ذكر القاضي أبي القاسم الشريف الغرناطي

ومن أعلام القضاة بالأندلس، وصدور النجاة، الشيخ الفقيه الأستاذ المتفنن الشريف المعظم أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله الحسني النسبة، السبتىُّ النشأة. وكان رحمه الله! نسيج وحده براعة وجلالة، وفريد عصره بلاغة وجزالة؛ إلى الشيم السنية التي التزم إهداءها، والسير الحسنة التي لا ينازع في شرف منتهاها. ارتحل عن بلده سبتة، وقد تملأ من العلوم، وبرع في طريقتي المنثور والمنظوم؛ فطلع على الأندلس طلوع الصباح عقب السرى، وخلص إليها خلوص الخيال مع سنة الكرى؛ فانتظم في الحين في سلك كتبتها، وأمسى وهو صدر طلبتها؛ لما كان قد حصل له من الأخذ بأطراف الطلب، والاستيلاء على غاية الأدب؛ ورئيس الكتاب يومئذ الشيخ العلامة أبو الحسن بن الجياب، الشهير التشيع لأهل البيت الكريم، الموسوم بالشم الرضية، والقلب السليم؛ وكان رحمه الله! مع أدوات كماله، وما خص به في وقته من سني أحواله، وصالح أعماله، ممن شغف بالمذاكرة في الفنون الأدبية، وغوامض أسرار العربية، والرسائل السلطانية، والمسائل البيانية. فألفى من ذلك كله لدى الشريف، الخليق بصنوف التشريف، ما شاءه من معنى رقاق، ولفظ رقراق، وطبع بالمعارف دفاق. فجذبه الشيخ إليه، وتلقاه براحيته، وذهب إلى مقارضته بالقريض، ومساجلته في الطويل والعريض. فقلما كان بها رسم الكتابة إذ ذاك يفنن عن أدب يعتبر، ونتف طرف تبعثر، وقسطاس يوزن به ما يقل من المقال ويكثر؛ ثم صرف إلى الاستعمال في الخطط القاضوية صرف الاستظهار، وبمعارفه الباهرة الأنوار، وأحكامه القاضية بتأمين الأوطان وتأميل الأوطار؛ فتقدم بذلك بجهات شتى، منها رية، وحلبة الطلبة بها سوابق غايات، وخوافق رايات. وكانت ولايته عليهم حلة نشرها الفضل من صوانها. ودرة أكثرها العدل لأوانها. أنزل أماثلهم من رعايته منازل الإكرام، واختص منهم بمصاحبة الزاهد أبي عبد الله بن عياش، أحد العلماء الأعلام؛ فتفقه معه في أحكامه، ونوازل أيامه، وأخذ نفسه بالاشتداد في نصرة المظلوم، والضرب على يد الظلوم؛ وله في هذا الباب أخبار مأثورة، وحكايات مشهورة؛ وعند ابتداء الفقهاء، بالمسجد الجامع مجلس إقراء، افتتحه أولاً بالتمهيد، وختمه بعلم الخليل، وحبره بالتوحيد والتعليل. وكان في إقرائه سريع الجواب، متبحراً في علم الإعراب، فصيح اللسان، بارع البنان؛ فظفرت أيدي الطلبة منه بالكنز المذخور، المروية جواهر معارفه بدور الشذور؛ وحصل الناس بولايته على طريقة عادلة من الشرع، واعتضد منها الأصل بالفرع. ولما جرى في ميدانها ملء عنانه، وشاع في الآفاق ما شاع من سمو شأنه وعدل قضائه، وفصل مضائه، نقل من مالقة إلى غرناطة حضرة الملك، وواسطة السلك أيد الله سلطانها، ومهد بعزته أوطانها! فتقدم بها لتنفيذ الأحكام، بعد أن ولي وادي آش بأيام. فهنيت منه الخطة الشرعية بسيد مضطلع بأعباء القضاء، قد شمخ من عز النزاهة بأنف، وأمد من نور العقل ببرهان غير خلف؛ ثم إن القدر جرى بتأخيره عن الخطة؛ من غير موجب سخطه. فكان في حالته كالبدر خسف عند الاستقبال، وأدركه السوار بعد تناهي الكمال:  

إذا تم أمر دنا نقصـه

 

توقع زوالاً إذا قيل تم

وليست عوامل التأخير والتقديم، بمستنكر دخولها على كل وال في الحديث والقديم؛ فقد عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه! زياد بن أبي سفيان دون باس، وقال له: كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس! وعزل أيضاً شرحبيل بن حسنة، فقال له: أعن سخطة عزلتني؟ قال: لا! ولاكن وجدت من هو مثلك في الصلاح، وأقوى منك على العمل! قال: يا أمير المؤمنين! إن عز لك عيب! فأخبر الناس بعذري! ففعل عمر ذلك. وكان صرف الشريف أبي القاسم عن قضاء الحضرة، والخطابة بها، في شهر شعبان من 747؛ فانقطع إلى تدريس العلم، وإظهار عيونه، والاشتغال بإقرار فنونه. وكان بينه وبين شيخنا إمام البلغاء أبي الحسن بن الجياب ما تقدمت الإشارة إليه، من المصادقة؛ فصدرت عنه في أثناء تلك المدة بدائع من المخاطبات، وضروب المفاكهات، منها قول الشيخ يرقب خطة القضاء التي كأنها تركت صاحبه، وأهملت جانبه:  

لا مرحباً بالناشز الفـارك

 

إذ جهلت رفعة مقـدارك

لو أنها قد أوتيت رشدهـا

 

ما برحت تعشو إلى نارك

أقسمت بالنور المبين الذي

 

منه بدت مشكاة أنـوارك

ومظهر الحكم الحكيم الذي

 

يتلو علينا طيب أخبـارك

ما ألفت مثلك كفـؤاً ولا

 

أوت إلى أكرم من دارك

وهذه القطعة قد بلغت الغاية من البراعة، وتمكن البلاغة، وإن كان في طي ما تضمنته من وصف الخطة الشرعية بالناشز الفارك، وبأنها لم تؤت رشدها ما فيه. ثم إن الولاية حنت إليه، ووقفت مرادها عليه، فعاد إليها، والعود أحمد. واستمر قيامه بها، إلى أن هلك السلطان أبو الحجاج مستقضيه، مأموماً به، في الركعة الثانية من صلاة الفطر عام 755 رحمه الله وأرضاه! عدا عليه شقي كأنه وحشي، فضربه بظهره، وهو ساجد لربه. وولي الأمر بعد ولده الخليفة المؤيد المنصور أبو عبد الله أبقاه الله ووقاه! فجدد ولايته، وأكد رعايته؛ وقد كانت رحى الوقيعة دارت على القاضي الخطيب، وهو في محرابة حين الكائنة؛ فعركته، ولم تتركه، إلا وقد أشفى على التلف؛ فعوجل بإخراج الدم، وعند ذلك تنفس عنه بعض ما وجده من الألم. وكان له في المجالس الملكية، والمجتمعات الجمهورية، من جلالة الأبهة وملازمة التؤدة، وإمساك النفس عن المسارعة عند المخالفة إلى المراجعة، ما لم يكن لغيره من أهل طبقته؛ فإذا خلا بمنزله، أدخل عليه في خاصة أصحابه. رأيته؛ فكأنه من تنزله، وتبدله، بمثابة أصاغر طلبته. وكثيراً ما كان يباشر خدمة الواردين عليه بذاته، دون وزعته، اقتداء بالأئمة الماضين من قبله فمن كلامهم: ليس ينقص من الرجل الشريف أن يخدم ضيفه، ولا أن يتصاغر لسلطانه، وأن يتواضع لشيخه! ولقد بتنا معه ليلة بحشه من خارج الحضرة، في أناس منهم الشريف أبو عبد الله بن راجح السوسي، والأستاذ أبو علي الزواوي، والوزير أبو عبد الله بن الخطيب اللوشي، فمالت ذبالة الشمعة في أثناء الليل إلى الذبول؛ فذهب أحد الحاضرين ليقويها؛ فأمسكه القاضي، وبادر هو بنفسه لها؛ فأذكى نارها، وقوى نورها، وقال: هم السراج أن يخمد ليلة عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله! فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه؛ فاقسم عليه عمر بن عبد العزيز؛ فجلس. فقام هو؛ فأصلحه. فقال رجل: أتقوم، يا أمير المؤمنين! قال: قمت، وأنا عمر بن عبد العزيز! ورجعت، وأنا عمر بن عبد العزيز! ثم قال لنا: واضطربت عمامة هشام بن عبد الملك. فأهوى الأبرش الكلبي إلى تعديلها. فقال له هشام: مه! فأنا لا نتخذ الإخوان خولاً! وجرى بين الأصحاب المذكورين في تلك الليلة من المحاورة بطرف العلم، وقطع الشعر، مالا يرجع في الحسن إلى حصر.

ومن ذلك أنشده ابن راجح، في أبيات لابن مامة:  

ألا رب من يدعي صديقاً ولو ترى

 

مقالته بالغيب ساءك مـا يفـرى

مقالته كالشهد ما كـان شـاهـداً

 

وبالغيب مطرور على ثغرة النحر

يسـرك بـاديه وتـحـت أديمـه

 

نهيمه غش تفتري عقب الظهـر

وذكر لنا عن صاحبه العلامة في زمانه بالمغرب، الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي السبتي، أنه سمعه ينشد بتونس، وقد مر به قوم من أعيان جند فاس، بعد إهماله لتخلفه عن سلطانه، أيام تنشبه بالقيروان وحصاره:

يا أيها الناس سيروا إن قصدكـم

 

أن تصحبوا ذات يوم لا تسيرون

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها

 

قبل الممات وأقضوا ما تقضون

كنا أناساً كما كنتـم فـغـيرنـا

 

دهر فأنتم كما كنا تـكـونـون

وهذه الأبيات أول شعر قيل في العرب على ما نقله ابن إسحاق. وذكر ابن هشام أنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن، وقالها من قالها لحكمة صريحة، وموعظة صحيحة. وأنشدنا القاضي الشريف في تلك الليلة لنفسه، يصف أقداس سانية حشه:  

ومترعة يعل الروض منهـا

 

إذا علت من الماء الفـرات

بدا دولا بها فلكـاً وراحـت

 

بدائرة كواكـب سـائرات

إذا ما الروض قابلهن كانت

 

عليه بكل سعد طالـعـات

تراها إن شعاع الشمس لاقى

 

بياض الماء مشرقة الأيات

أوعجب أنها دارت بـنـوء

 

غزير وهي تغرب خاويات

النوء العرب سقوط نجم من نجوم المنازل الثمانية والعشرين؛ وهو مغيبها بالغرب مع طلوع الفجر وطلوع مقابله بالمشرق. وعندهم أنه لا بد أن يكون مع أكثرها نوء من مطر، أو رياح عواصف، وشبهها؛ فمنهم من يجعله لذلك الساقط، ومنهم من يجعله للطالع، لأنه هو الذي ناء أي نقص؛ فينسبون المطر إليه؛ وجاء الشرع بالنهي عن اعتقاد ذلك ثم أنشدنا القاضي من نظمه:  

يا أيها الراكب المـزجـي ركـائبـه

 

يحثها السير بـين الـقـار والأكـم

أبلغ بـسـبـتة أقـوامـاً ودونـهـم

 

عرض الفلا وذميل الأنيق الـرسـم

ولـج ذي ثـبـج طـام كـأن بــه

 

أعلام لبنان أو كثـبـان ذي سـلـم

ألـوكة مـن غـريب داره قـــدم

 

مرماه لا صـدد مـنـهـم ولا أمـم

إني بـأنـدلـس آوى إلـى كـنـف

 

للمجد رحب وظل للعـلـى عـمـم

وإن غرناطة الغرا حـلـلـت بـهـا

 

فصرت من ريب هذا الدهر في حرم

ليست لأخرى فلا ربع بهـا وجـبـا

 

رهط واخفر ما للمجـد مـن ذمـم

وأنكرتني مغانـيهـا ومـا عـرفـت

 

إلا بقومـي فـي أيامـنـا الـقـدم

لولا المغرب من آل النـبـي بـهـا

 

وهن ما بين من طيب ومـن كـرم

وفتية من بني الزهراء قد كـرمـوا

 

لهـم أوامـر مـن ود ومـن رحـم

لقلت لا جادها صـوب الـحـيا أبـداً

 

إلا بـنـاقـع سـم أو عـبــيط دم

ليسفحن عليها الـدمـع مـن جـزع

 

يوماً ولا أقر عن السـن مـن نـدم

ما ضرني أن نبابى أو بنـا وطـنـي

 

منها ولي شرف البطحاء والـحـرم

ومن الجزء المحتوي على طائفة من شعره، الذي وسمه ب جهد المقل، قوله:

ظفرت بلثمها فبدا احمرار

 

بوجنتها يزيد القلب وجدا

فاغراها بي الواشي فظلت

 

تلوم ولم أكن ممن تعـدا

فما كانت سوى قبل ففيها

 

جنين أقاحياً وغرسن وردا

وقوله:

مهفهف القد بديع الـحـلا

 

يعطي بجيد للرشا الخاذل

رمى بنبل اللحظ في مهجة

 

غادرها بشغـل شـاغـل

وانعطف الصدغان في خده

 

رد كلامين على نـابـل

والبيت الأخير مبني على قسيم امرئ القيس حيث قال: نظمتهم سلكي ومخلوجة. ونظمه كله رائق المعنى، صريح الدلالة، صحيح المبنى؛ وليست المعارف؛ وإن تعددت طرقها وعزت ثمرتها، متعذراً إدراكها، ولا سيما على من جد في طلبها؛ وإنما الصعب العسير معالجة الأخلاق بترك عوائدها، والتثني عن سفسافها؛ ومجموع الأدوية المتخذة لأصلاح فاسدها يرجع إلى العقل الذي عليه مدار الأعمال كلها. ولذلك قال العلماء حسبما تقدم عند التكلم في خصال القضاء: إذا اجتمع منها في الرجل العقل والورع قدم. قال ابن حبيب: فإنه بالعقل يسأل، وبالورع يقف، وإذا طلب العلم وجده، وإذا طلب العقل لم يجده. وكان قد حصل منه للشريف الموصوف زيادة لشرفة وفنون معارفه الحظ الوافر الكبير، والقدر الذي يقصر عن نعت محاسنه التعبير، بحيث صار المثل يضرب به في كظم الغيظ، وترك حظوط النفس، وكثرة التقاضي عن النظر للمساوي، إلى غير ذلك من سيره السنية، وسمائله الحسنية. هذا ما تيسر بحسب الوضع من التنبيه على صفاته والتعريف ببعض كمالاته.

وأما مشيخته، فقرأ ببلده سبتة القرآن على والده المنقطع لإقراء كتاب الله ومدارسته، أبي العباس رحمه الله! وأكثر من ملازمة الأستاذ الشهيد أبي عبد الله ابن هاني والأخذ عنه؛ فانتفع به وتأدب بأدبه؛ وقرأ على القاضي الإمام أبي إسحاق الغافقي وروى عن أبي عبد الله الغماري وعن القاضي أبي عبد الله القرطبي وعن الخطيب بن رئيس وابن حريث وغيرهم. وله جملة تصانيف منها: رفع الحجب المستورة، عن محاسن المقصورة شرح فيه مقصورة حازم بما لاغاية بعده في المحاسن. ومنها رياضة الآن في شرح قصيدة الخزرجي، أبدع في ذلك غاية الإبداع. وقيد على كتاب التسهيل لابن مالك تقييداً مفيداً وبدائع جمة أثيرة. وناب عنه في أقضيته، أيام أسفاره في معرض الرسالة إلى ملوك المغرب وفي غير ذلك، وليه الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن فرج بن جذام اللخمي، أحد أماثيل بلده نباهة قدر، وسلامة صدر، لم ينتقل عن ذلك إلى أن توفي في آخر عام 757. فخلفه في النيابة بمجلس الحكم الشرعي صاحبه الفقيه الأجل، القاضي الأنوى الأكمل، أبو جعفر أحمد ويدعى بأبي بكر بن شيخنا الأستاذ الحافظ الخطيب الشهير أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزى الكلبي، ذو البيت الأصيل، والمجد الرفيع الأثيل؛ فنهض بأعباء القضاء. ثم إنه اشتغل بعد وفاة القاضي الشريف بخطبته واستقرت أزمتها في يده؛ ثم صرف عنها إلى غيرها؛ وهو لهذا العهد بقيد الحياة تولاه الله! ومولد الشريف السمى بسبتة سادس ربيع الأول المبارك الذي من عام 697؛ وفاته بغرناطة ضحى يوم الخميس الحادي والعشرين لشهر شعبان من عام 760؛ وبنوه من بعده في الأندلس بحال نباهة واستعمال في القضاء والكتابة.

ومن الحديث الثابت في الصحيح عن أنس بن مالك أنه قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وعمر وهو ابن ثلاث وستين سنة ووافق أن كانت وفاة الشريف أبي القاسم على حسب ولادته وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ وتلك من جملة كراماته تغمدنا الله وإياه برحمته! وقد كمل الغرض المقصود من هذا الباب. وقد ذكرت فيه من أعلام الرجال ما عولت عليه، وادتنى المذاكرة إليه. وإلى الله تعالى أبرأ من الاحاطة فربما أغفلت، أضعاف ما نقلت؛ وفيما جلبته من الأنباء، وأدرجته من الأخبار طي الأسماء، ما يحمل الناظر فيه على الاعتبار، وإيثار سير الفضلاء والأخيار، بحول الله! ولا اعتراض علينا من أهل الحق فيما أثبتناه من الحكايات، وضروب المقالات، إذ حاصل مجموعها مناقب ومواعظ، يأخذ منها على قدر همته السامع والواعظ، مع أنه قد ثبت من الأئمة المتكلمين في هذا الشأن أنهم قالوا: ينبغي للقاضي أن يحفظ فضائل أهل العدل ومآثرهم، وينافسهم على ذلك، وأن يأخذ نفسه بسيرهم، وحفظ أحكامهم ورسائلهم ومواعظهم، مع علمه بالفقه والحديث؛ فإن ذلك قوة له على ما قلده الله. ومن المروى عن محمد بن الحسن أنه كان يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول: سئل الجنيد: ما للمريدين في مجازات الحكايات؟ فقال: الحكايات جند من جنود الله، يقوي بها قلوب المريدين! قيل له: فهل في ذلك شاهد؟ فقال: نعم! قوله عز وجل: كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. ومعنى تثبيت الفؤاد في الآية عند المفسرين لها أي نقوى نفسك فيما نلقاه ونجعل لك أسوة بمن تقدمك. وتكلم أبو الفضل الرازي في كتابه على المسألة؛ فأتى بنحو ما ذكرناه؛ ثم قال: وذلك أن الإنسان إذا ابتلى ببلية ومحنة، ورأى له مشاركاً، خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة، إذا عمت، خفت. وفي الوجيز: قيل لمحمد بن سعيد ماذا الترديد للقصص في القرآن؟ فقال: ليكون لمن قرأ ما تيسر منه حظ في الاعتبار. وعن إبراهيم بن عبد الله أنه قال: سمعت حماد بن عبد الرحمن يقول: العلم دراية ورواية، وخبر وحكاية. ولما رجوناه من الانتفاع بذلك كله، أشفعنا القول في هذا الباب، وجلبنا من الأنباء ما فيه عبرة لأولي الألباب جعلنا الله من الذين يسمعون القول، فيتبعون أحسنه؛ وصرف عنا فتن القضاء ومحنة، بمنه وفضله. والحمد لله! لا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا في كتاب القضاة إلى القضاء، وصفة من بلغ منهم رتبة الاجتهاد، وحكم القاصر عن تلك المنزلة في استنباط الأحكام، وكيفية الاستخلاف، وفيمن يجوز له التقليد، ومن لا يجوز له من الناس: والكلام فيما ذكرناه يرجع على القريب إلى فصول، الأول منها في كتب القضاة ونبذ من المسائل المتصلة بذلك. والذي جرى أولاً به بالعمل، إذا أتى القاضي كتاب من قاض آخر، يسأل الذي جاءه بالكتاب إحضار صاحبه إن كان في عمالته؛ ثم إذا أحضره، سأله البينة على كتاب القاضي أنه من قبله. قال سحنون بن سعيد: ولينظر القاضي المكتوب إليه الكتاب. فإن كان القاضي الذي كتبه قد ثبت عنده أنه من أهل الاستحقاق للقضاء، لفهمه ومعرفته بأحكام من مضى وآثارهم، مع فهمه في دينه، وورعه وانتباهه وفطنته، غير مخدوع في عقله، فإذا كان كذلك، نظر في كتابه وعمل بما يجب فيه وإلا فلا. قال صاحب الجواهر الثمينة، وقد أتى فيها من صفات القاضي العدل بنحو ما تقدم: فإن عرفه بأنه ليس من أهل ذلك، لم يقبله. وفي سماع يحيى: وإن لم يكن قاضي الكورة موثوقاً به، وفي الكورة رجال يوثق بهم، كتب إليهم سراً ليسألوا له عمن شهد عنده من أهل تلك الكورة؛ فإن كتبوا له أنه مشهور بالعدالة، معروف بالصلاح، أجاز شهادته، وإلا تركها حتى يعدل عنه من يرضى. وقال أشهب: إذا كتب إليه غير العدل: أن بينه فلان تثبت عندي، فلا يقبل كتابه لأنه ممن لا تجوز شهادته وإن لم يعرف حاله؛ فروى ابن حبيب عن أصبغ: إن جاءه بكتاب قاض لا يعرفه بعدالة ولا سخطة، فان كان من قضاة الأمصار الجامعة مثل المدينة، ومكة، والعراق، والشام، ومصر، والقيروان، والأندلس، فلينفذه؛ وإن لم يعرفه، وليحمل مثل هؤلاء على الصحة. وأما قضاة الكور الصغار، فلا ينفذه حتى يسأل عنه العدول وعن حاله.

وإذا كتب قاض إلى قاض بكتاب فيه أمر من الأقضية، وفيه اختلاف بين الفقهاء والمكتوب إليه، لا يرى ذلك الرأي. فإن كتب إليه أنه قد ذكر بما في كتابه وأنفذه، جاز له ذلك وأنفذه؛ هذا وإن لم يكن قطع فيه بحكم وإنما كتب بما ثبت عنده، فلا ينبغي أن يعمل فيه برأي الذي كتبه، وليعمل فيه برأيه. قال سحنون: وإذا كتب بأمر، فرأى هو خلافه، فلا ينفذه، لأن ذلك لم يفد شيئاً؛ فلا ينفذ هذا ما ليس بصواب عنده. وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون مثله. وقال ابن القاسم وأشهب في الإمام البين العدالة يأمر رجلاً بإقامة حد في رجم، أو حرابة، أو قتل، أو قطع في سرقة، ولا يعلم ذلك إلا بقول الإمام؛ فعليه طاعته. قال أشهب. فإن لم يعرف بالعدالة، فلا يطيعه في ذلك إلا أن يرى أنه قد قضى في ذلك بحق؛ فعليه طاعته. وقال ابن القاسم: إذا اتضح أنه حكم بحق وعلم، وأنه كشف عن البينة وعدلوا. قال أشهب: وإذا لم يدر ما قضى به أبحق أم بهوى، فلا يجيبه. قال ابن الماجشون وهو عبد الملك بن عبد العزيز، وابن الماجشون معناه بالفارسية الورد: ولا تطع الجائر ولا تخدمه ولا تصدقه. وقد تقدم صدر كتابنا هذا ما رواه ابن وهب عن مالك في هذه المسألة. وما ذهب إليه في مثلها الأبهري والله المرشد للصواب! فرعان: أحدها: على القاضي الغائب أن يختار البينة التي تحمل كتابه، إذا كان ممن يرى بذلك؛ ويلزم القاضي المكتوب إليه قبوله، ويقول الشاهد: إن هذا كتابه إلينا مختوماً. وقال أبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور: إذا لم يقرأه عليهما القاضي، لم يجز، ولا يعمل القاضي المكتوب إليه بما فيه. وروى عن مالك مثله. قال الشيخ أبو الحسن بن خلف بن بطال: وحجتهم أنه لا يجوز أن يشهد الشاهد إلا بما يعلم، لقوله تعالى "وما شهدنا إلا بما علمنا". وحجة من أجاز ذلك أن الحاكم، إذا أقر أنه كتابه، فقد أقر بما فيه، وليس الشاهدان على ما ثبت عند الحاكم فيه، وإنما الغرض منها أن يعلم القاضي المكتوب إليه أن هذا كتاب القاضي الكاتب له، وقد يثبت عند القاضي من أمور الناس ما لا يحبون أن يعلمه كل أحد، مثل الوصايا التي يتخوف الناس فيها، ويذكرون ما فرطوا فيه، ولهذا يجوز عند مالك أن يشهدوا على الوصية المختومة، وعلى الكتاب المدرج، ويقولوا للحاكم: نشهد على إقراره بما في هذا الكتاب. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم! يكتب إلى عماله، ولا يقرؤها على رسوله. وفيها الأحكام والسنن. واختلفوا كذلك إذا انكسر ختم الكتاب. فقال أبو حنيفة: وزجر لا يقبله الحكم. وقال أبو يوسف: يقبله، ويحكم به، إذا شهدت البينة؛ وهو قول الشافعي. واحتج الطحاوي لأبي يوسف؛ فقال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم! إلى الروم كتاباً، وأراد أن يبعثه غير مختوم، حتى قيل: إنهم لا يقرؤون إلا أن يكون مختوماً! فاتخذ الخاتم من أجل ذلك. فدل أن كتاب القاضي حجة. وإن لم يكن مختوماً. وخاتمه أيضاً حجة؛ والمنقول عن مالك أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاضي إلا بشاهدين أشهدهما بما فيه. قال ابن القاسم: وإن لم يكن فيه خاتمه، أو كان بطابع، فانكسر. وقال ابن الماجشون: وإذا شهد العدلان أن هذا كتاب القاضي، أمضاه. وقال أشهب: ليس قولهم وشهادتهم أن هذا كتاب قاض بشئ، حتى يشهدوا أنه أشهدهم. ولا يضر إن لم يختمه، إذ لو شهدوا أن هذا خاتمه، ولو شهدوا أن الكتاب كتابه إلى هذا القاضي، لم ينتفع بذلك، لأن الختم يستشعر، فلا يعرف، والكتاب يعرف بعينه. ومن كتاب القاضي أبي عبد الله بن الحاج: ضرب عمر بن الخطاب في التعزير معن بن زائدة مائة سوط حيث نقش على خاتمه، وأخذ منه مالاً وحبسه. ثم كلم في أمره فقال: ذكرتني الطعن، وكنت ناسياً! فضرب مائة؛ ثم حبس. ولذلك والله أعلم! قال مالك فيما روى عنه ابن نافع: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم حتى أن القاضي ليكتب للرجل الكتاب فيما يزيد على ختمه؛ فيجاز له. ثم اتهم الناس. فصار لا يقبل إلا بشاهدين. وقال ابن كنانة، وعن مطرف وابن الماجشون: ولا ينفذ قاض كتاب قاض في الأحكام إلا بعدلين، ولا ينفذه بشهادتهما أنه خط القاضي، كما لا يجوز الشهادة على الخط في الحدود. ولا بأس إذا كاتبه في شيء يسأله عنه من عدالة شاهد أو أمر يستخبره من أمر الخصوم أن يقبل كتابه بغير شهود، إذا عرف خطه، ما لم يكن في قضية قاطعه، أو كتاب هو ابتدأه به؛ فلا ينفذه إلا بعدلين. وأما كتابه إلى قاضي الجماعة، أو إلى فقيه يسأله ويسترشده ويخبره، فهذا يقبله إذا عرف خطه، أو أتى به رسوله أو من يثق به، إلا أن يأتيه به الخصم الذي له المسألة؛ فلا يقبله إلا بعدلين. وإذا كان له من يكاتبه في نواحي عمله، في أمور الناس وتنفيذ الأقضيه وغير ذلك، فلا يقبل الكتاب، يأتيه منهم بالثقة يحمله، وبالشاهد الواحد، وبمعرفة الخاتم لقرب المسافة واستدراك ما يخشى فوته. وإذا افترق العملان، فلا بد من البينة؛ وقاله أصبغ. ولسحنون نحوه في أمنائه بخلاف كتاب قضاته. وفي الكتاب المقنع: قال من أثق به: رأيت العمل عند القضاة أن يكتبوا إلى أمنائهم، أو إلى من أحبوا أن يتعرفوا من قبلهم، عدالة بشهود ووضع شهادات، ليعلموا في صحتها من قبلهم، إذا لم يكن المكتوب إليهم حكاماً، أن يبعثوا إليهم كتبهم مع الطالب بغير إشهاد عليها، لا يقبلوها منهم إلا بعدلين من الشهود. وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: لا يجوز إشهاد الأمناء بما أمرهم القاضي بإنقاذه إلا أن يثبت إشهاد القاضي على أصل الحكم، أو على أمره لأمنائه بإنفاذه ذلك، وعلى أنهم أنفذوه ورفعوه إليه؛ ويثبت ذلك كله بشهادة غير الأمناء. وذكر ابن عبدوس عن ابن القاسم: إذا شهد شاهدان على أن الأمناء أشهدوهم قبل عزل القاضي، على ما أتاهم من القاضي بما ثبت عندهم من إنفاذ القاضي لمن أنفذه، أنه يكون بمنزله ما يشهد القاضي على ما يأتيه من القضاة، وما يثبت عنده من إنفاذها. قال القاضي أبو الأصبغ بن سهل: رأيت قضاة شرق الأندلس كتب بعضهم إلى بعض في الأحكام بالخاتم، ومعرفة الخط، وإن لم يكتب للقاضي منه بخط يده إلا العنوان لا غير، وإن كان حامله هو المكتوب له في الكتاب، ويسلمونه إليه مختوماً؛ وهو عندي مما لا يجوز العمل به، ولا إنفاذه، لا سيما إذا كان حامله صاحب الحكومة. وقد ذكر ابن حبيب عن ابن القاسم وغيره: إذا كان حامل الكتاب صاحب القضية، لم يجر فيما هو أخف من هذا في تحمله من عند الأمين، أو من عند الفقيه وشبهه. فكيف في نفس الحكومة ومن قاضي بلده إلى قاضي بلدة أخرى؟ هذا لا يجوز عند أحد، والقضاء به مفسوخ؛ والله أعلم! وأما إذا تحمل الكتاب شاهدان، وشهدا به عند المكتوب إليه، وأثنى عليهما بخير، وأن لم تكن تعديلاً بيناً وزكى أحدهما، ولم يزك الآخر، أو توهم فيهما الصلاح، وكان الختم والخط مشهورين معروفين عند المكتوب إليه؛ فأنا لا أستحسن إجازة مثل هذا أو إنفاذه له، لتعذر موافقة العدول عن الطالب، ولما قد جرى به العمل في صدر السلف الصالح من إجازة الخاتم. والله أعلم بالصواب! ومن هذا الأصل: إن محمد بن شماخ، قاضي غافق، خاطب صاحب الأحكام بقرطبة محمد بن الليث بخطاب أدرج فيه إليه كتاب عيسى بن عتبة فقيه مكناسة، وعقد استرعاء بملك بغل بعث فيه ثبت استحقاقه عند ابن عتبة فقيه مكناسة على عين البغل وعين مستحقه؛ وقال ابن شماخ في كتابه إلى صاحب الأحكام: ثبت عندي كتاب الفقيه ابن عتبة مستخلف قاضي الجوف، المدرج في طي كتابي إليك. ولم يسم القاضي الذي استخلفه من هو، ولا سمي ابن عتبة ولا كناه، ولا أن ثبوته كان عنده على عين البغل ومستحقه؛ وشاور صاحب الأحكام في ذلك؛ فأفتى ابن عتاب وابن القطان وابن مالك أن إعمال خطاب ابن شماخ هذا واجب، وأن الحكم فيه نظر منه محمول على الإكمال؛ وفي اتفاقهم على الجواب عجب، وفيه من الضعف ما فيه؛ وقد كانوا يختلفون فيما هو أصح من هذا في النظر؛ وما جوابهم هذا إلا مسامحة. والله أعلم! قلت: والذي استقر عليه العمل لهذا العهد، بالأندلس والمغرب، ما تعرفناه عن كثير من بلاد المشرق من الاقتصار على معرفة الخطوط بالشهادة عليها؛ فإذا أثبت عند الحاكم المكتوب إليه أن الخطاب هو بخط يد القاضي الذي خاطبه به، وكتب اسمه فيه قبله، إن كان عنده من أهل القبول، وأمضاه، وحكم بمقتضاه. وما استأهل المتأخرون الأخذ بذلك على ما فيه، ورأوا العدول عن إلزام شهيدين لكل ذي كتاب، يروم الاستظهار به في غير مصره بأن القاضي أشهدهما بما فيه، وأنه كتابه، والخطاب خطابه، على ما تقدم تقريره، إلا لما يلحق في ذلك من المشاق التي يتعذر مع وجودها التوصل في الغالب إلى الشيء المطلوب؛ فليس كل طالب يقدر على استصحاب عدلين يتحملان الشهادة له على القاضي بكتابه، ويلازمانه من البلد الذي هو به إلى البلد الذي يكون فيه مطلوب، ولا سيما عند تباعد الأقطار، وما حدث في هذه الأزمنة من تكاثر القواطع، وترادف الأعذار. فأجروا المسألة مجرى الشهادة على خط الشاهد الغائب أو الميت، إذا لم يستنكر الناظر في المرسوم شيئاً. وكان قد تحقق عدالة الرجل المشهود على خطه وقبول شهادته أيام وضعها في المكتوبات بيده، وكأنهم لاحظوا استحسان الرجوع عند الضرورة إلى ما كان عليه أمر القضاة في القديم من إجازة الخواتم، والخط في التوثق كالخاتم وأشد منه عند التأمل. وفي كتاب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم! بعث بكتابه رجلاً. قال الخطابي عند شرحه فيه من الفقه أن الرجل الواحد يجزئ حمله كتاب الحاكم إلى حاكم آخر، إذا لم يشك الحاكم في الكتاب ولا أنكره، كما لم ينكر كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم! ولا شك فيه وليس من شرطه أن يحمله شاهدان. قال القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحاج، وقد ذكر المسألة: كما يصنع اليوم القضاة والحكام على شاهدين في ذلك، لإدخال الناس من الفساد، واستعمال الخطوط، ونقش الخواتم؛ فاحتيط لتحصين الدماء والأموال. قال غيره: وأول من طلب البينة على كتاب القاضي ابن أبي ليلى، وسوار بن عبد الله؛ وتعرفت عن الترتيب في مكاتبات القضاة بالبلاد المشرقية أنه يجري على طريق المسامحة، من غير ارتباط في هذه الأزمنة إلى عادة. والذي أخذت به لنفسي من ذلك أني، مهما كتبت على عقد بالثبوت لمن يروم السفر به، سألت عن الرفقة المصاحبة له؛ فإن كان فيها أحد من أهل الخير، استدعيته وأشهدته على عين العقد المختوم بالشهادة، بما أرى فيه من الثبوت عندي؛ فإن الخطاب الذي فيه أسمى هو بخط يدي، استبلاغاً في الاحتياط، وطمعاً في الخروج عن الخلاف، وإذا تعذر ذلك سلكت من التسهيل للضرورة مسالك الجمهور.

وقد كنت أخذت في هذه المسألة مع شيخنا القاضي أبي عبد الله بن عياش؛ فمال إلى التسليم، وأشار بإيثار التسديد، وإن كان رحمه الله! يستضعف العمل بإجازة الشهادة على خطوط القضاة، لما يؤدي إليه من الحكم بها في الحدود والأنكحة، وبعير ذلك من العمال، وبخصوص إذا أتى بالمرسوم صاحب حكومة والمتكلم بالخصومة؛ فكثيراً ما كان يتوقف على إمضاء الحكم، ويذهب ما ذهب إليه في مثلها ابن سهل، ومن تقدمه من الأئمة، ويقول عن الشهادة على الخط إنها على الجملة من العظائم، وإحدى المسائل التي حملته على الاستعفاء من القضاء، إذا لم يقدر على إزالتها، ولا سهل عليه في كل النوازل تحمل عهدتها. وقد وقع التعريف بهذا الرجل الفاضل عند وضع اسمه فيما تقدم من هذا المجموع.

ومن أخباره إني كنت قاعداً يوماً معه بمجلس القضاء من مالقة، زمان ولايته بها؛ فأتاه أحد الفقهاء بعقد عليه خطاب قاض معروف الخط، معلوم الولاية. فقال له: أبقاكم الله! يشهد عليكم بأعمال هذا الخط؟ فقال: يشهد بثبوت ذلك الرسم من وجه آخر ذكره؛ ثم أشار إلى أن القاضي، الذي قد كان خاطبه به، ليس هو عنده من أهل الاستحقاق للقضاء في عدالته، وورعه، ونزاهته؛ فظهر له أن يأخذ فيه بما رواه يحيى في مسألة قاضي الكورة، إذا لم يكن موثوقاً به. وقد تقدم الكلام في ذلك. تنبيه على جواز المسامحة في الخطاب، إذا وقع فيه الغلط: قال عبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون: ولو كتب قاض إلى قاضي البصرة، وسماه، فأخطأ باسمه أو اسم أبيه ونسبه، لنفذ ذلك، إذا نسبه إلى المصر الذي هو عليه، وشهدت البينة بذلك، وليس كل من كتب كتاباً يعنونه؛ فإذا شهدت بينة أنه كتبه قلبه، ولم ينظر في اسمه، وإذا كان الكتاب لرجلين، فحضر أحدهما: فإني أقبل البينة والكتاب، وأنفذ الحكم للحاضر؛ فإذا حضر الغائب، أنفذت له الحكم، ولا أعيد البينة وإذا أمكن تعيين الخطاب، فهو من الصواب؛ والاطلاق سائغ، لا سيما عند شدود الغريم. فقد سئل مالك عن الرجل يثبت حقه عند القاضي، أيعطيه كتاباً إلى أي الآفاق كان، ولا يسمى فيه أحداً، لا قاضياً بعينه، ولا بلداً بعينه. قال: نعم! أرى ذلك يجوز، إذا ثبت عند القاضي الذي يرفع إليه الكتاب أنه كتاب القاضي الذي كتبه وبعث به مثل الرجل يطالب غريمه لا يدري بأي الآفاق هو، أو أين يلقاه، أو العبد الآبق، وما يشبهه. وقاله ابن القاسم وأصبغ عنه. قال سحنون: وإذا جاء بكتاب قاض إلى قاض، وأن فلاناً له من الدين على فلان كذا وكذا، لم يجز ذلك، حتى ينسبه إلى أبيه، وإلى فخذه الذي هو منها، أو ينسبه إلى تجارة يعرف بها مشهورة.

الفرع الثاني، إذا كتب قاض بما ثبت عنده، ثم مات الكاتب قبل أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه، فإنه ينفذه، ويبنى عليه إذا بلغه، ويبنى عليه الحكم. قال أشهب المجموعة: قال مالك: وإن عزل الكاتب، فلينفذ بهذا، إن كان ممن تجوز كتابته لعدالته. ومثله عن ابن القاسم، وسواء مات أحدهما، أو عزلا، أو أحدهما، إذا كان الذي كتبه هو وال. وبه أقول، ولا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم. ومثله في كتاب ابن حبيب، عن ابن الماجشون، ومطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ. قال: وجميع أصحابنا. ومن كتاب ابن المواز: وإذا تظلم المحكوم عليه من كتاب الأول، وسأل الثاني أن يستأنف النظر فيه أو في بعضه، فليس له ذلك إلا بأمر بين؛ وكذلك لو ولي قاض آخر مكان القاضي، لكان مثل ما قيل في المكتوب إليه. قال القاضي أبو الوليد بن رشد: لما كان الأصل أن القاضي ينفذ ما ثبت عنده من قضاء أحكام البلد، وأن كانوا على كتاب إلى قاضي مصر، وقد حج قاضي مصر، وأمره بالخروج إليها، لم يكن له أن يسمع من بينة أحد في دعوى على من بمصر، حتى يصير إليها. قال القاضي أبو الأصبغ، وقد نقل ما ذكرناه: ونزلت من هذا المعنى مسألة، سألت عنها ابن عتاب شيخنا: وكذلك القاضي يحل بغير بلده، وقد كان ثبت عنده ببلده حق لرجل؛ فسأله الذي له الحق أن يخاطب له من موضع احتلاله قاضي موضع مطلوبه، بما كان ثبت عنده ببلده؟ فقال لي: لا يحوز ذلك! قلت: فإن فعل؟ قال: يبطل! ثم قال لي: وليس يبعد أن ينفذ ذلك! قلت: فإن الحق الثابت عنده ببلده على من هو بموضع احتلاله، فأعلم قاضي ذلك الموضع مشافهة بما ثبت عنده، هل يكون كمخاطبته أياه بذلك من بلده؟ فقال لي: ليس مثله! فقلت له: وما الفرق؟ فقال لي: هو في إخباره هنا بما ثبت عنده طالب فضول وما الذي يدعوه إلى ذلك. قلت: وما يمنع من إخباره له ويشهد عند المخبر بذلك، وينفذه كما يشهد عنده بما يجري في مجلسه من إقرار وإنكار، ويقضى به؟ فقال: ليس مثله. ولاكن إن أشهد هذا القاضي المخبر بذلك شاهدين في منزله، وشهدا بذلك عند قاضي الموضع، نفذ وجاز!.

قال ابن سهل: رأيت فقهاء طليطلة يجيزون بإخبار القاضي المحتل بذلك البلد قاضي البلدة وينفذ، ويرونه كمخاطبته أياه. وفي ذلك كله من الاضطراب مالا خفاء به. فجواب أصبغ، في إجازته القاضي أن يسمع من البينة في غير عمله، يخالف ما ذهب إليه ابن عبد الحكم في المسألة، وقرره صاحب النوادر من أن القاضي، إذا كان في غير عمله، فليس له أن يسمع من بينة أحد، ولا يشهد على كتابه إلى قاضي بلد آخر إلا ببلده. وأما مسألة خطاب القاضي في غير عمالته، وإنهاؤه ما ثبت عنده إلى غيره، فالصحيح فيه أنه شيء لا يقول عليه، ولا يلتفت إليه، لأنه ليس بوال في غير ولايته، والقاضي المكتوب إليه يصل حكمه بحكم الكاتب، ويثبته عليه. وإذ كان كذلك، فإنه لا يلتفت إلى قول القاضي الكاتب إلا في موضع تنفذ فيه أحكامه. وقوله في غير ولايته: ثبت عندي كذا كقوله بعد عزله: ثبت عندي كذا. وهو والعدل سواء. قال عبد الله ابن شاش: ولو شافه القاضي قاضياً آخر، لم يكف لأن أحدهما في غير محل ولايته؛ فلا ينفع سماعه أو إسماعه، إلا إذا كانا قاضيين لبلدة واحدة، أو التقيا من طرفي ولايته. فذلك أقوى من الشهادة. فيعتمد، ولو كان المسمع في محل ولايته؛ فلا يحكم بها إذ لا يحكم بمجرد علمه.

مسألة أخرى في قريب من ذلك المعنى وهو في القاضي يشهد على قضائه، وهو معزول أو غير معزول: ففي كتاب القضاة المختصر من العتيبة: قال أصبغ: قال لي ابن القاسم في القاضي يشهد على قضاء قضى به، وهو معزول أو غير معزول، ويرفعه إلى إمام غيره، إن شهادته لا تقبل، ولا يجوز ذلك القضاء إلا بشاهدين عليه غيره أنه قضى به. قاله أصبغ. قال ابن رشد في بيانه: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات؛ وهي مسألة صحيحة، وفيها معنى خفي. وهي أن قول القاضي، وهو على قضائه: حكمت لفلان بكذا لا يصدق إذا كان قوله بمعنى الشهادة، بمثل أن يتخاصم الرجلان عند القاضي، فيكون من حجته أن يقول: قد حكم قاضي بلد كذا أو كذا، وقد ثبت لي عند قاضي بلد كذا أو كذا! فيسأله البينة على ذلك فيذهب إليه فيأتيه من عنده بكتابه إني قد حكمت لفلان على فلان بكذا وكذا وإني قد ثبت عندي لفلان على فلان كذا وكذا! فهذا لا يجوز من أجل أنه على هذا الوجه شاهد. ولو أتى الرجل ابتداء إلى القاضي قال له: خاطب لي قاضي بلد كذا بما ثبت لي عندك على فلان بما حكمت لي به عليه! فخاطبه بذلك، لجاز من أجل أنه مخبر وليس بشاهد كما يجوز وقوله: وينفذ فيما يسجل به على نفسه، ويشهد من الأحكام ما دام على قضائه. وقد وقع لابن الماجشون، ومطرف، وأصبغ في الأقضية من الواضحة ما يعارض رواية أصبغ هذه.

ومن الكتاب المذكور: وسأله عن القاضي يقر عنده الرجل؛ فيكتب إقراره؛ ثم ينكر الرجل أن يكون أقر عنده بشيء؛ هل يقضى عليه بإقراره، أو هل يختلف إن قال القاضي: أقر عندي من قبل أن استقضى. قال ابن القاسم: رأيي والذي آخذ به في ذلك وهو الذي سمعت أنه لا يقضى عليه حتى يشهد على إقراره عنده شاهدان عدلان سوى القاضي، وإلا لم يقض عليه بشيء؛ وإنما هو بمنزلة ما اطلع عليه فيه من الحدود يعلمها، فهو لا يقيمها عليه، إلا أن يكون معه شاهدان عدلان سواه. فإن لم يكن قد ماتوا، أو عزلوا، كما ينفذ ما ثبت عنده من قضاء الحاكم ببلده الميت أو المعزول، وجب أن ينفذ كتبهم، وإن كانوا قد ماتوا أو عزلوا، كما ينفذ ما ثبت عنده أنه مضى من عمل الحكم قبله الميت أو المعزول، فيصل حكمه بحكمه أو يبنيه عليه، ولا يأمر الخصمين باستئناف الخصام عنده، إن كان الشهود قد شهدوا عند الميت أو المعزول، فأشهد على ذلك أو كتب به إلى حاكم بلد آخر، ثم مات أو عزل، ولم يأمر بإعادة الشهادة عنده، وإن كانوا قد شهدوا عنده، فقبلهم اعذاراً إلى المشهود عليه فيما شهدوا به دون أن ينظر في عدالتهم، وإن كان قد أعذر في شهادتهم إلى المشهود عليه، فعجز عن الدفع فيما امضى الحكم بها دون أن يستأنف الإعذار إليه مرة أخرى وإذا مات الإمام الذي تؤدى إليه الطاعة، وقد قدم حكاماً وقضاة، وولي الأمر غيره، وقضى الحكام الذين قدمهم الإمام الميت والقاضي يقضى بين موت الإمام الأول وقيام الثاني أو بعد قيامه، وقبل أن ينفذ لهم الولاية، فما قضوا به في الفترة وحكموا به نافذ. وما سجلوا به قاض لا يحتاجون فيه إلى إمضاء القاضي الذي يلي بعده. ومن المدونة: سئل عن القاضي يقضي لرجل أظنه فلا يجوز المقضى له ما قضى به له حتى يموت القاضي أو يعزل، هل يستأنف الخصومة في ذلك الأمر، أم ينفعه ما كان قضى له، ثم أقام يمضي القضاء الذي قضى به القاضي الأول، ولا ينظر فيه القاضي الثاني إلا أن يكون جوراً بيناً، فينقضه؟ قال ابن رشد: هذا كما قال من أن حكم القاضي لا يفتقر إلى حيازة، وهو مما لا اختلاف فيه. وإذا عزل القاضي، ثم ولي بعدما عزل، قال القاضي محمد بن يبقى بن زرب: فهو كالمحدث لا يقبل شهادة من شهد عنده قبل أن يعزل، فيما لم يتم الحكم فيه، حتى يشهدوا به عنده. قال ابن لبابة: والتعليم على الشهادة في الوثائق من سنة الحكم، ولا يكتفي بسماعه للشهادة دون التعليم، لأنه يتذكر به ما شهد عنده فيه. وكتاب الحاكم جائز إلا في الحدود والأنكحة على خلافه. ومن كتاب ابن خلف، وقد كتب عمر إلى عامله في الجارود، وكتب عمر بن عبد العزيز في سن كسرت. وقال إبراهيم: كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عرف الكتاب والخاتم. وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القضاء، ويروى عن ابن عمر مثله. وقد تقدم قول مالك في الوصية المختومة. وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي: شهدت عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة، وإياس بن معاوية، والحسن، وتمامة بن عبد الله بن أنس، وبلال بن أبي بردة، وعبد الله بن بريدة الأسلمي، وعامر بن عبدة، وعباد بن منصور، ويجيزون كتب القضاة بغير محضر من الشهود؛ فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب إنه زور، قيل له: اذهب! فالتمس المخرج من غير ذلك! ومن كتاب منهاج القضاة لابن حبيب: وسألت أصبغ بن الفرج عن القاضي يبعثه الإمام إلى بعض الأمصار في شيء منابه من أمر العامة، فيأتيه رجل في ذلك المصر يذكر أن له حقاً قبل رجل من أهل عمله، وهو عائب بعمله، ويذكر أن شهوده بهذا المصر، ويسأله أن يسمع منه؛ أيجيبه إلى ذلك؟ ولا ترى به بأساً؟ قال: نعم! يسمع من ذي بينة، ويوقع شهادتهم، ويسأله تعديلهم، وإن شاء، سأل قاضي ذلك المصر عنهم؛ فإن أخبره عنهم بعد التهم، اجتزى بذلك، لأنهم من أهل عمله؛ ولو اجتمع الخصمان عنده بذلك المصر، فأرادوا المخاصمة عنده، والشيء الذي يختصمان فيه في بلاد ذلك القاضي الغائب عن عمله، إلا أن يتراضيا عليه، كتراضيهما بعد أن يحكم بينهما، ويلزمهما أن قضى بالحق. وكل من تعلق برجل في مطلب، فإنما يخاصمه حيث تعلق به، إن كان ثم قاض أو أمير، كان المطلوب بذلك البلد أو غائباً عنه، كان إقرارهما بذلك البلد أو لم يكن، لا تكن الخصومة إلا حيث ترافعا. ومن كتاب أدب القضاة لمحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم فإذا حج القاضي، فنزل بمصر أو غيرها، فأتاه قوم من أهل عمله يسألونه أن يسمع من بينتهم على رجل في عمله، وكان قد شهد عنده شهود في عمله، فأرادوا منه أن يكتب إلى والي العراق، أو يشهد على كتبه بذلك إلى والي مكة، أو يحكم لهم بحكم من شهد عنده عليه قبل ذلك، فليس له ذلك، لأنه ليس والي ذلك البلد؛ فليس له أن يسمع من بينته، أو يشهد على كتاب قاض إلى قاضي بلد آخر، أو يشهد كذلك رفعه إلى من هو فوقه وكان هو شاهداً. قال ابن رشد: حكم القاضي على الرجل، بما أقر به عنده دون بينة تشهد عليه بإقراره عنده، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدهما أن يقر عنده قبل أن يستقضى؛ والثاني أن يقر عنده في غير مجلس الحكم بعد أن يستقضى؛ والثالث أن يقر بين يديه لخصمه في مجلس حكمه. فأما إذا أقر عنده قبل أن يستقضى، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لا يجوز له أن يحكم عليه بذلك الإقرار؛ فإن فعل، رد ذلك الحكم وفسخه هو ومن بعده من القضاة والحكام؛ وأما ما أقربه عنده بعد أن يستقضى في غير مجلس القضاء، فلا اختلاف في المذهب في أنه لا يجوز له أن يحكم عليه بذلك الإقرار دون بينة تشهد به عليه. وأهل العراق يقولون أنه يقضى عليه بذلك الإقرار دون بينة بخلاف الحدود، على ما قال في المدونة. وقد حكى عنهم أنه يقضي بعلمه في الحدود وهو بعيد؛ فإن قضى عليه بذلك الإقرار، نقض حكمه بذلك ما لم يحكم على المشهور في المذهب، ولم يرده من بعده من القضاة والحكام، مراعاة لقول أهل العراق. وأما ما أقر به عنده أحد الخصمين في مجلس قضائه، ثم جحده ولا بينة عليه، فالاختلاف فيه موجود في المذهب، وإن كان ابن المواز قد ذكر أنه لا اختلاف في ذلك بين أصحاب مالك.

قال ابن الماجشون: والذي عليه قضاتنا بالمدينة، وقال علماؤنا، ولا أعلم مالكاً رحمه الله! قال غيره، أنه يقضي عليه بما سمع منه وأقر به عنده. وإليه ذهب مطرف، وأصبغ، وسحنون. قال القاضي أبو الوليد: وهو دليل قول النبي صلى الله عليه وسلم! في الصحيح: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي! الحديث، إلى قوله: فأقضى له على نحو ما أسمع منه لأنه قال: على نحو ما أسمع ولم يقل على ما ثبت عندي من قوله. والمشهور في المذهب أنه لا يقضى عليه إذا جحد، وهو قوله في هذه الرواية، إلا أن يشهد عليه عنده من حضر مجلسه؛ فيحكم عليه بالشهادة دون إعذار. ومن عقد الجواهر: فإن لم ينكر حتى حكم، ثم أنكر بعد الحكم، وقال: ما كنت أقررت بشيء! لم ينظر إلى إنكاره. قال اللخمي: وهذا هو المشهور من المذهب. وقد تقدم لنا طرف من الكلام صدر هذا الكتاب على تفسير الحديث المسمى؛ وذكرنا أن عياضاً نقل عن الشافعي وأبي ثور ومن تبعهما أن للقاضي أن يقضي بعلمه في كل شيء من الأموال والحدود وغير ذلك، مما سمعه، أو رآه قبل قضائه وبعده، وبمصره وغيره. ونضيف الآن إلى ذلك من الأقوال في المسألة ما يأتي بعد على التقريب، وإن كان قد مر حاصل مجموعه. فنقول، تبركاً بإعادة الكلام في الحديث النبوي: ثبت في كتاب البخاري باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمور الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة كما قال عليه السلام! لهند: خذي ما بكفيك وولدك بالمعروف! قال ابن خلف في شرحه ما نصه: اختلف العلماء في القاضي يقضي بعلمه. وقال الشافعي وأبو ثور: جائز له أن يقضي بعلمه في حقوق الله وحقوق الناس سواء، علم ذلك قبل القضاء أبو بعده. وقال الكوفيون: ما شاهده الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء أو بعده فإنه يحكم فيه بعلمه إلا القذف، وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم فيما علمه قبل القضاء. وقال طائفة: لا يقضي بعلمه أصلاً في حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، وسواء علم ذلك قبل القضاء أبو بعده، أو في مجلسه. هذا قول شريح والشعبي؛ وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد. وقال الأوزاعي: ما أقر به الخصمان عنده، أخذهما به، وأنفذه عليهما، إلا الحدود. واحتج الشافعي بحديث هند وأن النبي صلى الله عليه وسلم! قضى لها ولولدها على أبي سفيان بنفقتها، ولم يسئلها عن ذلك بينة، لعلمه بوجوب ذلك عليه. وأيضاً فإنه متيقن بصحة ما يقضى به، إذا علمه على يقين. وليست كذلك الشهادة، لأنها قد تكون كاذبة أو واهمة. وقد أجمعوا على أن له أن يعدل، ويسقط العدول بعلمه، إذا علم أن ما شهدوا به على غير ما شهدوا به. وينفذ في ذلك ولا يقضى بشهادتهم. ومثال ذلك أن يعلم بنت الرجل ولدت على فراشه: فإن أقام شاهدين على أنها مملوكته، فلا يجوز أن يقبل شهادتهما، ويبيح له فرجاً حراماً. وكذلك لو رأى أن رجلاً قتل آخر، ثم جئ بغير القاتل، وشهد أنه القاتل، فلا يجوز أن يقبل الشهادة؛ وكذلك لو سمع رجلاً طلق امرأته طلاقاً بائناً، ثم ادعت عليه المرأة الطلاق، وأنكر الزوج ذلك. فإن جعل القول قوله، فقد أقامه على فرج حرام، فيفسق به، فلم يكن له بد من أن لا يقبل قوله ويحكم بعلمه.

واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن ما علمه الحاكم قبل القضاء إنما حصل في الابتداء على طريق الشهادة؛ فلم يجز أن يجعله حاكماً، لأنه، لو حكم به، لكان قد حكم بشهادة نفسه، وكان متهماً، وصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره. وأيضاً، فإن عمله لما تعلق به الحكم على وجه الشهادة، فإذا مضى به، صار كالقاضي بشاهد واحد. قالوا: والدليل على جواز حكمه بما علمه في حال القضاء وفي مجلسه قوله عليه السلام!: أنا أقضي على نحو ما أسمع! ولم يعرف بين سماعه من الشهود أو المدعى عليه. فيجب أن يحكم بما يسمعه من المدعى عليه، كما يحكم بما يسمعه من الشهود.

واحتج بعض أصحاب مالك؛ فقالوا: الحاكم غير معصوم، ويجوز أن تلحقه المظنة في أن يحكم لوليه وعلى عدوه. فحسمت المادة في ذلك بأن لا يحكم بعلمه لأنه ينفرد به، ولا يشركه غيره فيه. فظهر، على ما تقرر في المسألة من مذهب الشافعي ومن تبعه، أن قول ابن رشد نحو الرجل إذا أقر عند القاضي قبل أن يستقضى، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم، في أنه لا يجوز له أن يحكم عليه بذلك الإقرار ليس بصحيح؛ بل الخلاف في المسألة موجود اللهم إلا إن أراد بقوله ما يرجع إلى المشهور في المذهب أو قصد الأعم والأغلب. فقد يوجد نحو هذا لابن المواز وابن حبيب في غير ما موضع. والاختلاف فيه حاصل.

قال القاضي أبو عبد الله بن الحاج في نوازله، عند تكلمه في مثل هذه المسألة: وقد سبق إلى ذلك الأئمة كمالك ومن تقدمه؛ يقولون: أجمع الناس والاختلاف موجود إذ لا يعبأ بالشذوذ. وكذلك قول ابن رشد في القسم الثاني من أقسامه الثلاثة. فإن قضى عليه بذلك الإقرار، نقض حكمه بذلك ما لم يعزل؛ ولم يرده من بعده من الحكام مراعاة لقول أهل العراق. فيلزمه أيضاً على قياسه عدم بعض أحكامه من أخذ بمذهب الشافعي أيضاً في جواز حكم القاضي بما علمه قبل قضائه. وعلى كل تقدير، فطريق الاحتياط هو العمل فيما أمكن على الإشهاد. ولذلك عد العلماء في أدب القضاء أن يكون الحكم بمحضر عدول، ليحفظوا إقرار الخصوم خشية رجوع بعضهم عن مقالتهم. ولو كان القاضي ممن يقضى بعلمه، لكان أخذه بما لا خلاف فيه أحسن لمثله، وليكون حكمه بشهادتهم لا بعلمه. وقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه! أنه لم يكن ينفذ الأحكام في الغالب إلا بمجمع من الصحابة وحضورهم ومشورتهم مع علمه وفضله وفقهه، وحسن بصيرته بمآخذ الأحكام وطرق القياس ومعرفة الآثار. ونقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه! أنه كان، إذا جلس، أحضر أربعة من الصحابة، ثم استشارهم؛ فإذا رأوا ما رآه، أمضاه. قال محمد بن عبد الحكم: وليس ينبغي لأحد أن يترك المشاورة، ولا ينبغي له أن يثق برأي نفسه؛ ولا يدخل على الإمام من فعل ذلك استكبار: فإن سلف هذه الأمة وخيار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين! كانوا يسألون عما ينزل بهم، ويتفاوضون في أمورهم، ويلاحظون في أحكامهم قول الله العظيم: "يا أيها الذين آمنوا! كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما" أي: يا أهل الإيمان! اقيموا العدل بالإقرار على أنفسكم وبالشهادة على غيركم، من غير مبالاة في قول الحق والقيام به بقرابة ولا بغني ولا بفقير. يقول: لا تداهنوا في ألحق حباً للنفس ولا حمية للقريب ولا رعاية للغني، ولا شفقة على الفقير: فالله أولى بالجميع! فقد أخبر الله سبحانه في هذه الآية جميع المؤمنين من الحكام وغيرهم بالقيام بالقسط. وذلك في النوازل متوجه على المشاورين والمفتين، إذا وقفت النازلة عليهم، وعلى الأئمة والقضاة، إذا تأدت القضية إليهم. فإذا تبين للناظر في النازلة الحق المحض الذي لا مرية فيه، وكملت لديه موجباته، أنفذه وأمضاه أحبه من أحبه، أو كرهه من كرهه.

وممن قام به من القضاة بقرطبة، نصر بن ظريف. ومنه علمه مع حبيب القرشي في الضيعة التي قيم فيها عليه بدعوى الاغتصاب، ونهاه الأمير عند شكواه عن العجلة عليه، فخرج من فوره وعمل بضد ما أريد منه، وأمضى الحكم على وجهه وسجل به، وقد مر ذكر ذلك في اسمه.

ومن كلام سحنون، حين سئل عن القاضي يثبت عنده الحق للرجل، فيريد أن يسجل له كتاباً بما ثبت عنده، فيحضر خروج الإمام غازياً؛ فيأمر القاضي بأن لا ينظر إلى أحد إلى انصرافه، فيكون من رأى القاضي الإشهاد والتسجيل لصاحب الحق، فيفعل بعد تقدم الإمام إليه، لازم أو لا؟ أترى حكمه ماضياً؟ قال: نعم! أراه لازماً ماضياً. قال ابن رشد: هذا بين ما قال، لأنه لم يعزله، وإنما نهاه عن الحكم؛ والتسجيل ليس بحكم. فله أن يسجل بما تقدم حكمه به قبل أن يأمره بالتوقف عن الحكم.

وفي الواضحة: إن الإمام، إذا أمر القاضي أن يدع الحكم في أمر قد شرع فيه عنده، فله أن يدع ذلك إذا لم يتبين له حق أحدهما؛ فلا يدع ذلك إلا بعزل. وهو قول سحنون. هذا، وبالله التوفيق! وقد مر الكلام أيضاً في اسم المصعب بن عمران، عند قصة العباس بن عبد الملك أيام خلافة هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. وحاصلها أن الأمير أرسل إليه مع خليفة له من أكابر فتيانه بعزمه منه، يقول له: لا بد أن تكف عن النظر في هذه القصة، لأكون أنا الناظر فيها. فلما جاءه وأبلغه عزمته، أمره بالعقود، ثم أخذ قرطاساً، فسواه وعقد فيه حكمه وأنفذه لوقته بالإشهاد عليه؛ ثم قال للرسول: اذهب إلى الأمير أصلحه الله! فأعلمه أني قد أنفذت ما لزمني من الحق خوف الحادثة على نفسي ورهبة من السؤال عنه. إن شاء تنقضه، فذلك له! فليتقلد منه ما أحب! فوافق هذا العمل الجزل من المصعب رحمه الله! نص الواضحة، وجرى في ميدانه على الطريقة الحميدة. وسميت فصول المقالات المنعقدة عند القضاة قبل التسجيلات وهي التي تستفتح بها الخصومات محاضر، على ماحكاه محمد بن حارث؛ واحدها محضرة ليلزمها من هذا الاسم عند العلماء المتقدمين وهو مأخوذ من حضور الخصمين بين يدي القاضي. واختلف في اللفظ التي تفتتح به تلك الفصول، فكتب بعضهم: حضرني فلان، لأن تلك الصحيفة عنده وفي ديوانه، فكأنه مخاطب لنفسه، ومذكر لها بما كان بين يديه. وكتب بعضهم: وقال القاضي فلان بن فلان، ببلد كذا: حضرني فلان وكان بعضهم يكتب: قال القاضي: حضرني. قال عيسى: وهذا كله عندي إذا كتب بخط يده؛ وأما إن كتب عنده كاتب، فلا يكتب: حضرني، لأنه يقع في الظاهر كناية عن الكاتب. قال ابن حارث: والذي جرى به رسم قضاة الجماعة بقرطبة أن يكتب الكاتب: قال القاضي فلان بن فلان، قاضي الجماعة بكذا: فلان بن فلان قام عليه خصمه فلان، فادعى عليه بكذا. فقال فلان إنه لا يعرف شيئاً من ذلك، ولا يقر به.

تنبيه: ويجب على القاضي، إذا حضر الخصمان، أن يٍسأل المدعى عن دعواه، ويفهمها عنه. فإن كانت دعوى لا يجب بها على المدعى عليه حق، أعلمه بذلك، ولم يسأل المدعى عليه عن شيء، وأمرهما بالخروج عنه. وإن نقصه من دعواه ما فيه بيان مطلبه ومعزاه، أقره بتمامه. وإن أتى بإشكال، أمره كذلك ببيانه؛ فإذا صحت الدعوى، سأل المطلوب عنها؛ فإن أقر أو أنكر، نظر في ذلك بما يجب؛ وإن أبهم جوابه، أمره بتفسيره، حتى يرتفع الإشكال عنه، وقيد ذلك كله عنهما في كتاب، ويشهد عليهما به من حضر. وقد سطر المؤثقون في ذلك ما فيه مقنع ومفتاح الطلب والإعراب عن المذهب، وفيه رفع الشغب، فلا يدع الحكام أخذ المخصوم به. والله الموفق للصواب! فإذا انعقد في مجلس القاضي مقال بإقرار أو إنكار، وشهد به عنده على القائل شهود المجلس، على ما ذكرناه، أنفذ القاضي تلك المقالة على قائلها، ولم يعذر إليه في شهادة شهودها، لكونها بين يديه، وعلمه بها، وقطعة بحقيقتها. قال أبو إبراهيم وسقوط الإعذار في هذا إجماع من المتقدمين والمتأخرين. وكذلك ذكر ابن العطار في وثائقه وأنكره عليه محمد بن عمر بن الفخار الحافظ وقال: هذا اختلاط؛ وكيف يجوز أن يقضى بشهادتهما، من غير أن يعذر فيها إلى المشهود عليه، وقد ينكشف عند الإعذار فيهما أنهما غير عدلين، إذ قد يأتى المشهود عليه بما يوجب رد شهادتهما من عداوة، أو تفسيق، وإنما لم يقض القاضي بعلمه دون بينة، لأن فيه تعريض نفسه للتهم.

وقد حكى حاصل ذلك كله ابن سهل في كتابه، ونصه غيره من نظرائه. ويؤيد ما قال أبو إبراهيم وابن العطار ما في سماع أشهب وابن نافع عن مالك في القوم يشهدون عند القاضي. ويعدلون. قيل لمالك: هل يقول القاضي للذي شهد عليه دونك مخرج؟ فقال: إن فيها لتوهيناً للشهادة، ولا أرى إذا كان عدلاً أو عدل عنده أن يفعل. فهذا مالك قد أسقط الإعذار ها هنا فيما عدل عنه، فكيف به فيمن هو عنده عدل، وشهد لديه بما سمعه في مجلسه، واستوى فيه علم الشهود وعلمه؟ ومن الفقهاء من قال: إن كتب الشهود في مجلس القاضي شهادتهم على مقال مقر أو منكر فيه، ولم يشهدوا بها عند القاضي في ذلك المجلس، ثم أدوها بعد ذلك عنده، إذا احتيج إليها، فإنه يعذر في شهادتهم إلى المشهود عليه بخلاف إذا أدوها في المجلس نفسه الذي كان فيه المقال.

والإعذار للمبالغة في طلب إظهار العذر. ومنه: قد أعذر من أنذر، أي بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك. ومنه أيضاً: إعذار القاضي إلى من ثبت عليه حق يؤخذ في المشهود بذلك. ومن أعذر إليه، فادعى مدفعاً أجل في إثباته في الديون وشبهها ثمانية أيام سوى اليوم المكتوب فيه الأجل، ثم ستة أيام، ثم أربعة أيام، ثم يتلوم عليه ثلاثة أيام. وقيل: الأصل في الإعذار قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام! في الهدهد: "لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين!" وقيل في التلوم أصله قوله تعالى "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. وذلك وعد غير مكذوب!".

 وضرب الآجال مصروف إلى اجتهاد القضاة والحكام، وليس فيها حد محدود لا يتجاوز، إنما هو الاجتهاد، وبحسب ما يعطيه الحال. فإذا كان الأجل المضروب في الأصول أجل المعذور إليه من طالب أو مطلوب خمسة عشر يوماً، ثم ثمانية أيام، ثم أربعة أيام، ثم تلوم له أربعة، تتمة ثلاثين يوماً في الجميع. ذكر ذلك ابن العطار ومحمد بن عبد الله.

والغالب لهذا العهد في كتب المقالات الجارية بين الخصوم بقواعد البلد هو أن تكون في غير مجالس القضاة. وفي تلك الطريقة توسعه على الكاتب والمكتوب له أو عليه. ولا إعذار عندنا فيما تقيد من ذلك بشهادة أهل التبريز في العدالة، وسواء كان بمحضر القاضي أو فقيه، لما تقدم من تعليله.

مسألة. وإذا سكت المطلوب وأبى أن يتكلم، أو تكلم وقال: لا أخاصمه إليك! قال له القاضي: إما أن تخاصم؛ وإلا، أحلفت هذا المدعى على الذي ادعى قبلك، وحكمت له به عليك! فإن تكلم، نظر في كلامه وفي حجته؛ وإن لم يتكلم، أحلف الآخر وقضى له بحقه إن كان مما يستحق مع نكول المطلوب عن اليمين. قاله ابن حبيب. وقال محمد بن المواز في كتابه. إن لم يرجع فيقرأ أو ينكر، حكمت عليه للمدعى بلا يمين. وقال أبو محمد بن أبي زيد: قال ابن سحنون عن أبيه: إن قال الخصم ما أقر ولا أنكر، أو قال: ما له عندي حق! والآخر يدعى دعوى مفسرة، ويقول: أسلفته، أو بعته، أو أودعته فقال: لا، يقبل قول المدعى عليه: ماله عندي شيء حتى يقر بالدعوى بعينها أو ينكرها، فيقول: ما باعني، ولا أسلفني، ولا أودعني! فإن تمادى على الرد، سجنه. وقال ابن المواز فيمن ادعى عليه ستين ديناراً، فيقر بخمسين، ويأبى في العشرة أن يقر أو ينكر، أنه يجبر بالحبس حتى يقرأ أو ينكر ذلك، إذا طلب ذلك المدعى. هكذا قال مالك. وأنا استحسن، إذا تمادى على شكه، وقال لا أحلف على ما لا يقين لي فيه! إني أحلفه أنه ما وقف عن الإقرار والإنكار إلا أنه على غير يقين! فإذا حلف على هذا أدى العشرة أو يحسن فيها بالحكم؛ فلا يمين على المدعى لأن كل مدعى عليه لا يدفع الدعوى؛ فإنه يحكم عليه بلا يمين. وقال أشهب مثله.
وإذا تشعبت المقالات المكتبية من المتشاجرين في الخصومات، وأشكل حديثها، طرح جميعها، ولا حرج في ذلك؛ فقد نقل عن قاضي كان في أيام أبان بن عثمان أنه رفعت إليه كتب قد تقادم في أمرها والتبس البيان فيها؛ فأخذها وأحرقها بالنار. فقيل لمالك: أيحسن ذلك؟ قال: نعم؟ إني لأراه حسناً. قال ابن رشد في بيانه معنى هذه الكتب إنها كتب في خصومات طالت المحاضر فيها والدعاوى، وطالت الخصومات حتى التبس أمرها على الحكام. فإذا أحرقت، قيل لهم: بينوا الآن ما تدعون، ودعوا ما تلبسون به من طول خصامكم! وهو حسن الحكم على ما استحسنه مالك. ومن كتاب أبي القاسم بن الجلاب: إذا ذكر الحاكم أنه حكم في أمر من الأمور، وأنكر المحكوم عليه، لم يقبل قول الحاكم إلا ببينة. قال أبو الحسن اللخمي: وهو أشبه في قضاة اليوم لضعف عدالتهم. وقال أيضاً: ولا أرى أن يباح هذا اليوم لأحد من القضاة؛ ولا اختلاف في اعتماد القاضي على علمه في الجرح والتعديل؛ فأما الخط، فلا يعتمده إذا لم يتذكر، لإمكان التزوير عليه. ومن عقد الجواهر: قال القاضي أبو محمد: وإذا وجد في ديوانه حكماً بخطه، ولم يذكر أنه حكم به، لم يجز له أن يحكم به إلا أن يشهد به عنده شاهدان. وإذا نسي القاضي حكماً حكم به، فشهد عنده شاهدان أنه قضى، نفذ الحكم بشهادتهما، وإن لم يتذكر، كما ذكر القاضي أبو محمد. وحكى الشيخ أبو عمر روايته أنه لا يلتفت إلى البينة بذلك، ولا يحكم بها ولو شهد الشاهدان على قضائه عند غيره لحكم بشهادتهما ونفذ قضاؤه. قال ابن حبيب: وأخبرني أصبغ عن ابن وهب، عن مالك، في القاضي يقضى بقضاء، ثم ينكره، فشهر به عليه شاهدان: فلينفذ ذلك، وإن أنكره الذي قضى به معزولاً كان أو غير معزول عن القضاء. ومن كتاب المقنع لأبي أيوب: قال أصبغ عن أشهب، عن مالك، في القاضي يكتب شهادة القوم في الكتاب أو الأمر يريده من أمر الخصمين، ثم يختم الكتاب ويدفعه إلى صاحبه، ثم يؤتى بذلك الكتاب، فيعرفه بخاتمه، أيجيز ما فيه لغير بينة أنه خاتمه. والخواتم ربما عمل عليها: قال مالك: هو أعلم وأحب أن يكون الكتاب عنده. وقد كان بعض القضاة لا يلي كتابه إلا هو بنفسه. قال أصبغ: وأرى أن يجيز ما في الكتاب إذا عرفه وعرف خاتمه.

ولختم هذا الفصل بنبذة من الكلام في الشهادة على الخط وما يجوز من ذلك وما يضيق فيه. فنقول: الشهادة على الخط ترجع إلى أربعة أقسام: أحدهما: الشهادة على خط القاضي في خطاب أو حكم؛ الثاني: الشهادة على خط المقر على نفسه بحق من مال، أو طلاق أو عتاق، أو وصية، وشبهها؛ الثالث: شهادة الشاهد على خط يده في شهادته وهو لا يذكرها؛ الرابع: الشهادة على خطوط الشهود في الرسوم، وهي التي يكثر دورانها والاحتياج إليها. أما الشهادة على خط القاضي، فقد تقدم عليها من الكلام ما فيه الكفاية إن شاء الله. وأما الشهادة على خط المقر على نفسه، فقال ابن المواز: لم يختلف فيها قول مالك يريد في إعمالها على المقر؛ وفي المستخرجة عن ابن القاسم في المرأة يكتب إليها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له؛ فوجدت المرأة من يشهد أن هذا خط زوجها أنها، إن وجدت من يشهد على ذلك، نفعها؛ وفي سماع يحيى عن ابن القاسم: وإن ذلك؛ وإن شهد رجل على كتاب ذكر الحق أنه كتاب الذي عليه الحق بيده، حلف صاحب الحق مع ذلك؛ وإن شهد عليه اثنان جاز، وسقطت اليمين عنه. وكذلك قال مالك. وفي المجالس: إن كتب الوثيقة بخط يده وشهادته، نفذت، لأنه قليل ما يضرب على جميع ذلك؛ وإن لم تكن شهادته فيها، لم تنفذ لأنه كتب. ثم لم يتم الأمر. وإن قال لفلان: عندي أو قبلي بخط يده، قضى عليه لأنه خرج مخرج الإقرار بالحقوق. وإن كتب لفلان على فلان إلى آخر الوثيقة وشهادته فيها، لم يجز إلا ببينة سواه، لأنه أخرجها مخرج الوثائق، وجرت مجرى الحقوق. ولم تجز الشهادة فيها على خطه. قال أبو عمر بن هارون، وقد ذكر هذا التفصيل: هو تفسير جيد وفيها اختلاف. قال المحتج والخط عنده شخص قائم ومثال ماثل، تقع العين عليه وتميز سائر الأشخاص والصور. فالشهادة على الخط جائزة وكذلك حكى ابن سحنون في كتابه عن مالك وغيره من أصحابه أن الخط شخص تميزه العقول فكما يجوز في الأشخاص مع جواز الاشتباه فيها فكذلك يجوز في الخط من كتاب الاستغناء المصنف في أدب القضاة والحكام لخلف بن مسلمة بن عبد الغفور؛ ومنه قال الأبهري: كما تجوز الشهادة على الصور وإن كانت يشبه بعضها بعضاً، إذ الاختلاف فيها ليس بغالب. وفي باب الشهادة على الخط من الكتاب المقنع عن مالك أنها جائزة مثل أن يشهد على خط الرجل في شيء أقر به وقال إنه كالإقرار صراحاً. وعن أبي القاسم فيه: ومعرفة الشهود له كمعرفة الشهود للثياب والدواب وسائر ذلك. ومن نوع الشهادة الخط الشهادة أيضاً في الصوت؛ ولذلك جازت شهادة الأعمى على معرفة الصوت.

ورد صاحب الجواهر الشهادة على الخط إلى ثلاثة أوجه؛ فقال: الأول: الشهادة على خط المقر، وهو أقواها في جواز الشهادة؛ ويليه الوجه الثاني، وهو الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب؛ ويليه الوجه الثالث، وهو شهادة الشاهد على خط نفسه، وهو أضعفها في إجازة الشهادة. مسألة. قيل للقاضي محمد بن يبقى بن زرب: ما تقول في رجل كتب وصيته وأشهد عليها، ثم كتب في أسفلها بخط يده: هذه الوصية قد أبطلتها إلا كذا وكذا منها. فيخرج عني! وشهدت بينة أنه خطه. فقيل: لا ترد بهذا وصيته التي أشهد عليها وهو كمن كتبت وصيته بخط يده، ولم يشهد عليها حتى مات وشهد على خطه فيها، فلا تنفذ.

ومن نوازل القاضي أبي الأصبغ بن سهل: وقع الكتاب الثاني من أحكام محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم: وإذا كان لرجل على رجل آخر حق، فكتب له إلى رجل له عنده مال من دين أو وديعة، أن يدفع إليه ماله؛ فدفع الكتاب إلى الذي عنده المال؛ فقال: أما الكتاب، فإذا عرفه وهو خطه، ولا كنَّى لا أدفع إليك شيئاً! فذلك له، ولا يحكم عليه القاضي بدفعه، ولا يبرئه دفعه إن جاء صاحب الحق فأنكر الكتاب. وكذلك لو قال: قد أمرني أن أدفع إليك، ولا كن لا أفعل! فذلك له، لأنه لا يبرئه ذلك، إن أنكر الذي له المال أو مات.

ومن نوازل القاضي أبي عبد الله بن أحمد بن الحاج: إذا قال رجل أو وجد بخطه بعد وفاته لفلان قبلي كذا وثبت إقراره أو خطه، فلفظه قبلي محتملة أن يكون أوجب له قبله هبة مائة دينار أو صدقة بها، فموته أو فلسه قبل قبضها يبطلها. ومن عقد الجواهر: ولو كتب وصية بخطه، فوجدت في تركته، وعرف أنها خطه بشهادة عدلين، فلا يثبت شيء منها حتى يشهد عليها. وقد يكتب ولا يقدم. رواه ابن القاسم في المجموعة والعتيبة. قال محمد عن أشهب: ولو أقرها، ولم يأمركم بالشهادة فليس بشيء حتى يقول: إنها وصيتي، وإن ما فيها حق.

ويقرب من هذا الباب مسألة من وجد بخطه هجو أحد من الناس أو قذفه، وثبت بالبينة العادلة أنها خطه، وأنكر هو ذلك، وأعذر إليه؛ فلم يكن عنده مدفع. وقع فيها للقاضي أبي الوليد كلام حكاه عنه ابن جرير في نوازله، مضمنه الفتيا بأن يحلف المشهود على خطه أنه ما كتب، ولا قذف، ولا سب؛ فإن حلف، برئ، وإن لم يحلف، حبس حتى يحلف؛ فإن طال ذلك ولم يحلف، أطلق بأدب فيمن كان من أهل السفه ودونه في غيره. وبنى فتياه هذه على أن الخط غير معمول عليه، إلا في كونه شبهة كالشاهد الواحد. وأحال في فتياه على ما في سماع ابن القاسم من كتاب الحدود في القذف، وعلى ما قاله أصبغ في سماعه في ذلك الكتاب. والذي وقع له في كلامه على رواية ابن القاسم، في الكتاب الذي ذكر من كتابه المسمى ب البيان، أن في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه يحلف؛ فإن نكل، سجن حتى يحلف؛ فإن طال سجنه ولم يحلف، خلى سبيله ولم يؤدب. وقال أصبغ: يؤدب إن كان معروفاً بالأيذاء؛ وإن كان مبرءاً في ذلك، أي مبرزاً فيه، خلد في السجن. والثاني أنه، إن كان معروفاً بالسفه والأيذاء، عذر ولم يستحلف؛ وإن كان غير معروف بذلك، استحلف؛ وهو قول مالك في سماع أشهب. والثالث أنه يحلف مع شاهده، ويحد له. روى ذلك عن مطرف. قال: وهو شذوذ في المذهب أن يحد في القذف باليمين مع الشاهد وإذا ثبت القذف لأحد من الناس، فمات قبل أخذه، فللعقبة الطلب به. قال مالك: ويقوم بحق الميت ولده، وولد ولده، وأبوه، وجده لأبيه، من قام منهم أخذ الحد، وإن كان ثم من هو أقرب منه، لأن هذا عيب يلزمه. وقد استند في جعل الخط والقذف شبهة. وإنه ليس كالنطق إلى ما في الواضحة أن الشهادة على الخط لا تجوز في طلاق، ولا عتاق، ولا نكاح، ولا حد من الحدود، ولا تجوز إلا فيما كان مالاً من الأموال خاصة. وذكرنا تأويل الشيوخ لقول مالك في سماع أشهب من العتيبة في المرأة تدعى طلاق زوجها وتستظهر بخطه، وهو منكر. قال: إن كان لها من يشهد على خطه، نفعها. قال: ومعناه أن ذلك لها شبهة كالشاهد الواحد توجب لها اليمين عليه. قال في البيان: والذي أقول به إن معنى ما في كتاب ابن حبيب إنما هو أن الشهادة لا تجوز على خط الشاهد في طلاق، ولا عتاق، ولا نكاح، ولا حد، وتجوز على خط الرجل أنه طلق، أو أعتق، أو نكح، كما لا تجوز في إقراره بالمال. قال: فالصواب أن يحمل قوله في الرواية نفسها على ظاهر كلامه في البيان، حيث خص المنع بالشهادة على خط الشاهد خاصة تكون الإنشادات كلها الخطية واللفظية على سنن واحد في الحكم بها عند الشهادة عليها في الأموال وغيرها. ولما ذكر ابن خيرة طريقة شيخه ابن رشد في الجمع بين ما في الواضحة وما في سماع أشهب، في مسألة دعوى الطلاق على الزوج، قال: إنه جمع حسن إلا أن نص ما في الواضحة خلافة؛ فالأصوب أنهما قولان. وقد قال ابن المواز: الذي نأخذ به بأن لا يجوز من الخط شيء إلا من كتب خطه على نفسه؛ فإنه كالإقرار على نفسه. قال: وهو قول مالك. وهذا هو القول المخالف لما في الواضحة أنه أطلق القول في لزوم ماالتزمه الإنسان بخطه، ولم يخص مالاً من غيره ووجه الفرق بين خط الشاهد وخطه الالتزامات. وما ترتب من الحقوق الواجبات، ما ذكره ابن حارث في كتاب الاتفاق والاختلاف له؛ وذلك أنه ضعف الشهادة على خط الشاهد. قال: لأنه قد يكتب شهادته من لا يؤدى، ومن إذا سئل الأداء، استراب، ومن لا يعرف من أشهده إلا على عينه؛ وهذا كله توهين للعمل على خط الشاهد، بخلاف إقرار الإنسان على نفسه أو كتبه ما يعلن عليه حقاً لغيره.

مسألة أخرى. وهي: من وجد بخطه شيء من المذاهب الفلسفية المخالفة للشريعة، أو ما بمنزلتها في هذا المعنى، حكمها أن ينظر في المكتوب؛ فإن كان فيه تصريح أن كاتبه يقول به ويرتضيه، وهو بلسانه ينكره وينفيه، فيجرى حكمه على ما سبق ذكره في الخط، إذا ثبت من تعليق يمين به، أو سجن إن لم يحلف على نفيه، أو إنفاذ ما يوجبه الخط على من أقر بمضمنه، بحسب ما يقتضيه؛ وإن كان الخط بتلك المذاهب نقلاً مرسلاً غير مضاف قولاً لكاتبه، ولا مرتضى له مذهباً من قبله، فبئس من كتب بيده، مما هو عرضة للإخلال، وهو رصد للطعن على الدين بسببه؛ وهو حقيق بالتحريق والزجر عن مثله. وقد قال تعالى في قوم أضلوا غيرهم بمكتوبهم: "فويل لهم مما كتبت أيديهم!" وقد تقدم في اسم محمد بن يبقى بن زرب ما كان من عمله سنة 350 جملة من أتباع ابن مسرة الجبلي، وأنه استتابهم، وأحرق ما وجد من كتبهم وأوضاعه عندهم.

وجرى مثل ذلك أيضاً بحضرة غرناطة، منتصف عام 773، في كتب ألفيت بها من تواليف محمد بن الخطيب، فيما يرجع إلى العقائد والأخلاق؛ فأحرقت بمحضر من الفقهاء، والمدرسين من العلماء، وأماثيل الفقهاء، لما تضمنته الكتب المذكورة من المقالات التي أوجبت ذلك عندهم، وحققته لديهم.

ومن الكلام الذي استعظم بالأندلس في حق القاضي أبي الوليد الباجي، الذي أفصح به قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم! إنه كتب بيده؛ وكان أصل ذلك أنه قرئ عليه بمدينة دانية في كتاب البخاري حديث المقاضاة؛ فتكلم عليه، وأشار إلى تصويب من قال بظاهره. فقيل له: وعلى من يعود ضمير قوله كتب! فقال: على النبي صلى الله عليه وسلم! فقيل له: وكتب بيده؟ قال: نعم! ألا ترونه يقول في الحديث: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم! الكتاب وليس يحسن الكتاب؛ فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. قال ابن العربي في سراجه: فأعملوا ونسبوا كل تكذيب وتعطيل إليه. كان من قوله إن النبي الأمي يجوز أن يكتب بعد أميته؛ فيكون ذلك من معجزاته.

وكتب أمير وطنه في المسألة إلى إفريقية وصقلية، برغبة الباجي في ذلك. فجاءت الأجوبة من هنالك بتصديقه وتصويب مقالته. فسلم فيها قوم؛ وصدرت من بعض الفقهاء بالأندلس، في معرض الرد لها وإبطال مضمنها، أوضاع، منها جزء للزاهد أبي محمد ابن مفوز. قال صاحب الإكمال: فطال كلام كل فرقة في هذا الباب، وشنعت كل واحدة على صاحبتها. "وربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً!" ونرجع ما كنا بسبيله من الكلام. فنقول: وأما شهادة الشاهد على خط يده في شهادته وهو لا يذكرها، ففي سماع أشهب: قيل لمالك، في الرجل يؤتى بخط يده على شهادة لا يذكر منها شيئاً؛ قال: أرى أن يرفع شهادته على وجهها، يقول: أرى كتاباً يشبه كتابي، وأظنه اياه؛ ولست أذكر شهادتي، ولا متى كتبتها قيل له: فإن كان جلداً أبيض لا محو فيه ولا شيء، وعرف خط يده، فقال: ربما ضرب على الخط وعلى الكتاب؛ فأرى أن يرفع شهادته على وجهها. وقال عنه ابن نافع: لا يشهد. وقال: قد أتيت غير مرة بخط يدي، ولم أثبت على الشهادة؛ فلم أشهد. قاله ابن القاسم وأصبغ. وقال ابن حبيب: وهو الأحوط. وفي المستخرجة: قيل لسحنون: أرأيت الرجل يعرف خطه في الكتاب، لا يشك في ذلك، ولا يذكر كل ما فيه؟ فقال: قد اختلف فيه أصحابنا؛ والذي أقول به، إذا لم ير في الكتاب محواً ولا لحقاً ولا شيئاً يستذكر، ورأى الكتاب كله خطاً واحداً، فأرى أن يشهد، وأن يقول: أشهد بما فيه. وهذا الأمر لا يجد الناس منه بداً، ولا يستطيع أحد أن يذكر جميع ما في الكتاب. قيل له: فلو أنه عرف الكتاب كله وعرف خطه في الكتاب كله، وفيه شهادته، ولم ير شيئاً يستذكر، ولم يذكر منه شيئاً؟ فقال: أرى أن يشهد به؛ ولو أنه أعلم بذلك القاضي، رأيت للقاضي أن يجيز شهادته جائزة إذا ذكر أنه خط الكتاب، وكتب شهادته بيده، ولم ير فيه محواً، ولا يشكون أنها جائزة.

وقال سحنون: قال ابن وهب عن مالك: إذا أتى الرجل بالكتاب فيه شهادته، فيعرف خط يده ولا يذكر شهادته ولا شيئاً منها، فيقول بعض الشهود الذين في الكتاب معه: نشهد أنه كتاب يدك وأنك كتبته معنا، ولا يذكر هو شيئاً من ذلك قال: إن كان استيقن أنه كتابه وخط يده، ويعلم ذلك ويثبته، فيشهد عليه؛ وإن كان إنما يعلم ذلك بخبر غيره، وقولهم له، فلا أرى أن يشهد عليه. وعن ابن وهب عن مالك: من عرف خط يده في شهادته في ذكر حق ولم يثبت عدة المال، إن استيقن أنه خط يده، وإن كان لا يثبت عدة، فليشهد عليه. وينبغي للقاضي أن يقضى به إذا اشهد عنده أنه خط يده، وإن لم يشهد عنده على عدة المال.

ومن شرح خلف بن بطال: اتفق جمهور العلماء على أن الشهادة على الخط لا تجوز، إذا لم يذكر الشهادة ولا يحفظها. قال الشعبي: ولا يشهد أبداً إلا على شيء يذكر: فإنه من شاء، انتقش خاتماً، ومن شاء كتب كتاباً. وممن رأى أن لا يشهد على الخط، وإن عرفه، حتى يذكر الشهادة، الكوفيون، والشافعي، وأحمد، وأكثر أهل العلم. وقد فعل مثل هذا في أيام عثمان رضي الله عنه!: صنعوا مثل خاتمه، وكتبوا مثل كتابه، في قصة مذكورة في مقتل عثمان.

وأما الشهادة على خط الشهود، وهي التي يكثر في الغالب الاضطرار إليها. فحاصل المذهب فيها يرجع إلى قولين: أحدهما الجواز، وهو الذي رواه مطرف عن مالك في الواضحة أن الشهادة جائزة على خط الميت والغائب إذا لم يستذكر الشاهد شيئاً. حكاه ابن وهب أيضاً عنه. وقاله أصبغ. وهو قول ابن القاسم. واختلف في حد المغيب الذي تجوز فيه الشهادة على خط الغائب؛ فقال ابن الماجشون في ديوانه ما تقصر فيه الصلاة؛ ونحوه عنه في المجموعة. وقال ابن سحنون عن أبيه: الغيبة البعيدة من غير تحديد. وقال ابن مزين في كتبه الخمسة عن أصبغ: مثل إفريقية ومصر أو مكة من العراق. والقول الثاني أن شهادة الشهود على خط الشاهد بما علمت من حكم به وهما لو سمعا الشاهد ينص شهادته، لم يجز أن ينقلاها حتى يقول لهما: اشهدا بذلك! قال: والذي آخذ به ألا تجوز الشهادة على الخط إلا خط من كتب شهادته على نفسه؛ فهو كالإقرار. وقاله ابن القاسم أيضاً، رواه عن مالك. وقال محمد بن حكم: لا أرى أن يقضى في دهرنا بالشهادة على الخط، لما أحدث الناس من الفجور والضرب على الخطوط. وقد كان فيما مضى يجوزون الشهادة على طابع القاضي؛ ورأى مالك ألا يجوز. وقال ابن الماجشون في غير الواضحة: الشهادة على الخط باطل. وما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنهما! وهو خير هذه الأمة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم! وبعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما! إلا على الخط وما هي به منه وكتب عليه. قال: فلا أرى أن يشهد على الخط ولا أن يشهد الرجل إلا بما يعرف على من يعرف ويعلمه فيمن يعلم. أما سمعت الله تعالى يقول: "وما شهدنا إلا بما علمنا" وقال: "ألا من شهد بالحق وهم يعلمون." وقال مطرف مثله. وقال الطحاوي: خالف مالك جميع العلماء في الشهادة على معرفة الخط، وعدوا قوله شذوذاً؛ إذا الخط قد يشبه الخط، وليست شهادة على قول منه ولا معاينة فعل. وقال محمد بن حارث: الشهادة على الخط خطأ. ولقد قلت لبعض الفقهاء: أتجوز شهادة الموتى؟ فقال: ما هذا الذي تقوله؟ قلت: إنكم تجيزون الشهادة الرجل بعد موته، إذا وجدتهم خطه في وثيقة. فسكت. ومن الكتاب المقنع: كان محمد بن عمر ابن لبابة لا يجيز الشهادة على الخط في شيء من الأشياء، استمر على ذلك إلى أن مات. وهو أحوط لحوالة الزمان وفساد أهله. وشهادة الأحياء ربما دخلتها الدواخل؛ فكيف بشهادة الموتى؟  وفي كتاب القاضي أبي الأصبغ بن سهل، وقد قدر مسائل من هذا النوع، وقال: من ضعف أمر الخط وضعف الشهادة، أن رجلاً، لو قال، وهو قائم صحيح! هذا خطي! ولست أذكر القصة ولا أحفظ المعنى الذي كتبت خطي فيه! لما كانت شهادة ولا جازت جواز العلم والقبول، فكيف يأتى رجل إلى خط غيره، ويشهد عليه، ويقطع إنه كتابه وعمله؛ فيمضي ذلك وينفذ. وهذا هو الصحيح عندي: لا أقول بغيره، ولا أعتقد سواه؛ وهو دليل المدونة وغيرها. ثم قال: لا كنى أذهب إلى جواز ذلك في الأحباس خاصة، على ما اتفق عليه شيوخنا رحمهم الله! اتباعاً لهم، واقتداء بهم، واستحساناً لما درجت عليه جماعتهم، وقضى به قضاتهم، وانعقدت به سجلاتهم. وحسب المجتهد منا اتباع السلف؛ فقد أجازوا غير ما شيء على الاستحسان وأخذوا به بالتخفيف؛ وما أجمعوا على ذلك في الأحباس إلا حيطة عليها، وتحصيناً أن تحال عن أحوالها، وتغير عن سبيلها، واتباعاً لمالك وأصحابه في المنع من بيعها، والمناقلة بها، والمعاوضة فيها، وإن خربت، وذهب الانتفاع بها. واحتج ببقائها بالمدينة خراباً، لا تحال عن وجوهها التي اثبتت فيها؛ فظاهر اختيارهم هذا، على ما ذكره ابن سهل، يمنع من تجويز الشهادة على الخط في التقية وشبهها، مما فيه توهينها ونقضها؛ فلا يجوز إذا العمل به، ولا يسوغ القول بذلك، إلا لمن اعتقد جواز الشهادة على الخط مطلقاً، ولم يخص شيئاً من شيء لا حبساً ولا غيره، وخالف ما اتفق عليه الشيوخ، وجرى به العمل. وأما من ذهب مذهبهم بتخصيص الأحباس بها، فلا يصح له القول بذلك في التقية، ولا في غيرها. والله المستعان! وقد شافهت في ذلك بعض من لقيت من العلماء؛ فأخبرني أن اختياره إبطال التقية، وأنه شاهد القضاة بذلك. ومن أحكام ابن جرير: قال ابن زرب: الشهادة على الخط جائزة في مذهب مالك رحمه الله! في جميع الأشياء. والذي جرى به العمل، أنه تجوز الشهادة على الخط في الأحباس المعقبة الموقفة المسبلة. وقال ابن حارث: لم أسمع، ولا علمت أن الذين رأوا إجازة الشهادة على خط الشاهد فرقوا بين الأحباس وسواها من الأموال فضلاً عن أن يفرق بين الحبس الذي يكون مرجعه إلى المساكين، ويرجع متملكاً.

هذا ما وسع الوقت من الكلام على كتب القضاة إلا القضاة، وفي الشهادة على الخطوط، وبعض ما يرجع إليها ويتعلق بها من المسائل. وفيه الغنية الكاملة للمتأمل، بفضل الله.

الفصل الثاني في صفات من بلغ من القضاة رتبة الاجتهاد وحكم القاهر عن تلك المنزلة في استنباط الأحكام؛ وضبط معاني هذه الترجمة يفتقر إلى إطالة، وغرضنا إيثار الاختصار. فنقول على جهة التقريب والله الموفق للصواب!: أما الصفات التي ينبغي أن يكون عليها كملاء القضاة، فهي العلم بالكتاب والسنة وما وقع عليه إجماع الأمة؛ والاجتهاد المتكلم به عند الفقهاء هو استفراغ الوسع في المطلوب لغة، واستفراغ الوسع بالنظر فيما يلحق فيه لوم شرعي اصطلاحاً. هذا هو المعبر عنه بالاجتهاد. وأما هل سجن النبي صلى الله عليه وسلم! وأبو بكر رضي الله عنه! أحداً أم لا، فذكر بعضهم أنه لم يكن لهما سجن ولا سجناً أحداً. وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! سجن بالمدينة في تهمة دم: رواه عبد الرزاق والنسائي وأبو داوود. وفي أحكام ابن زياد عن أيوب بن سليمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! سجن رجلاً أعتق شريكاً له في عبد؛ فوجب عليه استتمام عتقه. قال في الحديث: متى باع له. وفي كتاب ابن شعبان عن الأوزاعي: أن رجلاً قتل عبده متعمداً؛ فجلده النبي صلى الله عليه وسلم! مائة جلدة، ونفاه سنة، ولم يقره؛ وأمره أن يعتق رقبة. قال ابن شعبان: وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم! أنه حكم بالضرب والسجن. ومن غير كتاب ابن شعبان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه! أنه كان له سجن، وأنه سجن الحطيئة على الهجو، وسجن آخر على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات ويس، وضربه مرة بعد مرة، ونفاه إلى العراق. وقد تقدم أنه ضرب في التعزير معن بن زائدة مائة سوط حيث نقش خاتمه وحبسه. وسجن عثمان ابن عفان رضي الله عنه! ضابئ بن الحارث، وكان من لصوص بني تميم وفتاكهم، حتى مات في السجن. وسجن علي بن أبي طالب رضي الله عنه! بالكوفة. واحتج بعض العلماء ممن يرى السجن فيكم وهن بقول الله تعالى "في البيوت حتى يتوفهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً"، وبقول النبي عليه السلام! في الذي أمسك رجلاً آخر حتى قتله: اقتلوا القاتل واصبروا الصابر! قال أبو عبيد: قوله اصبروا الصابر يعني احبسوا الذي حبسه للموت حتى يموت. وكذلك ذكره عبد الرزاق في مصنفه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه! يحبس الممسك في السجن حتى يموت. ومن كتاب ابن سهل، في اتخاذ الحميل على من أقر بمال أو ثبت قبله: قال أبو صالح: من وجب عليه حميل، فلم يقدر عليه، فالحبس حميله. وأهل المشرق يقولون بالملازمة ولا يبارحه. وهذا القول قد رواه محمد بن سحنون عن أبيه وقال به. وقال محمد بن غالب: الذي نراه أن يتخذ عليه حميل بالمال، توقعاً من الشح والهرب؛ فيذهب حق ذي الحق. فإن لم يقم حميلاً، حبس له. وقال محمد بن الوليد بمثله. وقال ابن العطار في كتاب السجلات من وثائقه: إذا لم يأت المطلوب بحميل بما يثبت عليه، سجن للطالب، إن طلب ذلك؛ ولا يسجن، إذا لم يقم حميلاً بالخصومة في أول الطلب؛ ويقال للطالب: لازمه إن أحببت، ركن معه حيث انصرف! وفي وثائق ابن الهندي، هذا الوجه أنه يسجن إن لم يقم حميلاً بوجهه.

وسئل القاضي أبو الوليد عمن كان له على رجل دين حال، وللغريم سلعة يمكن بيعها مسرعاً؛ فطلب صاحب الدين بيع السلعة، وطلب المديان أن لا يفوت عليه سلعته، وأن يضع السلعة رهناً، ويؤجل أياماً ينظر فيها في الدين هل له ذلك أم لصاحب الدين بيع السلعة؟ فأجاب فيها: إن من حقه أن يجعل السلعة رهناً، ويؤجل في إحضار المال بقدر قلته وكثرته، وما لا يكون فيه ضرر على واحد منهما، على ما يؤدى إليه اجتهاد الحاكم في ذلك. فهذا هو الذي جرى به القضاء، ومضى عليه العمل؛ وهو الذي تدل عليه الروايات عن مالك وأصحابه وبالله التوفيق! نجز وتم والحمد لله على ما خص من نعمه وعم! كتاب المرقبة العليا، فيمن يستحق القضاء الفتيا، تأليف الشيخ الإمام أبي الحسن ابن الفقيه أبي محمد عبد الله النباهي رحمه الله تعالى رضى عنه.