ذكر القاضي أبي عبد الله محمد بن أحمد الطنجالي

ومهم قريبنا وصاحبنا، الخطيب أبو عبد الله محمد بن شيخنا الخطيب أبي جعفر أحمد ابن شيخنا أيضاً الولي الكبير الشهيد أبي عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الهاشمي الطنجالي، أحد أماثل قطره، وذوي الأصالة والجلالة من أهله. تقدم قاضياً ببلده مالقة، وقد نجمت بن بواكي الوباء الأكبر، وذلك صدر عام 750، بعد تمنع منه واباية. فلم يوسعه الأصحاب عذراً في التوقف، وشرطوا له عونهم اياه، كالذي جرى للحارث بن مسكين بمصر مع إخوانه في الله تعالى. وما كان إلا أن ولي الطنجالي وحمى وطيس الطاعون الأعظم الذي حسبت ظهوره في زماننا هذا أنه من علامات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم! فقد ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتى؛ ثم فتح بيت المقدس؛ ثم موتان يأخذ فيكم كعقاص الغنم؛ ثم استفاضة المال؛ حتى يعطى الرجل مائة دينار، فيظل ساخطاً؛ ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية إثنا عشر ألفاً! نص. والغاية هي الراية؛ وبنو الأصفر هم الروم.

ولا يبعد أن تكون المهادنة المشار إليها هذه التي نحن فيها في الأندلس منذ اثنين وثلاثين سنة، أولها هلاك ملك النصارى المسمى بالفنش بن هرانده بن شانجه، وهو بظاهر جبل الفتح حاصراً له، وذلك عاشر المحرم من عام 750 والى هلم. وقلما يعلم أنه جرى بين الملتين مثلها في طول المدة واستصحاب المسالمة. والله أعلم بالمراد من ذلك كله، في الحديث الذي أوردناه، هل هو ما ذكرناه ونبهنا عليه، أم غيره! وعلى كل تقدير، والله تعالى يلطف بالساكن في هذه الجزيرة المنعطفة من البحر الزاخر، والعدو الكافر، ويجعل عافية من بها إلى خير! والعقاص المذكور في الحديث هو داء يصيب الغنم، فتموت بإذن الله. والطاعون سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: رجس أرسل على بني إسرائيل! وقيل إنه أول ما بدأ بهم في الأرض، ومات به منهم عشرون ألفاً. وقيل: سبعون ألفاً في ساعة واحدة. وقيل إنهم عذبوا به. وفي الحديث أيضاً سئل عليه السلام! عن الطاعون؛ فقال: غدة كغدة البعير، تخرج في المراق والآباط. قال أبو عمر: قال غير واحد: وقد تخرج في الأيدي، والأصابع، وحيث ما شاء الله من البدن. وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم! حق وإنه الغالب. وقال الخليل: الوباء الطاعون. وقال غيره: كل مرض يشتمل الكثير من الناس في جهة من الجهات، فهو طاعون. وعن عياض: أصله القروح في الجسد؛ والوباء عموم المرض: فسمى لذلك طاعوناً، تشبيهاً بالهلاك. وقيل فيه غير ما ذكر. وقد شاهدنا منه غرائب يقصر اللسان عن بيان جملة أجزائها. ومنها انتهى عدد الأموات في تلك الملحمة الوبائية بمالقة إلى ما يزيد في اليوم على الألف، بقي بعد ذلك أشهراً حتى خلت الدور، وعمرت القبور، وخرج أكثر الفقهاء والفضلاء والزعماء، وذهب كل من كان قد شرط للقاضي أبي عبد الله إعانته على ما تولاه.

وكان من لطف الله تعالى بمن بقي حياً من الضعفاء بمالقة كون القاضي لهم بقيد الحياة، إذ كان قبل ذلك، على تباين طبقاتهم، قد هرعوا إليه بأموالهم، وقلدوه تفريق صدقاتهم؛ فاستقر لنظره من الذهب، والفضة، والحلي، والذخيرة، وغير ذلك، ما تضيق عنه بيوت أموال الملوك؛ فأرفد جملة من الطلبة وفقراء البلدة، وتفقد سائر الغربة، وصار يعد كل يوم تهيئة مائة قبر حفراً، وأكفانهم برسم من يضطر إليها من الضعفاء فشمل النفع به الأحياء والأموات. بقي هو وغيره من أهل القطر على ذلك زماناً، مشاركة بالأموال ومساهمة في المصايب والنوازل، إلى أن خف الوباء، وقل عدد الذاهبين به والمسالمين بسببه؛ فأخذ بالجد التام في صرف الأوقات إلى إمكانها، ووضع العهود في مسمياتها؛ فانتشع بذلك الفل، وذهب على أكثرهم القل. والله لطيف بعباده.

وكان هذا الرجل المترجم به جلداً، قوياً في نفسه، بدناً، طوالاً هاشمياً خلقاً وخلقاً، نبيهاً، نزيهاً، خطيباً، مهيباً، أصيل الرأي، رصين العقل، قائماً على عقد الشروط وعلم الحساب والفرائض على طريقة جده وسميه الولي أبي عبد الله. ولما من الله سبحانه برفع ما كان نزل بالناحية المالقية من الطاعون، واستروح من بقي بها من الخلائق روح الحياة، وكادت النفوس أن ترجع إلى مألوفاتها، وتقوم ببعض معتاداتها، نهض بنفسه القاضي أبو عبد الله إلى أمير المسلمين السلطان المؤيد أبي الحجاج رحمه الله وأرضاه! فورد عليه، وهو بحضرته، وطلب منه الإنعام عليه بالإعفاء من القضاء؛ فأنزله بمنزلة التجلة، وراجعه بعد ذلك بما حاصله: حوائجك كلها مقضية لدينا، إلا ما كان الآن من الإعفاء؛ فارجع إلى بلدك، واكتب إلينا إن شئت من هنالك بما يظهر لك، بعد تقديم الاستخارة. ولعل العمل أن يقع بموافقة إرادتك، إن شاء الله! فارتحل عنه شاكراً فعله، وداعياً بالخير له، هو وكل من بلغه عن السلطان ما قابل به مستعفيه. هذا من التلفظ الجميل، والفضل الجزيل. ثم كتب من بلده مالقة، يخبر باستمرار عزيمته على ما نواه أولاً من الخروج عن القضاء، والاقتصار على الخطة. فوصله الجواب بإسعاف غرضه. وتقدم الشيخ أبو القاسم بن سلمون الكناني قاضياً في مكانه. فأظهر السرور بذلك كله. ولما قدم ابن سلمون على مالقة، تلقاه، وحياه، وحضر عن اختياره، تخلقاً منه وتواضعاً في جملة الفقهاء وعامة أهل المصر بالقبة الكبرى من المسجد الجامع، عند قراءة رسوم الولاية، على العادة المعتادة هنالك. ثم انتقل القاضي الجديد، إثر الفراغ من الغرض المطلوب، بالاجتماع إلى مجلس الحكومة؛ فمال إليه الحاضرون، وتبعوه بجملتهم، وتركوا صاحبهم القديم، كأن لم يشعروا به، كالذي جرى ليحيى بن معمر بقرطبة مع أصحابه، إذ الناس ناس والزمان زمان. ولم يثبت إذ ذاك مع الطنجالي أحد من القوم غيري، وغير الخطيب أبي عبد الله بن حفيد الأمين. فتأملت، أثناء ما دار بيننا من الكلام في الموطن، وجه صاحبنا القاضي؛ فإذا هو على هيئة المتخشع، لمفارقته المألوف قبل من أيمة الخطة، وتكاتف الحاشية، وترادف الوزعة. فتذكرت عند ذلك الحكاية التي نقلها الحسن بن محمد بن أبي محمد بن أسد، وقد أثبتها ابن بشكوال أيضاً في صلته. وهي أن السلطان كان قد تخيره لقراءة الكتب الواردة عليه بالفتوح بالمسجد الجامع من قرطبة على الناس، لفصاحته، وجهارة صوته؛ فتولى له ذلك مدة قوته ونشاطه؛ فلما بدن، وتثاقل، استعفاه؛ فأعفاه، ونصب سواه. فكان يقول عند ذكره الولاية والعزل: ما وليت لبني أمية ولاية قط غير قراءة كتب الفتوح على المنبر! فكنت أنصب فيه، واتحمل الكلفة دون رزق ولا صلة. ولقد كسلت منذ أعفيت عنها، وخامرني ذل العزلة! ولم تكن نفس الخطيب أبي عبد الله المستعفى عن القضاء بتلك المنزلة الموحدة؛ ولاكنه ظهر لي إذ ذاك، لأجل ما تخيلت من انفعاله، أن كتبت له، عند حلوله بمنزله، بالأبيات المثبوتة بعد على جهة التسلية، والتغبيط بالتخلية. والمنظوم هو ما نصه:  

لك الله با بدر السـعـادة والـبـشـر

 

نشـرت بـأعـلـى راية الـفـخـر

ولا سـيمـا لـمـا ولـيت أمـورهـا

 

فرويتها من عذب نائلـك الـغـمـر

ودارت قضاياها عـلـيك بـأسـرهـا

 

على حين لا بد يمين عـلـى بـشـر

فقمت بها خير الـقـيام مـصـمـمـاً

 

على مثل تصميم المهنـدة الـسـمـر

فسر بـك الإسـلام يا ابـن حـمـاية

 

وأمست بك الأحكام باسمه الـثـغـر

تعيد عليك الحمـد ألـسـن حـالـهـا

 

وتحفظ ما يرضيك من سور الشـكـر

ولكنك استعفـيت عـنـهـا تـورعـاً

 

وتلك سبيل الصالحـين كـمـا تـدرى

جريت على نهج السـلامة فـي الـذي

 

تخيرته فابشر بأمنك فـي الـحـشـر

وحـقـق بـأن الـدين ولاك خــطة

 

من العز لا تنفك عنها مدى العـمـر

تزيد عـلـى مـر الـجـديدين جـدة

 

وتسرى النجوم الزاهرات ولا تـسـر

ومن لاحظ الأحـوال وازن بـينـهـا

 

ولم ير للدنـيا الـدينة مـن خـطـر

وأمـسـى لأنـواع الـولاية نـابــذاً

 

فقير نكير أن تـواجـه مـن نـكـر

فيهنيك يهـنـيك الـذي أنـت أهـلـه

 

من الزهد فيها والتوقي مـن الـوزر

ولا تكترث مـن تـاركـيك فـإنـهـم

 

حصى والحصى لا ترتقي مرتقى البدر

ومن عامل الأعوام بالله مـخـلـصـاً

 

له فيهم نال الـجـزيل مـن الأجـر

بقيت لربع الفضل تـحـيى رسـومـه

 

وخار لك الرحمان في كل ما يجـرى

وكان شيخنا أبو عبد الله بن بكر يتوهم في أبي عبد الله الطنجالي السودد وهو صبي. وسمعته يقول، وقد دخل عليه في مجلس إقرائه بمالقة: هذا هاشمي، أشعري، إذ كانت والدته أمة العزيز بنت القاضي أبي عامر بن محمد بن ربيع الأشعري. وربما قصد الشيخ بمقالته الوصف بالمذهب الأشعري والتورية. والطنجاليون ينتسبون من أولاد هاشم بن عبد مناف إلى جعفر بن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وبنو هاشم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما فوق غالب غير آل. وما بينهما قولان. وكان من الأسباب الحاملة للقاضي أبي عبد الله على الاستعفاء من الحكم، ترادف النوازل المشتبهات عليه، بعد انصراف الطاعون، واختلاف من عاش بعده من الفقهاء، عند الأخذ معهم فيما يشكل عليه من المسائل. وكان يكره مخالفة من جملتهم، ويحذر موافقة بعضهم. وطمع في الشيخ الصالح أبي عبد الله بن عياش بقية أن يسمعه بحظ من نظره وإرشاده؛ فنفر عن ذلك كل النفور، وراجعه فيما قاله ابن فروخ لأبن غانم. ونصه: ولم أقبلها أميراً! أقبلها وزيراً؟ وأخبرني مع ذلك كله صاحبنا بأنه رأى في المنام ما يقتضى قرب وفاته من قراض مدة حياته؛ فجعل النظر لنفسه. فتوفي رحمه الله! بعد استعفائه، واجتهاده في طلب التخلص من تبعات قضائه، وذلك صدر عام 753، عن غير عقب من الذكور. وفجع به والده الخطيب أبو جعفر نفعه الله وأعظم أجره! وقولنا في الأبيات فابشر بأمنك في الحشر، وهو بفتح الشين، يقال بشرت بكذا، أبشر بكسر الشين في الماضي، وفتحها في المستقبل، إذا سررت به واستبشرت. فالأمر منه إبشر بكسر الهمزة وفتح الشين، نحو الأمر من علم يعلم وهمزته همزة وصل، لأنه أمر من فعل ثلاثي بعد حرف المضارعة منه ساكن؛ فتجتلب له همزة الوصل، لتعذر الابتداء بالساكن، وتكون الهمزة مكسورة، لأن ثالث المضارع مفتوح كإِعْلَمْ وإجعَلْ. فعلى هذا تقدير سقوط الهمزة من البيت الذي هو:  

جريت على نهج السلامة في الذي

 

تخيرته فابشر بأمنك في الحشـر

جار على القياس في سقوط همزة الوصل في الدرج والاعتراض في ذلك. ويكون معنى فابشر بامنك في الحشر أي اسرر واستبشر. قال الجوهري رحمه الله! بشرت الرجل ابشره بالضم بشراً وبشوراً من البشرى وكذلك الإبشار والتبشير ثلاث لغات. والاسم البشارة، والبشارة بالكسر والضم في الباء. يقال بشرته بمولود فأبشر إبشاراً أي سر. وتقول أبشر بخير بقطع الألف. ومنه قوله تعالى: "وأبشر بالجنة" وبشرت بكذا أبشر أي استبشرت. قال الشاعر:

فإذا رأيت الباهتين إلى العلى

 

غبراً أكفهم بقاع معـجـل

فأعنهم وابشر بما بشروا به

 

وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

وأتاني أمر بشرت به أي سررت به. وبشرني فلان بوجه حسن أي لقيني وهو حسن البشر أي طلق الوجه. والبشارة المطلقة لا تكون إلا في الخير، وإنما تكون في الشر إذا كانت مقيدة كقوله تعالى: "فبشرهم بعذاب أليم!" وتباشر القوم أي بشر بعضهم بعضاً. وتباشير الأمر أوائله، وكذلك أوائل كل شيء. والبشير المبشر. والمبشرات الرياح التي تبشر بالغيث. والبشر الحميل والمرأة بشرة ه. وإذا بنينا على أنه يقال بشر بمولود أو خير بتخفيف الشين، فأبشر إبشاراً أي سر، فالمضارع منه يبشر بضم الياء وكسر الشين. والأمر منه أبشر بقطع الألف كقوله تعالى: " أبشروا بالجنة!" فعلى هذا تكون همزته همزة قطع؛ فسقوطها في الدرج ممنوع في النثر، اتفاقاً؛ وكذلك في الشعر عند الخليل وجل أهل البصرة؛ وأما أهل الكوفة فقالوا. بجوازه في الشعر، وإن كان فيه خروج من أصل إلى فرع، ولأن الشعر محل الضرورة، وشبهوه بالمقصور، وقالوا: والضروارات تبيح المحذورات.