النوع الخامس عشر: معرفة المفاريد

المزهر في علوم اللغة

السيوطي

عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ابن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين المولود عام 849 هـ والمتوفي عام 911 هـ

 

النوع الخامس عشرمعرفة المفاريد

قال ابنُ جني في الخصائص‏:‏ المسموعُ الْفَرْد هل يقبل ويحتجُّ به له أحوال‏:‏ أحدها - أن يكون فرداً بمعنى أنه لا نظير له في الألفاظ المسموعة مع إطباق العرب على النُّطق به فهذا يُقْبَل ويحتجُّ به ويُقاس عليه إجماعاً كما قِيس على قولهم في شَنُوءة شَنَئِيّ الحال الثاني - أن يكون فرداً بمعنى أن المتكلِّم به من العرب واحد ويخالف ما عليه الجمهور فينظر في حال هذا المنفرد به فإن كان فصيحاً في جميع ما عدا ذلك القَدْر الذي انفرد به وكان ما أورده مما يقبلُه القياسُ إلا أنه لم يَرِد به استعمالٌ إلا من جهة ذلك الإنسان فإنّ الأَوْلى في ذلك أن يحسن الظنّ به ولا يحمل على فساده‏.‏

فإن قيل‏:‏ فمن أين ذلك وليس يجوز أن يَرْتجل لغةً لنفسه قيل‏:‏ يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغةٍ قديمة طال عهدُها وعَفا رسمُها فقد أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحبَاب قال‏:‏ قال لي ابن عَوْن عن ابن سيرين قال عمرُ بن الخطاب رضي اللّه عنه‏:‏ كان الشّعرُ علم قوم ولم يكن لهم علمٌ أصحَّ منه فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العربُ بالجهاد وغزْوِ فارسَ والروم ولَهَت عن الشعر ورِوايته فلما كَثُر الإسلام وجاءت الفتُوحُ واطمأنت العرب في الأمصار راجعُوا رِواية الشعر فلم يَؤُولوا إلى ديوان مُدَوَّن ولا كتاب مكتوب وألْفَوا ذلك وقد هلك من العرب مَنْ هَلَك بالموت والقتل فحفِظوا قُلّ ذلك وذهب عنهم كُثْره‏.‏

وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ ما انتهى إليكم ممّا قالت العربُ إلا قُلُّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعر كثير‏.‏

وعن حمَّاد الرَّاوية قال‏:‏ أمر النعمانُ بن المُنذر فنُسِخت له أشعارُ العرب في الطُّنُوج وهي الكراريس ثم دفَنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن أبي عُبيد الثقفي قيل له‏:‏ إن تحت القَصْر كنزاً فاحتَفَره فأخرج تلك الأشعار فمن ثمَّ أهل الكوفة أعلمُ بالشعر من أهل البصرة‏.‏

قال ابن جني‏:‏ فإذا كان كذلك لم نقطع على الفصيح يُسْمَع منه ما يخالِفُ الجمهور بالخطأ ما دام القياسُ يَعْضُده فإن لم يَعْضُده كرَفْع المفعول والمضاف إليه وجرِّ الفاعل أو نصبه فينبغي أن يردّ وذلك لأنه جاء مُخالفاً للقياس والسماع جميعاً وكذا إذا كان الرجلُ الذي سُمِعت منه تلك اللغة المخالفة مضعوفاً في قوله مألوفاً منه اللَّحن وفساد الكلام فإنه يردّ عليه ولا يُقبل منه وإن احتمُل أن يكون مصيباً في ذلك لغةً قديمة فالصواب ردّه وعدمُ الاحتفال بهذا الاحتمال‏.‏

الحال الثالث - أن ينفرد به المتكلِّم ولا يُسْمع من غيره لا ما يوافقه ولا ما يخالفه‏.‏

قال ابن جني‏:‏ والقولُ فيه أنه يجب قبولُه إذا ثبتت فصاحته لأنه إما أن يكون شيئاً أخذه عمن نطق به بلغةٍ قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه على حدِّ ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح أو شيئاً ارتجله فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمَتْ طبيعته تصرّف وارتجل ما لم يُسْبق إليه فقد حكي عن رُؤْبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظاً لم يسمعاها ولا سُبِقا إليها‏.‏

أما لو جاء شيء من ذلك عن متَّهم أو من لم تَرْقَ به فصاحته ولا سبَقت إلى الأنفس ثِقته فإنه يردّ ولا يُقبل فإن ورد عن بعضهم شيءٌ يدفعه كلام العرب ويأباه القياسُ على كلامهما فإنه لا يُقنع في قبوله أن يُسْمَع من الواحد ولا من العدَّة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم فإن كَثُر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوَجه في القياس فمجازُه وجهان‏:‏ أحدهما أن يكون مَنْ نطق به لم يُحْكِم قياسه على لغة آبائهم والآخر أن تكون أنت قصَّرْت عن استدراك وجه صحته‏.‏

ويحتمل أن يكون سمَعه من غيره ممن ليس فصيحاً وكثُرَ استماعه له فسرَى في كلامه إلا أن ذلك قلّما يقع فإن الأعرابي الفصيح إذا عُدِل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافَها ولم يَعْبَأ بها فالأقوى أن يُقْبل ممن شهرت فصاحته ما يُورده ويُحْمَل أمرُه على ما عُرِف من حاله لا على ما عسى أن يحتمل‏.‏

كما أن على القاضي قبولَ شهادة من ظهرت عدالته وإن كان يجوز كذِبه في الباطن إذ لو لم يُؤْخذ بها لأدّى إلى ترك الفصيح بالشك وسقوط كلّ اللغات‏.‏

تنبيه - الفرق بين هذا النوع وبين النوع الخامس أن ذاك فيما تفرَّد بنقله عن العرب واحدٌ من أئمة اللغة وهذا فيما تفرَّد بالنطق به واحدٌ من العرب فذاك في الناقل وهذا في القائل‏.‏

وهذه أمثلةْ من هذا النوع في الجمهرة‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ لم تأت الخَيْطة في شِعْرٍ ولا نَثْرٍ غير بيت تَدَلَّى عليها بَينَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ شديدُ الوَصَاة نَابلٌ وابنُ نابلِ السِّب بلغة هذيل‏:‏ الحَبْل‏.‏

وفي الغريب المصنّف‏:‏ الرُّحُم‏:‏ الرَّحْمَة‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ كان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير‏:‏ ومن ضَرِيبتُه التَّقْوَى وَيَعْصِمُهُ من سَيِّئ العَثَراتِ اللَّهُ بالرُّحُمِ قال ثم قال‏:‏ لم أسْمَع هذا الحرفَ إلاَّ في هذا البيت قال‏:‏ وكان يقرأ وأقرب رُحماً‏.‏

وفي الجمهرة يقال‏.‏

هو ابن أَجْلَى في معنى ابنِ جَلاَ قال العجّاج‏:‏ لاَقَوْا به الحجَّاج والإصْحارا به ابن أَجْلَى وافَقَ الإسْفارا قال الأصمعي‏:‏ ولم أسمع بابنِ أَجْلَى إلاَّ في هذا البيت‏.‏

وفيها‏:‏ أخبرنا أبو حاتم قال‏:‏ سألت أمَّ الهيثم عن الحَبِّ الذي يسمى أسفيوش ما اسمه بالعربية فقالت‏:‏ أرني منه حبَّات فأريتُها فأَفْكَرت ساعة ثم قالت‏:‏ هذه البُحْدُق ولم أسمَعْ ذلك من غيرها‏.‏

وفيها الحَوْصَلاء‏:‏ الحَوْصَلة قال أبو النجم‏:‏ وفي أمالي القالي‏:‏ الكِتَرْ‏:‏ السَّنام قال عَلْقَمة بن عَبْدَة‏:‏ كِتْرٌ كَحَافةِ كِير القَيْنِ مَلْمُومُ قال الأصمعي‏:‏ ولم أسمع بالكَتْر إلا في هذا البيت‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ التَّوْأَبَانِيَّانِ‏:‏ قَادمتا الضرع قال ابن مُقبل‏:‏ لها تَوْأََبَانِيَّان لم يَتَفَلْفَلاَ أي لم تسوّد حلمتاهما‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ سمّى ابنُ مُقْبل خِلْفَي الناقة تَوْأَبَانِيَّيْن ولم يأت به عربيّ‏.‏

وفيه‏:‏ الشَّمَل لغة في الشّمْل أنشد أبو زيد في نوادره للْبُعَيث‏:‏ وقد يَنْعَشُ اللَّهُ الفَتَى بعد عَثْرةٍ وقد يَجْمعُ اللَّهُ الشَّتِيتَ من الشَّمَلْ قال أبو عَمْرو الجَرْمي‏:‏ ما سَمِعتُه بالتحريك إلا في هذا البيت‏.‏

وفي الغريب المصنّف قال الكسائي‏:‏ نَمَى الشيء يَنْمِي بالياء لا غير قال‏:‏ ولم أسمعه يَنْمو إلا من أخوين من بني سليم ثم سألتُ عنه بني سليم فلم يعرفوه بالواو‏.‏

وفي الكامل للمبرد‏:‏ زعم الأصمعي أن الكِرَاض حَلَقُ الرَّحِم قال‏:‏ ولم أسمعه إلا في هذا الشعر وهو قول الطرماح‏:‏ وفي شرح المعلقات للنحاس الفَرَد لغة في الفَرْد قال النابغة‏:‏ طاوي المَصير كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرَد قال‏:‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ لم يسمع بفرَد إلا في هذا البيت‏.‏

وفي كتاب ليس لابن خالَوَيْه لم تأت الأجِنَّة لجمع الجنَّة بمعنى البُسْتان إلاَّ في بيت واحد وهو‏:‏ وترى الحمام مُعانقاً شُرُفاته يَهْدِلْنَ بين أَجِنَّةٍ وحَصَاد قالوا‏:‏ ويجوز أن تكون الأجنَّة الفراخ فيكون جمع جَنين‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ لم يأت فمّ بالتشديد إلا في قول جرير‏:‏ إن الأمامَ بعدهُ ابنُ أُمِّه ثم ابنه والي عَهْدِ عَمِّه قَدْ رضِيَ الناسُ به فسَمه يا ليتَها قد خَرَجَتْ من فُمِّه وقال ابن خالويه في شرح الدريدية‏:‏ الرّشاء بالمد‏:‏ اسمُ موضع وهو حرف نادر ما قرأته إلا في قول عوف بن عطيّة‏:‏ يَقودُ الجِياد بأرسانها يضعن ببطن الرّشاء المِهارا وقال ابن السكّيت في إصْلاح المنطق‏:‏ لم يجئ مالح في شيء من الشِّعر إلا في بيت لعُذَافِر‏:‏ وقال‏:‏ يقال فلان ذو دَغَوَات ودَغَيات أي أخلاق رديئة ولم يُسْمع دَغَيات ولا دَغْيَة إلا في بيت لرُؤْبة فإنهم زعموا أنه قال‏:‏ نحن نقول دَغْية وغيرنا يقول دَغْوَة وأنشد‏:‏ ذَا دَغَيَاتٍ قُلَّبَ الأَخْلاَقِ وقال القالي في المقصور والمدود‏:‏ قال صاحبُ كتاب العين‏:‏ قال أبو الدقيش‏:‏ كلمة لم أسمعها من أحدنُهَاء النهار أي ارتفاعُه‏.‏

وذكر ابن دُريد أنه قد جاء الفعالاء القُصاصاء في معنى القِصاص‏.‏

وقال‏:‏ زعموا أن أعرابيَّاً وقف على بعض أُمراءِ العراق فقال‏:‏ القُصَاصاء أَصْلَحَك اللَّه أي خُذْ لي بالقصاص وهو نادر شاذ وقد قال سيبويه‏:‏ إنه ليس في كلامهم فُعالاء والكلمة إذا حكاها أعرابيٌّ واحد لم يَجُزْ أن يُجْعَل أصلاً لأنه يجوز أن يكون كذِباً ويجوزُ أن يكون غَلَطاً ولذلك لم يودِع في أبواب الكتاب إلا المشهور الذي لا يُشَكّ في صحَّته‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ذكر أبو زيد أنه سمع أعرابيًّا يقول‏:‏ نَسيماء بالمد قال‏:‏ والواحد إذا أتى بشاذٍّ نادر لم يكن قولُه حجةً مع مخالفة الجميع‏.‏