السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان

نظرات في الطريق إلى بلاد الحبشة: هي: رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأمها: صفية بنت أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، تزوجها عبيد الله بن جحش فولدت له حبيبة فكنيت بها.

إن الباحث في تاريخ الأمم السالفة.

يجد أن هلاك هذه الأمم يعود سببه إلى شركهم بالله.

والإعراض عن آياته.

والإستكبار في مقابل الحق.

وتكذيب الرسل.

فإلى هذه الأسباب تعود المعيشة الضنك والهلاك والإستئصال من عصر نوح عليه السلام إلى قيام الساعة.

والله تعالى لم يهلك أمة إلا بعد الإنذار وإتمام الحجة.

وعندما بعث الله تعالى نبيه الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.

تكاتف وعاء الكفر والشرك والإستعباد والإستكبار والتفاخر.

والتكذيب والجهل والسخرية والظلم والطاغوت إلى آخر التفريعات الشيطانية.

تكاتف أصحاب النفوس المريضة على إمتداد مسيرة الأمة ووضوا العوائق أمام الدعوة حتى لا تسوق الناس إلى سعادة الدنيا وآخرة.

كان النظام الشيطاني

بالمرصاد لكل من يحمل معالم الاتحاد والإخلاص والأدب والإستقامة والتطهير والتعقل والإحساس والتقوى والتوسل والجهاد والحلال والحمد

إلى آخر ذلك من تفريعات الصراط المستقيم.

وفي عهد البعثة إستهزأ الكفار بالمبعوث صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن الكفار أهلا " لسماع الحق وتعقله.

نظرا " لما في صدورهم من إستكبار وكان طابور الشرك يتمسك بالأصنام وفي هذا دليل على عدم معرفتهم بمقام الله تعالى وخروجهم عن الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها.

وكان لازم ذلك أن يتعقلوا وينصتوا للحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

لكنهم مكروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وغضبوا من إنتشار الإسلام واضطهدوا المستضعفين من الذين آمنوا وأخرجوا وقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه.

وبالجملة: فقد المشركون استعداد الايمان لإعراضهم عن إتباع الرسول وذكر الله.

وفي عهد البعثة الخاتمة صد الذين كفروا من أهل الكتاب عن سبيل الله.

والطائفتان من أهل الكتاب - اليهود والنصارى - يرجعان إلى أصل واحد.

وهذا الأصل يحمل فيما يحمل صفات النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن الذين كفروا منهم تعاموا عن ما بين أيديهم.

وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل إليهم كتابا " من السماء.

ولقد سعى اليهود ضد المسلمين وأشعلوا الفتنة ضد الإسلام فلم يؤثر ذلك لأن الله تعالى الذي بيده عذاب الدنيا من سبي وشتات وضرب للذلة والمسكنة وغير ذلك.

بيده أيضا " النصر وتوريث الأرض لعباده الصالحين إلى غير ذلك.

أما النصارى فلقد وقفوا تحت لافتات وهم لا يعلمون معنى واحدا " من العناوين التي تحملها اللافتة.

لقد قالوا إن المسيح (إله) و (إنسان) أيضا "، وقالوا بعقيدة التثليث التي لم تذكر التوراة عنها شيئا ".

ويعلم الباحث في هذا الباب.

أن مصادر هذه العقيدة مصادر وثنية.

ولا يستطيع باحث أن يرد القول بأن عقيدة التثليث والفداء والصليب من عقائد الهنود.

وأن هذه العقيدة كانت شائعة بين عبدة الأصنام القدامى.

وإن العبادة على طريق هذه العقيدة تتنافى مع تعليمات المسيح نفسه.

وبالجملة: كان أبو سفيان بن حرب في زمن البعثة يحمل في يده لواء الكفر والشرك والإستكبار في مقابل الحق.

ولم يترك طريقا " يقود صاحبه إلى الإيمان بالله ورسوله إلا ووضع عليه العوائق، وكان اليهود يتحصنون في قرى داخل الحجاز.

يراقبون ويوسوسون إبتغاء الفتنة وإبتغاء إشعال نار الحرب.

وكان النصارى في الحجاز وخارجه عاكفين على عقيدة لم يكن المسيح مسؤولا " عنها.

وكان بين أهل الكتاب من يبحث عن الحقيقة.

وهؤلاء لم تخلوا منهم صحراء الحجاز وما حولها.

وكانوا في بلاد الحبشة وبلاد مصر نظرا " لأن الكنيسة الأثيوبية والكنيسة المصرية يقفان على أرضية واحدة وتحت ظل واحد.

بمعنى: إن نجاشي الحبشة إذا تأثر بشئ.

وجدت أثر ذلك في مقوقس مصر.

والخلاصة: لما كان أبو سفيان عضوا " أصيلا " في طابور الصد عن سبيل الله.

فإن النجاشي كان عضوا " أصيلا " في قافلة البحث عن الحقيقة.

وبين ما يمثله أبو سفيان وبين ما يمثله النجاشي.

دارت قصة أم حبيبة بنت أبي سفيان.

أخرثغ ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ المشركين.

بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم.

فذكروا إنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وقالوا: إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامهم، زعم أنه نبي، وانه بعث إليك رهطا " ليفسدوا عليك قومك.

فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم.

قال: إن جاؤوني نظرت فيما

يقولون، فلما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي.

فقالوا: أستأذن لأولياء الله، فقال: أئذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: الم تر أيها الملك أنا صدقناك، وإنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها ؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة.

فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا: يقول: عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم: إنها العذراء الطيبة البتول.

فأخذ النجاشي عودا " من الأرض وقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم.

فقال: هل تقرؤن شيئا " مما أنزل عليكم ؟ قالوا: نعم، قال: فاقرؤوا، فقرؤوا وحوله القسيسون والرهبان.

فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان.

كلما قرأوا آية إنحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق.

وهو قوله تعالى (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " وأنهم لا يستكبرون.

وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) (1).

وروي أن النجاشي بكى وأسلم.

وأسلم معه خاصته.

وروي أنه خرج من بلاد الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما عبر البحر توفي.

وروي عن سعيد بن جبير: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرأ في سبعين راكبا " إلى النجاشي يدعوه.

فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به، فلما كان عند إنصرافه.

قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا ": أئذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به، فقدموا مع جعفر، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة.

__________________

(1) سورة المائدة آية 82.

إستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا نبي الله إن لنا أموالا " ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة.

فإن أذنت لنا أنصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم، فإنصرفوا، فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين.

فأنزل الله تعالى فيهم (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين.

أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة.

ومما رزقناهم ينفقون.

وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) (1) فكانت النفقة.

التي واسوا بها المسلمين، فلما سمع أهل الكتاب مس لم يؤمن بالله ورسوله.

قوله تعالى (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) فخروا على المسلمين.

فقالوا: يا معشر المسلمين.

أما من آمن منا بكتابنا وكتابكم فله أجران.

ومن آمن منا بكتابنا

فله أجر كأجوركم.

فما فضلكم علينا ؟ فنزل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا " تمشون به.

ويغفر لكم والله غفور رحيم.

لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله) (2) فجعل لهم أجرين.

وزادهم النور والمغفرة.

ثم قال (لئلا يعلم أهل الكتاب) (3).

وبالجملة: واجهت الدعوة الإضطهاد من قريش ومن معهم من القبائل في جزيرة العرب.

وواجهت فتنة التأويل التي سهر على إشعالها صناديد قريش.

وحمل وقودها أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

_____________________

(1) سورة القصص آية 53.

(2) سورة الحديد آية 28.

(3) تفسير الميزان 176 / 19.

 زواجها: كان أهل الكتاب قد رفعوا لافتة تحمل كل معاني الفتن.

وقالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابنا وكتابكم فله أجران.

ومن آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم.

فما فضلكم علينا ؟ وأنطلقت هذه الفتنة حتى إستقرت في الجزيرة وما حولها وفي الحبشة وغيرها.

ورد الله كيدهم إلى نحورهم وأنزل ايات بينات وأخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

أن الإيمان بالرسالة الخاتمة شرط لنيل رضا الله تعالى.

وروي أن عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة لم يستمع ولم ينصت لصوت الحجة الدامغة.

وسلك في الفتنة التي تصد عن سبيل الله.

فعن أم حبيبة قالت: رأيت في المنام كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوء صورة وأشوهه.

ففزعت فقلت: تغيرت والله حاله.

فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر دينا " خيرا " من النصرانية.

وكنت قد دنت بها.

ثم دخلت في دين محمد.

ثم رجعت إلى النصرانية.

فقلت: والله ما خير لك.

وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له.

فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات.

فرأيت في النوم كأن آتيا " يقول لي: يا أم المؤمنين.

ففزعت وأولتها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني.

قالت: فما هو إلا أن أنقضت عدتي.

فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن.

فإذا جارية له يقال لها (أبرهة) كانت تقوم على ثيابه ودهنه.

فدخلت علي.

فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلن أن أزوجك.

فقلت: بشرك الله بخير.

وقالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك.

فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته.

وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سرورا " بما بشرتها به.

فلما كان العشى أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا.

فخطب النجاشي.

فقال: الحمد لله.

الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار.

الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا " عبده ورسوله.

وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.

أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان.

فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد أصدقها أربعمائة دينار.

ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.

فتكلم خالد بن سعيد.

فقال: الحمد لله.

أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد إن محمدا " رسوله.

أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان.

فبارك الله لرسوله.

ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا.

فقال: أجلسوا فإن سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا تزوجوا أن يؤكل الطعام على التزويج.

فدعا بطعام.

فأكلوا ثم تفرقوا.

قالت أم حبيبة: فلما وصل إلي المال.

أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني.

فقلت لها: إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي.

وهذه خمسون مثقالا " فخذيها فإستعيني بها.

فأخرجت إلي حقة فيها جميع ما أعطيتها فردته إلي.

وقالت: عزم علي الملك أن لا أرزأك شيئا ".

وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه.

وقد أبتعت دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلمت لله.

وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر.

فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر كثير.

وقدمت بذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يراه على وعندي فلا ينكر.

ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام.

وتعلميه إني قد أتبعت دينه.

قالت: ثم لطفت بي.

وكانت هي التي جهزتني.

وكانت كلما دخلت علي تقول: لا تنسي حاجتي إليك.

قالت: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أخبرته كيف كانت الخطبة.

وما فعلت بي أبرهة.

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأقرأته منها السلام.

فقال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته (1).

وعن عبد الواحد بن عون قال: لما بلغ أبا سفيان بن حرب نكاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته قال: ذاك الفحل لا يقرع أنفه(2).

وبالجملة: بعثت قريش البعوث إلى الحبشة للصد عن سبيل الله.

وحمل الذين كفروا من أهل الكتاب الفتن التي تعوق تقدم الدعوة.

وتكاتف هؤلاء مع هؤلاء.

ولا ندري هل كان عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة حلقة في هذه الدوامة التي تشكك في دين الله وتعبئ الصدور بالحق على الذين آمنوا.

وهل كان أبو سفيان يجهز لثقافة تتفق مع ثقافة التشكيك التي قام بها أهل الكتاب.

مستندا " على ما قام به عبيد الله بن جحش.

وهل كان في جعبة أبي سفيان بعض قصص التشكيك في دين الله وكان يعد العدة لنشرها حول أم حبيبة بعد إرتداد زوجها ؟ وعلى أي حال فلقد رد الله كيد أعداء الدين إلى نحورهم.

وكان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأم حبيبة سكن لها وتطييب لخاطرها.

وكان فيه إغلاقا " لأبواب الفتن.

وكان فيه ضربة قوية لأصحاب العقول الماكرة والصدور الحاسدة.

وفاتها: قال أبو عمر: توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين.

وعن علي بن الحسين قال: قدمت منزلي في دار علي بن أبي طالب عليه السلام.

فحفرنا في ناحية منه.

فأخرجنا منه حجرا ".

فإذا فيه مكتوب: هذا قبر رملة بنت صخر.

فأعدناه مكانه (3).

_________________

(1) رواه الحاكم (المستدرك 21 / 4)، الإستيعاب 441 / 4، الإصابة 305 / 4، الطبقات الكبرى 97 / 7.

(2) رواه الحاكم (المستدرك 22 / 4).

(3) الإستيعاب 306 / 4.