المزهر في علوم اللغة
السيوطي
عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ابن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين المولود عام 849 هـ والمتوفي عام 911 هـ
النوع العشرون معرفة الألفاظ الإسلامية
قال ابن فارس في فقه اللغة - باب الأسباب الإسلامية: كانت العربُ في جاهليّتِها على إرْث من إرْث آبائِهم في لُغاتهم وآدابهم ونَسَائِكهم وقَرَابِينهم فلما جاء اللّه تعالى بالإسلام حالت أحوالٌ ونُسِخَتْ دِيانات وأُبْطِلَت أمورٌ ونُقِلَت من اللغة ألفاظٌ من مواضعَ إلى مواضع أُخَر بزيادات زِيدَت وشرائع شُرعت وشرائط شُرِطت فعفَّى الآخرُ الأولَ.
فكان مما جاء في الإسلام ذكرُ المؤمن والمسلم والكافر والمُنَافق وإن العربَ إنما عرفتْ المؤمنَ من الأمان والإيمان وهو التصديقُ ثم زادتَ الشريعةُ شرائطَ وأوصافاً بها سُمِّي المؤمنُ بالإطلاقِ مؤمناً.
وكذلك الإسلام والمُسْلم إنما عَرَفَتْ منه إسلامَ الشيء ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء وكذلك كانت لا تعرف من الكُفْر إلا الغطاء والسَّتْر فأما المنافقُ فاسمٌ جاء به الإسلام لقوم أبْطَنوا غيرَ ما أظهروه وكان الأصل من نافِقاء اليَرْبوع ولم يعرفوا في الفِسْق إلا قولهم: فَسَقَتِ الرُّطَبة إذا خرجت من قِشْرها وجاء الشرع بأن الفِسْق الإفحاشُ في الخروج عن طاعة اللّه تعالى.
ومما جاء في الشرع: الصلاة وأصلُه في لغتهم الدّعاء وقد كانوا يعرفون الرُّكوع والسجودَ وإن لم يكن على هذه الهيئة قال أبو عمرو: أَسْجَدَ الرجل: طَأْطَأ رأسَه وانْحَنى وأنشد: فَقُلْنَ له: أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدا يعني البعير إذا طأَطَأ رأسه لتَرْكَبه.
وكذلك الصيامُ أصلهُ عندهم الإمساك ثم زادت الشريعةُ النّيّة وحظَرت الأكلَ والمباشرة وغيرهما من شرائع الصوم وكذلك الحجّ لم يكن فيه عندهم غير القصد ثم زادت الشريعةُ ما زادَته من شرائط الحج وشعائره وكذلك الزكاة لم تكن العربُ تعرفُها إلا من ناحيةِ النَّماءِ وزاد الشرعُ فيها ما زاده.
وعلى هذا سائر أبواب الفقه فالوَجْه في هذا إذَا سُئل الإنسانُ عنه أن يقول فيه اسمان: لُغَوي وشَرْعي ويذكر ما كانت العربُ تَعرفُهُ ثم جاء الإسلام به وكذلك سائر العلوم كالنَّحْو والعروض والشعر كلُّ ذلك له اسمان: لُغوي وصِناعيّ.
انتهى كلامُ ابنِ فارس.
وقال في باب آخر: قد كانت حدثتْ في صدر الإسلام أسماء وذلك قولهم لمن أدرك الإسلام من أهل الجاهلية مُخَضْرم.
فأخبرَنا أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم حدثنا محمد بن عباس الخُشْكي عن إسماعيل بن عبيد اللّه قال: المُخَضْرَمون من الشعراء مَنْ قال الشِّعْر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام فمنهم حَسَّان ابن ثابت ولَبِيد بنُ رَبيعة ونابغة بني جعدة وأبو زيد وعَمْرو بن شأس والزِّبْرقان بن بدر وعَمْرو بن معدي كرب وكعبُ بن زهير ومَعْن بن أوس.
وتأويل المُخَضْرَم من خَضْرَمْتُ الشيء أي قطعتُهُ وخَضْرَم فلان عطيته أي قَطَعَها فسمّي هؤلاء مُخضرمين كأنهم قُطعوا عن الكفر إلى الإسلام وممكن أن يكونَ ذلك لأن رُتْبَتَهم في الشِّعْر نقَصَتْ لأن حالَ الشعر تطامَنت في الإسلام لما أنزلَ اللّه تعالى من الكتاب العربي العزيز وهذا عندنا هو الوَجْه لأنه لو كان من القَطْع لكان كلُّ من قُطِع إلى الإسلام من الجاهلية مُخَضْرَماً والأمر بخلاف هذا.
ومن الأسماء التي كانت فزالت بزوال معَانيها قولهم: المِرْباع والنَّشِيطة والفُضول ولم يذكر الصَّفِّي لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد اصْطفى في بعض غَزواته وخُصّ بذلك وزال اسم الصفّي لمّا توفي صلى الله عليه وسلم.
ومما ترك أيضاً: الإتاوة والمَكْس والحُلْوان وكذلك قولهُم: أنْعم صباحاً وأنعم ظلاماً وقولهم للملك: أَبَيْتَ اللعن.
وترك أيضاً قول المملوك لمالكه: رَبّي وقد كانوا يخاطبون ملوكهم بالأرباب قال الشاعر: وتُرِك أيضاً تسمية مَن لم يحجّ: صَرورَة لقوله صلى الله عليه وسلم: لا صَرُورة في الإسلام.
وقيل معناه: الذي يَدَعُ النّكاح تَبتُّلاً أو الذي يحدث حَدثاً ويلجأ إلى الحرم.
وترك أيضاً قولهم للإبل تُساق في الصَّداق: النَّوافج.
وممّا كُره في الإسلام من الألفاظ قول القائل: خَبُثَت نفسي للنَّهْي عن ذلك في الحديث وكُرِه أيضاً أن يقال: استَأْثََر اللّه بفلان.
ومما كانت العرب تستعمله ثم تُرِك قولهم: حِجْراً مَحْجُوراً وكان هذا عندهم لمعنيين: أحدهما - عند الحِرْمان إذا سئل الإنسانُ قال: حجْراً مَحْجوراً فيعلمُ السامعُ أنه يريد أن يحرمه ومنه قوله: حنت إلى النَّخْلَة القُصْوَى فقلتُ لها: حجْرٌ حرامٌ ألا تِلْكَ الدَّهاريس والوجه الآخر: الاستعاذة كان الإنسانُ إذا سافر فرأى من يخافُه قال: حِجْراً محجوراً أي حرام عليك التعرّض لي وعلى هذا فسّر قوله تعالى: " يَوْمَ يَرَونَ الملائكةَ لا بُشْرَى يَومَئِذٍ لِلْمُجْرِمين ويقولون حِجْراً مَحْجُوراً " يقول المجرمون ذلك كما كانوا يقولونه في الدنيا.
انتهى ما ذكره ابن فارس.
وقال ابن برهان في كتابه في الأصول: اختلف العلماء في الأسامي هل نُقلت من اللغة إلى الشرع فذهبت الفقهاء والمعتزلة إلى أن من الأسامي ما نُقِل كالصَّوْم والصلاة والزكاة والحج.
وقال القاضي أبو بكر: الأسماء باقيةٌ على وَضْعها اللُّغوي غير منقولة.
قال ابن برهان: والأولُ هو الصحيح وهو أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَقَلها من اللغة إلى الشرع ولا تخرجُ بهذا النقل عن أحد قسمي كلام العرب وهو المجازُ وكذلك كلُّ ما استَحدثه أهل العلوم والصناعات من الأسامي كأهل العَرُوض والنحو والفقه وتَسْميتهم النقضَ والمنعَ والكَسر والقلْب وغيرَ ذلك.
والرفع والنصب والخفض والمديد والطويل.
قال: وصاحبُ الشرْع إذا أتى بهذه الغرائب التي اشتملت الشريعةُ عليها من علوم حار الأوّلون والآخرون في معرفتها مما لم يخطْر ببال العرب فلا بدَّ من أسامي تدل على تلك المعاني.
انتهى.
وممن صَحَّح القول بالنقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأَلكْيا قال الشيخ أبو إسحاق: وهذا في غير لفظ الإيمان فإنه مُبْقى على موضوعه في اللغة.
قال: وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ وإنما يكون على حسب ما يقومُ عليه الدليل.
وقال التاج السبكي: رأيت في كتاب الصلاة للإمام محمد بن نصر عن أبي عبيد: أنه استدلَّ على أن الشارعَ نَقَل الإيمان عن معناه اللُّغوي إلى الشرعي بأنه نقلَ الصلاة والحجّ وغيرهما إلى معانٍ أخر.
قال: فما بالُ الإيمان قال السبكي: وهذا يدلُّ على تخصيص محلِّ الخِلاف بالإيمان.
وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: وقع النقلُ من الشارع في الأسماء دون الأفعال والحروف فلم يوجد النّقل فيهما بطريق الأصالة بالاسْتقْراء بل بطريقِ التَّبعيَّة فإن الصلاةَ تستلزِمُ صَلّى.
قال الإمامُ: ولم يوجد النقلُ في الأسماء المترادِفة لأنها على خلاف الأصْل فتقدَّر بقدر الحاجة.
وقال الصفي الهندي: بل وُجد فيها في الفَرْض والواجب والتزويج والإنكاح.
وقال التاج السبكي في شرح المنهاج: الألفاظُ المُسْتَعمَلة من الشارع وقع منها الاسمُ الموضوعُ بإزاء الماهيات الجعلية كالصلاة والمصدرُ في أنتِ طلاق واسمُ الفاعل في أنت طالق وأنا ضامن واسم المفعول في الطلاق والعتْق والوكالة والصفة المشبهة في أنت حرّ والفعل الماضي في الإنشاءات وذلك في العقود كلّها والطلاق والمضارع في لفظ أشهد في الشهادة وفي اللّعان والأمر في الإيجاب والاستيجاب في العقود نحو بعْني واشْترِ مني.
وقال ابن دُريد في الجمهرة: الجوائز: العَطَايا الواحدة جائزة.
قال: وذكر بعضُ أهل اللغة: أنها كلمة إسلامية وأصلها أن أميراً من أمَراء الجيوش واقَفَ العدوّ وبينه وبينهم نهر فقال: مَن جاز هذا النهرَ فله كذا وكذا فكان الرجلُ يعبرُ النهر فيأخذُ مالاً فيُقالُ: أخذ فلان جائزة فسمِّيت جوائز بذلك.
وقال فيها: لم يكن المحرَّم معروفاً في الجاهلية وإنما كان يقال له ولصَفر الصِّفَرَيْن وكان أول الصَّفَرَين من أشهر الحُرُم فكانت العربُ تارةً تحرِّمُه وتارةً تُقاتل فيه وتحرِّم صفر الثاني مكانه.
قلت: وهذه فائدةٌ لطيفة لم أرها إلا في الجمهرة فكانت العرب تسمي صفر الأول وصفرَ الثاني وربيعَ الأول وربيعَ الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة فلما جاء الإسلام وأبطل ما كانوا يفعلونه من النَّسِيء سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم شهرَ اللّه المحرم كما في الحديث: أفضلُ الصيام بعدَ رمضان شهرُ اللَّه المحرم وبذلك عُرفت النكتة في قوله: شهر اللّه.
ولم يَرد مثلُ ذلك في بقية الأشهر ولا رمضان وقد كنتُ سُئِلت من مدة عن النّكْتة في ذلك ولم تحضرني فيها شيء حتى وقفتُ على كلام ابنِ دُرَيد هذا فعَرفتُ به النكتة في ذلك.
وفي الصحاح قال ابنُ دريد: الصَّفَران: شهران في السنة سمي أحدهما في الإسلام المحرَّم.
وفي كتاب ليس لابن خالويه: إن لفظ الجاهلية اسمٌ حدَث في الإسلام للزَّمن الذي كان قبلَ البعثة.
والمنافِق اسمٌ إسلاميٌّ لم يُعْرف في الجاهلية وهو مَنْ دَخل في الإسلام بلسانه دون قَلْبه سُمِّي منافقاً مأخوذٌ من نافِقاء اليَرْبوع.
وفي المجمل: قال ابن الأعرابي: لم يُسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق.
قال: وهذا عجيبٌ وهو كلامٌ عربي ولم يأت في شعرٍ جاهلي وفي الصحاح نحوُه.
وفي كتاب ليس: لم يعرف تفسير الضّراح إلا من الحديث قال: هو بيت في السماء بإزاء الكعْبة.
وفي الصحاح: التَّفَث في المناسك: ما كان من نحو قَصِّ الأظفار والشارب وحَلْق الرأس والْعَانَة ورَمْي الجِمار ونَحْر البُدْن وأشباه ذلك.
قال أبو عبيدة: ولم يجئ فيه شعرٌ يحتجُّ به.
وفي فقه اللغة للثعالبي: إذا مات الإنسانُ عن غير قتل قيل: مات حَتْفَ أَنْفِه وأولُ من تكلَّم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: إذا كان الفرسُ لا ينقطع جَرْيه فهو بَحْر شُبِّه بالبحر الذي لا ينقطعُ ماؤه وأولُ من تكلَّم بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في وَصْف فَرس رَكِبه.
وقال ابن دريد في المجتبى: باب ما سُمع من النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يُسْمع من غيره أخبرنا عبد الأول بن مريد أحد بني أَنْف النَّاقة من بني سعد في إسناد قال: قال عليّ رضي اللّه عنه: ما سمعتُ كلمةً عربيةً من العرب إلا وقد سمعتُها من النبي صلى الله عليه وسلم وسمعته يقول: مات حَتْفَ أَنْفِه وما سمعتها من عربيّ قبله.
وقال ابنُ دُريد: ومعنى حَتْف أنفه: أن رُوحه تخرج من أنْفه بتتابع نفَسه لأن الميتَ على فراشه من غير قَتْل يَتَنَفَّس حتى يَنْقَضِي رَمَقُه فخصَّ الأَنْفَ بذلك لأنَّه من جهته ينقضي الرَّمَق.
قال ابنُ دريد: ومن الألفاظ التي لم تُسْمع من عربيٍّ قبله قوله: لا يَنْتَطح فيها عَنْزَان.
وقوله: الآن حَمي الوَطيس.
وقوله: لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ من جُحْرٍ مرتين.
وقوله: الحربُ خَدْعَة.
وقوله: إيّاكم وخَضْراء الدِّمَن في ألفاظ كثيرة.
وفي الصحاح قال أبو عبيد: الصِّيرُ في الحديث أنه شَقُّ الباب ولم يُسْمع هذا الحرف.
قال: والزَّمَّارة في الحديث أنها الزانية.
قال أبو عبيد: ولم أسْمع هذا الحرفَ إلا في الحديث ولا أدري من أي شيء أُخذ.
وفيه: الجُلْهُمة بالضم الذي في حديث أبي سُفْيان: ما كِدْتَ تأَْذَنُ لِي حتَّى تأْذَنَ لحجارة الجُلْهُمَتين.
قال أبو عبيدة: أراد جانبي الوادي وقال: لم أسمعْ بالجُلْهمة إلا في هذا الحديث وما وفي تهذيب الإصلاح للتبريزي: يقال: اجْعَل هذا الشيء بَأْجَاً واحداً مهموزة أي طريقاً واحداً.
ويقال: إن أول من تكلّم به عثمان بن عفّان.
وفي شرح الفصيح لابن خالويه: أخبرنا ابنُ دُريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: أول ما سُمع مصدر فاضَ الميت من شريح قال هذا أوانُ فوضه.
وفي كتاب ليس: لم يُسْمع جمعُ الدَّجَّال من أحدٍ إلا من مالك بن أنس فقيهِ المدينة فإنه قال: هؤلاء الدَّجَاجِلة.