مقدمة المؤلف

الوشاء

هو أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى المعروف بالوشاء والمتوفي عام 208 هـ 823 م

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر وأعن، باسم الله يكون الابتداء. وبعونه تتم الأشياء. وبمشيئته تتصرف الدهور. وعلى إرادته تتقلب الأمور. ومنه التوفيق والتأييد. وبيده الإعانة والتسديد. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وبتوفيقه إرشاده.

قال أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء المؤلف لهذا الكتاب، وهو الكتاب الموشى نقول ونستعين بالله على السداد ونستهديه، ونستفتح له استفتاح اللاجئ إليه ونستكفيه: يجب على المتأدب اللبيب. والمتظرف الأريب. المتخلق بأخلاق الأدباء. والمتحلي بحلية الظرفاء. أن يعرف قبل هجومه على ما لا يعلمه. وقبل تعاطيه ما لا يفهمه. تبين الظرف وشرائع المروءة وحدود الأدب، فإنه لا أدب لمن لا مروءة له، ولا مروءة لمن لا ظرف له، ولا ظرف لمن لا أدب له.

وقد وصفنا في كتابنا هذا على قدر ما بلغه علمنا. واحتوى عليه فكرنا وجعلناه حدوداً محدودة. ومعالم مقصورة. وشرائع بينّة. وأبواباً نيّرة. وشريطتنا على قارئ كتابنا الإقصار عن طلب عيوب أخطائنا. والصفح عن ما يقف عليه من إغفالنا. والتجاوز عن ما ينتهي إليه من إهمالنا. وإن أداه التصفح إلى صواب نشره. أو إلى خطأ ستره. لأنه قد تقدمنا بالإقرار. ولا بد للإنسان من زلل وعثار. وليس كل الأدب عرفناه. ولا كل العلم دريناه. وعلينا في ذلك الاجتهاد. وإلى الله الإرشاد. وقلَّ ما نجا مؤلف لكتاب من راصد بمكيدة. أو باحث عن خطيئة. وقد كان يقال من ألف كتاباً فقد استشرف. وإذا أصاب فقد استهدف. وإذا أخطأ فقد استقذف. وكان يقال لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يضع كتاباً. وقال الشاعر في ذلك:

 

لا تعرضن للشعر ما لم يكن

 

علمك في أبحره جـسـرا

فلن يزال المرء في فسحة

 

من عقله ما لم يقل شعـرا

وأنشد في ذلك:

 

الشعر عقل المرء يعرضه

 

والقول مثل مواقع النَّبـل

منها المُقصِّر عن رميتـه

 

ونوافذ يذهبن بالخـصـل

وكان يقال: اختيار الرجل وافد عقله، فقال: لا بل مبلغ عقله، وقيل: دلّ على عاقل اختياره؛ وقيل لبعض العلماء: اختيار الرجل قطعة من عقله؛ وقال الخليل بن أحمد: لا يحسن الاختيار إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه من الكلام؛ وقال الشعبي: العلم كثير، والعمر قصير، فخذوا من العلم أرواحه ودعوا ظروفه؛ وقال ابن عباس: العلم أكثر من أن يُحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه.

ونحن نستعين الله ونودع كتابنا هذا جملة من حدود الأدب والمروءة والظرف، ونجعل ذلك أبواباً مختصرة وفصولاً محبرة، على غير نقص منا لما في كل باب، لا يطول به تأليف الكتاب، ولأن غرضنا في الاختصار، لما عليه النفوس من ملل الإكثار، ولننجو من مقالة حاسد، أو اعتراض معاند، على أنه لا بد للحاسد وإن لم يجد سبيلاً إلى وهن. ولا سبباً إلى طعن. أن يحتال لذلك بحسب ما ركب عليه طبعه. وتضمنّه صدره. حتى يخلص إلى غفلة. أو يصل إلى زلة. فيتشبث بالمعنى الحقير. ويتسبب بالحرف الصغير. إلى ذكر المثالب. وتغطية المناقب. إذ من طبع أهل الحسد. وأرباب المعاندة والنكد. تغطية محاسن من حسدوه. وإظهار مساوئ من عاندوه. وقد أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح، وبشر بن موسى بن صالح الأسدي قالا: حدثنا الأصمعي قال: حدثني العلاء بن أسلم قال: حدثنا رؤبة بن العجاج قال: قال لي فلان قصرت وعرفت، ثم قال لي: يا رؤبة عساك مثل أقوام إن سكت لم يسألوني. وإن تكلمت لم يعوا عني. قلت: أرجو أن لا أكون كذلك. قال: فما أعداء المروءة؟ قلت: تخبرني. قال: بنو عمّ السوء، إن رأوا خيراً ستروه، وإن رأوا شراً أذاعوه. أنشدني أبو العباس محمد بن يزيد المبرد:

 

عين الحسود عليك، الدهر، حارسة

 

تبدي المساوئ، والإحسان تخفـيه

يلقاك بالبشر يبـديه مـكـاشـرة

 

والقلب مضطغن فيه الذي فـيه

إن الحسود بلا جـرم عـداوتـه

 

فليس يقبل عذراً في تـجـنـيه

 وأنشدني أبو جعفر في مثل ذلك:

 

إن يعلموا الخير يخفوه، وإن علموا

 

شراً أُذيع، وإن لم يعلموا كذبـوا

 وأنشدني محمد بن إبراهيم القارئ:

 

وترى اللبيب مُحسداً لم يجترم

 

شتم الرجال وعرضه مشتوم

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

 

فالقوم أعداء له وخـصـوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

 

حسداً وبغـياً إنـه لـدمـيم

 وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:

 

ما ضرني حسد اللئام، ولم يزل

 

ذو الفضل يحسده ذوو النقصان

يا بؤس قوم ليس جرم عدوهـم

 

إلا تظاهر نعمة الرحـمـان

 وخبرت أن المنصور قال لبعض ولد المهلب بن أبي صفرة: ما أسرع الناس إلى قومك ! فقال: يا أمير المؤمنين

 

إن العرانين تلقاها محـسـدَّة،

 

ولا ترى للئام الناس حسـادا

كم حاسد لهم قد رام سعيهـم،

 

ما نال مثل مساعيهم، ولا كادا

 ويروى أن عمر بن الخطاب، رحمة الله عليه، كان يتمثل بهذين البيتين:

 

قوم سنان أبوهم حين تنسـبـهـم

 

طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

محسودون على ما كان من نعـم

 

لا ينزع الله منهم ما له حسـدوا

وأنشدنا أحمد بن عبيد قال: أنشدنا العتبي عن أبيه:

 

إني نشأت، وحسـادي ذوو عـدد

 

يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا

ما زلت أقدم أفراسي مكـلَّـمةً

 

حتى اتخذت على حسادهـن يدا

وأنشدت:

كلُّ العداوة قد ترجى إماتتها،

 

إلا عداوة من عاداك من حسد

وبلغ محمد بن عبد الله بن طاهر أن قوماً من الموالي يحسدونه، فقال:

 

إن يحسدوني فإنـي غـير لائمـهـم

 

قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

فدام لي ولهم مـا بـي ومـا بـهـم،

 

ومات أكثرهم غـيظـاً بـمـا يجـد

أنا الذي يجدونـي فـي صـدورهـم

 

لا أرتقي صُعـداً مـنـهـا ولا أرد

وقال أردشير بن بابك: كل خصلة رديئة، فهي دون الحسد، لأن الحسود يسعى على من أحسن إليه، ويبغي الغوائل لمن أنعم عليه. وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً ذكر بعض الحساد فقال: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم ونفس دائم وعقل هائم؛ وقال حاتم طيء:

 

يا كعب ما إن ترى من بيت مكرمة

 

إلا له، من بيوت الشر؛ حـسـادا

والتحرز من الحساد ما لا سبيل لنا إليه، والتحفظ من ألسنتهم ما لا نقدر عليه، لكن أقول كما قال الشاعر:

 

ما يضرُّ البحر، أمسى زاخراً،

 

أن رمى فيه غلام بحـجـر

وأُصدّر كتابي هذا مستعيناً بالله راغباً إليه، بذكر الأدب وصفته. وما يحتاج الأدباء إلى معرفته. وأشفعه بأشياء يستحسنها الأديب. ويرغب في دراستها الأريب، وبالله التوفيق.