وخلفه في الأحكام بحضرة غرناطة الأستاذ محمد بن يحيى بن أحمد بن محمد بن بكر ابن سعد الأشعري المالقي، من ذرية بلج بن يحيى بن خالد بن عبد الرحمن بن يزيد بن أبي بردة واسمه عامر بن أبي موسى واسمه عبد الله بن قيس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! ذكره ابن حزم في جملة من دخل الأندلس من المغرب؛ يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بكر. هذا نص ما وقع إثر اسمه عند ذكره في الكتاب المسمى ب عائد الصلة وتحققنا من غيره صحة معناه. ولنذكر الآن نبذاً من أنبئه وسيره في قضائه. فنقول أولا: كان شيخنا هذا أبو عبد الله رحمه الله وأرضاه! ممن جمع له بين الدراية والرواية؛ لازم من قبل سن التكليف صهره الشيخ الفقيه الوزير أبا القاسم بن محمد ابن الحسن، وقرأ عليه بمنزله القرآن، وتأدب معه، واختص بالأستاذ الخطيب أبي محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي الأموي، وأخذ عن الرواية أبي عبد الله محمد بن عباس الخزرجي بن السكوت، والخطيب الولي أبي الحسن بن فضيلة، والأستاذ أبي الحسن ابن اللباد المدني. ورحل إلى مدينة سبتة؛ فأخذ بها عن عميد الشرفاء أبي علي بن أبي التقي طاهر بن ربيع، وأبي فارس عبد العزيز الهواري، وأبي إسحاق التلمساني، وأبي عبد الله ابن الخضار، والمقرئ أبي القاسم بن عبد الرحيم، والأستاذ أبي بكر بن عبيدة. وأجازه من أهل المشرق الإمام شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي بالدال المهملة، والرواية المتحدث أبو المعالي أحمد بن إسحاق القوصي، إلى جماعة من المصريين والشاميين وغيرهم. وعاد إلى بلده مالقة، وقد صار سباق الحلبات معرفة بالأصول، والفروع، والعربية، واللغة والتفسير، والقراءات، مبرزاً في علم الحديث تأريخاً، وإسناداً، ونسخاً، وتصحيحاً، وضبطاً، حافظاً للألقاب والأسماء والكنى؛ فتصدر في فنون العلم. وكان كثير النصيحة، حريصاً على الإفادة؛ فنفع وأدب، وخرج وهذب، حتى صار أصحابه على هيئة متميزة من لباس واقتصاد، وجد واجتهاد. وكثيراً ما كان يقول لفتيان الطلبة ما قاله الجنيد بن محمد، وهو: يا معشر الشباب! جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي! فتضعفوا وتقصروا كما قصرت! وكان الجنيد وقت الشاخة لا يلحقه الشباب في العبادة. ومن تلك النسبة أيضاً كان شيخنا أبو عبد الله بن بكر؛ فإنه لم يكن في الغالب يأكل إلا عند حاجة، ولا ينام إلا عن غلبته، ولا يتكلم بغير العلم إلا عن ضرورة. وبقي كذلك زماناً، يدرس بالمسجد القريب من منزله سكناه احتساباً. ثم تقدم ببلاده للوزارة، ناظراً في أمور العقد والحل، ومصالح الكافة. ثم ولي القضاء به؛ فأظهر من الجزالة والشدة ما ملأ به وجداً صدور الحسدة، ونسبوا إليه أموراً حملت على إخراجه من مالقة، وإمكانه بغرناطة؛ فبقي بها يسيراً، وتقدم منها بالمسجد الجامع خطيباً. ثم ولي قضاء الجماعة؛ فقام بالوظائف، وصدع بالحق، وبهرج العدول؛ فزيف منهم ما ينيف على الثلاثين عدداً، استهدف بذلك إلى محادة ومناسبة ومعادلة خاض ثبجها وصادم تيارها غير مبال بقيل أو قال؛ فأصبح في عمله، مع كتبة الوثائق بغرناطة، أشبه القضاة بيحيى بن معمر في طلبه قرطبة، إذ بلغ من مناقشته أن سجل في يوم واحد بالسخطة على تسعة عشر رجلاً منهم وجرت لابن بكر في هذا الباب حكايات يطول ذكرها، إلى أن استمرت الحال على ما أراده. وعزم عليه أميره في إلحاق بعض من أسخطه بالعدالة؛ فلم يجد في قناته مغمزاً؛ فسلم له في نظره.
ولم يزل مع ذلك ملازماً أيام قضائه للاقراء مع التعليم: درس العربية، والأصول، والفقه، وإقراء القرآن، والحساب، والفرائض؛ وعقد مجالس الحديث شرحاً وسماعاً، وربما نحا في بعض أحكامه أنحاء مصعب بن عمران أحد القضاة قديماً بقرطبة؛ فكان لا يقلد مذهباً، ويقضي بما يراه صواباً. وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة بعد، بحول الله. وإن قلنا عن القاضي ابن بكر إنه كان في شدائد أحكامه أشبه علماء وقته بسحنون ابن سعيد، لم يكن في ذلك ببعيد؛ فإنه أدب الناس على الحلف بالإيمان اللازمة، وأنكر سوء الحال في الملابس، وفرق مجتمعات أرباب البدع، وشدد أهل الأهواء بالسجن والأدب، على سبيل في ذلك كله من اتباع السنة وإطراح الهواء له، وخفض الجناح لأهل الخير. وكان في خطبه وصلاته كثير الخشوع، لا يتمالك من سمع صوته في الغالب من إرسال الدموع؛ يقرأ في الصبح بما فوق المفصل؛ فيحسبه المصلى خلفه كأنما قرأ بآية واحدة، لحسن قراءته، وطيب نغمته، وصدق نيته؛ وإذا ذكر شيء؛ من أمور الآخرة، ظهر على وجهه الاصفرار؛ ثم يغلبه البكاء، ويتمكن منه الانفعال. فكان، في معاملته لأصحابه، على مذهب الفرج بن كنانة، لا يرى زلة لصديقه، ولا يعدل في حاجته إليه عن طريقه؛ وقلما كان يتخلف في يوم من أيامه عن عيادة مريض، أو شهود جنازة، أو تفقد محتاج، أو زيارة منكوب. ومن ذلك ما حدثني به قريبنا وقريبه الشيخ الرواية المحدث الحاج أبو القاسم بن عبد الله، وهو أنه لما اعتقل بدار الإشراف من الحضرة، على ما نسب إليه من المسامحة في إضاعة مال الجباية، أيام كانت أشغال السلطنة لنظره، أن زاره القاضي أبو عبد الله يوماً في محبسه. قال: فذكرته بعادته من مشاركته لأصحابه ولإخوانه وله ابن عوانة. قال: فاستعبر، واستغفر، وأقام معي هنيئة ساكتاً مفكراً؛ ثم تناول القرطاس، وكتب يخاطب الأمير بما نصه: الحمد لله! مولاي أمدك الله بتوفيقه، وحملك من الرشاد على أوضح طريقه! أسلم عليك وأسائلكم، حققت رجاء الآملين وسائلكم، ولا خاب من قصد لديكم قاصدكم وسائلكم! ما كان من حديثي الذي لم يزل ذا قدم صدق في خدمة الإيالة الإسماعيلية وبنيها، وخاصتها وذويها، واداً لأودائها. نائباً عن متاربها، يرفع لنصحها في كل ميدان خدمة لواء، ويؤم أولياءها ثقة وأعداءها مقتاً ولواء، ويجر من نصحها من حسن الطوية رداء، إلى أن تحمل من عدوى الجوار داء، وجعل لصاحب الجريمة، من أخذ بالجريرة غير ناره، وكوى لعجز جاره، وتارة عدوه ولم يقم له هو ولي بثأره. فهل عثر البحاث البدعي في نواحي عمله وفي خفيات سره، على مقربة خبر. أو أتى البحاث السريع في هزجه ورمله بأثارة علم تكشف العمى وتضئ الطريق لأولى البصر؟ حنانيك أعد النظر فما هي إلا القيت يقرقر زجاجة، من قضابها لغيرك فيما اخبث حاجة. وإن كان وقع لما ألقاه في الأمر شيء من الباس، وحضر لما زينه وأعانه عليه قوم آخرون من الناس، فما بنا من ظهور الحق لديك اياس، وحاشاك أن يخفض للجوار بحضرة عهدك الكريم كبير أناس. فأعرض عما تسوله شياطين الأنس وتحلية، وتعده من الأباطيل وتمنيه، وعد عما يزخرفه كل خف مزق القول منها فيستند كل نقل روايته إلى أصل غير ثابت؛ فيربط قياس رؤيته بما اطمع خضراء الدمن نابت، قد غمس في آل القاضي يمين طعمه، وجزاه على غموس اليمين فرط هلعه. فما ينطق لسانه إلا بما يجعل في كفه من الصامت، واعتمد مشورة ناصح لك بإلغاء نصحه حذر الوشاة فتخافت. وإذا حضرك الغاوون المستبغون، وألقوا من حبال كيدهم وعصى مكرهم ما هم ملقون؛ فتعوذ بالله من شر ما يشركون، واستحضر من الحق كلمة تلقف ما يافكون، ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً. ثم اسمع من لسان الحال، وهو أفصح من لسان المقال، حجة من اعتاد سيلان الفضائل من يديك، ومثله جاثياً للاحتكام لديك، أليس من قواعد الحكم نظر حال المدعى وحال المدعى عليه، ومن يليق به ما عزى له ومن لا يناط به ما نسب إليه؟ هل يستويان مثلاً، أو يتقاربان قولاً، ويتقارنان عملاً، أو يتباعدان بعد المشرقين، ويتباينان فوق ما بين عطاردين؟ فمن الذي يتلو الآيات ويردد واعظها، ويسرد الأحاديث ويسمع مواعظها، ويطرد في الاسحار الهجوع، ويرسل في مجالس الخير الدموع، ويتعبد مع العابدين، ويتقلب مع الساجدين؟ أم هو كذا وكذا وكيت وكيت مما يكثر عند التعداد، ولا يحمل في مثله استعمال القلم والمداد؟ فعلى من تحمل اليمين والكذب، أعلى من ألفه الجد أم على من غلب عليه اللعب؟ فإن غير هذا أو غير هذا لأمر ما وقيل هما في الثناء سيان، وعند النداء سميان، وقد ظهر للمدعى في صكوك الحساب رجحان، وهذا ديوان العمل فيه شهادة فلان على خط المطلوب وفلان، فادرا هذه الشبهة المشوهة والحجة الداحضة المموهة. فإن اضطراب المذاهب في العمل بالكتاب، وتفرق أربابها على أشتات الطرق والشعاب، فمنهم من أهمله جملة في كل الأمور ومنهم من أعمله في بعضها وهو القول المشهور! يا للعجب إذا كانت شهادة العدول ترد بالاستبعاد، بدعوى فيما يقدر على تحصيله بيسير العثرات والاحاد! وعند التأمل بإنصاف، وتجنب الميل والانحراف، يبدو من أحوال هذه القضية قرائن توجب فض ذلك المكتوب، وتؤذن ببراءة المحبوس من العدد المطلوب، وإن كان من جد هذا القول ليس من أهل التحبير، ولا ممن عرف بجودة البيان وبلاغة التعبير، فإنه ذو عسرة جاد بما وجد، وحليف وجد عصر بلالة طبعه شدة ما به من الكمد، أبقاك الله وكتب لك سداد الرأي وسعادة الأبد، وعزاً ونعيماً لا يحصرهما حد، ولا ينتهيان إلى أمد! وصلى الله على سيدنا محمد وآله صلاة دائمة ما دام ثناؤه في الألسن وثراه في الخلد! قال الشيخ أبو القاسم: وختم الكتاب بعد ما علقه لأعجمي له ودفعه لمن بلغه. فما تم النهار إلا والبشير قد وصلني بالإعتاب، ورفع التوجه من العتاب. والحمد لله على ما منح من ذلك! قال المؤلف أدام الله سعادته! وهذا المرسوم الفريد، إن كان شيخنا أبو عبد الله بن بكر قد أتى به على البديهة، إنه لأغرب من الخطبة التي قام بها منذر ابن سعيد بين يدي الخليفة الناصر، حين أرتج على محمد بن عبد البر وحيل بينه وبين ما رواه، وانقطع القول بأمير الكلام أبي علي القالي. وإن كان الشيخ قد جدد قديماً ما أظهره وأعده، قصد مناظرة أخيه؛ فلقد أحسن في عمله ما شاء، وأجاد الإبداع والإنشاد.
ويقرب من هذا النمط ما حدثنا به صاحبنا الخطيب أبو جعفر الشقوري عن القاضي أبي عبد الله المذكور، أنه كان قاعداً يوماً بين يديه، في مجلس قضائه من حضرة غرناطة مهدها الله تعالى! وإذا بامرأة قد رفعت له بطاقة مضمنها: يا سيدي رضى الله عنكم! إنما محبتها في الرجل الذي طلقها وهي تريد من يكلمه في ارتجاعه لها وردها إليه. قال: فتناول القلم، وكتب على ظهر البطاقة أحرفاً، ودفعها إلي؛ فإذا هي: الحمد لله! من وقف على ما في القلوب فليصخ لسماعه إصاخة مغيث، وليشفع لتلك المرأة عند مفارقها تأسياً بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لبريرة في مغيث! والله تعالى يسلم لنا العقل والدين، ويسلك بنا سبيل المهتدين! ومن نصائحه لطلبته: أوصيكم، بعد تقوى الله العظيم، بثلاث خصال: ألا تكتبوا خطاً دقيقاً؛ فإنه يضر بأبصاركم، ويقل انتفاع الغير به بعدكم؛ وإذا خططتم أحداً، فلا حظوا تخطيطه أن يكون الشخص المخطط غير خلي من المعنى الواقع في اسمه، توخياً منكم للصدق، وتحرياً عن التجاوز المحض؛ ولا يكن همكم بكتب الشيوخ لكم على ما قرأتم. وليكن همكم أن تكونوا من الديانة والدراية بمثابة من يقبل قوله فيما يدعيه ولا يكذب فيه إلى غير ذلك من خطبه ومواعظه وأدبه.
وكان في أقضيته لا يرى الحكم بمجرد التدمية، إذا لم يقترن بها لشيء من اللوث، ويرخص للرجل في متابعته لزوجته بالأدب، ويوجبه على الصلاة، بخلاف ما ذهب إليه ابن أبي زيد في نوادره، ويردد ما ورد في الصحيح: ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته! وكان لا يوسع للناشر عن رأي الفرار بعد الدخول ويجبرها على الرجوع، إلى أن أحدثت له بمالقة، أيام قضائه بها، مع رجل من أهلها يعرف بعبد الله الوردي؛ فأمسك عن ذلك. وكان يأخذ بمذهب الليث بن سعد في كراء الأرض بالجزء مما تنبت، ويحذر من الركون إلى مقالات محمد بن عمر الرازي المعروف بابن خطيب الرأي في المباحث، وينكر عليه ما قرره آخر محمله من الأراء وقوله في الأربعين: أما الكافر، فهو على قول الأكثر من الأمة يبقي مخلداً في النار؛ وهذا القول من ابن الخطيب فيه ما فيه؛ فإن المخالف في تخليد الكافر في النار هو من القلة والشذوذ، بحيث لا يلتفت إليه، ولا يعد كلامه قولاً في المسألة. وكان يقول: من لم يتمرن في عقود الشروط، ولا أخذ نفسه بالتفقد في كتب التوثيق، لا ينبغي له أن يكون قاضياً، وإن كان قوياً فائقاً في سائر العلوم! وإن ذهبنا إلى تقدير ما تلقيناه من شيخنا القاضي أبي عبد الله في مجالسه العلمية من نكت النوازل وطرف المسائل، طال بنا القول، وأدرك فريضتنا العول! وفيما ذكرناه العناية الكافية. وبالجملة، فما كان إلا كما ذكر بقي بن مخلد عن محمد بن بشير حيث قال: ما كان يقاس إلا بمن تقدم من صدور هذه الأمة. ومن تلك الطبقة كان محمد بن بكر عند من عرفه واستمر على عمله من الاجتهاد، والرغبة في الجهاد، إلى أن فقد رحمه الله! في مصاف المسلمين، يوم المناجزة الكبرى بظاهر طريف، شهيداً محرضاً، يشحد البصائر، ويدمن الأبطال، ويشير على الأمير أن يكثر من قول: حسبنا الله ونعم الوكيل! وقد كتف دابته التي كان عليها راكباً، وهو رابط الجأش، مجتمع القوى، وأنشأ عليه بالركوب وقال له: انصرف! هذا يوم الفرح! يشير، والله أعلم، إلى قوله تعالى في الشهداء: "فرحين بما آتاهم الله من فضله"؛ وذلك ضحى الإثنين السابع من جمادى الأولى عام 741، عن غير عقب من الذكور. ومولده في أواخر شهر ذي الحجة من عام 673.