ فلما وضع الديوان فضل بالسابقة ففرض لكل من شهد بدراً من المهاجرين الأولين خمسة آلاف درهم في كل سنة: منهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم وفرض لنفسه معهم خمسة آلاف درهم وألحق به العباس بن عبد المطلب والحسن الحسين رضوان الله عليهم لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بل فضل العباس وفرض له سبعة آلاف درهم، وفرض لك من شهد بدراً من الأنصار أربعة آلاف درهم، ولم يفضل على أهل بدر أحداً إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه فرض لكل واحدة منهن عشرة آلاف درهم إلا عائشة، فإنه فرض لها اثني عشر ألف درهم، وألحق بهن جويرية بن الحارث وصفية بنت حيي، وقيل بل فرض لكل واحدة منهن ستة آلاف درهم، وفرض لكل من هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم ولمن أسلم بعد الفتح ألفي درهم لكل رجل وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمي الفتح، وفرض لعمر بن أبي سلمة المخزومي أربعة آلاف درهم لأن أمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال له محمد بن عبد الله بن جحش: لم تفضل عمر علينا وقد هاجوا آباؤنا وشهدوا بدراً؟ فقال عمر أفضله لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت الذي يستعتب بأم مثل أم سلمة أعتبه، وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف درهم فقال له عبد الله بن عمر فرضت لي ثلاثة آلاف درهم وفرضت لأسامة أربعة آلاف درهم وقد شهدت ما لم يشهد أسامة؟ فقال عمر زدته لأن كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك ثم فرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم، وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق لكل رجل منهم من ألفين إلى ألف إلى خمسمائة إلى ثلاثمائة، ولم ينقص أحد منها وقال. لئن كثر المال لأفرضن لكل رجل أربعة آلاف درهم ألفا لفرسه وألفا لسلاحه وألفا لسفره وألفا يخلفها في أهله؛ وفرض للمنفوس مائة درهم، فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم، فإذا بلغ زاده، وكان لا يفرض لمولود شيئاً حتى يفطم إلى أن سمع امرأة ذات ليلة وهي تكره ولدها على الفطام وهو يبكي فسألها عنه؟ فقال: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم فأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له فقال يا ول عمركم احتقب من وزر وهو لا يعلم ثم أمر عمر مناديه فنادى: لا تجعلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، ثم كتب إلى أهل العوالي وكان يجري عليهم القوت، فأمر بجريب من الطعام فطحن ثم خبز ثم ثرد ثم دعا ثلاثين فأكلوا منه غداهم حتى أصدرهم، ثم فعل العشاء مثل ذلك فقال يكفي الرجل جريبان في كل شهر، وكان يرزق الرجل والمرأة والمملوكة جريبين في كل شهر، كان إذا أراد الرجل أن يدعو على صاحبه قال له قطع الله عنك جريبك.

وكان الديوان موضوعاً على دعوة العرب في ترتيب الناس فيه معتبراً بالنسب، وتفضيل العطاء معتبراً بالسابقة في الإسلام وحسن الأثر في الدين، ثم روعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق بالتقدم في الشجاعة والبلاء في الجهد، فهذا حكم ديوان الجيش في ابتداء وضعه على الدعوة القريبة والترتيب الشرعي.

وأما ديوان الاستيفاء وجباية الأموال فجرى هذا الأمر فيه بعد ظهور الإسلام بالشام والعراق على ما كان عليه من قبل، فكان ديوان الشام بالرومية لأنه كان من ممالك الروم وكان ديوان العراق بالفارسية لأنه كان من ممالك الفرس، فلم يزل أمرهما جارياً على ذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان فنقل ديوان الشام إلى العربية سنة إحدى وثمانين.

وكان سبب نقله إليه ما حكاه المدائني أن بعض كتاب الروم في ديوانه أراد ماء لدواته فبال فيها بدلاً من الماء فأدبه وأمر سليمان بن سعد أن ينقل الديوان إلى العربية فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة ففعل وولاه الأردن وكان خراجه مائة ثمانين ألف دينار، فلم تنقص السنة حتى فرغ من الديوان فنقله، وأتى به عبد الملك بن مروان فدعا سرجون كاتبه فعرضه عليه فغمة وخرج كئيباً، فلقيه قوم من كتاب الروم فقال لهم اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة وقد قطعها الله عنكم.

أما ديوان الفارسية بالعراق فكان سبب نقله إلى العربية أن كاتب الحجاج كان يسمى زادان فروخ كان معه صالح بن عبد الرحمن بكتب بين يديه بالعربية والفارسية فوصله زادان فروخ بالحجاج فخف على قلبه فقال صالح لزادان فروخ إن الحجاج قربني ولا آمن عليك أن يقدمني عليك، فقال لا تظن ذلك فهو إلي أحوج مني إليه لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري، فقال صالح والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لفعلت، قال فحول منه ورقة أو سطراً حتى أرى ففعل ثم قتل زادان فروخ في أيام عبد الرحمن بن الأشعث، فاستخلف الحجاج صالحاً مكانه فذكر له ما جرى بينه وبين زادان فروخ، فأمره أن ينقله فأجابه إلى ذلك وأجله فيه أجلاً حتى نقله إلى العربية، فلما عرف مرد إنشاه بن زادان فروخ ذلك بذل له مائة ألف درهم ليظهر للحجاج العجز عنه فلم يفعل، فقال له قطع الله أوصالك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية، فكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان يقول لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب.

والذي يشتمل عليه ديوان السلطنة ينقسم أربعة أقسام.

أحدها ما يختص بالجيش من إثبات وعطاء، والثاني ما يختص بالأعمال من رسوم وحقوق. والثالث ما يختص بالعمال من تقليد وعزل. والرابع ما يختص ببيت المال من دخل وخراج، فهذه أربعة أقسام تقتضيها أحكام الشرع يتضمن تفصيلها ما ربما كان لكتاب الدواوين في إفرادها عادة هم بها أخص.

فأما القسم الأول: فيما يختص بالجيش من إثبات وعطاء فإثباتهم في الديوان معتبر بثلاثة شروط أحدها: الوصف الذي يجوز به إثباتهم. والثاني: السبب الذي يستحق به ترتيبهم. والثالث: الحال التي يقدر به عطاؤهم.

فأما شرط جواز إثباتهم في الديوان فيراعى فيه خمسة أوصاف: أحدها: البلوغ فإن الصبي من جملة الذراري والأتباع، فلم يجز أن يثبت في ديوان الجيش فكان جارياً في عطاء الذراري.

والثاني: الحرية، لأن المملوك تابع لسيده فكان داخلاً في عطائه، وأسقط أبو حنيفة اعتبار الحرية، وجوز إفراد العبد بالعطاء في ديون المقاتلة، وهو رأي أبي بكر وخالفه فيه عمر اعتبر الحرية في العطاء، وبه أخذ الشافعي.

والثالث: الإسلام ليدفع عن الملة باعتقاده ويوثق بنصحه واجتهاده، فإن أثبت فيهم ذمياً لم يجز، وإن ارتد منهم مسلم سقط.

والرابع السلامة من الآفات المانعة من القتال فلا يجوز أن يكون زمناً ولا أعمى ولا أقطع، ويجوز أن يكون أخرس أو أصم، فأما الأعرج، فإن كان فارساً أثبت، وإن كان راجلاً لم يثبت.

والخامس أن يكون فيه إقدام على الحروب ومعرفة بالقتال. فإن ضعفت منته عن الإقدام أو قلت معرفته بالقتال لم يجز إثباته، لأنه مرصد لما هو عاجز عنه، فإذا تكاملت فيه هذه الأوصاف لخمس كان إثباته في ديوان الجيش موقوفاً على الطلب والإيجاب فيكون منه الطلب إذا تجرد عن كل عمل، ويكون لمن ولي الأمر الإجابة إذا دعت الحاجة إليه، فإن كان مشهر الاسم نبيه القدر لم يحسن إذا أثبت في الديوان أن يحلى فيه وينعت، فإن كان من المغمورين في الناس حلى ونعت، فذكر سنة وقده ولونه وحلي وجهه ووصف بما يتميز به عن غيره، لئلا تتفق الأسماء ويدعي وقت العطاء وضم إلى نقيب عليه أو عريف له ليكون مأخوذاً بدركه.

وأما ترتيبهم في الديوان إذا أثبتوا فيه فمعتبر من وجهين: أحدهما عام والآخر خاص.

فأما العام فهو ترتيب القبائل والأجناس حتى تتميز كل قبيلة عن غيرها وكل جنس عمن خالفه، فلا يجمع فيه بين المختلفين ولا يفرق به بين المتفقين، لتكون دعوة الديوان على نسق واحد معروف بالنسب يزول به التنازع والتجاذب، وإذا كان هكذا لم يخل حالهم من أن يكونوا عرباً أو عجماً، فإن كانوا عرباً تجمعهم أنساب وتفرق بينهم أنساب ترتبت قبائلهم بالقربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عمر رضي الله عنه حين دونهم.

فيبدأ بالترتيب في أصل النسب ثم بما يتفرع عنه، فالعرب عدنان وقحطان، فتقدم عدنان على قحطان لأن النبوة فيهم، وعدنان يجمع ربيعة ومضر، فتقدم مضر على ربيعة لأن النبوة فيهم، ومضر يجمع قريشاً وغير قريش، فتقدم قريش لأن النبوة فيهم، وقريش يجمع بني هاشم وغيرهم، فتقدم بنو هاشم لأن النبوة فيهم فيكون بنو هاشم قطب الترتيب ثم بمن يليهم من أقرب الأنساب إليهم حتى يستوعب قريشاً، ثم بمن يليهم في النسب حتى يستوعب جميع مضر، ثم بمن يليهم في النسب حتى يستوعب جميع عدنان.

وقد رتب أنساب العرب ستة مراتب، فجعلت طبقات أنسابهم هي: شعيب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن ثم فخذ، ثم فصيلة: فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، سمي شعباً لأن القبائل منه تشعبت، ثم القبيلة، وهي ما انقسمت فيه أنساب الشعب مثل ربيعة ومضر، سميت قبيلة لتقابل الأنساب فيها، ثم العمارة، وهي ما انقسمت فيها أنساب القبائل مثل قريش وكنانة، ثم البطن، وهو ما انقسمت فيه انساب العمارة مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ثم الفخذ وهو ما انقسمت فيه أنساب البطن مثل بني هاشم وبني أمية، ثم الفصيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الفخذ مثل بني أبي طالب وبني العباس، فالفخذ يجمع الفصائل والبطن يجمع الأفخاذ، والعمارة تجمع البطون، والقبيلة تجمع العمائر، والشعب يجمع القبائل، وإذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوباً والعمائر قبائل.

وإن كانوا عجماً لا يجتمعون على نسب فالذي يجمعهم عند فقد النسب أمران: إما أجناس وإما بلاد. فالمتميزون بالإجناس كالترك والهند ثم يتميز الترك أجناساً والهند أجناسا والمتميزون بالبلاد كالديلم والجبل، ثم يتميز الديلم بلداناً والجبل بلداناً وإذا تميزوا بالأجناس أو البلدان، فإن كانت لهم سابقة في الإسلام ترتبوا عليها في الديوان، وإن لم تكن لهم سابقة ترتبوا بالقرب من ولي الأمر، فإن تساووا فبالسبق إلى طاعته.

وأما الترتيب الخاص فهو ترتيب الواحد بعد الواحد يرتب بالسابقة في الإسلام فإن تكافئوا في السابقة ترتبوا بالدين، فإن تقاربوا فيه ترتبوا بالسن؛ فإن تقاربوا فيها ترتبوا بالشجاعة، فإن تقاربوا فيها فولي الأمر بالخيار بين أن يرتبهم بالقرعة أو يرتبهم عن رأيه واجتهاده.

وأما تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتى يستغني بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة.

والكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه: أحدها عدد من يعوله من الذراري والمماليك والثاني عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر. والثالث الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص فيقدر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله فيكون هذا القدر في عطائه ثم تعرض حاله في كل عام فإن زادت رواتبه الماسة زيد، وإن نقصت نقص.

واختلف الفقهاء إذا تقدر رزقه بالكفاية هل يجوز أن يزاد عليها؟ فمنع الشافعي من زيادته على كفايته وإن اتسع المال. لأن أموال بيت المال لا توضع إلا في الحقوق اللازمة، وجوز أبو حنيفة زيادته على الكفاية إذا اتسع المال لها: ويكون وقت العطا معلوماً يتوقعه الجيش عند الاستحقاق، وهو معتبر بالوقت الذي تستوفي فيه حقوق بيت المال، فإن كانت تستوفي في وقت واحد من السنة جعل العطاء في رأس كل سنة: وإن كانت تستوفي في وقتين جعل العطاء في كل سنة مرتين، وإذا كانت تستوفي في كل شهر جعل العطاء فيء رأس كل شهر ليكون المال مصروفاً إليهم عند حصوله، فلا يحبس عنهم إذا اجتمع ولا يطالبون به إذا تأخر. وإذا تأخر عنهم العطاء عند بيت المال لعوارض أبطلت حقوقه أو أخرتها كانت أرزاقهم ديناً على بيت المال وليس لهم مطالبة ولي الأمر به كما ليس لصاحب الدين مطالبة من أعسر بدينه. وإذا أراد ولي الأمر إسقاط بعض الجيش لسبب أوجبه أو لعذر اقتضاه جاز، وإن كان لغير سبب لم يجز لأنهم جيش المسلمين في الذب عنهم.

وإذا أراد بعض الجيش إخراج نفسه من الديوان جاز مع الاستغناء عنه ولم يجز مع الحاجة إليه إلا أن يكون معذوراً. وإذا جرد الجيش لقتال فامتنعوا وهم أكفاء من حاربهم سقطت أرزاقهم، وإن ضعفوا عنهم لم تسقط وإذا نفقت دابة أحدهم في حرب عوض عنها وإن نفقت في غير حرب لم يعوض، وإذا استهلك سلاحه فيها عوض عنه إن لم يكن يدخل في تقدير عطائه ولم يعوض إن دخل فيه. وإذا جرد لسفر أعطي نفقة سفره إن لم تدخل في تقدير عطائه ولم يعط إن دخلت فيه، وإذا مات أحدهم أو قتل كان ما يستحق من عطائه موروثاً عنه على فرائض الله تعالى وهو دين لورثته في بيت المال.

واختلف الفقهاء في استبقاء نفقاء ذريته من عطائه في ديوان الجيش على قولين أحدهما أنه قد سقطت نفقتهم من ديوان الجيش لذهاب مستحقه ويحالون على مال العشر والصدقة، والقول الثاني: أنه يستبقى من عطائه نفقات ذريته ترغيباً له في المقام وبعثاً له على الأقدام.

واختلف الفقهاء أيضاً في سقوط عطائه إذا حدثت به زمانة على قولين: أحدهما يسقط لأنه في مقابلة عمل قد عدم، والقول الثاني: أنه باق على العطاء ترغيباً في التجند والارتزاق.

وأما القسم الثاني فيما اختص بالأعمال من رسوم وحقوق فيشمل على ستة فصول: أحدها تحديد العمل بما يتميز به من غيره وتفصيل نواحيه التي تختلف أحكامها، فيجعل لكل بلد حداً لا يشاركه فيه غيره، ويفصل نواحي كل بلد إذا اختلفت أحكام نواحيه. وإن اختلفت أحكام الضياع في كل ناحية فصلت ضياعه كتفصيل نواحيه وإن لم تختلف اقتصر على تفصيل النواحي دون الضياع.

والفصل الثاني أن يذكر حال البلد هل فتح عنوة أو صلحاً وما استقر عليه حكم أرضه من عشر أو خراج، وهل، اختلفت أحكامه ونواحيه أو تساوت؟ فإنه لا يخلو من ثلاثة أحوال إما أن يكون جميعه أرض عشر أو جميعه أرض خراج، أن يكون بعض عشراً وبعضه خراجاً، فإن كان جميعه أرض عشر لم يلزم إثبات مسائحه لأن العشر على الزرع دون المساحة، ويكون ما استؤنف زرعه مرفوعاً إلى ديوان العشر لا مستخرجاً منه ويلزم تسمية أربابه عند رفعه إلى الديوان لأن وجوب العشر فيه معتبر بأربابه دون رقاب الأرضين، وإذا رفع الزرع بأسماء أربابه ذكر مبلغ كيله وحال سقيه بسيح أو عمل لاختلاف حكمه ليستوفي على موجبه، وإن كان جميعه أرض خراج لزم إثبات مسائحه لأن الخراج على المساحة، فإن كان هذا الخراج في حكم الأجرة لم يلزم تسمية أرباب الأرضين لأنه لا يختلف بإسلام ولا كفر، وإن كان الخراج في حكم الجزية لزم تسمية أربابه وصفهم بالإسلام والكفر لاختلاف حكمه. باختلاف أهله، وإن كان بعضه عشراً وبعضه خراجاً فصل في ديوان العشر ما كان منه عشراً وفي ديوان الخراج ما كان منه خراجاً لاختلاف الحكم فيهما وأجرى على كل واحد منهما ما يختص بحكمه.

والفصل الثالث أحكام خراجه ما استقر على مسائحه هل هو مقاسمة على زرعه أو هو رزق مقدر على خراجه، فإن كان مقاسمة لزم إذا أخرجت مسائح الأرضين من ديوان الخراج أن يذكر معها مبلغ المقاسمة من ربع أو ثلث أو نصف ويرفع إلى الديوان مقادير الكيول لتستوفي المقاسمة على موجبها، وإن كان الخراج ورقاً لم يخل من أن يكون متساوياً مع اختلاف الزروع أو مختلفاً، فإن كان متساوياً مع اختلاف الزروع أخرجت المسائح من ديوان الخراج ليستوفي خراجها ولا يلزم أن يرفع إليه إلا ما قبض منها، وإن كان الخراج مختلفاً باختلاف الزروع لزم إخراج المسائح من ديوان الخراج، وأن يرفع إليه أجناس الزروع ليستوفي خراج المساحة على ما يوجبه حكم الزرع.

والفصل الرابع ذكر من كل بلد من أهل الذمة وما استقر عليهم في عقد الجزية فإن كانت مختلفة باليسار والإعسار سموا في الديوان مع ذكر عددهم ليختبر حال يسارهم وأعسارهم، وإن لم تختلف في اليسار والإعسار جاز الاقتصار على ذكر عددهم ووجب مراعاتهم في كل عام ليثبت من بلغ ويسقط من مات أو أسلم لينحصر بذلك ما يستحق من حريتهم.

والفصل الخامس إن كان من بلدان المعادن أن يذكر أجناس معادنه وعدد كل جنس منها ليستوفي حق المعدن منها وهذا مما لا ينضبط بمساحة ولا ينحصر بتقدير لاختلافه وإنما ينضبط بحسب المأخوذ منه إذا أعطي وأنال ولا يلزم في أحكام المعادن أن يوصف في الديوان أحكام فتوحها هل هي من أرض عشر أو خراج لأن الديوان فيها موضوع لاستيفاء الحق من نبلها وحقها لا يختلف ذلك في حقوق العاملين فيها والآخذين. وقد تقدم القول في اختلاف الفقهاء في أجناس ما يؤخذ حق المعادن منه، وفي قدر المأخوذ منه، فإن لم يكن قد سبق للائمة فيها حكم اجتهدوا إلى الوقت برأيه في الجنس الذي يجب فيه وفي القدر المأخوذ منه وعمل عليه في الأمرين معاً إذا كان من أهل الاجتهاد، وإن كان من سبق من الأئمة والولاة قد اجتهد برأيه في الجنس الذي يجب فيه وفي القدر المأخوذ منه وحكم به فيها حكماً أيده وأمضاه فاستقر حكمه في الأجناس التي يجب فيها حتى المعدن ولم يستقر حكمه في القدر المأخوذ من المعدن، لأن حكمه في الجنس معتبر بالمعدن الموجود وحكمه في القدر يعتبر بالمعدن لأن حكمه بالجنس معتبر بالمعدن الموجود وحكمه في القدر معتبر بالمعدن المفقود.

والفصل السادس إن كان ثغراً يتاخم دار الحرب وكانت أموالهم دخلت دار الإسلام معشورة عن صلح استقر معهم وأثبت في ديوان عقد صلحهم وقدر المأخوذ منهم من عشر أو خمس وزيادة عليه أو نقصان منه، فإن كان يختلف باختلاف الأمتعة والأموال فصلت فيه وكان الديوان موضوعاً لإخراج رسومه و لاستيفاء ما يرفع إليه من مقادير الأمتعة المحمولة إليه.

وأما أعشار الأموال المنتقلة في دار الإسلام من بلد إلى بلد فمحرمة لا يبيحها شرع ولا يسوغها اجتهاد ولا هي من سياسات العدل ولا من قضايا النصفة وقل ما تكون إلا في البلاد الجائرة، وقد روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " شر الناس العشارون الحشارون".

وإذا غيرت الولاة أحكام البلاد ومقادير الحقوق فيها اعتبر ما فعلوه، فإن كان مسوغاً في الاجتهاد لأمر اقتضاه لا يمنع الشرع منه لحدوث سبب يسوغ الشرع الزيادة لأجله أو النقصان لحدوثه جاز وصار الثاني هو الحق المستوفي دون الأول. وإذا استخرج حال العمل من الديوان جاز أن يقتصر على إخراج الحال الثانية دون الأولى. والأحوط أن يخرج الحالين لجواز أن يزول السبب الحادث فيعود الحكم الأول؛ وإن كان ما أخذ به الولاة من تغيير الحقوق غير مسوغ في الشرع ولا له وجه في الاجتهاد كانت الحقوق على الحكم الأول وكان الثاني مردوداً سوء غيروه إلى زيادة أو نقصان، لأن الزيادة ظلم في حقوق الرعية والنقصان ظلم في حقوق بيت المال. وإذا استخرج حال العمل من الديوان وجب على رافعة من كتاب الدواوين إخراج الحالين إن كان المستدعي لإخراجها من الولاة لا يعلم حالها فيما تقدم، وإن كان عالماً بها لم يلزمه إخراج الحال الأول إليه لأن علمه بها قد سبق وجاز الاقتصار على إخراج الحال الثانية مع وصفها بأنها مستحدثة.

وأما القسم الثالث فيما اختص بالعمال من تقليد وعزل، فيشتمل على ستة فصول: أحدها ذكر من يصح منه تقليد العمال، وهو معتبر بنفوذ الأمر وجواز النظر، فكل من جاز نظره في عمل نفذت فيه أوامره وصح منه تقليد العمال عليه، وهذا يكون من أحد ثلاثة: إما من السلطان المستولي على كل الأمور. وإما من وزير التعويض. وإما من عامل عام الولاية كعامل إقليم أو مصر عظيم يقلد في خصوص الأعمال عاملاً. فأما وزير التنفيذ فلا يصح منه تقليد عامل إلا بعد المطالعة والاستئمار.

والفصل الثاني من يصح أن يتقلد العمالة، وهو من استقل بكفايته ووثق بأمانته، فإن كانت عمالة تفويض تفتقر إلى اجتهاد روعي فيها الحرية والإسلام، وإن كانت عمالة تنفيذ لا اجتهاد للعامل فيها لم يفتقر إلى الحرية والإسلام.

والفصل الثالث ذكر العمل الذي تقليده وهذا يعتبر فيه ثلاثة شروط: أحدها تحديد الناحية بما تتميز به عن غيرها. والثاني تعيين العمل الذي يختص بنظره فيها من جباية أو خراج أو عشر: والثالث العلم برسوم العمل وحقوقه على تفصيل ينتفي عنه الجهالة، فإذا استكملت هذه الشروط الثلاثة في عمل علم به المولي والمولى صح التقليد ونفذ.

والفصل الرابع زمان النظر، فلا يخلو من ثلاثة أحوال:

أحدها أن يقدره بمدة محصورة الشهور أو السنين، فيكون تقديرها بهذه المدة مجوز النظر فيها ومانعاً من النظر بعد انقضائها. ولا يكون النظر في المدة المقيدة لازماً من جهة المولي، وله صرفه ولا استبدال به إذا رأى ذلك صلاحاً، فأما لزومه من جهة العامل المولى. فمعتبر بحال جارية عليها، فإن كان الجاري معلوماً بما تصح به الأجور لزمه العمل في المدة إلى انقضائها، لأن العمالة فيها تصير من الإجارات المحضة ويؤخذ العامل فيها بالعمل إلى انقضائها إجباراً. والفرق بينهما في تخيير المولي ولومها للمولى أنها في جنبة المولي من العقود الخاصة لعقده لها في حق نفسه فيجري عليها حكم اللزوم وإن لم يتقدر جارية بما يصح في الأجور لم تلزمه المدة، وجاز له الخروج من العمل إذا شاء بعد أن ينهي إلى موليه حال تركه حتى لا يحلو عمله من ناظر فيه.

والحالة الثانية أن يقدر بالعمل فيقول المولي فيه قد قلدتك خراج ناحية كذا في هذه السنة أو قلدتك صدقات بلد كذا في هذا العام فتكون مدة نظره مقدرة بفراغه عن عمله. فإذا فرغ منه انعزل عنه وهو قبل فراغه على ما ذكرنا يجوز أن يعزله المولي، وعزله لنفسه معتبر بصحة جارية وفساده.

والحالة الثالثة أن يكون التقليد مطلقاً فلا يقدر بمدة ولا عمل، فيقول فيه قد قلدتك خراج الكوفة أو أعشار البصرة أو حماية بغداد، فهذا تقليد صحيح وإن جهلت مدته، لأن المقصود منه الإذن لجواز النظر، وليس المقصود منه اللزوم المعتبر في عقود الإيجارات.

وإذا صح التقليد وجاز النظر لم يخل حاله من أحد أمرين: إما أن يكون مستديماً أو منقطعاً، فإن كان مستديماً كالنظر في الجباية والقضاء وحقوق المعادن فيصح نظره فيها عاماً بعد عام ما لم يعزل. وإن كان منقطعاً فهو على ضربين: أحدهما أن لا يكون معهود العود في كل عام كالوالي عل قسم الغنيمة فينعزل بعد فراغه منها وليس له النظر في قسمة غيرها من الغنائم. والضرب الثاني أن يكون عاداً في كل عام كالخراج الذي إذا استخرج في عام عاده فيما يليه، فقد اختلف الفقهاء هل يكون إطلاق تقليده مقصوراً على نظر عامه أو محمولاً على كل عام ما لم يعزل على وجهين: أحدهما أنه يكون مقصوراً للنظر على العام الذي هو فيه، فإذا استوفى خراجه أو أخذ أعشاره انعزل ولم يكن له أن ينظر في العام الثاني إلا بتقليد مستجد اقتصاراً على اليقين. والوجه الثاني أنه يحمل على جواز النظر في كل عام ما لم يعزل اعتباراً بالعرف.

والفصل الخامس في جاري العامل على عمله، ولا يخلو فيه من ثلاثة أحوال: أحدها أن يسمى معلوماً، والثاني أن يسمى مجهولاً. والثالث أن لا يسمى بجهول ولا بمعلوم، فإن سمي معلوماً استحق المسمى إذا وفى العمالة حقها، فإن قصر فيها روعي تقصيره، فإن كان لترك بعض العمل لم يستحق جاري ما قابله وإن كان لخيانة منه مع استيفاء العمل استكمل جارية وارتجع ما خان فيه، وإن زاد في العمل روعيت الزيادة، فإن لم تدخل في حكم عمله كان نظره فيها مردوداً لا ينفذ، وإن كانت داخلة في حكم نظره لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون قد أخذها بحق أو ظلم، فإن كان أخذها بحق كان متبرعاً بها لا يستحق لها زيادة على المسمى في جاريه، وإن كان ظلماً وجب ردها على من ظلم بها وكان عدواناً من العامل يؤخذ بجريرته، وأما إن سمي جارية مجهولاً استحق جاري مثله فيما عمل، فإن كان جاري العمل مقدار في الديوان وعمل به جماعة من العمال صار ذلك القدر هو جاري المثل، وإن لم يعمل به إلا واحداً لم يصر ذلك مألوفاً في جاري المثل.

وأما إن لم يسم جاريه بمعلوم ولا بمجهول فقد اختلف الفقهاء في استحقاقه لجاري مثله على عمله على أربعة مذاهب قالها الشافعي وأصحابه، فمذهب الشافعي فيها أنه لا جاري له على عمله ويكون متطوعاً به حتى يسمى جارياً معلوماً أو مجهولاً لخلو عمله من عوض، وقال المزني له جاري مثله وإن لم يسمه لاستيفاء عمله عن إذنه. وقال أبو العباس بن سريج إن كان مشهوراً بأخذ الجاري على عمله فله جاري مثله، وإن لم يشهر بأخذ الجاري عليه فلا جاري له وقال أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: إن دعى إلى العمل في الابتداء أو أمر به فله جاري مثله، فإن ابتدأ بالطلب فأذن له في العمل فلا جاري له، وإذا كان في عمله مال يجتبى فجاريه مستحق فيه، وإن لم يكن فيه مال فجاريه في بيت المال مستحق من سهم المصالح.

والفصل السادس فيما يصح به التقليد، فإن كان نصاً يلفظ به المولي صح به التقليد كما تصح به سائر العقود، وإن كان عن توقيع المولي بتقليده خطاً لا لفظ صح التقليد وانعقدت به الولايات السلطانية إذا اقترنت به شواهد الحال وإن لم تصح به النقود الخاصة اعتباراً بالعرف الجاري فيه، وهذا إذا كان التقليد مقصوراً عليه لا يتعداه إلى استنابة غيره فيه ولا يصح إذا كان التقليد عاماً متعدياً؛ فإذا صح التقليد بالشروط المعتبرة فيه وكان العمل قبله خالياً من ناظر تفرد هذا المولى بالنظر واستحق جاريه من أول وقت نظره فيه، وإن كان في العمل ناظر قبل تقليده نظر في العمل، فإن كان ما لا يصح الاشتراك فيه كان تقليده الثاني عزلاً للأول، وإن كان مما يصح فيه الاشتراك روعي العرف الجاري فيه، فإن لم يجز العرف بالاشتراك فيه كان عزلاً للأول، وإن جرى العرف بالاشتراك فيه لم يكن تقليد الثاني عزلاً للأول وكانا عاملين عليه وناظرين فيه، فإن قلد عليه مشرف كان العامل مباشراً للعمل وكان المشرف مستوفياً له يمنع من زيادة عليه أو نقصان منه أو تفرد به.

وحكم المشرف يخالف حكم صاحب البريد من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ليس للعامل أن ينفرد بالعمل دون المشرف وله أن ينفرد به دون صاحب البريد.

والثاني أن للمشرف منع العامل مما أفسد فيه وليس ذلك لصاحب البريد.

والثالث أن المشرف لا يلزمه الإخبار بما فعله العامل من صحيح وفاسد إذا انتهى إليه، ويلزم صاحب البريد الإخبار بما فعله العامل من صحيح وفاسد لأن خبر المشرف استعداء وخبر صاحب البريد إنهاء.

والفرق بين خبر الإنهاء وخبر الاستعداء من وجهين: أحدهما أن خبر الإنهاء يشتمل على الفاسد والصحيح وخبر الاستعداء مختص بالفاسد دون الصحيح.

والثاني أن خبر الإنهاء فيما رجع عنه العامل وفيما لم يرجع عنه وخبر الاستدعاء مختص بما لم يرجع عنه دون ما رجع عنه، وإذا أنكر العامل استعداء المشرف أو إنهاء صاحب البريد لم يكن قول واحد منهما مقبولاً عليه حتى يبرهن عنه، فإن اجتمعا على الإنهاء والاستعداء صار شاهدين عليه فيقبل قولهما عليه إذا كانا مأمونين. وإذا طولب العامل برفع الحساب فيما تولاه لزمه رفعه في عمالة الخراج ولم يلزمه رفعه في عمالة العشر، لأن مصرف الخراج إلى بيت المال. ومصرف العشر إلى أهل الصدقات وعلى مذهب أبي حنيفة يؤخذ برفع الحساب في المالين لاشتراك مصر فهما عنده، وإذا ادعى عامل العشر صرف العشر في مستحقه قبل قوله فيه، ولو ادعى عامل الخراج دفع الخراج إلى مستحقه لم يقبل قوله إلا بتصديق أو بينة.

وإذا أراد العامل أن يستخلف على عمله فذلك ضربان: أحدهما أن يستخلف عليه من ينفرد بالنظر فيه دونه، فهذا غير جائز منه لأنه يجري مجرى الاستبدال، وليس له أن يستبدل غيره بنفسه وإن جاز له عزل نفسه.

والضرب الثاني أن يستخلف عليه معيناً له فيراعي مخرج التقليد فإنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يتضمن إذناً بالاستخلاف فيجوز له أن يستخلف ويكون من استخلفه نائباً عنه يعزل بعزله إن لم يكن مسمى في الإذن، فإن سمي له من يستخلفه فقد اختلف الفقهاء فيه إذا استخلفه هل ينعزل بعزله؟ فقال قوم ينعزل، وقال آخرون لا ينعزل.

والحالة الثانية أن يتضمن التقليد نهياً عن الاستخلاف، فلا يجوز له أن يستخلف وعليه أن ينفرد بالنظر فيه إن قدر عليه، فإن عجز عنه كان التقليد فاسداً، فإن نظر مع فساد التقليد صح من نظره ما اختص بالإذن نم أمر ونهي ولم يصح منه ما اختص اختص بالولاية من عقد وحل.

والحالة الثالثة أن يكون التقليد مطلقاً لا يتضمن إذناً ولا نهياً فيعتبر حال العمل فإن قدر على التفرد بالنظر فيه لم يجرأ أن يستخلف عليه، وإن لم يقدر على التفرد بالنظر فيه جاز له أن يستخلف فيما عجز عنه ولم يجز أن يستخلف فيما قدر عليه.

وأما القسم الرابع فيما اختص بيت المال من دخل وخرج، فهو أن كل ما ل استحقه المسلمون ولم يتعين ماله منهم فهو من حقوق بيت المال، فإذا قبض صار بالقبض مضافاً إلى حقوق بيت المال سواء أدخل إلى حرزه أو لم يدخل، لأن بيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان، وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال، فإذا صرف في جهته صار مضافاً إلى الخراج من بيت المال سواء خرج من حرزه أو لم يخرج، لأن ما صار إلى عمال المسلمين أو خرج من أيديهم فحكم بيت المال جار عليه في دخله إليه وخرجه.

وإذا كان كذلك فالأموال التي يستحقها المسلمون تنقسم ثلاثة أقسام: فيء وغنيمة وصدقة.

فأما الفيء فمن حقوق بيت المال، لأن مصرفه موقوف على رأي الإمام واجتهاده، وأما الغنيمة فليست من حقوق بيت المال لأنها مستحقة للغانمين الذين تعينوا بحضور الواقعة لا يختلف مصرفها برأي الإمام، ولا اجتهاد له في منعهم فلم تصر من حقوق بيت المال.

وأما خمس الفيء والغنيمة فينقسم ثلاثة أقسام: قسم منه يكون من حقوق بيت المال وهو سهم النبي صلى الله عليه وسلم المصروف في المصالح العامة لوقوف مصرفه على رأي الإمام واجتهاده، وقسم منه لا يكون من حقوق بيت المال وهو سهم ذوي القربى، لأنه مستحق لجماعتهم فتعين مالكوه وخرج عن حقوق بيت المال لخروجه عن اجتهاد الإمام ورأيه، وقسم منه يكون بيت المال فيه حافظاً له على جهاته وهو سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل إن وجدوا دفع إليهم وإن فقدوا أحرز لهم.

وأما الصدقة فضربان: صدقة مال باطن فلا يكون من حقوق بيت المال لجواز أن ينفرد أربابه بإخراج زكاته في أهلها، والضرب الثاني صدقة مال ظاهر كأعشار الزروع والثمار وصدقات المواشي، فعند أبي حنيفة أنه من حقوق بيت المال لأنه يجوز صرفه على رأي الإمام واجتهاده ولم يعينه في أهل السهمين، وعلى مذهب الشافعي لا يكون من حقوق بيت المال لأنه معين الجهات عنده لا يجوز صرفه على غير جهاته، ولكن اختلف قوله هل يكون بيت المال محلاً لإحرازه عند تعذر جهاته؟ فذهب في القديم إلى أن بيت المال إذا تعذرت الجهات يكون محلاً لإحرازه فيه إلى أن توجد لأنه كان يرى وجوب دفعه إلى الإمام ورجع عنه في مستجد قوله إلى أن بيت المال لا يكون محلاً لإحرازه استحقاقاً لأنه لا يرى فيه وجوب دفعه إلى الإمام وإن جاز أن يدفع إليه فذلك لم يستحق إحرازه في بيت المال وإن جاز إحرازه فيه.

وأما المستحق على بيت المال فضربان: أحدهما ما كان بيت المال فيه حرزاً فاستحقاقه معتبر بالوجود، فإن المال موجوداً فيه كان صرفه في جهاته مستحقاً وعدمه مسقط لاستحقاقه. والضرب الثاني أن يكون بيت المال مستحقاً فهو على ضربين: أحدهما أن يكون مصرفه مستحقاً على وجه البدل كأرزاق الجند وأثمان الكراع والسلاح فاستحقاقه غير معتبر بالوجود وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم فإن كان موجوداً عجل دفعه كالديون مع اليسار. وإن كان معدوماً وجب فيه على الأنظار كالديون مع الإعسار، والضرب الثاني أن يكون مصرفه مستحقاً على وجه المصلحة والأرفاق دون البدل فاستحقاقه معتبر بالوجود دون العدم، فإن كان موجوداً في بيت المال وجب فيه وسقط فرضه عن المسلمين، وإن كان معدوماً سقط وجوبه عن بيت المال وكان إن عم ضرره من فروض الكفاية على كافة المسلمين حتى يقوم به منهم من فيه كفاية كالجهاد، وإن كان مما لا يعم ضرره كوعر طريق قريب يجد الناس طريقاً غيره بعيداً أو انقطاع شرب يجد الناس غيره شرباً، فإذا سقط وجوبه عن بيت المال بالعدم سقط وجوبه على الكافة لوجود البدل، فلو اجتمع على بيت المال حقان ضاق عنهما واتسع لأحدهما صرف فيما يصير منهما دينً فيه، فلو ضاق عن كل واحد منهما جاز لوالي الأمر إذا خاف الفساد أن يفترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الارتفاق وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذاً بقضائه إذا اتسع له بيت المال.

وإذا فضلت حقوق بيت المال عن مصرفها، فقد اختلف الفقهاء في فاضله، فذهب أبو حنيفة إلى أنه يدخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث. وذهب الشافعي إلى أنه يقبض على أموال من يعم به صلاح المسلمين ولا يدخر لأن النوائب تعين فرضها عليهم إذا حدثت فهذه الأقسام الأربعة التي وضعت عليها قواعد الديوان.

وأما كاتب الديوان وهو صاحب ذمامه، فالمعتبر في صحة ولايته شرطان: العدالة والكفاية.

فأما العدالة فلأنه مؤتمن على حق بيت المال والرعية فاقتضى أن يكون في العدالة والأمانة على صفات المؤتمنين.

وأما الكفاية فلأنه مباشر لعمل يقتضي أن يكون في القيام مستقلاً بكفاية المباشرين فإذا صح تقليده فالذي ندب له ستة أشياء: حفظ القوانين، واستيفاء الحقوق، وإنبات الرفوع، ومحاسبات العمال، وإخراج الأحوال، وتصفح الظلامات.

فأما الأول منها وهو حفظ القوانين على الرسوم العادلة من غير زيادة تتحيف بها الرعية أو نقصان ينثلم به حق بيت المال، فإن قررت في أيامه لبلاد استؤنف فتحها أو لموات ابتدئ في إحيائه أثبتها في ديوان الناحية وديوان بيت المال الجامع للحكم المستقر فيها، وإن تقدمته القوانين المقررة فيها رجع فيها إلى ما أثبته أمناء الكتاب إذا وثق بخطوطهم وتسلمه من أمنائهم تحت ختومهم وكانت الخطوط الخارجة على هذه الشروط مقنعة في جواز الأخذ به والعمل عليها في الرسوم الديوانية والحقوق السلطانية، وإن لم تقنع في أحكام القضاء والشهادات اعتباراً بالعرف المعهود فيها كما يجوز للمحدث أن يؤدي ما وجده من سماعه بالخط الذي يثق به ويجيء على قول أبي حنيفة أنه لا يجوز لكاتب الديوان أن يعمل على الخط وحده حتى يأخذه سماعاً من لفظ نفسه يحفظه عنه بقلبه كما يقول في رواية الحديث اعتباراً بالقضاء والشهادات وهذا شاق مستبعد. والفرق بينهما أن القضاء والشهادات من الحقوق الخاصة التي يكثر المباشر لها والقيم بها فلم يضق الحفظ لها بالقلب فذلك لم يجز أن يعول فيها عل مجرد الخط وأن القوانين الديوانية من الحقوق العامة التي يقل المباشر لها مع كثرتها وانتشارها فضاق حفظها بالقلب فذلك جاز التعويل فيها على مجرد الخط وكذلك رواية الحديث.

وأما الثاني وهو استيفاء الحقوق فهو على ضربين: أحدهما استيفاؤها ممن وجبت عليه من العاملين. والثاني استيفاؤها نم القابضين لها من العمال، فأما استيفاؤها من العاملين فيعمل فيه على إقرار العمال بقبضها، وأما العمل فيها على خطوط العمال بقبضها فالذي عليه كتاب الدواوين أنه إذا عرف الخط كان حجة القبض سواء اعترف العامل بأنه خطه وأنكره إذا قيس بخطه المعروف. والذي عليه الفقهاء أنه إن لم يعترف العامل بأنه خطه وأنكره لم يلزمه ولم يكن حجة في القبض لا يسوغ أن يقاس بخطه في الإلزام إجباراً وإنما يقاس بخطه إرهاباً ليعترف به طوعاً، وإن اعترف بالخط وأنكر القبض فالظاهر من مذهب الشافعي أن يكون في الحقوق السلطانية خاصة حجة للعاملين بالدفع وحجة على العمال بالقبض اعتباراً بالعرف؛ والظاهر من مذهب أبي حنيفة أنه لا يكون حجة عليهم ولا للعاملين حتى يقر به لفظاً كالديون الخاصة، وفيما قدمناه من الفرق بينهما مقنع.

وأما استيفاؤها من العمال، فإن كانت خراجاً إلى بيت المال لم يحتج فيها إلى توقيع ولي الأمر وكان اعتراف صاحب بيت المال بقبضها حجة في براءة العمال منها والكلام في خط إذا تجرد عن إقراره على ما قدمناه في خطوط العمال أنه يكون حجة على الظاهر من مذهب الشافعي ولا يكون حجة على الظاهر من مذهب أبي حنيفة، وإن كانت خراجاً من حقوق بيت المال ولم تكن خراجاً إليه لم يمض العمال إلا بتوقيع ولي الأمر وكان التوقيع إذا عرفت صحته حجة مقنعة في جواز الدفع.

وأما الاحتساب به فيحتمل وجهين: أحدهما أن يكون الاحتساب به موقوفاً على اعتراف الموقع له بقبض ما تضمنه، لأن التوقيع حجة بالدفع إليه وليس بحجة في القبض منه.

والوجه الثاني يحتسب به العامل في حقوق بيت المال، فإن أنكر صاحب التوقيع القبض حاكم العامل فيه وأخذ العامل بإقامة الحجة عليه، فإن عدمها أحلف صاحب التوقيع وأخذ العامل بالغرام، وهذا الوجه أخص بعرف الديوان. والوجه الأول أشبه بتحقيق الفقه، فإن استراب صاحب الديوان بالتوقيع لم يحتسب للعامل به على الوجهين معاً حتى يعرضه على الموقع، فإن اعترف به صح وكان الاحتساب به عل ما تقدم، وإن أنكره لم يحتسب به للعامل ونظر في وجه الخراج، فإن كان في خاص موجود رجع به العامل عليه، وإن كان في جهات لا يمكن الرجوع بها سأل العامل لا في عرف السلطنة ولا في حكم القضاء، فإن علم بصحة الخراج فهو من عرف السلطنة مدفوع عن إحلاف الموقع وفي حكم القضاء يجاب عليه.

وأما الثالث فهو إثبات الرفوع، فينقسم ثلاثة أقسام: رفوع مساحة وعمل، ورفوع قبض واستيفاء، ورفوع خرج ونفقة. فأما رفوع المساحة والعمل، فإن كانت أصولها مقدرة في الديوان اعتبر صحة الرفع بمقابلة الأصل وأثبت في الديوان إن وافقها، وإن لم يكن لها في الديوان أصول عمل في إثباتها على قول رافعها، وأما رفوع القبض والاستيفاء فيعمل في إثباتها على مجرد قول رافعها. لأنه يقر به على نفسه لا لها، وأما رفوع الخراج والنفقة فرافعها مدع لها فلا نقبل دعواه إلا بالحجج البالغة. فإن احتج بتوقيعات ولاة الأمور استعرضها وكان الحكم فيها على ما قدمنا من أحكام التوقيعات.

وأما الرابع وهو محاسبة العمال فيختلف حكمها باختلاف ما تقلدوه، وقد قدمنا القول فيها، فإن كانوا من عمال الخراج لزمهم رفع الحساب ووجب على كاتب الديوان محاسبتهم على صحة ما رفعوه، وإن كانوا من عمال العشر لم يلزمهم على مذهب الشافعي رفع الحساب ولم يجب على كاتب الديوان محاسبتهم عليه؛ لأن العشر عنده صدقة لا يقف مصرفها على اجتهاد الولاة، ولو تفرد أهالها بمصرفها أجزأت ويلزمهم على مذهب أبي حنيفة رفع الحساب ويجب على كاتب الديوان محاسبتهم عليه، لأن مصرف الخراج والعشر عنده مشترك. وإذا حوسب من وجبت عليه محاسبته من العمال نظل، فإن لم يقع بين العامل وكاتب الديوان حلف كان كاتب الديوان مصدقاً في بقايا الحساب، فإن استراب به ولي الأمر كلفه إحضار شواهده، فإن زالت الريبة عنه سقطت اليمين فيه، وإن لم تزل الريبة وأراد ولي الأمر الإحلاف على ذلك أحلف العامل دون كاتب الديوان، لأن المطالبة متوجهة على العامل دون الكاتب وإن اختلفا في الحساب نظر فإن كان اختلافهما في خراج فالقول فيه قول الكاتب لأنه منكر، وإن كان اختلافهما في مساحة تمكن إعادتها اعتبرت بعد الاختلاف وعمل فيها على ما يخرج بصحيح الاعتبار.

وأما الخامس وهو إخراج الأحوال فهو استشهاد صاحب الديوان على ما ثبت فيه من قوانين وحقوق فصار كالشهادة واعتبر فيه شرطان: أحدهما أن لا يخرج من الأموال إلا ما علم صحته كما لا يشهد إلا بما علمه وتحققه، والثاني أن لا يبتدئ بذلك حتى يستدعي منه كما لا يشهد حتى يستشهد، والمستدعي لإخراج الأموال من نفذت توقيعاته كما أن المشهود عنده من نفذت أحكامه، فإذا أخرج حالاً لزم الموقع بإخراجها والأخذ بها والعمل عليها كما يلزم الحاكم تنفيذ الحكم بما يشهد به الشهود عنده، فإن استراب الموقع بإخراج المال جاز أن يسأله من أين أخرجه ويطالبه بإحضار شواهد الديوان بها، وإن لم يجز للحاكم أن يسأل شاهداً عن سبب شهادته، فإن أحضرها ووقع في النفس صحتها زالت عنه الريبة، وإن عدمها وذكر أنه أخرجها من حفظه لتقدم علمه بها صار معلول القول، والموقع مخير بين قبول ذلك منه أورده عليه، وليس له استخلافه.

وأما السادس وهو تصفح الظلامات فهو يختلف بسبب اختلاف التظلم، وليس يخلو من أن يكون المتظلم من الرعية أو من العمال، فإن كان المتظلم من الرعية تظلم من عامل تحيفه في معاملته كان صاحب الديوان فيها حاكماً بينهما وجاز له أن يتصفح الظلامة ويزيل التحيف سواء وقع النظر إليه بذلك أو لم يقع، لأنه مندوب لحفظ القوانين واستيفاء الحقوق فصار بعقد الولاية مستحقاً لتصفح الظلامة، فإن منع منها امتنع وصار عزلاً عن بعض ما كان إليه، وإن كان المتظلم عاملاً جوزف في حساب أو غولط في معاملة صار صحب الديوان فيها خصماً، وكان المتصفح لها والي الأمر.