النوع الثاني والعشرون: معرفة خصائص اللغة

المزهر في علوم اللغة

السيوطي

عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ابن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين المولود عام 849 هـ والمتوفي عام 911 هـ

 

النوع الثاني والعشرون معرفة خصائص اللغة

من ذلك‏:‏ أنها أفضلُ اللغات وأوسعُها قال ابنُ فارس في فقه اللغة‏:‏ لغةُ العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإنه لتنزيلُ ربِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتكُونَ مِنَ المُنْذِرين بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ ‏"‏ فوصفه - سبحانه - بأبلغ ما يُوصَف به الكلامُ وهو البيان وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ خَلَق الإنسانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ‏"‏ فقدَّم - سبحانه - ذِكْرَ البيان على جميع ما توحَّد بخَلْقه وتفرَّد بإنشائه من شمسٍ وقمر ونجْم وشجر وغير ذلك من الخلائق المُحْكَمَة والنشايا المتقنة فلما خصَّ - سبحانه - اللسانَ العربي بالبيان عُلم أن سائرَ اللغات قاصرةٌ عنه وواقعة دونه‏.‏

فإن قال قائلْ: فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي لأن كلَّ من أفهمَ بكلامه على شرط لُغته فقد بيَّن‏.‏

قيل له‏:‏ إن كنتَ تريد أنّ المتكلم بغير اللغة العربية قد يُعْرِب عن نفسه حتى يفهَم السامعُ مُراده فهذا أخسُّ مراتب البيان لأن الأبْكم قد يدلُّ بإشارات وحركات له على أكثر مراده ثم لا يُسمى متكلماً فضلاً عن أن يُسمى بَيِّناً أو بليغاً وإن أردت أنَّ سائرَ اللغات تُبِين إبانَةَ اللغة العربية فهذا غلط لأنا لو احتجنا إلى أن نُعَبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد ونحن نذكر للسيف بالعربية صفاتٍ كثيرة وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء والمُسَمَّياتِ بالأسماء المترادفة‏.‏

فأين هذا من ذاك وأين لسائر اللغات من السّعة ما للغة العرب هذا ما لا خفاء به على ذي نُهْية‏.‏

وقد قال بعض علمائنا - حين ذكر ما للعرب من الاستعارة والتمثيل والقَلْب والتقديم والتأخير وغيرها من سنن العرب في القرآن فقال‏:‏ وكذلك لا يقدرُ أحدٌ من التَّراجم على أن ينقلَه إلى شيء من الألْسِنة كما نُقِل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية وترجمت التوراة والزَّبور وسائر كتب اللّه عزّ وجلّ بالعربية لأنَّ غيرَ العرب لم تتسع في المجاز اتساعَ العرب ألا ترى أنك لو أردتَ أن تنقلَ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإما تَخَافَنَّ من قومٍ خيانةً فانبِذْ إليهم على سواءٍ ‏"‏‏.‏  

لم تستطع أن تأتي لهذه بألفاظ مؤدِّية عن المعنى الذي أودِعَتْه حتى تبسط مجموعها وتصلَ مقطوعها وتُظهرَ مَسْتُورها فتقول‏:‏ إن كان بينك وبين قوم هُدْنة وعَهْد فخِفْت منهم خيانةً ونقضاً فأعْلمهم أنك قد نقضتَ ما شرطته لهم وآذنْهم بالحرب لتكونَ أنتَ وهم في العلم بالنَّقْض على الاستواء‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فَضَرَبْنَا على آذانهم في الكَهْف ‏"‏‏.‏

وقد تأتي الشعراء بالكلام الذي لو أراد مريد نَقْلَه لاعْتاصَ وما أمكن إلا بمبسوط من القول وكثير من اللَّفظ ولو أراد أن يُعبِّر عن قول امرئ القيس‏:‏ فدع عنك نَهْباً صِيحَ في حَجَراته بالعربية فَضْلاً عن غيرِها لطالَ عليه وكذا قول القائل‏:‏ والظنُّ على الكاذب‏.‏

ونِجَارُها نارها‏:‏ وعَيَّ بالأسْناف‏.‏

وإنشأي يرم لك وهو باقِعَة‏.‏

وقلبٌ لو رَفع‏.‏

وعلى يدي فاخْضَم‏.‏

وشأنك إلا تركه مُتفاقم‏.‏

وهو كثير بمثله طالت لغةُ العرب دون اللغات ولو أراد معبِّرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخْفاق واليقين والشك والظاهر والباطن والحق والباطل والمُبين والمُشْكل والاعتزاز والاستسلام لعيَّ به واللّه تعالى أعلم حيث يجعل الفضل‏.‏

ومما اختصَّت به العربُ بعد الذي تقدم ذكرُه‏:‏ قَلْبُهم الحروفَ عن جهاتها ليكون الثاني أخفَّ من الأول نحو قولهم مِيعاد ولم يقولوا مِوْعاد وهما من الوعد إلا أن اللفظ الثاني أخف ومن ذلك‏:‏ تركُهم الجمع بين الساكِنَيْن وقد يجتمعُ في لغة العجم ثلاثة سواكن ومنه قولهم‏:‏ يا حارِ ميلاً إلى التخفيف‏.‏

ومنه‏:‏ اختلاسُهم الحركات في مثل‏:‏ فاليوم أشْرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ ومنه الإدغامُ وتخفيفُ الكلمة بالحذف نحو‏:‏ لم يَكُ ولم أُبَلْ‏.‏

ومن ذلك إضمارُهم الأفعال نحو‏:‏ امرأً اتَّقى اللّه وأمْرَ مُبْكياتك لا أمْر مُضْحكاتك‏.‏

ومما لا يمكنُ نقلهُ البتَّة أوصافُ السيف والأسد والرُّمح وغير ذلك من الأسماء المُترادفة ومعلوم أن العجمَ لا تعرفُ للأسد أسماء غيرَ واحد فأما نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم‏.‏

وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال‏:‏ سمعتُ أبا عبد اللّه بن خالَويْه الهمذاني يقول‏:‏ جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحيَّة مائتين‏.‏

قلت‏:‏ ونظيرُ ذلك ما في فقه اللغة للثعالبي‏:‏ قد جمع حمزة بن حسن الأصبهاني من أسماء الدواهي ما يزيد على أربعمائة وذكر أن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي‏.‏

قال‏:‏ ومن العجائب أن أمةً وسَمت معنى واحداً بمئين من الألفاظ‏.‏

ثم قال ابن فارس‏:‏ وأخبرني عليُّ بن أحمد بن الصبّاح قال‏:‏ حدثنا أبو بكر بنُ دُريد قال‏:‏ حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمِّه أن الرشيد سألَه عن شعر لابن حزام العُكْلي ففسَّره فقال‏:‏ يا أصمعي إن الغريب عندك لغيرُ غريب‏.‏

قال‏:‏ يا أمير المؤمنين ألا أكون كذلك وقد حفِظت للحَجَر سبعين اسماً قال ابن فارس‏:‏ فأين لسائر الأُمم ما للعرب ومن ذا يُمكنُه أن يُعبّر عن قولهم‏:‏ ذَات الزُّمَين وكثرة ذات اليد ويد الدّهر وتخَاوَصَت النجوم ومجَّت الشمسُ ريقَها ودَرَأ الفيء ومَفاصل القول وأتى بالأمر من فصّه وهو رَحْب العَطَن وغَمْرُ الرِّداء ويَخْلق ويَفْرِي وهو ضيّق المَجَم قَلِق الوضِين رابط الجأش وهو ألْوى بعيد المُسْتَمَرّ وهو شَرَّاب بأنقُع وهو جُذَيلُها المُحَكّك وعُذَيقُها المرَجَّب وما أشبه هذا من بارع كلامهم ومن الإيماء اللطيف وما في كتاب اللّه تعالى من الخطاب العالي أكثر وأكثر كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولكُمْ في القِصاص حياةٌ ‏"‏‏.‏

و ‏"‏ يحسبون كلَّ صَيحةٍ عليهم ‏"‏‏.‏

‏"‏ وأُخْرَى لم تَقْدِرُوا عليها قد أحاطَ اللّهُ بها ‏"‏ و ‏"‏ إن يتَّبعون إلاَّ الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى من الحقّ شيئاً ‏"‏‏.‏

‏"‏ ولا يحيقُ المكرُ السَّيِّئُ إلا أإهله ‏"‏‏.‏

وهو أكثر من أن نأتي عليه‏.‏

وللعرب بعد ذلك كَلَِم تلوح في أثناء كلامهم كالمصابيح في الدُّجى كقولهم للجَمُوع للخير قَثوم‏.‏

وهذا أمر قاتِم الأعماق أسودُ النَّواحي‏.‏

واقْتَحَفَ الشرابَ كلَّه‏.‏

وفي هذا الأمر مصاعب وقُحَم‏.‏

وامرأة حَييَّة قَدِعة‏.‏

وقد تقادعوا تقادُع الفراش في النار‏.‏

وله قدمُ صِدق‏.‏

وذا أمر أنت أدرته ودبَّرته‏.‏

وتقاذَفَتْ بنا النَّوى‏.‏

واشْتَفَّ الشراب‏.‏

ولك قُرْعة هذا الأمر‏:‏ خياره‏.‏

وما دخلت لفلان قَرِيعة بيت‏.‏

وهو يَبْهَرُ القرينة إذا جاذبته‏.‏

وهم على قَرْو واحد‏:‏ أي طريقة واحدة‏.‏

وهؤلاء قرابين الملك‏.‏

وهو قَشْع‏:‏ إذا لم يثبت على أمرٍ‏.‏

وقَشَبه بقبيح‏:‏ لطخه‏.‏

وصبي قصيع‏:‏ لا يكاد يشبّ‏.‏

وأقبلت مقاصر الظلام‏.‏

وقطَّع الفرس الخيلَ تقطيعاً‏:‏ إذا خلّفها‏.‏

وليلٌ أقْعس‏:‏ لا يكاد يبرح‏.‏

وهو منزول قفز‏.‏

وهذه كلمات من قدحة واحدة فكيف إذا جال الطّرْف في سائر الحروف مجاله ولو تقصَّينا ذلك لجاوزنا الغَرضَ ولما حوته أجْلاد وأجلاد هذا ما ذكره ابن فارس في هذا الباب‏.‏

من العلوم الجليلة التي اختصتْ بها الأعرابُ الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ وبه يُعْرف الخبر الذي هو أصل الكلام ولولاه ما مُيِّزَ فاعلٌ من مفعول ولا مضافٌ من منعوت ولا تعجّب من استفهام ولا صَدْر من مصدر ولا نعتٌ من تأْكيد‏.‏

وزعم ناسٌ يُتَوَقَّفُ عن قبول أخبارهم أن الفلاسفة قد كان لهم إعرابٌ ومؤلفاتُ نحو وهو كلامٌ لا يُعَرَّج على مثله وإنما تشبَّه القوم آنفاً بأهل الإسلام فأخذوا من كتب علمائنا وغيَّروا بعضَ ألفاظها ونسبُوا ذلك إلى قومٍ ذوي أسماء مُنكرة بتراجم بَشِعة لا يكاد لسانُ ذي دينٍ ينطق بها وادَّعَوا مع ذلك أن للقوم شعراً وقد قرأناه فوجدناه قليل المآثر والحلاوة غير مستقيم الوَزْن‏.‏

بلى الشعرُ شعرُ العرب وديوانُهم وحافظُ مآثرهم ومقيِّد حسابهم‏.‏

ثم للعرب العَرُوض التي هي ميزان الشِّعْرِ وبها يُعْرَف صحيحُه من سقيمه ومَن عَرف دقائقه وأسرارَه وخفاياه علم أنه يُرْبي على جميع ما يحتجُّ به هؤلاء الذين ينتحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخُطوط والنُّقَط التي لا أعرف لها فائدة غيرَ أنها مع قلَّة فائدتها تُرِقّ الدين وتنتجُ كلَّ ما نعوذُ باللّه منه‏.‏

هذا كلام ابن فارس‏.‏

ثم قال‏:‏ وللعرب حفظُ الأنساب وما يُعْلمُ أحدٌ من الأمم عُنيَ بحفظ النسب عناية العرب قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناسُ إنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ ‏"‏‏.‏

فهي آيةٌ فصل - قال ابنُ فارس‏:‏ انفردت العرب بالهَمْزِ في عَرض الكلام مثل قرأَ ولا يكون في شيء من اللغات إلا ابتداء‏.‏

قال‏:‏ ومما اختصت به لغة العرب الحاءُ والطاء وزعم قومٌ أن الضادَ مقصورةٌ على العرب دونَ سائرِ الأمم‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ قد انفردت العربُ بالألف واللام التي للتَّعريف كقولنا‏:‏ الرجل والفرس فليستا في شيء من لغات الأمم غير العرب‏.‏

انتهى‏.‏

فصل - وقال ابن فارس في فقه اللغة في موضع آخر‏:‏ باب الخطاب الذي يقعُ به الإفهامُ من القائل والفهمُ من السامع‏:‏ يقع ذلك من المُتَخاطبين من وجهين‏:‏ أحدهما الإعرابُ والآخر التَّصْريف‏.‏  

فأما الإعراب فَبِه تميَّزُ المعاني ويُوقَف على أغراض المتكلمين وذلك أنَّ قائلاً لو قال‏:‏ ما أَحْسن زيد غيرَ مُعْرِبٍ لم يُوقف على مراده فإذا قال‏:‏ ما أحسَنَ زيداً أو ما أحسنُ زيدٍ أو ما أحْسَنَ زَيْدٌ أبانَ بالإعرابِ عن المعنى الذي أرادَه وللعرب في ذلك ما ليس لغيرِهم فهم يَفرقُون بالحركات وغيرِها بين المعاني يقولون‏:‏ مِفْتَح للآلةِ التي يُفْتح بها ومَفْتح لموضع الفتحِ ومِقَص لآلة القص ومَقصّ للموضع الذي يكون فيه القص ومِحْلب للقدَح يُحْلَب فيه ومَحْلَب للمكان يُحْتَلب فيه ذَواتُ اللبن ويقولون‏:‏ امرأةٌ طاهرٌ من الحيض لأن الرجل لا يَشْرَكها في الحيض وطاهرةٌ من العيوب لأن الرجلَ يشْرَكُها في هذه الطهارة وكذلك قاعدٌ من الحَبَل وقاعِدةٌ من القعود‏.‏

ويقولون‏:‏ هذا غلاماً أحسنُ منه رجلاً يريدون الحالَ في شخص واحد‏.‏

ويقولون‏:‏ هذا غلامٌ أحسنُ منه رجلٌ فهما إذن شخصان ويقولون‏:‏ كم رجلاً رأيت في الاسْتخبار‏.‏

وكم رجلٍ رأيت في الخبر يراد به التكثير‏.‏

وهُنَّ حَوَاجُّ بيتِ اللّه إذا كنَّ قد حَجَجْنَ‏.‏

وحَوَاجّ بيتَ اللّه إذا أردنَ الحجّ‏.‏

ويقولون‏:‏ جاء الشتاء والحطبَ إذا لم يرد أنَّ الحطَب جاء إنما أريدَ الحاجةُ إليه‏.‏

فإن أريد مجيئُهما قال‏:‏ والحطبُ‏.‏

وأما التصريف فإن مَنْ فاته عِلْمُه فاتَه المُعْظَم لأنا نقول‏:‏ وَجَد وهي كلمة مُبْهمة فإذا صرفت أَفْصَحْت فقلت في المال‏:‏ وُجْداً وفي الضَّالة‏:‏ وِجْداناً وفي الغضب‏:‏ مَوْجِدَةً وفي الحُزْن‏:‏ وَجْداً‏.‏

ويقال‏:‏ القاسِط للجائر والمُقْسطُ للعادل فتحوَّلَ المعنى بالتصريف من الجَوْر إلى العَدْل‏.‏

ويقولون للطريقة في الرَّمْل‏:‏ خِبَّة وللأرض بين المخْصبَة والمجْدبة خُبَّة ونقول في الأرض السهلة الخوّارة‏:‏ خارت تخور خَوراً وخُؤوراً وفي الإنسان إذا ضعُف‏:‏ خَار خَوَراً وفي الثور‏:‏ خارَ خُوَاراً وللمرأة الضخمة‏:‏ ضِنَاك وللزُّكْمَة‏:‏ ضُنَاك‏.‏

ويقولون للإبل التي ذهبتْ ألبانها‏:‏ شَوْل وهي جمع شائلة وللتي شالَتْ أَذْنَابُها لِلَّقْح‏:‏ شُوَّل وهي جمع شائل ولبَقيَّةِ الماء في الحوض‏:‏ شَوْل‏.‏

ويقولون للعاشق‏:‏ عَمِيد وللبعير المتأكّل السَّنَام‏:‏ عمِد إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يُحْصَى‏.‏

فصل - وقال ابنُ فارس في موضع آخر‏:‏ بابُ نظم للعرب لا يقولُه غيرهم‏:‏ يقولون‏:‏ عادَ فلانٌ شيخاً وهو لم يكن شيخاً قط‏.‏

وعاد الماء آجناً وهو لم يكن آجناً فيعود‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏"‏ حتى عادَ كالعُرْجُون القديم ‏"‏‏.‏

فقال‏:‏ عاد ولم يكن عُرْجوناً قبلُ وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام‏:‏ ‏"‏ قَد افْتَرَينا على اللّه كَذِباً إنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُم ‏"‏‏.‏

ولم يكن في ملّتهم قط‏.‏

ومثله‏:‏ ‏"‏ يُرَدُّ إلى أرْذَل العُمر ‏"‏ وهو لم يكن في ذلك قطّ‏.‏

‏"‏ يُخْرِجونهم من النُّور إلى الظلمات ‏"‏‏.‏

وهم لم يكونوا في نورٍ قطُّ‏.‏

فصل - في جملة من سنن العرب التي لا توجد في غير لغتهم‏:‏ قال ابنُ فارس‏:‏ فمن سنن العرب مخالفةُ ظاهر اللفظ معناه كقولهم عند المدح‏:‏ قاتله اللّه ما أشعره فهم يقولون هذا ولا يُريدون وقوعَه‏.‏

وكذا هَوَت أُمُّه وهَبِلَتْه وثكِلَتْه‏.‏

وهذا يكون عند التعجّب من إصابة الرَّجل في رَمْيه أو في فعل يفعله‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب‏:‏ الاستعارة وهي أن يَضَعوا الكلمة للشيء مُسْتعارةً من موضع آخر فيقولون‏:‏ انشقَّتْ عَصَاهم إذا تفرَّقُوا وكشَفَتْ عن ساقها الحربُ‏.‏

ويقولون للبليد‏:‏ هو حِمَار‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الحذفُ والاختصار يقولون‏:‏ واللّه أفعلُ ذاك تريدُ لا أفعل‏.‏

وأتانا عند مَغِيب الشمس أو حين أرادت أو حين كادت تَغْرُب قال ذو الرّمة‏:‏ فلما لَبسْن الليل أو حين نصَّبتْ له من خَذَا آذانها وهو جانحُ قال‏:‏ ومن سنن العرب الزيادةُ إما للأسماء أو الأفعال أو الحروف نحو ‏"‏ ويبقى وجهُ ربّك ‏"‏ أي ربّك ‏"‏ ليس كَمِثِله شيء ‏"‏‏.‏

‏"‏ وشَهِد شَاهِدٌ من بني إسرائيل على مثله ‏"‏‏.‏

أي عليه‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الزيادةُ في حروف الاسم إما للمبالغة وإما للتسوئة والتقبيح نحو رَعْشَن للذي يرتعش وزُرْقُم للشديد الزَّرَق وشَدْقَم للواسع الشدق وصِلْدِم للناقة الصُّلبة والأصل صَلْد‏.‏

ومنه كُبّار وطُوَّال وطِرِمَّاح للمفرط الطول وسِمْعَنَّةٌ نِظْرَنّة للكثيرة التسَمُّع والتَّنَظُّر‏.‏

ومن سننهم الزيادةُ في حروفِ الفعل مُبالغةً يقولون‏:‏ حلا الشيء فإذا انتهى قالوا‏:‏ احْلَوْلَى ويقولون‏:‏ افْلَوْلَى واثْنَوْنَى‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب‏:‏ التكريرُ والإعادة إرادةَ الإبلاغ بحسب العناية بالأمر قال الحارث بن عبّاد‏:‏ قَرِّبا مَربط النَّعامةِ منِّي لَقَحَتْ حربُ وائلٍ عن حِيال فكرّر قوله‏:‏ قرّبا مربط النعامة مني في رؤوس أبياتٍ كثيرة عنايةً بالأمر وإرادةَ الإبلاغ في التنبيه والتحذير‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب إضافةُ الفعل إلى ما ليس فاعلاً في الحقيقة يقولون‏:‏ أراد الحائطُ أن يقعَ‏:‏ إذا مال وفلان يريد أن يموت‏:‏ إذا كان مُحْتضراً‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب ذِكْرُ الواحد والمراد الجمع كقولهم للجماعة‏:‏ ضَيْف وعَدُوّ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ هؤلاءِ ضَيْفِى ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ ثم يُخْرجكُم طِفْلاً ‏"‏‏.‏

وذكرُ الجمع والمراد واحد أو اثنان قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنْ نَعْف عن طائفة ‏"‏‏.‏

والمراد واحد‏.‏

‏"‏ إنَّ الذين يُنادونك من وراء الحُجُرات ‏"‏‏.‏

والمنادى واحد ‏"‏ بِمَ يَرْجِع المُرْسلون ‏"‏ وهو واحد بدليل ارجع إليهم ‏"‏ فقد صَغَتْ قلوبكما ‏"‏‏.‏

وهما قلبان‏.‏

وصفة الجمع بصفة الواحد نحو ‏"‏ وإن كنتُم جُنُباً ‏"‏‏.‏

‏"‏ والملائكةُ بعد ذلك ظَهِير ‏"‏‏.‏

وصفة الواحد أو الاثنين بصفة الجمع نحو بُرْمَةٌ أعشارٌ وثوبٌ أهْدام وحَبْلٌ أحْذَاق قال‏:‏ جاء الشّتاء وقَمِيصِي أخلاقْ وأرض سَبَاسِبٌ يسمُّون كلَّ بُقعة منها سَبْسَباً لاتِّساعها‏.‏

قال‏:‏ ومن الجمع الذي يُراد به الاثنان قولهم‏:‏ امرأة ذات أوْراكٍ ومآكِم‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب مخاطبةُ الواحد بلَفْظِ الجمع فيقال للرجل العظيم‏:‏ انظُرُواْ في أمْري وكان بعضُ أصحابنا يقول‏:‏ إنما يُقال هذا لأن الرجلَ العظيم يقول‏:‏ نحنُ فَعَلْنا فعلى هذا الابتداء خُوطبوا في الجواب‏.‏

ومنه في القرآن‏:‏ ‏"‏ قال ربِّ ارْجعون ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تذكر جماعة وجماعة أو جماعة وواحداً ثم تخبر عنهما بلفظِ الاثنين كقوله‏:‏ إنَّ المنيَّة والحتوفَ كلاهما يُوفِي المخارمَ يَرْقُبان سَوادي وفي التنزيل‏:‏ ‏"‏ أنَّ السَّمَوات والأرضَ كانتا رَتْقَاً ففَتَقْنَاهُما ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تخاطب الشاهدَ ثم تحوِّل الخطاب إلى الغائب أو تخاطب الغائبَ ثم تحوِّله إلى الشاهد وهو الالْتِفاتُ وأن تخاطبَ المخاطب ثم يرجع الخطاب لغيره نحو‏:‏ ‏"‏ فإن لم يَسْتَجيبوا لكم ‏"‏‏.‏

الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال للكفار‏:‏ ‏"‏ فاعْلَمُوا أنما أُنْزِل بعلم اللّه ‏"‏‏.‏

يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏"‏ فهل أنتم مُسلمون ‏"‏‏.‏

وأن يُبتدأ بشيءٍ ثم يُخبَر عن غيره نحو‏:‏ ‏"‏ والّذين يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرون أزْواجاً يَتَرَبَّصْن ‏"‏‏.‏

فخبَّر عن الأزواج وترك الذين‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تَنْسُب الفعل إلى اثنين وهو لأحدهما نحو‏:‏ ‏"‏ مَرَجَ الْبَحْرَين ‏"‏ إلى وإلى الجماعة وهو لأحدهم نحو‏:‏ ‏"‏ إذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادّارَأْتُمْ فيها ‏"‏ والقاتل واحد‏.‏

وإلى أحد اثنين وهو لهما نحو‏:‏ ‏"‏ واللَّه ورسولُه أحقُّ أن يُرْضُوه ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تأمرَ الواحد بلفظ أمرِ الاثنين نحو‏:‏ افعلا ذلك ويكون المخاطبُ واحداً‏.‏

أنشد الفرَّاء‏:‏ فقلتُ لصاحبي لا تَحْبِسَنَّا بنَزْع أُصوله واجْدَزَّ شِيحا وقال‏:‏ فإن تزجراني يا بن عَفّان أنْزَجِر وإن تَدَعاني أحْمِ عِرْضاً ممنَّعا وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏"‏ ألقِْيَا في جهنم ‏"‏ وهو خطاب لخزنة النار والزَّبانِية‏.‏

قال‏:‏ ونرى أن أصلَ ذلك أن الرُّفقَة أدنى ما تكون ثلاثة نفَر فجرى كلامُ الواحد على صاحبيْه ألا ترى أن الشعراء أكثرُ الناس قولاً‏:‏ يا صاحبيّ ويا خَلِيليّ‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تأتي بالفعل بلفْظِ الماضي وهو حاضر أو مستقبل أو بلفظ المستقبل وهو ماضٍ نحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أتى أمرُ اللّه ‏"‏‏.‏

أي يأتي‏.‏

‏"‏ كنتُم خيرَ أُمَّة ‏"‏ أي أنتم ‏"‏ واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ ‏"‏ أي ما تَلَت‏.‏

وأن تأتي بالمفعول بلفظِ الفاعل نحو‏:‏ سرٌّ كاتم أي مكتوم‏.‏

وماء دافق أي مَدفوق‏.‏

وعيشة راضية أي مرْضيّ بها‏.‏

وحرَماً آمِناً أي مأموناً فيه‏.‏

وبالفاعل بلفظ المفعول نحو عيش مغبون أي غابِن ذكره ابن السِّكيت‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب وصفُ الشيء بما يقعُ فيه نحو‏:‏ يوم عاصِف وليل نائمٌ وليلٌ ساهر‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب التوهّم والإيهام وهو أن يتوهّم أحدهم شيئاً ثم يجعل ذلك كالحقِّ منه قولهم‏:‏ وقفتُ بالرَّبع أسأله‏.‏

وهو أكملُ عقلاً من أن يسأل رَسْماً يعلمُ أنه لا يسمعُ ولا يَعْقِلُ لكنه تفجَّع لما رأى السَّكْن رَحلوا وتوهَّم أنه يسأل الرَّبع أين انْتَأوْا وذلك كثيرٌ في أشعارهم‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الفرقُ بين ضدّين بحرف أو حركة كقولهم‏:‏ يَدْوَى من الداء ويُدَاوي من الدواء ويُخْفِر إذا نَقض من أخفر ويخفِر إذا أجار مِنْ خَفَر ولُعَنَة إذا أكثر اللَّعن ولُعْنَة إذا كان يَُلْعَن وهُزَأَة وهُزْأة وسُخَرة وسُخْرة‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب البسطُ بالزيادة في عدد حروف الاسمِ والفعل ولعل أكثر ذلك لإقامة وزْن الشعر وتَسْوية قوافيه كقوله‏:‏ وليلةٍ خامِدةٍ خُمُودا طخْياءِ تُعْشِي الجَدْي والفُرْقودا إذا عميرهم أن يرقودا لو أنَّ عمراً همّ أن يَرْقُودا أي يَرْقد‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب القَبْضُ محاذاةً للبسْطِ وهو النُّقْصانُ من عدد الحروف كقوله‏:‏ غَرْثَى الوِشاحَيْن صَموتُ الخَلْخَل أي الخَلْخال‏.‏

ويقولون‏:‏ دَرَس المَنا يريدون المنازل ونار الحُباحب‏.‏

ومنه بابُ الترْخيم في النداء وغيره ومنه قولهم‏:‏ لاه ابن عمِّك أي للّه ابنُ عمك‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الإضمارُ إما للأسماء نحو ألا يا اسْلَمى أي يا هذه أو للأفعال نحو‏:‏ أثعلباً وتفرّ‏:‏ أي أترى ثعلباً ومنه إضمار القول كثيراً أو للحروف نحو‏:‏ ألا أيّهذا الزَّاجري أشهدَ الوَغى أي أن أشْهد‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب التعويضُ وهو إقامةُ الكلمة مقامَ الكلمة كإقامة المصدر مقامَ الأمر نحو ‏"‏ فَضَرْبَ الرِّقاب ‏"‏ والفاعل مقامَ المصدر نحو ‏"‏ ليس لوَقْعتها كاذبة ‏"‏ أي تكذيب‏.‏

والمفعول مقامَ المصدر نحو ‏"‏ بِأيِّكُمُ المَفْتُون ‏"‏ أي الفتنة‏.‏

والمفعول مقام الفاعل نحو‏:‏ ‏"‏ حجاباً مَسْتوراً ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب تقديمُ الكلام وهو في المعنى مؤخّر وتأخيرهُ وهو في المعنى مقدّم كقوله‏:‏ ما بالُ عينيك منها الماءُ يَنْسَكِب أراد ما بالُ عينك ينسكبُ منها الماء وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولولا كلمةٌ سَبقَتْ من رَبّك لكان لِزاماً وأجَلٌ مسمّى ‏"‏ فأجل معطوفة على كلمة والتأويل‏:‏ ولولا كلمةٌ سبقت من ربِّك وأجل مسمّى لكان العذابُ لازِماً لهم‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العربِ أن يَعْترضِ بين الكلام وتمامِه كلام نحو‏:‏ اعملْ - واللّه ناصِري - ما شئت‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تُشيرَ إلى المعنى إشارةً وتومئُ إيماءً دون التصريح نحو طويلُ النِّجاد يريدون طولَ الرَّجل وغَمْر الرِّداء‏:‏ يُومِئون إلى الجُود وطَرِب العِنان‏:‏ يُومِئون إلى الخفَّةِ والرَّشاقة‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الكفُّ وهو أن تكفَّ عن ذكر الخبر اكتفاءً بما يدلُّ عليه الكلامُ كقوله‏:‏ إذا قلتُ سيروا نحو ليلى لعلَّها جرى دونَ ليلى مائلُ القَرْن أعْضَبُ ترك خَبَر لعلها‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تُجْري المواتَ وما لا يَعْقل في بعض الكلام مَجْرى بني آدم كقوله في جمعِ أرض أرضون وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ كلٌّ في فَلَكٍ يسبَحون ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب المُحاذاة وذلك أن تجعل كلاماً ما بِحذاء كلام فيُؤْتى به على وزنه لفظاً وإن كانا مختَلِفَين فيقولون‏:‏ الغَدَايا والعَشايا‏.‏

فقالوا‏:‏ الغَدَيا لانضمامها إلى العَشايا‏.‏

ومثلُه قولهم‏:‏ أعوذُ بك من السامَّةِ واللامّة‏.‏

فالسامَّة من قولك‏:‏ سمَّت النعمة إذا خصَّتْ واللاّمّة أصلها من ألمَّت لكن لما قُرِنت بالسامَّة جُعِلتْ في وزنها‏.‏

قال‏:‏ وذكر بعضُ أهل العلم أن من هذا الباب كتابه المصحف كتبوا‏:‏ ‏ "‏والليل إذا سَجَى"‏ بالياء وهو من ذوات الواو لمَّا قُرِن بغيره ممَّا يُكْتَب بالياء‏.‏

قال‏:‏ ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء اللّهُ لسلَّطَهم عليكم ‏"‏ فاللام التي في ‏"‏ لَسَلَّطَهُمْ ‏"‏ جوابُ لو‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏"‏ فَلقَاتَلُوكُم ‏"‏ فهذه حُوذِيتْ بتلك اللام وإلا فالمعنى لسلَّطهم عليكم فقاتلوكم‏.‏

ومثلُه‏:‏ ‏"‏ لأُعَذِّبَنَّه عذاباً شديدًا أو لأذْبَحَنَّه ‏"‏‏.‏

فهما لاما قَسَمٍ ثم قال‏:‏ ‏"‏ أو لَيَأْتيني ‏"‏ فليس ذا موضعَ قسم لأنه عُذْر للهُدْهد فلم يكن ليُقْسِمَ على الهدهد أن يأتيَ بُعذْر لكنّه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجْراه مَجْراه فكذا باب المحاذاة‏.‏

قال‏:‏ ومن الباب وزَنْتُه فاتَّزَن وكِلْته فاكْتال أي استوفاه كَيْلاً ووَزْناً ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فما لكم عليهنّ من عِدَّةٍ تعتدُّونها ‏"‏ أي تستوفونها لأنها حقّ للأزواج على النساء‏.‏

قال‏:‏ ومن هذا الباب الجزاءُ عن الفِعْل بمثل لفظه نحو‏:‏ ‏"‏ إنما نَحْن مُستهزئون اللّهُ يستهزئ بهم ‏"‏‏.‏

أي يجازيهم جزاء الاستهزاء ‏"‏ مَكرُوا ومَكَرَ اللّه ‏"‏‏.‏

‏"‏ فَيَسْخَرُون منهم سَخِر اللّهُ منهم ‏"‏‏.‏

‏"‏ ونَسُوا اللّه فنَسيهم ‏"‏‏.‏

‏"‏ وجزاءُ سيِّئةٍ سيئةٌ مثلُها ‏"‏‏.‏

ومثلُ هذا في شعر العرب قول القائل‏:‏ ألا لا يَجْهلن أحدٌ علينا فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا انتهى ما ذكره ابن فارس‏.‏

ومن نظائر الغَدَايا والعشايا ما في الجمهرة تقول العربُ للرجل إذا قدم من سفَر‏:‏ أوْبَةً وطَوْبة أي أُبْتَ إلى عيش طيِّب ومآبٍ طيّب والأصل طيبَة فقالوه بالواو لمحاذاة أوبة وقال ابن خالويه إنما قالوا‏:‏ طَوْبة لأنهم أزْوَجوا به أوْبة‏.‏

وفي ديوان الأدب‏:‏ يقال‏:‏ بِفيهِ البَرَى وحُمّى خَيْبَرَى وشرُّ ما يُرَى فإنّه خَيْسَرى يعني الخسران وهو على الازدواج‏.‏

وفيه‏:‏ يقال أخذني من ذلك ما قَدُم وما حَدُث لا يُضَمّ حدَث في شيء من الكلام إلا في هذا الموضع وذلك لمكان قدم على الازدواج‏.‏

وفي أمالي القالي‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال خيرُ المال سِكَّةٌ مأبُورة أو مُهْرة مأْمُورة أي كثيرةُ الولد وكان ينبغي أن يقال‏:‏ مُؤْمَرة ولكنه اتبع مَأْبورة‏.‏

والسكة‏:‏ السطر من النَّخْل‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ قال الفراء يقال‏:‏ هَنأني الطعام ومَرأني إذا أتبعوها هَنأني قالوها بغير ألف فإذا أفردوها قالوا‏:‏ أمرأني‏.‏

وفيه‏:‏ يقال له عندي ما ساءه وناءه قال بعضهم‏:‏ أراد ساءه وأناءه وإنما قال ناءه - وهو لا يتعدّى - لأجل ساءه ليزْدَوِج الكلام كما يقال‏:‏ إني لآتيه بالغَدَايا والعشايا والغَداةُ لا تجمع على غدايا‏.‏

وفيه‏:‏ جمعوا الباب على أبوبة للازدواج قال‏:‏ هَتَّاكِ أخْبِيَةٍ ولاّج أبْوبِة ولو أفرده لم يجز‏.‏

وفيه يقال‏:‏ تَعْساً له ونَكْساً‏.‏

وإنما هو نُكس بالضم وإنما فُتح هنا للازدواج‏.‏

وقال الفراء‏:‏ إذا قالوا‏:‏ النجس مع الرجس أتْبَعوه إياه فقالوا‏:‏ رِجْس نِجْس بالكسر وإذا أفردوه قالوا‏:‏ نَجس بالفتح‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما المشْركون نَجَس ‏"‏‏.‏

وفي الصحاح يقال‏:‏ لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ تزْويجاً للكلام والأصلُ ولا ائتليت وهو افتعلت من قال ابن فارس‏:‏ ومن سنن العرب الاقتصارُ على ذكر بعض الشيء وهم يُريدونه كلَّه فيقولون‏:‏ قَعد على صَدْر رَاحلِته ومضى‏.‏

ويقول قائلهم‏:‏ الواطِئِين على صُدُور نعالهم ومن هذا الباب‏:‏ ‏"‏ ويَبْقَى وجْهُ رَبِّك ‏"‏‏.‏

‏"‏ ويُحَذِّرُكم اللّهُ نفسَه ‏"‏ أي إياه وتواضعت سورُ المدينة‏.‏

قال‏:‏ وقد جاء القرآن بجميع هذه السنن لتكون حجة اللّه عليهم آكد ولئلا يقولوا‏:‏ إنما عجزنا عن الإتيان بمثله لأنه بغير لُغَتِنا وبغير السنن التي نستنّها فأنزله جلَّ ثناؤه بالحروفِ التي يعرفونها وبالسنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم ليكون عجزُهم عن الإتيان بمثله أظْهر وأشعر‏.‏

انتهى‏.‏

وقال الفارابي في ديوان الأدب‏:‏ هذا اللسانُ كلامُ أهل الجنة وهو المُنَزَّه من بين الألسنةِ من كلِّ نقيصة والمعلى من كلّ خسيسة والمهذَّب مما يُسْتَهجن أو يُسْتَشْنع فبنى مباني باينَ بها جميع اللغات من إعراب أوْجده اللّه له وتأليف بين حركة وسكون حلاَّه به فلم يجمع بين ساكنين أو متحرِّكين متضادّين ولم يلاقِ بين حرفين لا يأْتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جَرْس النّغمة وحسّ السمع كالغَيْن مع الحاء والقاف مع الكاف والحرف المُطْبَق مع غير المطبق مثل تاء الافتعال مع الصاد والضاد في أخوات لهما والواو الساكنة مع الكسرة قبلها والياء الساكنة مع الضمّة قبلها في خلالٍ كثيرة من هذا الشكل لا تُحْصى وقال في موضع آخر‏:‏ العربُ تَميل عن الذي يُلْزِم كلامها الجفاء إلى ما يُلين حواشيه ويُرِقّها وقد نزّه اللّه لسانَها عما يجفيه فلم يجعل في مباني كلامها جيماً تُجاورها قاف متقدّمة ولا متأخرة أو تجامعها في كلمة صاد أو كاف إلا ما كان أعجمياً أُعرب وذلك لجُسْأة هذا اللَّفظ ومباينته ما أسَّس اللّهُ عليه كلام العرب من الرَّونق والعُذوبة وهذه علة أبواب الإدغام وإدخالُ بعضِ الحروف في بعض وكذلك الأمثلة والموازين اختِير منها ما فيه طِيبُ اللّفظ وأُهْمِل منها ما يجفُو اللسانُ عن النطقِ به أوّلا مكرَهاً كالحرْفِ الذي يُبْتدأ به لا يكون إلا متحرّكاً والشيء الذي تتوالى فيه أربعُ حركات أو نحو ذلك يسكّن بعضها‏.‏

فائدة جليلة - قال الزمخشري في ربيع الأبرار قالوا‏:‏ لم تكن الكُنَى لشيءٍ من الأمم إلا للعرب وهي من مفاخرها والكُنية إعظام وما كان يُؤْهَل لها إلا ذو الشرف من قومهم قال‏:‏ # أكْنيه حين أُناديه لأكْرِمَه ولا ألقّبه والسوءة اللَّقب والذي دعاهم إلى التكنية الإجلال عن التصريح بالاسم بالكناية عنه ونظيرهُ العدولُ عن فعلٍ إلى فعل في نحو قوله‏:‏ ‏"‏ وغِيضَ الماءُ وقُضِي الأمر ‏"‏‏.‏

ومعنى كَنَيْتُه بكذا‏:‏ سمَّيتُه به على قَصْد الإخفاء والتورية ثم ترقَّوْا عن الكُنَى إلى الألقاب الحسنة فقلَّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام مَنْ ليس له لقب إلا أن ذلك ليس خاصّاً بالعرب فلم تزل الألقابُ في الأمم كلِّها من العرب والعجم‏.‏

خاتمة‏:‏ - قال المطرّزي في شرح المقامات‏:‏ كان يقال‏:‏ اختصَّ اللّهُ العرب بأربع‏:‏ العمائمُ تيجانها والحِبا حِيطانها والسيوف سِيجانها والشِّعر ديوانها‏.‏

قال‏:‏ وإنما قيل‏:‏ الشعرُ ديوان العرب لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب ولأنه مستودعُ علومهم وحافظُ آدابهم ومعدنُ أخبارهم ولهذا قيل‏:‏ الشعرُ يحفظ ما أودى الزمانُ به والشعرُ أفخر ما يُنْبي عن الكرم لولا مقال زهير في قصائده ما كنت تعرف جوداً كان في هَرِم وأخرج ابنُ النجار في تاريخه من طريق إبراهيم بن المنذر‏.‏

قال‏:‏ حدثني أبو سعيد المكي عمَّن حدّثه عن ابن عباس‏:‏ أنه دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص فقال عمرو‏:‏ إنَّ قريشاً تزعمُ أنك أعلمُها فلم سمِّيَت قريشٌ قريشاً قال‏:‏ بأمرٍ بيِّنٍ قال‏:‏ فسِّرْه لنا‏.‏

ففسَّرَه قال‏:‏ هل قال أحدٌ فيه شعراً قال‏:‏ نعم قال‏:‏ سمِّيت قريش بدابّة في البحر‏.‏

وقد قال المشمرج بن عمرو الحميري‏:‏ تأكل الغثَّ والسمين ولا تتركُ فيه لذي الجناحين ريشا هكذا في البلاد حيّ قريش يأكلون البلادَ أكلاً كميشا ولهم آخرُ الزمان نبيّ يكثر القَتْل فيهم والخموشا تملأُ الأرض خيلُه ورجالٌ يحشرون المطيّ حشراً كشيشا وأخرج ابنُ عساكر في تاريخه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أبي ريحانة العامري قال‏:‏ قال معاوية لابنِ عباس‏:‏ لِمَ سُمِّيتْ قريشٌ قريشاً قال‏:‏ بدابّة تكون في البحر من أعْظم دوابِّه يقال لها القِرْش لا تمرُّ بشيء من الغثِّ والسمين إلا أكلَتْه قال‏:‏ فأنشدني في ذلك شيئاً فأنشده شعرَ الحميري فذكر الأبيات‏.‏