ذكر القاضي أبي عمرو عثمان بن موسى الجاني

ومن القضاة بمدينة ملى من أرض الحبشة، الشيخ الفقيه أبو عمرو عثمان بن موسى الجاني، منسوب لبطن من بطون السودان. تردد إلى أرض مصر؛ فقرأ بها، وأخذ عن أشياخها. أخبرني الفقيه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن محمد الساحلي الغرناطي أنه لقيه ببلده، وأنه كان من أهل الفضل والعدل، والقيام على العلم، والصرامة في الحكم. قال الساحلي: ومن ذلك نازلة حدثت له في أحكام الدماء؛ فتحرى فيها الحق المخلص بين يدي الله. وهي أن أحد بني عم سلطانه ترتبت قبله المطالبة بدم قتيل كان قد أشهد العدول، وهو جريح، بأن دمه عنده، وتوفي إثر الشهادة عن عصبة من ولد وإخوة؛ فقاموا طالبين من السلطان النظر لهم في صاحبهم؛ فاستحضره عن أمره بمجلس الحكم الشرعي، وأعذر له فيما استظهر به أولياء دم القتيل. فادعى الدفع في ذلك، وتأجل آجالاً وسع فيها عليه. وانفرضت الأيام، وقهرته الأحكام؛ فشكى بالقاضي لسلطانه، وسأل منه الأخذ مع الفقهاء في قضيته؛ وقد كان صانعهم بجهده، واستظهر بإثبات عداوته بينه وبين من رماه بدمه. فجمعهم الأمير بحضرته، وأخذ معهم في نازلة ابن عمه؛ فوقع الاتفاق منهم على الأخذ بمذهب الشافعي، أنه لا يقسم بمجرد قول المصاب: دمي عند فلان. واستدلوا بالحديث الثابت في الصحيح الذي نصه: لو يعطي الناس بدعواهم، لأدعى ناس دماء رجال وأموالهم. قالوا: وبخصوص في هذه النازلة، لما اقترن بها من الأسباب المرجحة للانتقال عن المذهب، وذكروا مسألة عبد الله بن سهل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وداه من عنده بأنه ثقة. فمال السلطان إلى موافقتهم، وأن تكون الغرامة من قبله؛ ولاكنه قال لقاضيه: ما عندك فيما اجتمع عليه أصحابك؟ فقال له: أمدك الله بإرشاده، وأراك الحق حقا، وأعانك على اتباعه! أنت مالكي المذهب، وأهل بلادك كذلك، والانتقال من مذهب إلى مذهب آخر لا يسوغ إلا بعد شروط لم يحصل في نازلتها منها شرط واحد! وحديث القسامة أصل من أصول الشرع، وركن من أركان مصالح العباد: وبه أخذ جل الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار. والذي يجمل بك، أيها الملك، إمرار الحق بوجهه، ولو كان على نفسك، فضلاً عن ابن عمك! قال: فأخذ برأي قاضيه، وأمر بابن عمه؛ فدفع بذمته إلى أصحابه؛ فقتلوه بالقسامة. قال المخبر: فحسب الناس ما صدر في النازلة عن الأمير والقاضي من المناقب الشريفة، والمآثر الحميدة، والأفعال الدالة على تعظيم الشريعة.