الجزء الأول

الوشاء

أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى المعروف بالوشاء والمتوفي عام 208 هـ 823 م

الجزء الأول

البيان عن حدود الأدب

ما يجب على الأدباء من الفحص والطلب

اعلم أن أول ما يجب على العاقل المنفصل بصفته عن الجاهل أن يتبعه ويميل إليه، ويستعمله ويحرص عليه، مجالسة الرجال ذوي الألباب، والنظر في أفانين الآداب، وقراءة الكتب والآثار، ورواية الأخبار والأشعار، وأن يحسن في السؤال، ويتثبت في المقال، ولا يكثر الكلام والخطاب، إن سئل عمّا يعلمه أجاب، وإن لم يسأل صمت للاستماع، ولم يتعرض لمكروه الانقطاع. فقد روي في الخبر المأثور أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، قال: أغد عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، ولا تكن الرابع فتهلك. والصمت أحسن بالرجل من الهذر في منطقه، والكلام فيما لا يعنيه، والتسرع إلى ما يكون على وجل منه. وقد قال بعض الشعراء:

 

يموت الفتى من عثرة بـلـسـانـه

 

وليس يموت المرء من عثرة الرجل

فعثرته من فيه تـرمـي بـرأسـه

 

وعثرته بالرجل تبرا على مـهـل

 وقال أبو العتاهية:

 

إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً

 

فأنت عن الإبلاغ في القول أعجـز

يخوض أناس في المقال لـيوجـزوا

 

وللصمت عن بعض المقالات أوجز

وقال أيضاً:

 

قد أفلح الساكت الصموت

 

كلام راعي الكلام قوت

ما كل نطق له جـواب

 

جواب ما تكره السكوت

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت، وقال: من صمت نجا.


وكان أعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت، فقال له يوماً: لم لا تتكلم؟ فقال: أسمع لأعلم وأسكت فأسلم.

وقال أبو هريرة: ثمرة القلب اللسان. وقيل لعيسى بن مريم، عليه السلام: ما مبدى علم القلب وجهله؟ قال: اللسان. قال: فأين يلزم الصمت؟ قال: عند من هو أعلم منكم، وعند الجاهل إذا جالسكم.


وقال بعض الشعراء:

 

تعاهد لسانـك إن الـلـسـا

 

ن سريع إلى المرء في قتله

وهذا اللسان بـريد الـفـؤا

 

د يدل الرجال على عقلـه

وقال آخر:

 

أستر النفس ما استطعت بصمت،

 

إن في الصمت راحة للصموت

واجعل الصمت إن عييت جوابـاً

 

رب قول جوابه في السكـوت

وقال أبو العتاهية:

 

لا خير في حشو الكـلا

 

م إذا اهتديت إلى عيونه

والصمت أجمل بالفتـى

 

من منطق في غير حينه

 وقال لقمان لابنه: يا بني إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. إني ندمت على الكلام مراراً ولم أندم على الصمت مرة واحدة. وقال إبراهيم بن المهدي في هذا المعنى فأحسن:

 

إن كان يعجبك السكوت فإنـه

 

قد كان يعجب قبلك الأخيارا

ولئن ندمت على سكوتك مرة

 

فلقد ندمت على الكلام مرارا

إن السكوت سلامة ولربـمـا

 

زرع الكلام عداوة وضرارا

 فحقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه، ولا يرسله في غير حقه، وأن ينطق بعلم، وينصت بحلم، ولا يعجل في الجواب، ولا يهجم على الخطاب. وإن رأى أحداً هو أعلم منه، نصت لاستماع الفائدة عنه، وتحذر من الزلل والسقط، وتحفظ من العيوب والغلط، ولم يتكلم فيما لا يعلم، ولم يناظر فيما لا يفهم، فإنه ربما أخرجه ذلك إلى الانقطاع والاضطراب، وكان فيه نقصه عند ذوي الألباب. وقد قال الأعور الشني فأجاد:

 

ألم ترَ مفتاح الفـؤاد لـسـانـه

 

إذا هو أبدى ما يقول من الـفـم

وكائن ترى من صامت لك معجب

 

زيادته أو نقصه في التـكـلـم

لسان الفتى نصف ونصف فـؤاده

 

فلم يبق إلا صورة اللحـم والـدم

ومثله قول الأخطل أيضاً:

 

إن الكلام من الفؤاد وإنـمـا

 

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

 وأخبرني أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان بكر بن عبد الله المزني يقل الكلام، فقيل له في ذلك، فقال: لساني سبعٌ، إن تركته أكلني، وأنشد:

 

لسان الفتى سبع عليه شذاتـه

 

فإلا يزع من غربه فهو آكله

وما العيّ إلا منطق متبـرع

 

سواء عليه حق أمر وباطله

قال أبو الطيب قوله: شذاته، أي حده، وقال بعض الحكماء: الزم الصمت تعد حكيماً كنت أم عليماً؛ وقال الهيثم بن الأسود النخعي:

 

من يستعن بالصمت يوماً فإنه

 

يقال له لبُّ نـهـاه أصـيل

وإن لسان المرء ما لم تكن له

 

حصاة، على عوراته، لدليل

وكان يقال: الصمت صون اللسان وستر العي. أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب للخطفى بن بدر:

 

عجبت لإزراء العييّ بنـفـسـه،

 

وصمت الذي قد كان بالقول أعلما

وفي الصمت ستر للعيي، وإنمـا

 

صحيفة لبّ المرء أن يتكـلـمـا

والعرب تقول: عَيٌّ صامت خير من عَيٌّ ناطق. وكان ربيعة الرأي كثير الكلام، فتكلم يوماً، وأكثر ثم قال لأعرابي عنده: أتعرف ما العي؟ قال: نعم، ما أنت فيه منذ اليوم. وقال أكثم بن صيفي: حتف الرجل بين لحييه؛ وأنشدني أحمد بن عبيد لأبي محمد اليزيدي:

حتف امرئ لسانـه

 

في جده، أو لعبـه

بين اللَّها مقتـلـه،

 

ركب في مركبـه

ورب ذي مزح أُمي

 

تت نفسه في سببه

ليس الفتى كل الفتى

 

إلا الفتى في أدبـه

وبعض أخلاق الفتى

 

أولى به من نسبـه

وكان يقال: لسانك عبدك، فإذا تكلمت صرت عبده. وقال بعض الحكماء: أنا بالخيار ما لم أتكلم، فإذا تكلمت صار الكلام علي بالخيار. وقال آخر: لساني في حبس بدني ما لم أطلقه على نفسي، فإذا أطلقته صار بدني في حبس لساني. وقال آخر: الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فإذا تكلم بها صار في وثاقها. وقال الشعبي: أنا على اتباع ما لم أوقع أقدر مني على ردّ ما أوقعت. وتكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات، خرجن كلهن بمعنى. فقال كسرى: أنا على قول ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال قيصر: لا أندم على ما لم أقل، فإنما أندم على ما قلت. وقال ملك الصين: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، ولم أملكها. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن حكيت عنه ضرته، وإن لم تذكر لم تنفعه. وقال امرؤ القيس:

 

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه،

 

فليس على شيء سواه بخزان

وقالت الفلاسفة: اللسان خادم القلب. وقالت العلماء: اللسان كاتب القلب، إذا أملى عليه شيئاً أتى به. وأنشدني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

 

رأيت لسان المرء راعي نفسه،

 

وعاذره إن ليم، أو زل سائره

فمن لزمته حجة من لسـانـه،

 

فقد مات راعيه وأفحم عاذره

ولئن كان السكوت جميلاً، لقد جعل الكلام جليلاً، ما لم يتعد المتكلم في كلامه، ويتجاوز في الكلام حدّ نظامه. وقد أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب:

 

ما في الكلام على الأنـام أثـام،

 

بل فيه عندي النقـض والإبـرام

لولا الكلام لما تبـينـا الـهـدى،

 

وتعطلت في دينـنـا الأحـكـام

فزن الكلام، إذا أردت تكلـمـا،

 

ودع الفضول، ففي الفضول ملام

إن أنت لم ترشد أخاك، إذا أتـى،

 

فعليك مـنـه هـجـنة وأثـام

والنطق أفضل من صمات متهم،

 

جاء الكتـاب بـذاك، والإسـلام

هذا البيان، فلا تكن مـتـمـارياً،

 

فالصمت عيٌّ، والكلام نـظـام

وليس بعيب على الأديب، وإن كان مستقلاً بما لديه، استخذاؤه للمتقدم في العلم عليه، ولا في سؤاله فيما غُيبت معرفته عنه، من هو أعلى درجة في العلم منه. وأنشدني أحمد بن يحيى ثعلب:

 

تمام العمى طول السكوت، وإنمـا

 

شفاء العمى يوماً سؤالك من يدري

وروى أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن عبد المطلب! ماذا يزيد في العلم؟ قال: التعلم. قال: فماذا يدل على العلم؟ قال: السؤال.


أنشدني أحمد بن عبيد قال: أنشدني ابن الأعرابي لبشامة بن عمرو المرّي:

 

إذا ما يهتدي لبي هـدانـي،

 

وأسأل ذا البيان، إذا عميت

وأجتنب المقاذع حيث كانت،

 

وأترك ما هويت لما خشيت

 وكان يال: من رق وجهه عن السؤال دق علمه، ومن أحسن السؤال علم. وقال الشاعر:

 

إذا كنت في بلدة جاهـلاً،

 

وللعلم ملتمساً، فـاسـأل

فإن السؤال شفاء العمى،

 

كما قيل في الزمن الأول

وروينا عن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: لا يتعلم من استحيا وتكبر. وقال رجل من بني العباس للمأمون: أيحسن بمثلي العلم اليوم؟ فقال: نعم والله لأن تموت طالباً للعلم أزين بك من أن تموت قانعاً بالجهل. فقال: إلى متى يحسن بي، وقد جاوزت الستين! قال: ما حسنت بك الحياة. وقال الخليل: ذاكر بعلمك فتذكر ما عندك وتستفيد ما ليس عندك. وقال الخليل أيضاً: كنت إذا لقيت عالماً أخذت منه وأعطيته. وأخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني ابن الأعرابي قال: أخبرنا أزهر السمان قال: قال الزهري: الأخبار ذكران لا يحبها إلا ذكران الرجال، ولا يكرهها إلا مؤنثوهم. وقال الطرماح:

 

ولا أدع الـــســـؤال، إذا تـــعـــــــيت

 

علـيّ، مـن الأمـور، الـمـــشـــكـــلات

وينفعني، إذا استفتيت علمي، وأقوى الشك عندي البينات

   

فهذه جملة تحث الأدباء على الطلب، وصدر يقنع به العقلاء من حدود الأدب. ومنه أيضاً ترك ممازحة الإخوان، إذ كان مما يوغر صدور الخلان، وقد اختصرت لك من ذلك جملة مقنعة، وألفاظها ممتعة، فيها لك كفاية، ولذوي الألباب نهاية، إن شاء الله تعالى.

 النهي عن ممازحة الأخلاء

والنهي عن مفاكهة الأوداء

 اعلم أن من زي الأدباء، وأهل المعرفة والعقلاء، وذوي المروءة والظرفاء، قلة الكلام في غير أرب، والتجاهل عن المداعبة واللعب، وترك التبذل بالسخافة والصياح بالفكاهة والمزاح، لأن كثرة المزاح يذل المرء، ويضع القدر، ويزيل المروءة، ويفسد الأخوة، ويجرئ على الشريف الحر، أهل الدناءة والشر. وقد أخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني الأصمعي عن رجل من العرب قال: خرجت في بعض ليالي الظلم، فإذا أنا بجارية كأنها صنم، فراودتها عن نفسها، فقالت: يا هذا أما لك زاجر من عقل، إذا لم يكن لك واعظ من دين؟ قلت: والله ما يرانا إلا الكواكب. قالت: يا هذا فأين مكوكبها؟ فقلت: إنما كنت أمزح. فقالت:

فإياك، إياك الـمـزاح، فـإنـه

 

يجري عليك الطفل والدنس النذلا

ويذهب ماء الوجه بعد وضاتـه،

 

ويورث بعد العز صاحـبـه ذلا

وقال سليمان بن داود، عليهما السلام: المزاح يستخف فؤاد الحليم، ويذهب ببهاء ذي القدرة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من أكثر من شيء عرف به، ومن مازح استخف به، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته. وكان يقال: لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: امنعوا الناس من المزاح، فإنه يذهب المروءة، ويوغر الصدر.

وقال بعض الشعراء:

 

مازح أخاك إذا أردت مزاحاً،

 

وتوق منه المزاح جمـاحـا

فلربما مزح الصديق بمزحة

 

كانت لباب عداوة مفتـاحـا

 وقال عمر بن عبد العزيز: امتنعوا من المزاح تسلم لكم الأعراض. قال خلف بن صفوان: المزاح سباب النوكى.

وقال محمود الوراق:

 

تلقى الفـتـى أخـاه وخـدنـه

 

في لحن منطقه بما لا يغـفـر

ويقول: كنت ممازحاً وملاعـبـاً

 

هيهات نارك في الحشا تستسعر

ألهبتها وطفقت تضحـك لاهـياً،

 

عما بـه، وفـؤاده يتـفـطـر

أو ما علمت، ومثل جهلك غالب،

 

أن المزاح هو السباب الأصغر؟

وقال بعض الحكماء: الخصومة تمرض القلوب وتثّبت فيها النفاق. والمزاح يذهب ببهاء العز.

وحدثني الباغندي قال: حدثنا الحميدي عن سفيان عن ابن المنكدر قال: قالت لي أمي: يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عليهم. وقد كانت أدركت النبي، صلى الله عليه وسلم.

وأوصى يعلى بن منبه بنيه فقال: يا بني، إياكم والمزاح فإنه يذهب بالبهاء، ويعقب الندامة، ويزري بالمروءة.

وقال مسعر بن كدام الهلالي لابنه:

 

ولقد منحتك، يا كدام، نصيحتي،

 

فاسمع لقول أب عليك شفيق

أما المزاحة والمراء فدعهما،

 

خلقان لا أرضاهما لصـديق

إني بلوتهما، فلم أحمـدهـمـا

 

لمجاور جاورتـه، ورفـيق

وكان سعيد بن العاص يقول: لا تمازحن الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك.


وقد تواترت بالنهي عن ذلك الأخبار، وتكاثفت فيه الأشعار، ولعمري إن ترك ما نهى عنه ذوو الأدب، من المداعبة واللعب، أولى بذي النهية والأرب. وقد يجب على العاقل الأديب أن ينتقي إخوانه، ويتخير أخدانه، ويفتش عن الأصحاب، ويجالس ذوي الألباب، ويستخلص أهل الفضل، وأهل المروءات والعقل، فإنها محنة الأدباء، وفراسة العلماء، وإنما يعرف الرجل بأشكاله، ويقاس بأمثاله، ويوسم بأخدانه، وينسب إلى أقرانه. وقد شرحت في ذلك جملة من الآثار، وما روي فيه من النتف والأخبار، فقف عليه يبن لك ما فيه، إن شاء الله تعالى.

الأمر باختيار الإخوان

وانتخاب الأقران والأخدان

روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: اختبروا الناس بإخوانهم، فإن الرجل يخادن من يعجبه نحوه. وقال مجاهد: إني لأنتقي الإخوان كما أنتقي أطايب الثمر. وقال بعض الشعراء:

 

امحض مودتك الكريم، فإنمـا

 

يرعى ذوي الأحساب كل كريم

وإخاء أشراف الرجال مروءة،

 

والموت خير من إخـاء لـئيم

وقال يحيى بن أكثم:

 

وقارن، إذا قارنت، حرّاً، فإنما

 

يزين ويزري بالفتى قرنـاؤه

إذا المرء لم يختر صديقاً لنفسه،

 

فناد به في الناس: هذا جزاؤه

وروي أن سليمان بن داود، عليهما السلام، قال: لا تحكموا للرجل بشيء حتى تنظروا من يخادن.

وقال عدي بن زيد العبادي:  

عن المرء لا تسال، وأبصر قرينه،

 

فإن القرين بالمقـارن مـقـتـد

إذا ما رأيت الشر يبعث أهـلـه،

 

وقام جناة الشر للشر، فـاقـعـد

وقال عتبة بن هبيرة الأسدي:

 

إن كنت تبغي العلم، أو أهله،

 

أو شاهداً يخبر عن غـائب

فاختبر الأرض بأسمـائهـا،

 

واختبر الصاحب بالصاحب

وقال أبو العتاهية:

 

من ذا الذي يخفى علـي

 

ك، إذا نظرت إلى قرينه

وعلى الفتى بطـبـاعـه

 

سمة تلوح على جبينـه

وأنشدني أحمد بن عبيد لأبي محمد اليزيدي:

 

ومن يصاحب صاحباً،

 

ينسب إلى مستصحبه

بزائنـات رشــده،

 

أو شـائنـات ريبـه

ورأس أمر لامـرئ

 

خير له من ذنـبـه

وذو النهى ليست تبـا

 

عات الهوى من أربه

وقال آخر:

 

ولا تصحب أخا الجهل،

 

وإياك وإياه

فكم من جاهـل أردى

 

حليمـاً، حـين آخـاه

وللشيء من الـشـيء

 

مقـاييس وأشـبــاه

يقاس المرء بالمـرء،

 

إذا ما المرء مـاشـاه

والقلب على القـلـب

 

دليلٌ، حـين يلـقـاه

وأنشدني أبو العباس الشيباني لأبي آمنة جد النبي، صلى الله عليه وسلم:

 

وإذا أتيت جماعة في مجلس،

 

فاحذر مجالسهم، ولما تقعـد

وذر الغواة الجاهلين وجهلهم،

 

وإلى الذين يذكرونك فاقعـد

فليؤاخ الأديب أكفاءه، وليصحب نظراءه، ومن يأمن من غدره، وغب أمره، وبوائق شره. وأنى يكون ذلك ولن يجتمع إلا في أهل الحياء. فمنهم كرم الوفاء، وإذا اجتمع الحياء والوفاء، صح الإخاء.

وقد أخبرني مخبر عن عبد الله بن طاهر أنه قال: لا دواء لمن لا حياء له، ولا حياء لمن لا وفاء له، ولا وفاء لمن لا إخاء له، ولا إخاء لمن أراد أن يجمع بين أهواء أخلائه حتى يحبوا ما أحب ويكرهوا ما كره، وحتى لا يرى من أحد ختلاً، ولا زللاً، ولا تفريطاً، ثم أنشد:

طلبت امرأً حراً صحيحاً مسلمـاً،

 

نقياً من الآفات في كـل مـوسـم

لأمنحه ودي، فـلـم أدرك الـذي

 

طلبت، ومن لي بالصحيح المسلـم

صبرت ومن يصبر يجد غب صبره

 

ألذ وأشهى من جنى النحل في الفم

ومن لا يطب نفساً ويستبق صاحبـاً

 

ويغفر لأهل الود يصرم ويصـرم

وقال محمود الوراق:

 

البس أخاك على تصنُّـعـه،

 

فلرب مفتضح على النـص

ما كدت أفحص عن أخي ثقة،

 

إلا ذممت عواقب الفحـص

وليصحب نظراءه ومن يأمن غدره وغب أمره وبوائق شره.

وأنشدني محمد بن يزيد المبرد للمطيع بن إياس:

 

ولئن كنت لا تـصـاحـب إلا

 

صاحباً لا تزل، ما عاش، نعله

لا تجده، ولو حرصت، وأنـى

 

لك بالخل ليس يوجد مثـلـه

وقال يونس بن عبيد: أعياني شيئان، أخ في الله ودرهم حلال.

وقيل لبعض الحكماء: من أبعد الناس سفراً؟ فقال: من كان في طلب صديق يرضاه.

وقال رجل للفضل بن عياض: أبغني رجلاً أحدثه سري، وآمنه على أمري! فقال: تلك ضالة لا توجد.

وأنشدني المهلبي لنفسه:

 

البس أخاك على ما كان من خلق،

 

واحفظ مودته بالغيب ما وصـلا

فأطول الناس غماً من يريد أخـاً

 

ذا خلة لا يرى في وده خـلـلا

وأنشدني أيضاً:

 

أقسمت بالله لا ينفـك مـغـتـفـراً

 

ذنب الصديق، وإن عق، وإن صرما

والعمر يقصر عن هجر، وعن صلة،

 

وعن تَجَنٍّ، وعتبٍ يورث السَّقـمـا

فترك مصارمة الخلان، والتجاوز عن هفوات الإخوان، والاستكثار من الأخلاء، ورفض معاندة الأعداء، أولى بأهل الأدب، وذوي المروءة والأرب، وأهل الفضل والحسب.


وقد حكى الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يقول لأخ له: أي أخي إن الصديق يحول بالجفاء، وإني أراك رطب اللسان من عيوب أصدقائك، فلا تزدهم في أعدائك.

وقال عبد الله بن الحسن بن علي لابنه، رضي الله عنه: إياك وعداوة الرجال، فإنها لن تعدمك مكر حليم، أو مفاجأة لئيم.

 وروي أن سليمان بن داود قال لابنه: يا بني لا تستكثر أن يكون لك ألف صديق، ولا تستقل أن يكون لك عدو واحد.
وروي أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

وأكثر من الإخوان ما اسطعت إنهم

 

عماد، إذا استنجدتهم، وظـهـور

وليس كثيراً ألف خلٍّ وصاحـب،

 

وإن عـدواً واحـداً لـكـثــير

وليس شيء أسر إلى ذي اللب، ولا أحسن موقعاً في القلب، من محادثة العقلاء، ومجالسة الأدباء. فإن ذلك مما تفتق به الأذهان، وينفسح به الجنان، ويزيد في اللب، ويحيا به القلب، كما قال بعض الشعراء:

 

وما بقيت من الـلـذات إلا

 

محادثة الرجال ذوي العقول

وقد كنا نعـدهـم قـلـيلاً،

 

فقد صاروا أقل من القلـيل

وقيل للحرقة ابنة النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ فقالت: إدمان الشراب، ومجالسة الرجال.

وقال عمرو بن مرة الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

وصحوت إلا من لقاء محدث،

 

حسن الحديث، يزيدني تعليما

وقال معاوية بن أبي سفيان لعمرو بن العاص: ما بقي مما تستلذه؟ فقال: مجالسة الرجال.

وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن عدة من الصحابة، رضي الله عنهم، من الأحاديث في الحث على صحبة الإخوان، والرغبة في الخلان، ما إن ذكرناه طال به الكتاب، وكثر به الخطاب. وسنذكر بعض ذلك ونختصره، ونأخذ من أحسنه ما يكون فيه بلاغ، إن شاء الله تعالى.

الحث على صحبة الإخوان والإغراء على مودة الخلان والرغبة في أهل الصلاح والإيمان

روي عن أبي هريرة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم،قال: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.
وروي عن أبي عمرو العوفي قال: كان يقال اصحب من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سقطة سترها، ومن إن قلت صدق قولك، وإن أصبت سدد صوابك، ومن لا يأتيك بالبوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق.

وقال الفضل بن غسان البصري: كان يقال اصحب من ينسى معروفه عندك.

وروي عن معاوية بن قرة قال: نظرت في المودة والإخاء فلم أجد أثبت مودة من ذي أصل.

وأنشدونا لعمر بن عبد العزيز، ولا يعرف له غير هذه الأبيات:

 

إني لأمنح من يواصلنـي

 

مني صفاء ليس بالمذق

وإذا أخ لي حال عن خلق

 

داويت منه ذاك بالرفـق

والمرء يصنع نفسه،ومتى

 

ما تبله ينزع إلى العرق

ومثله قول زهير بن أبي سلمى:

 

وما يك من خير أتوه، فإنمـا

 

توارثه آباء آبـائهـم قـبـل

وهل ينبت الخطِّيَّ إلا وشيجه،

 

وتغرس إلا في منابتها النخل

ومنه قول الآخر:

 

والابن ينشو على ما كان والده،

 

إن العروق عليها تنبت الشجر

 وقال المتوكل الكناني:

 

عندي لصالح قومي، ما بقيت لهم،

 

حمد وذمّ، لأهل الذم، مـعـدود

أجري على سنة من والدي سبقت،

 

وفي أرومته ما ينبـت الـعـود

وأوصى بعض الحكماء أخاً له فقال: أي أخي! آخ الكريم الأخوة، الكامل المروءة، الذي إن غبت خلفك، وإن حضرت كنفك، وإن لقي صديقك استزاده، وإن لقي عدوك كفه، وإن رأيته ابتهجت، وإن أتيته استرحت.


وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إذا رزقك الله مودة امرئ مسلم فتشبث بها.

وكان سفيان الثوري كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين:

 

أبل الرجال، إذا أردت إخاءهم،

 

وتوسمن إخاءهـم وتـفـقـد

فإذا وجدت أخا الأمانة والتقـى

 

فيه اليدين قرير عين فـاشـدد

كم من صديق في الرخاء مساعد

 

وإذا أردت حقيقة لـم تـوجـد

ومثل ذلك قول الآخر:

 

آخ من آخيت عن خبرتـه،

 

لا يغرنك من الناس الطُّرر

لا ولا الأجسام ما لم تبلهـم،

 

إنما الناس كأمثال الشجـر

منه ما ليست له منـظـرة،

 

وهو صلب عوده حلو الثمر

وترى منه أنيقـاً نـبـتـه،

 

طعمه مرٌّ، وفي العود خَوَر

 وقال آخر:

من حمد الناس، ولم يبلهم،

 

ثم بلاهم ذم من يحـمـد

وصار بالوحدة مستأنسـاً،

 

يوحشه الأقرب والأبعـد

وروي أن رجلاً من عبد القيس قال لابنه: أي بني، لا تواخ أحداً حتى تعرف موارد أموره ومصادرها، فإذا استبطنت الخبر، ورضيت منه العشرة، فآخه على إقالة العثرة، والمؤاساة عند العُسرة.

وأنشدني محمد بن يزيد المبرّد:

 

وكنت، إذا الصديق أراد غيظي

 

على حنق، وأشرقني بريقـي

غفرت ذنوبه، وكظمت غيظي،

 

مخافة أن أكون بـلا صـديق

وأنشدني لبشار بن برد العقيلي:

 

أخوك الذي لا ينقض، الدهر، عهده،

 

ولا عند صرف الدهر يزور جانبه

فخذ من أخيك العفو، واغفر ذنوبـه

 

ولا تك في كل الأمور تجـانـبـه

إذا كنت في كل الأمور معـاتـبـاً

 

صديقك، لم تلق الذي لا تعاتـبـه

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى

 

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربـه

وقال آخر:

ومن لا يغمض عينه عن صـديقـه،

 

وعن بعض ما فيه، يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جـاهـداً كـل عـثـرة،

 

يجدها، ولا يسلم له، الدهر، صاحب

وأنشدني أحمد بن يحيى لسعيد المساحقي:

 

فخذ عفو من أحببت لا تبر منه،

 

فعند بلوغ العذر رنق المشارب

 وقال أو الأسود الدؤلي:

 

ولست مستبقـياً أخـاً لـك لا

 

تصفح عما يكون من زللـه

من ذا الذي هُذبت خـلائقـه

 

في ريثه إن أتى وفي عجله

لا أصحب الخائن اللـئيم، ولا

 

أقطع وصل الخليل من ملله

أجزيه بالعرف، ما حييت، ولا

 

يعدم صفحي للشر من عمله

ومثله قول النابغة الذبياني:

 

ولست بمستبق أخاً لا تـلـمـه

 

على شعث، أي الرجال المهذب

وأجاد، والله، الذي يقول:

 

إذا ما أذاني مفصل فقطعتـه،

 

بقيت وما لي للنهوض مفاصل

ولكن أداويه، فإن صح كان لي،

 

وإن هو أدوى كان فيه تحامل

وأنشدت لرجل من طيء:

 

أرخ على الناس ثوب ستـرهـم،

 

أو أجن حلو الثمار من شـجـره

واستبق ما لم ترد قـطـيعـتـه،

 

بستره ما استقـر فـي سـتـره

فرب بادي الجمـيل مـنـه، إذا

 

فُتش أبدى التفتيش عـن عَـوَره

واستصلح الناس، ما استطعت، ولا

 

تسرع إلى ضرِّ مبتغي ضـرره

وروي عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: أحب إخواني إليَّ أخ إن غبت عنه عذرني، وإن جئته قبلني. وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أوجب عليك حقاً؟ فقال: الذي يسدّ خلتي، ويغفر زلتي، ويقيل عثرتي.

وقال مطيع بن إياس:

 

إنما صاحبي الذي يغفر الذن

 

ب، ويكفيه من أخيه أقلـه

ليس من يظهر الخلالة إفكاً،

 

وإذا قال خالف القول فعله

وصله للصـديق يوم، ويوم

 

يضمر الهجر ثم ينبت حبله

وأحق الرجال أن يغفر الذن

 

ب لإخوانه الموفَّر عقلـه

وفي حديث سهل بن سعيد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء كثير بأخيه.

وكتب الأحنف بن قيس إلى صديق له: أما بعد فإذا قدم عليك أخ موافق لك، فليكن منك مكان سمعك وبصرك، فإن الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف.

وقال خالد بن صفوان: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.

وقال عمر بن الخطاب: عليكم بإخوان الصدق، فاكتسبوهم، فإنهم زين في الرخاء وعدّة عند البلاء.

وسئل بعض الحكماء: أيّ الكنوز خير؟ فقال: أما بعد تقوى الله فالأخ الصالح.

واعلم أن خير الإخوان من كانت أخوته ومحبته في الله، ولم تكن خلته ولا مؤاخاته لطمع قليل، ولا لغرض عاجل، وليس شيء بذوي العقول، وأهل الديانات والفضل، أفضل من إخلاص المودة في الله، ولعمري إن ذلك يحسن بجميع أهل الملل والأديان، وهو من أوثق عُرى الإيمان، وقد روي فيه أحاديث كثيرة اقتصرنا على بعضها، واختصرنا من أحسنها، وفي البعض كفاية، إن شاء الله.

صفة المتحابين في الله عز وجل

روي عن البراء بن عازب أنه قال: كنت جالساً عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أتدرون أي عُرى الإيمان أوثق؟ قلنا: الصلاة. قال:إن الصلاة لحسنة، وما هي بها. قلنا: الزكاة. قال: وحسنة، وما هي بها. فذكروا شرائع الإسلام، فلما رآهم لا يصيبون قال: إن أوثق عُرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله.

وأخبرني أبي رحمه الله، بإسناد ذكره عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة لعموداً من ذهب عليه منائر من زبرجد تضيء لأهل الجنة، كما يضيء الكوكب الدُّرّي في أفق السماء، قلنا: لمن هذا، يا رسول الله؟ قال: للمتحابين في الله.

وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله.

وقال عليه الصلاة والسلام: الإيمان أن يحبّ الرجل الرجل ليس بينهما نسب قريب، ولا مال أعطاه إياه، لا يحبه إلا لله عز وجل.

ورويناه عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يؤاخي بين الرجلين من أصحابه، فتطول الليلة على أحدهما حتى يرى أخاه.

وروينا عن جرير بن عبد الله البجلي قال: ما حجبني رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي. وقال عمر بن الخطاب: لقاء الإخوان جلاء الأحزان.

وقال أكثم بن صيفي: لقاء الأحبة مسلاة الهم.

وكان عبد الله بن مسعود يقول لأصحابه: أنتم جلاء حزني.

وروي عن أبي أمامة قال: من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله فقد استكمل الإيمان.

وقد كانت الحكماء تقول: إن ما يجب للأخ على أخيه مودته بقلبه، وتزيينه بلسانه، ورفده بماله، وتقويمه بأدبه، وحسن الذّبّ والمدافعة عنه في غيبته.

وأنشدني أبو بكر بن أبي الدنيا:

 

إذا المرء لم ينصف أخاه، ولم يكن

 

له غائباً يوماً، كما هو شـاهـده

فلا خير فيه، فالتمس غيره أخـاً

 

كريماً، على وصل الكريم تعاهده

فإن غبت يوماً، أو شهدت فوجهه،

 

على كل حال أينما كنت، واجده

أنشدني أحمد بن يحيى لكثير عزة:

 

وليس خليلي بالملول ولا الذي،

 

إذا غبت عنه باعني بخلـيل

ولكن خليلي من يدوم وفـاؤه،

 

ويحفظ سـرّي كـل دخـيل

ولست براض من خليلي بنائل

 

قليلٍ، ولا أرضى له بقلـيل

وأنشدني بعض الأدباء قال: أنشدني أعرابي ببلاد نجد:

 

وليس خليلي بالمرجى، ولا الـذي

 

إذا غبت عنه كان عوناً مع الدهر

ولكن خليلي من يصون مـودتـي،

 

ويحفظني، إن كان من دوني البحر

وأنشدني أبو العباس محمد بن يزيد النحوي:

 

تود عدوي، ثم تـزعـم أنـنـي

 

أودك، إن الرأي عنك لعـازب

وليس أخي من ودني رأي عينه

 

ولكن أخي من ودني وهو غائب

وأنشدني يوسف الأعور قال: أنشدني يعقوب بن السكيت لأوس بن حجر:

 

وليس أخوك الدائم العهـد بـالـذي

 

يذمك إن ولى، ويرضيك مقـبـلا

ولكن أخوك النائي ما كنت آمـنـاً،

 

وصاحبك الأدنى، إذا الأمر أعضلا

وأنشدني أبو العيناء قال: أنشدني الجاحظ:

 

أخوك الذي إن سرّك الأمر سره،

 

وإن غبت يوماً ظلّ وهو حزين

يقرب من قربت من ذي مـودة،

 

ويقصي الذي أقصيته، ويهـين

وأنشدني أحمد بن يحيى:

 

إذا أنت رافقت الرجال، فكن فتىً،

 

كأنك ممـلـوك لـكـل رفـيق

وكن مثل طعم الماء عذباً وبارداً،

 

على الكبد الحرى لكـل صـديق

واعلم أن أحسن ما تألف به الناس قلوب أخلائهم، ونفوا به الضغن عن قلوب أعدائهم، البشر بهم عند حضورهم، والتفقد لأمورهم، وحسن البشاشة، فذلك يثبت المحبة والإخاء، ومنه أحاديث قد ذكرنا بعضها، وقصدنا فيما فيه قناعة.

البشاشة بالإخوان والصبر على تألف قلوب ذوي الأضغان

قال الله عز وجل لنبيه، صلى الله عليه وسلم :"ادفع بالتي هي أحسن،فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم".

وقال تعالى:"ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر".

وقال عز وجل:"واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين".

وروي عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: رأس العقل بعد الإيمان التودد إلى الناس.
وسئل الحسن عن حسن الخلق، فقال: الكرم، والبذلة، والتودد إلى الناس.

وروينا عن جرير بن عبد الله البجلي، فقال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي.
وقال المنصور: إذا أحببت المحمدة من الناس بلا مؤونة، فالقهم ببشر حسن.

وروي عن كعب الأحبار قال: مكتوب في التوراة: ليكن وجهك سبطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة.

وأنشدني أبو علي العنزي:

 

إلق بالبشر من لقيت من الـنـا

 

س جميعاً، ولاقهم بالطَّلاقـه

تجن منهم به جـنـيَّ ثـمـار

 

طيب طعمه، لذيذ المـذاقـه

ودع التيه والعبوس عن الـنـا

 

س، فإن العبوس رأس الحماقه

كلما شئت أن تعـادي عـادي

 

ت صديقاً، وقد تعز الصـداقة

أنشدني لبعض بني طيء:

 

خالق الناس بخلق واسـع،

 

لا تكن كلباً على الناس يهرّ

والقهم منك ببشر ثـم كـن

 

للذي تسمع منهم مغتـفـر

وقال أبو العتاهية:

 

وألن جناحك تـعـتـقـد

 

في الناس محمدة بلينـه

فلربما احتقر الـفـتـى

 

من ليس في شرف بدونه

وكان يقال: أول المروة طلاقة الوجه؛ والثانية التودد إلى الناس؛ والثالثة قضاء حوائج الناس.

وروي أن أعرابياً قال: يا رسول الله، إنا من أهل البادية، فنحب أن تعلمنا عملاً لعل الله أن ينفعنا به، قال: لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستقي، وأن تكلم أخاك ووجهك إليه منطلق.

وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه، والخلق الحسن.

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: تمام تحياتكم المصافحة.

وقال الحسن البصري: المصافحة تزيد في المودة.

وروى مجاهد عن معاذ قال: إن المسلمين، إذا التقيا فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر.

واعلم أنه إذا صلحت النيات، وخلصت السريرات، صلحت أصفية المودة، وثبتت المحبة، واتفقت القلوب، واغتفرت الذنوب؛ وإذا فسدت النيات، وخبثت السريرات، بطل خالص الإخاء، وانحلت عُرى المودة والصفاء. وقد شرحت في ذلك باباً تقف عليه، إن شاء الله تعالى.

اتفاق القلوب على مودة الصديق وقلة الخلاف على الرفيق

روينا عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، وعن الوليد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.

وقال بعض الشعراء:

 

إن القلوب لأجنـاد مـجـنـدة،

 

لله في الأرض بالأهواء تعترف

فما تعارف منها فهو مؤتلـف،

 

وما تناكر منها فهو مختـلـف

وقال طرفة:

وإن امرأً لم يعف يوماً فكـاهة

 

لمن لم يرد سوءاً بها لجهـول

تعارف أرواح الرجال إذا التقوا،

 

فمنهم عدو يتـقـى، وخـلـيل

وكان يقال: المودة قرابة مستفادة. وقيل لخالد بن صفوان: أخوك أحب إليك أم صديقك؟ فقال: إن أخي إذا كان غير صديق لم أحبه. وروينا عن واصل مولى ابن عيينة قال: كنت مع محمد بن واسع بمرو، فأتى عطاء بن مسلم ومعه ابنه عثمان، فقال عطاء لمحمد: أي عمل في الدنيا أفضل؟ قال: صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان، إذا اصطحبوا على الأمن والتقوى، فحينئذ يذهب الله بالحلف من بينهم، فواصلوا وتواصلوا.

وروي عن بشر بن السري قال: ليس من البر أن تبغض ما أحبه حبيبك. وقال عبد الله بن صالح: اجتمعت أنا ومحمد بن نصر الحارثي وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض، فصنعت لهم طعاماً، فلم يخالف محمد ابن نصر علينا في شيء أصلاً، فقال له عبد الله: ما أقل خلافك! فقال محمد:

 

وإذا صاحبت، فاصحب ماجداً

 

ذا حياء وعـفـاف وكـرم

قوله للشيء: لا، إن قلت: لا،

 

وإذا قلت: نعم، قال: نـعـم

وقال آخر:

 

هموم رجال في أمور كثيرة،

 

وهمي من الدنيا خليل مساعد

إذا غبت عنه لم أغب عن ضميره،

 

كأني مقيم بين عـينـيه شـاهـد

نكون كروح بين جسمين فُـرقـاً،

 

فجسماهما جسمان والروح واحد

وأنشدني آخر:

 

وإلفين كالغصنين ضمهما الهوى،

 

فروحاهما روح، وقلباهما قلب

إذا غاب هذا ساعة عن خليلـه،

 

تجلاه يوماً، عند فرقته، كـرب

فيا من رأى إلفين صانا هواهما،

 

فهذا بذا صبٌّ، وهذا بذا صـبُّ

وأنشدني للحكمي:

 

روحها روحي، وروحي روحها،

 

ولها قلب، وقلبـي قـلـبـهـا

فلـنـا روح وقـلـب واحـد،

 

حسبها حسبي، وحسبي حسبهـا

ولعمري إن ذلك لحسن جميل: والذي قيل في ذلك كثير طويل، وقد نهى قوم عن استعمال الميل في المودة، واعلم أن ذلك مع دوام المحبة وصفاء المودة لحسن غير مدفوع، غير أنه قد نهي عن استعمال الميل في المودة وكثرة الإفراط في المحبة وإدمان الزيارة في كل يوم وساعة لموضع الملل والسلوان الذي هو طبع الإنسان، وأمرنا بالقصد في كل الأمور، بدوام المحبة والسرور. وقد ذكرت بعض ذلك وفيه مقنع.

النهي عن استعمال الإفراط في حب الصديق

روي عن بعض الحكماء أنه قال: لا يفرط الأديب في محبة الصديق، ولا يتجاوز في عداوة العدو، فإنه لا يدري متى تنتقل صداقة الصديق عداوة، ولا متى تنتقل عداوة العدو صداقة.

وحكي عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أنه قال: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.

وروي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً.

ومن أمثال أكثم بن صيفي: الانقباض من الناس مكسبة للعداوة، وإفراط الأنس مكسبة للملال. قال أبو عبيدة: يريد أن الاقتصاد أدنى إلى السلامة.

قال أبو زيد: من أمثالهم: لا تكن حلواً فتُسترط ولا مراً فتعفى أي تلفظ من المرارة.

زمثله قول مطرف بن الشخير: الحسنة. بين السيئتين، وخير الأمور أوسطها.

وكان يقال: لا تهذر في منطقك، ولا تخبر بذات نفسك، ولا تغتر بعدوك، ولا تفرط في حب صديقك، ولا تفزع إلى من لا يرحمك، ولا تألف من لا يرشدك، ولا تبغض من ينصح لك، فإن شر الأخلاق ملالة الصاحب، وتقريب المتباعد.

وأنشدني أحمد بن يحيى للمقنع الكندي:

 

وكن معدناً للحلم، واصفح عن الأذى

 

فإنك راءٍ ما علـمـت وسـامـع

وأحبب، إذا أحببت، حباً مقـاربـاً،

 

فإنك لا تدري متـى أنـت نـازع

وأبغض إذا أبغضت غير مبـاعـد،

 

فإنك لا تدري متى أنـت راجـع

وأنشدني أحمد بن يحيى لسعيد المساحقي:

 

فهونك في حب وبغض فربـمـا

 

يُرى جانب من صاحب بعد جانب

وسمعت عبد الله بن عبد الله بن طاهر ينشد هذين البيتين، وأحسبهما له:

 

إذا أنا أكرمت اللئيم، فعـدنـي

 

مهيناً له، حققت باطل ما عـدَّا

فإن صلاح الأمر يرجع كـلـه

 

فساداً إذا الإنسان جزت به الحدَّا

وهذا طويل يقنعك منه القليل. وأما طول الزيارة، فقد يجب على أهل الصداقة ترك المداومة عليها، وكثرة الجنوح إليها، فإن ذلك يخلق الحب، ويذهل الصبّ، ويُضجر المَزورَ، ويُعدم السرور، ويُوقع البدل، ويبدي الملل. وقد شرحنا في ذلك باباً، فاعرفه وقف عليه، إن شاء الله تعالى.

الأمر بإغباب زيارة الأحباب والنهي عن مداومة غشيان الأصحاب

روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: زُر غباً تزدد حباً. وقال بعض الحكماء: من كثرت زيارته قلت بشاشته. وقال آخر: من أدمن زيارة الأصدقاء عدم الاحتشاد عند اللقاء. وقال آخر:

 

أقلل زيارتك الـصـدي

 

ق تكون كالثوب استجده

إن الـصـديق يُمـلُّـه

 

أن لا يزال يراك عنده

وقال آخر:

عليك بإقـلال الـزيارة إنـهـا

 

تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا

فإني رأيت القطر يسـأم دائبـاً،

 

ويُسأل بالأيدي إذا هو أمسـكـا

وأنشدت لأبي تمام حبيب بن أوس:

 

وطول مقام المرء في الحي مخلق

 

لديباجتيه، فاغتـرب تـتـجـدد

فإني رأيت الشمس زيدت محـبة

 

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

وأنشدني لإبراهيم بن المهدي:

 

إني كثرت عليه فـي زيارتـه،

 

والشيء مستثقل جداً إذا كثـرا

ورابني منه أنـي لا أزال أرى

 

في طرفه قصراً عني إذا نظرا

وقال عمر بن أبي ربيعة:

 

لا تجعلن أحداً عـلـيك، إذا

 

أحببته، وهـويتـه، ربَّـا

وصل الصديق، إذا كلفت به

 

واطوِ الزيارة دونه غـبـا

فلذاك خير من مواصـلة،

 

ليست تزيدك عنده قُـربـا

لا بل يملك عند دعـوتـه،

 

فيقول: آه، وطالما لـبَّـى

وقال آخر:

 

أغبَّ الزيارة لـمـا بـدا

 

له الهجر، أو بعض أسبابه

وما صدّ هجراً، ولكـنـه

 

طريد مـلالة أحـبـابـه

وكتب بعض الظرفاء رقعة، وطرحها في مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر حيث حرم القيان:

 

عزمات الأمير، أصلحه الل

 

ه بحسن الإرشاد، والتوفيق

باعدت بيننا وبين عُجـابٍ،

 

ومديل، ومنصف، وصديق

فوقع محمد في ظهر الرقعة:

 

حسن رأي الأمير في العشاق،

 

وفّرَ الحظ في بعاد التلاقـي

خاف أن يحدث الوصال ملالاً،

 

فتلافى الهوى ببعض الفراق

وأنشدني بعض الأدباء:

 

إني رأيتك لـي مـحـبـاً،

 

وإليّ حين أغـيب صـبّـا

فهـجـرت لا لـمــلالة

 

حدثت، ولا استحدثت ذنبـا

إلا لـقـول نـبـينـــا:

 

زوروا على الأيام غـبّـا

ولـقـولـه: مـن زار غ

 

باً مـنـكـم يزداد حـبـاً

وهجرت، حين هجرت، كي

 

أزداد بالهجـران قـربـا

الـلـه يعـلـم أنـنـــي

 

لك أخلص الثَّقلين قـلـبـا

أرعى لك الـود الـقـدي

 

م، وإن جنيت عليَّ حربـا

ومن ذلك ما روي أن العتابي دخل على يحيى بن خالد البرمكي، وكانت له جارية، يقال لها خلوب، تجالس الأدباء، وتناقض الشعراء، فقال لها: سليه لإبطائه عنا جائزة، فقالت له: قل له هذه القافية:

 

إذا شئت أن تقلى، فزر متواتـراً،

 

وإن شئت أن تزداد حباً، فزر غبا

فأنشأ يقول:

 

بقيت بـلا قـلـب لأنـي هـائم،

 

فهل من معير، يا خلوب، بكم قلبا

حلفت لها باللـه أنـك مـنـيتـي،

 

فكوني لعيني حيث ما نظرت نصبا

عسى الله يوماً أن يرينيك خـالـياً،

 

فأجني بلحظي من محاسنكم عجبا

يقولون لا تكثر زيارة صـاحـب،

 

فإنك إن أكثرته كـره الـقـربـا

وكيف يطيق الصبّ سلوان حبـه،

 

إذا كان مشغوفاً قد استشعر الكربا

وقد قال بيتاً، ما سمعت بمـثـلـه،

 

خليٌّ من الأحزان لم يذق الحـبـا

إذا شئت أن تقلى، فزر متواتـراً؛

 

وإن شئت أن تزداد حباً فزر غبـا

فقال له: لله أبوك أحسنت، خذ بيدها فهي لك! وأمر له بألف درهم.

واعلم أن كل ما رسمناه في هذه الأبواب، وذكرناه، وشرطناه على الأدباء، ووجدناه داخلاً في باب حدود الأدب، على ما أصبناه، غير خارج منه، ولا منفصل عنه، وأن يكون الأديب عاقلاً واللبيب كاملاً، حتى تكون له مودة قد قرنها بأدبه، وثابر عليها في طلبه، فإذا جمع ذلك رهب منه الأعداء، ورغب فيه الأولياء. وسنذكر من أنشأته المروة، فيكون فيه بلاغ وهداية، إن شاء الله تعالى.

شرائع المروة وصفتها

اعلم أن المروة هي عماد الأدباء، وعتاد العقلاء، يرئس بها صاحبها، ويشرف بها كاسبها، ولا شيء أزين بالمرء من المروة، فهي رأس الظرف والفتوة. وقد قال بعض الحكماء: الأدب يحتاج معه إلى المروة والمروة لا يحتاج معها إلى الأدب. وربما رأيت ذا المروة الخامل، وذا السخاء الجاهل، قد غطت مروته على عيوبه، وستره سخاؤه من معيبه. وأهل المروءات محسودة أفعالهم، متبعة أحوالهم. وقل ما رأيت حاسداً على أدب، وراغباً في أرب. من ذلك ما حكي عن محمد بن حرب أنه قال: كنت على شرطة جعفر بالمدينة، فأتيت بأعرابي من بني أسد يستعدى عليه، فرأيت رجلاً له بيان يحتمل الصنيعة، فرغبت في اتخاذها عنده فتخلصته ثم لم يلبث أن ردّ إليَّ، فقلت: حماس؟ فقال لي: حماس، والله؛ قلت: ما أرجعك؟ قال: الشر، وما قاله رجل منا يقال له خالد، فأنشدني:

 

عادوا مروتنا، فضلل سعيهم،

 

ولكل بيت مـروة أعـداء

لسنا، إذا عد الفخار كمعشر

 

أزرى بفعل أبيهم الأبـنـاء

قال: فتخلّصته ثانية.

وقيل لبعض حكماء الفرس: أي شيء للمروة أشد تهجيناً؟ فقال: للملوك صغر في الهمة، وللعامة الصَّلف، وللفقهاء الهوى، وللنساء قلة الحياء، وللعامة الكذب، والصبر على المروة صعب، وتحملها عبء. وقد قال خالد بن صفوان: لولا أن المروة اشتدت مؤونتها، وثقل حملها ما ترك اللئام للكرام منها شيئاً، ولكنه لما ثقل محملها، واشتدت مؤونتها حاد عنها اللئام، فاحتملها الكرام.

وقال بعضهم: المكارم لا تكون إلا بالمكاره، ولو كانت خفيفة لتناولها السفلة بالغلبة.

وقال ابن عمر: ما حمل رجل حملاً أثقل من المروة، فقال له أصحابه: صف لنا ذلك! فقال: ما له عندي حد أعرفه، إلا أني ما استحييت من شيء قط علانية، إلا استحييت منه سراً.

وقام رجل من بني مجاشع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ألست أفضل قومي؟ فقال: إن كان لك عقل، فلك فضل، وإن كان لك خلق، فلك مروة، وإن كان لك مال، فلك حسب، وإن كان لك دين، فلك تقى، وإن كان لك تقى، فلك دين.

وروى الهلالي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرجل من ثقيف: ما المروة فيكم؟ قال: الصلاح في الدين، وإصلاح المعيشة، وسخاء النفس، وصلة الرحم. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: كذلك هي فينا.

وقال عمر بن الخطاب: المروة الظاهرة الثياب الطاهرة، يعني النقية من الذنوب.

وقيل للأحنف: ما المروة؟ قال: إصلاح المعيشة، واحتمال الجريرة.

وقال معاوية لصعصعة بن صفوان: ما المروة؟ قال: الصبر على ما ينوبك، والصمت حتى تحتاج إلى الكلام.

وقال محمد بن علي بن الحسين: كمال المروة الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن تقدير المعيشة.

وقال معاوية لرجل من عبد القيس: ما تعدون المروة فيكم؟ قال: العفة والحرفة.

وقيل لأبي زهرة: ما المروة؟ قال: إصلاح الحال والرزانة في المجالس، والغداء والعشاء بالأفنية.

وقال عمر بن الخطاب: حسب المرء ماله، وكرمه دينه، وأصله عقله، ومروته خلقه.

وقال علي بن أبي طالب: مروة الرجل حيث يضع نفسه.

وقال عبد الله بن سميط بن عجلان: سمعت أيوب السجستاني يقول: لا ينبل الرجل، حتى تكون فيه خصلتان: العفة عن الناس، والتجاوز عنهم.

وقال مسلمة بن عبد الملك: مروتان ظاهرتان: الرياسة والفصاحة.

وكان يقال: ثلاث يفسدن المروة: الالتفات في الطريق، والشح، والحرص.

وقال عمر بن هبيرة: عليكم بمباكرة الغداء فإن في مباكرة الغداء ثلاث خلال: يطيب النكهة، ويطفئ المرة، ويعين على المروة، قيل: وما إعانته على المروة؟ قال: لا تتوق النفس إلى طعام غيره.

وقال سلم بن قتيبة: لا تتم مروة الرجل، حتى يصبر على مناجاة الشيوخ الدرد.

وسأل ابن زياد رجلاً من الدهاقين: ما المروة فيكم؟ قال: أربع خصال: أن يعتزل الرجل الريبة فلا يكون في شيء منها، فإنه إذا كان مريباً كان ذليلاً، وأن يصلح ماله، فإن من أفسد ماله لم تكن له مروة، وأن يقوم لأهله بما يحتاجون إليه، حتى يستغنوا به عن غيره، فإن من احتاج أهله إلى الناس لم تكن له مروة، وأن ينظر فيما يوافقه من الطعام والشراب فيلزمه، فإن المروة ألا يخلط على نفسه في مطعمه ولا مشربه.

وكان يقال: ثلاث من المروة: تعاهد الرجل إخوانه، وإصلاح معيشته، وإقالته في منزله.

وسئل العتابي عن المروة، فقال: إخفاء ما لا يستحيا من إظهاره، ومواطأة القلب اللسان.

ويروى عن عبد الله بن بكر السهمي أن عبد الملك بن مروان دخل على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فجلس ملياً، ثم انصرف، فقال معاوية: ما أكمل مروة هذا الفتى وأخلقه أن يبلغ. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إن هذا أخذ بخلائق أربع، وترك ثلاثاً: أخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر المؤونة إذا خولف، وبأحسن البشر إذا لقي، وترك مزاح من لا يوثق بعقله ولا دينه، وترك مخالفة لئام الناس، وترك من الكلام ما يعتذر منه.

فهذه جملة شرائع المروة، لا يقدر على القيام بأدنى المفترض فيها إلا ذوو العقول الفاضلة، والآداب الكاملة.
واعلم أن من المروة أيضاً عشر خصال: لا مروة لمن لم يكن فيه الحلم، والحياء، وصدق اللهجة، وترك الغيبة، وحسن الخلق، والعفو عند المقدرة، وبذل المعروف، وإنجاز الوعد. وفي تبيينهن أخبار تحث على استعمالهن، وآثار تدعو إلى المثابرة عليهن، وأنا ذاكر بعض ذلك، إن شاء الله، وبه القوة.

ما جاء من فضل الصدق لذوي الآداب وما كُرِه من الكذب لذوي الألباب

روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا يصلح الكذب في جد، ولا هزل.

وقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: إذا كذب العبد تباعد الملك منه ميلاً لنتن ما جاء منه. وقال: لسان الصدق خير للمرء من المال يأكله ويورثه.

وقال المهلب بن أبي صفرة: ما السيف الصارم في يد الرجل الشجاع بأعز له من الصدق. وكان يقال: الصدق قوة، والكذب عجز. أنشدني بعض الأدباء:

 

لا يكذب المرء إلا من مهانـتـه،

 

أو عادة السوء أو من قلة الأدب

لجيفة الكلب عنـدي خـير رائحة

 

من كذبة المرء في جد وفي لعب

وكان يقال: لا رأي لكذوب ولا مروة لكذاب. ويقال: لا تستعن بكذاب، فإنه يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب. وأنشدني آخر:

 

وكن صادقاً في كل شيء تقوله،

 

ولا تك كذاباً، فتدعى منافـقـا

وقال آخر:

 

الكذب عار، وخير القول أصدقه،

 

والحق ما مسه من باطل زهقاً

وأنشدني غيره:

 

الصدق منجاة لمن هو صادق،

 

وترى الكذوب بما يقول يوبخ

وقال أبو العتاهية:

 

كن في أمورك ساكنـاً،

 

فالمرء يدرك في سكونه

واعمد إلى صدق الحدي

 

ث، فإنه أزكى فنونـه

رب امـرئ مـتـيقـن

 

غلب الشقاء على يقينـه

وحدثني بعض شيوخ الكتاب قال: حدثني علي بن هشام قال: قال لي محمد بن الجهم ذات يوم: يا أبا الحسن، الكذاب والموات بمنزلة واحدة. قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأن علامة الحي النطق، ومن لم يوثق بنطقه، فقد بطلت حياته.


والذي جاء في ذلك يطول شرحه، ويكثر وصفه، والكلام فيه يتسع، وأنا أفرد لهذا الباب كتاباً، وأرصفه أبواباً أبين فيه فضل الصدق على الكذب، ليرغب فيه ذوو المروة والأدب، إن شاء الله تعالى.

وأما ما جاء في إنجاز العدات عن ذوي الأخطار والمروات، فكثير يكثر عدده ويطول أمده. وقد شرحت لك بعض ذلك لتقف عليه، إن شاء الله تعالى.

ما جاء في قبح خلف المواعيد وما يلحق صاحبّه من اللّوم والتفنيد

اعلم أن أقبح ما استعمله أهل الأدب مطل العدات. وقال المثنى ابن خارجة: لأن أموت عطشاً أحب إلي من أن أخلف موعداً. وروينا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ثلاث علامات في المنافق، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف. وروي عنه أنه قال: عدة المؤمن أخذ بالكف.وقال بعض الأعراب: وعد الكريم تعجيل، ووعد اللئيم مطلٌ وتسويف. وكان يقال: اليأس إحدى الراحتين. وأنشدني يعقوب بن يزيد التمار:

 

متى ما أقل يوماً لطالـب حـاجة:

 

نعم، يا فتى، أفعل، وذلك من شكلي

وإن قلت: لا، بينتها من مكانـهـا،

 

ولم أوذه فيها بجـر، ولا مـطـل

وأنشدني آخر:

 

إذا قلت في شيء نعم فأتمـه

 

فإن نعم دين على الحر واجب

وإلا فقل: لا استراح وأرح بها

 

لكي لا يقول الناس إنك كاذب

وأنشدني آخر:

 

لا تقولن، إذا ما لـم تـرد

 

أن يتم الوعد في شيء نعم

وإذا قلت: نعم، فامض بها

 

بنجاح الوعد إن الخلف ذم

وأنشدني إبراهيم بن محمد النحوي:

 

أنت الفتى كل الفتـى،

 

لو كنت تفعل ما تقول

لا خير في كذب الجوا

 

د وحبذا صدق البخيل

وكان يقال: اعتذار من منع أجمل من وعد ممطول. وقال علي بن هشام: أمرني المأمون بحاجة، فأخرتها، فكتب إلي:

 

تعجيل جود المرء أكرومة،

 

تنشر عنه أحسن الـذكـر

والحر لا يمطل معروفـه،

 

ولا يليق المطل بالـحـر

وكان يقال: المعروف يحتاج إلى ثلاث: تعجيله وكتمانه وإتمامه. وأنشدنا ليزيد بن جبل:

 

يا صانع المعروف كن تاركاً

 

ترداد ذي الحاجة في حاجته

فشرُّ معروفك ممطـولـه،

 

وخيره ما كان من ساعتـه

لكل شـيء يُرتـجـى آفة،

 

وحسبك المعروف من آفته

وقال آخر:

 

صل من أردت وصاله، وإخاءه،

 

إن الأخوة خيرها موصولـهـا

وإذا ضمنت لصاحب لك حاجة،

 

فاعلم بأن تمامها تعجـيلـهـا

وقال آخر:

 

لا تنشرن مواعيداً، وتـسـنـدهـا

 

إلى المطال، فما يرضى به الأدب

لا تطلبن بمنع المـال مـحـمـدة

 

إن المحامد بالأموال تكـتـسـب

وكان يقال: لكل شيء آفة، وآفة المعروف المطل. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لكل شيء رأس ورأس المعروف تعجيله.

وفي وصية عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني، لا تعدوا الناس بما لا تناله أيديكم. ويقال: إذا وعدت الرجل نائلاً ثم مطلته به، فقد أوفاك ثمن معروفك عنده. وأنشدونا لدعبل بن علي الخزاعي:

 

إياك والمطل أن تفارقـه،

 

فإنـه آفة لـكـــل يد

إذا مطلت امرأً بحاجـتـه،

 

فامض على مطله ولا تجد

فلست تلقاه شاكـراً لـيدٍ،

 

قد كدها المطل، آخر الأبد

وللفقيمي أيضاً في مثله:

 

ما كلف الله نفساً فوق طاقتها،

 

ولا تجود يد إلا بمـا تـجـد

فلا تعد عدة إلا وفيت بـهـا،

 

ولا تكونن مخلافاً لما تـعـد

ولدعبل أيضاً في مثله:

 

وأرى النوال يزينه تعجيله،

 

والمطل آفة نائل الوهاب

وكان يقال: بذل جاه السائل ثمن معروف المساءل. وقال أكثم بن صيفي: السؤال وإن قل ثمن لكل معروف وإن جل.

أنشدني محمد بن إبراهيم الهمداني لعلي بن ثابت الكاتب:

 

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله

 

بذلاً، ولو نال الغنى بسـؤال

وإذا السؤال مع النوال وزنته،

 

رجح السؤال، وخف كل نوال

وقال بعض الحكماء: أحي معروفك بإماتة ذكره، وعظمه بتصغيرك له. أنشدني أبو العباس ثعلب لأبي يعقوب الخريمي:

 

زاد معروفك عندي عظمـاً،

 

أنه عندك مستـور حـقـير

وتناسـاه كـأن لـم تـأتـه،

 

وهو عند الناس مشهور كبير

وقال عدي بن حاتم: لا يصلح المعروف إلا بثلاث: تعجيله، وكتمانه، وتصغيره، لأنك إذا عجلته هنَّيته، وإذا كتمته استهنته، وإذا صغرته عظمته.

وشرح كل ما جاء في ذلك يطول والاختصار أحسن من الإكثار، وقد ذكرت معنى هذا الباب مع ما يلائمه من الأخبار في كتاب لطيف التأليف والاختصار، هو كتاب البث والحث، غنينا بما فيه عن الزيادة، وعن التطويل والإعادة، ونحن نتتبع هذا الباب بما ضمنّاه من الحث على كتمان السر ليرغب فيه ذوو الأدب والقدرة، إن شاء الله تعالى.

الحث على كتمان السر والترغيب في حفظ ما حنّت عليه ضلوع الصدّر

روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: استعينوا على حوائجكم بكتمان السرّ.

وكان يقال: سرّك من دمك، فانظر أين تجعله.

وكان يقال: ما كتمته من عدوك، فلا تطلع عليه صديقك.

وقال المهلب بن أبي صفرة: من ضاق قلبه اتسع لسانه. وأنشدني أحمد ابن يحيى لقيس بن الحُدادية الخزاعي:

 

بكت من حديث نمّه، وأشـاعـه،

 

ولفقه واش من القـوم واضـع

بكت عين من أبكاك لا يشجك البكا

 

ولا تتخالجك الأمور الـنـوازع

ولا تسمعي سرّي وسرّك ثالـثـاً،

 

ألا كل سر جاوز اثنـين ضـائع

وأنشدني لبعض الطالبيين:  

أكافي خليلي ما اسـتـقـام بـوده،

 

وأمـنـحـه ودي، إذا يتـعـتـب

ولست ببادي صاحبي بـقـطـيعة،

 

ولا أنا مفش سره، حين أغضـب

عليك بإخوان الثـقـات، فـإنـهـم

 

قليل، فصلهم دون من كنت تصحب

وما الخدن إلا من صفـا لـك وده،

 

ومن هو ذو نصح، وأنت مـغـيب

إذا ما وضعت السر عند مُـضـيِّع،

 

فذو السر ممن ضيّع السّرّ أذنـب

وقال معاوية بن أبي سفيان: الحازم من كتم سره من صديقه مخافة أن تبدَّل صداقته عداوة، فيذيع سره. وقال بعض الشعراء:

 

تواقف معشوقين من غير مـوعـد

 

وغيب عن نجواهما كل كـاشـح

وكلّت جفون الماء عن حمل مائها،

 

فما ملكت فيض الدموع السوافـح

وإني لأطوي السرّ عن كل صاحب،

 

وإن كان للأسرار عدل الجوانـح

وكتب عبد الملك بن مروان ببعض سره إلى الحجاج بن يوسف، ففشا، حتى بلغه ذلك، فكتب إليه عبد الملك يعاتبه، فكتب إليه: والله ، يا أمير المؤمنين، ما أخبرت به إلا إنساناً واحداً. فكتب إليه عبد الملك: إن لكل إنسان نصيحاً يفشي إليه سره.

وقال بعض الشعراء في ذلك:

 

ألم ترَ أن وشـاة الـرجـا

 

ل لا يتركون أديماً صحيحاً

فلا تفش سرك إلا إلـيك،

 

فإن لكل نصيح نصـيحـا

وقال آخر:

 

إذ أنت لم تحفظ لنفسك سرهـا،

 

فسرك عند الناس أفشى وأضيع

وقال آخر:

 

أمت السر بكـتـمـان، ولا

 

يبدون منك إذا استودعت سرّ

فإذا ضقت بـه ذرعـاً فـلا

 

تجعلن سرك إلا عنـد حـرّ

وقيل لأعرابي استودع سراً فكتمه: أفهمت؟ قال: لا، بل نسيت. وأخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني ابن الأعرابي قال: قيل لأعرابي: كيف كتمانك السر؟ فقال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر.

وقيل لأعرابي: كيف حفظك للسر؟ فقال: أنا لحده.

ومما استحسنته في كتمان السر قول كثُير:

 

أتى دون ما تخشون من بث سركـم

 

أخو ثقة، سهل الـخـلائق، أروع

ضنين ببذل السر، سمـح بـغـيره،

 

أخو ثقة، عفُّ الوصال، سـمـيدع

أبى أن يبث، الدهر، ما عاش، سركم

 

سليماً، وما دامت له الشمس تطلـع

وله أيضاً:

 

كريم يميت السـر، حـتـى كـأنـه،

 

إذا استنطقوه عن حديثك، جـاهـلـه

رعى سركم في مضمر القلب والحشا،

 

شفيق عليكم، لا تـخـاف غـوائلـه

وأكتم نفسي بعض سري تـكـرمـاً،

 

إذا ما أضاع السر في الناس حاملـه

وقول صاحبه أيضاً:

 

لعمري ما استودعت سري وسرها

 

سوانا، حذاراً أن تشيع السـرائر

ولا خاطبتها مقلتاي بـنـظـرة،

 

فتعلم نجوانا العيون الـنـواظـر

ولكن جعلت اللحظ بيني وبينـهـا

 

رسولاً،فأدى ما تجن الضـمـائر

ومنه قول الآخر:

 

ليهنك مني أنني غـير مـظـهـر

 

هواك، ولو أشرفت منه على نحبي

ولو أن خلقاً كاتم الحـب قـلـبـه

 

لمتُّ، ولم يعلم بحبكـم قـلـبـي

وقال آخر:

 

لو أن امرأً أخفى الهوى عن ضميره،

 

لمتُّ، ولم يعـلـم بـذاك ضـمـير

ولكن سألقى الله، والقلـب لـم يبـح

 

بسرّك، والواشون عـنـك كـثـير

وقال العباس بن الأحنف:

 

أيا من سروري به شقـوة،

 

ومن صفو عيشي به أكدر

تجنيت تطلب ما أستـحـق

 

به الهجر، هيهات لا يقدر

وماذا يضرك من شهرتي،

 

إذا كان سرّك لا يشـهـر

أمني يُخاف انتشار الحديث،

 

وحظي في صونه أكثـر

ولو لم يكن فيه بقيا عليك،

 

نظرت لنفسي، كما تنظر

وأنشدني لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

 

ومؤتمن بالحزم في كـل أمـره،

 

وأسراره منه بحيث المقـاتـل

فلا سره عن ساحة الصدر نازح،

 

ولا هو عن سرٍّ تعـداه سـائل

ولغيره في مثله:

 

فلنقل الجبال أهون من بث

 

حديث حنت عليه الضلوع

فلك الله أننـي لـك راعٍ،

 

ما بدا كوكب، وبرق لموع

وأنشدني أحمد بن عبد الله قال: أنشدني ابن الكلبي لابن أمينة:

 

وإني على السر الذي هو داخل،

 

إذا باح أصحاب الهوى، لضموم

وإني ما استودعت، يا أم مالـك،

 

على قدم من عهدنا، لـكـتـوم

وقال أبو الطيب: الضموم: الممسك، وكذلك الزميت أيضاً. وقال آخر:

 

وحاجة دون أخرى قد شجيت بها،

 

خلفتها للذي أخفيت عـنـوانـا

إني كأني أرى من لا حياء لـه،

 

ولا أمانة، وسط الناس، عريانـا

وأنشدني أحمد بن يحيى بن الخطيم:

 

وإن ضيع الأحرار سراً، فإنني

 

كتوم لأسرار العشير، أمـين

يكون له عندي إذا ما ضمنتـه

 

مكان بسوداء الفؤاد مـكـين

وقال بشار بن برد المرعث:

 

أبكي الذين أذاقونـي مـودتـهـم،

 

حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا

لأخرجن من الـدنـيا وسـرهـم

 

بين الجوانح، لم يعلـم بـه أحـد

وأحسن، والله، الذي يقول:

 

يأبى لي الذم أخـلاق ومـكـرمة

 

مني، وأذن عن الفحشاء صمـاء

والنجم أقرب من سري إذا اشتملت

 

مني على السر أضلاع وأحشـاء

والذي قيل في ذلك كثير جداً يطول به الخطب ويتسع فيه القول. وليس قصدنا في كتابنا هذا المعنى، وإنما تقدمنا بذكر ما شرحناه ونعت ما وصفناه، لأنه لا بد للظريف من استعمال كل ما ذكرناه من حدود الأدب وشرائع المروة، واعلم أن مذهبنا في هذا المتاب إلى معنى صفة الظرف، وما يجب على الظريف استعماله، وذكر ما يجب عليه تركه، وما اخترعنا في كتابنا هذا علماً من عند أنفسنا، يجب لنا به الامتحان، ولا يلحقنا فيه عيب من عاب، إن عاب، ولا على أنه لا يطلب لفظه، ولا يمتنع عند معايبهم إلا معيب. وأنشدنا أحمد بن يحيى قال: أنشدني ابن السكيت:

 

رب غريب ناصح الجيب،

 

وابن أب متهم الـغـيب

ورب عيّاب له منـظـر

 

مشتمل منه على العـيب

ولكنا ألفناه وجمعناه من أقاويل جماعة من الظرفاء والمتظرفات، وأهل الأدب والمروات، سمعناهم، ورأيناهم يتكلمون به، ويستعملونه، فأحببنا أن نجمع ذلك، ونجعله لهواً لمن أراد سماعه، وعلماً لمن أراد اتباعه، وهدياً لمن أراد رشده، ومناراً لمن أراد قصده، وطيباً لمن أراد شمّه، وأدباً لمن أراد فهمه. وكتابنا هذا روضة تتنزه فيها العقول، وعقود جوهر زينتها الفصول، إذ لم نخله من أخبار طريفة، وأشعار ظريفة، وأشياء نمت إلينا من زي ظرفاء الناس في الطعام، والشراب، والعطر، واللباس، ومذهبهم فيما اجتنبوه من ذميم الأفعال، واستحسنوه من جميل الشيم والأخلاق، وسأشرح ذلك وأبينه باباً باباً لتقف عليه، إن شاء الله.

سنن الظرف

اعلم أن عماد الظرف، عند الظرفاء وأهل المعرفة والأدباء، حفظ الجوار، والوفاء بالذمار، والأنفة من العار، وطلب السلامة من الأوزار، ولن يكون الظريف ظريفاً، حتى تجتمع فيه خصال أربع: الفصاحة، والبلاغة، والعفة، والنزاهة.

وسألت بعض الظرفاء عن الظرف فقال: التودد إلى الإخوان، وكف الأذى عن الجيران.

وقال آخر: الظرف ظلف النفس، وسخاء الكف، وعفة الفرج.

وأخبرني أحمد بن عبيد قال: قال الأصمعي وابن الأعرابي: لا يكون الظرف إلا في اللسان. يقال: فلان ظريف، أي هو بليغ، جيد المنطق، ومنه حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع أي لأنه يكون له لسان فيحتج به، فيدفع عن نفسه.

قال: وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: الظرف مشتق من الفطنة.

وقال غيره: الظرف حسن الوجه والهيئة. وقال بعض المشيخة: الظريف الذي قد تأدب، وأخذ من كل العلوم، فصار وعاءً لها، فهو ظرف.

وقال أحمد بن عبيد: معناه أنه يعي أدباً وعلماً، كما يعي ظرف الشيء ما يكون فيه، ولذلك معنى: إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع، إذا كان واعياً للعلم لم يسرق إلا بتأول، كما فعل الشعبي، وقد دخل بيت المال، فأخذ منه دراهم، وإنما أراد به التأول لما له فيه من الحق.

وسألت بعض متظرفات القصور عن الظرف، فقالت: من كان فصيحاً عفيفاً كان عندنا متكاملاً ظريفاً، ومن كان غنياً عاهراً كان ناقصاً فاجراً.

وقال بعض الأدباء: الظرف ظلف النفس، ورقة الطبع، وصدق اللهجة، وكتمان السر. وسألت بعض الظرفاء فقال: الظرف في أربع خصال: الحياء، والكرم، والعفة، والورع؛ وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه في هذا المعنى:

ليس الظريف بكامل في ظرفه،

 

حتى يكون عن الحرام عفيفـا

فإذا تورع عن محـارم ربـه،

 

فهناك يدعوه الأنـام ظـريفـا

ومثله لبعض المتأدبين:

إن أكن طامح اللِّحاظ، فـإنـي،

 

والذي يملك العبـاد، عـفـيف

ليس ظرف الظريف بالنفس لكن

 

كل ذي عفة، فـذاك ظـريف

ابنة عبد الملك والمحبوس

وخبرت أن عبد الملك بن مروان وجد على بعض عماله فقيده وحبسه في داره، فأشرفت عليه ابنة لعبد الملك، فنظر إليها، فأنشأت تقول:

أيها الرامـي بـالـطـر

 

ف، وفي الطرف الحتوف

إن ترد وصـلاً فـقـد أم

 

كنك الظـبـي الألـوف

فأجابها الفتى، فقال:

إن تريني زاني العي

 

نين، فالفرج عفـيف

ليس إلا النظر الـفـا

 

تن، والشعر الظريف

فأجابته الجارية:

قد أردناك على أن

 

تعتنق ظبياً ألوفا

فتأبيت، فـلا زل

 

ت لقيديك حليفـا

فذاع الشعر، وبلغ عبد الملك، فدعا به فزوجه إياها، ودفعها إليه.

عبد الله القس وسلامة

واجتاز عبد الله بن عبد الرحمن، الذي كان يعرف بالقس لعبادته، بسلامة المغنية، التي صارت إلى يزيد بن عبد الملك، فسمعها وهي تغني، فوقف يستمع غناءها، فأدخله مولاها عليها، فوقعت في قلبه، ووقع بقلبها، فقالت له يوماً، وقد خلا مجلسهما: أنا، والله، أحبك. فقال: وأنا، والله، أحبك. قالت: فأنا، والله، أشتهي أن أضع فمي على فمك وألصق صدري بصدرك وأضمك إليَّ وتضمني إليك. قال: وأنا، والله، أشتهي ذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ فوالله إن الموضع لخالٍ، وما بقربنا أحد. فقال: ويحك إني سمعت الله يقول: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين فأنا أكره أن تكون خلتي لك في الدنيا منقطعة في الآخرة. ثم وثب، فانصرف.

علي بن أبي طالب والمؤذن

وكان لعلي بن أبي طالب، عليه السلام، جارية تدخل وتخرج، وكان له مؤذن شاب، فكان إذا نظر إليها قال لها: أنا، والله، أحبك، فلما طال ذلك عليها أتت علياً، عليه السلام، فأخبرته، فقال لها: إذا قال لك ذلك، فقولي: أنا، والله، أحبك، فمه. فأعاد عليها الفتى قوله، فقالت له: وأنا، والله، أحبك، فمه. فقال: تصبرين ونصبر، حتى يوفينا من يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب. فأعلمت علياً، عليه السلام، فدعا به فزوجه منها، ودفعها إليه.
وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه في هذا المعنى:

كم قد ظفرت بمن أهوى، فيمنعني

 

منه الحياء، وخوف الله، والحـذر

وكم خلوت بمن أهوى، فيقنعـنـي

 

منه الفكاهة، والتحديث، والنظـر

أهوى الملاح، وأهوى أن أجالسهم،

 

وليس لي في حرام منهـم وطـر

كذلك الحب لا إتيان مـعـصـية،

 

لا خير في لذة من بعدها سـقـر

ومثل ذلك قول الآخر:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتهـا

 

من الحرام، ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء من مغبتها،

 

لا خير في لذة من بعدها النار

ومما أستحسنه في العفة، أيضاً، ما أنشدنيه أحمد بن يحيى ثعلب لبعض نساء العرب:

وبتنا خلاف الحي لا نحن منهم،

 

ولا نحن بالأعداء مختلـطـان

وبتنا يقينا ساقط الطل والنـدى،

 

من الليل، بردا يمنة عطـران

نذود بذكر الله عنا من الصبـى،

 

إذا كاد قلبـانـا بـنـا يردان

ونصدر عن ري العفاف، وربما

 

نفينا غليل النفس بالرشـفـان

وأنشدني أحمد بن يحيى ثعلب:

أحبك لا من ريبة كان بينـنـا،

 

ولا نسب بيني وبينك شـابـك

أحبك إن خبرت أنـك فـارك،

 

لعمري إني مولع بالـفـوارك

أحب فتاة أن تشاغب زوجهـا،

 

وإن لم أنل من وصلها غير ذلك

 قال أبو الطيب: الفارك المبغضة لزوجها، يقال: قد فركت المرأة زوجها، تفركه، إذا أبغضته، وهي فارك، والرجل مفروك. ومثله قول الحسين بن مطير:

أحبك يا سلمى، على غير ريبة،

 

وما خير حب لا تعف سرائره

ومثله أيضاً قول الآخر:

أتأذنون لصـبٍَ فـي زيارتـكـم،

 

فعندكم شهوات السمع والبـصـر

لا يفعل السوء إن طال الجلوس به،

 

عفُّ الضمير، ولكن فاسق النظر

وقال محمود الوراق:

إني أحبك حباً لا لـفـاحـشة،

 

والحب ليس به في الله من باس

وأنشدني بعض الأدباء قال: أنشدني أعرابي ببلاد نجد:

ويوم كإبهام الحبارى قطعتـه

 

بمقمعة، والقوم فيهم تحـرف

إذا ما هممنا صد زي نفوسنا،

 

كما صد من بعد التهمم يوسف

قال أبو الطيب: قوله كإبهام الحبارى، يريد نهاية ما يكون من القصر وأنشدني آخر:

ما الحب إلا قبـلٌ،

 

وغمزُ كف، وعضد

أو كتب فيها رقـى،

 

أنفذ من نفث العقد

ما الحب إلا هكـذا،

 

إن نكح الحب فسد

من لم يكن ذا عفة،

 

فإنما يبغي الـولـد

ومن ذلك قول بثينة لجميل، وقد قال لها: هل لك يا بثينة أن نحقق قول الناس فينا؟ فقالت له: مه، دع حبنا مكانه، إن الحب إذا نكح فسد.

عبد الملك بن مروان وبثينة

ودخلت بثينة على عبد الملك بن مروان فقال لها: والله يا بثينة ما أرى فيك شيئاً مما كان يقول جميل. قالت: يا أمير المؤمنين، إنه كان يرنو إليَّ بعينين ليستا في رأسك. قال: وكيف صادفته في عفته؟ قالت: كما وصف نفسه حيث يقول:

لا والذي تسجد الجبـاه لـه

 

ما لي بما دون ثوبها خبـر

ولا بفيها، ولا هممت بهـا

 

ما كان إلا الحديث، والنظر

وقيل لأعرابي: هل زينت قط؟ قال: معاذ الله إنما هما اثنتان إما حرة آنف لها من فسادها، وإما أمة آنف لنفسي من فسادي إياها.

جميل في يومه الأخير

وروى عن ابن سهل بن سعد الساعدي قال: دخلت على جميل بن معمر العذري، وهو عليل، وإني لأرى آثار الموت على وجهه، فقال: يا ابن سهل! أتقول إن رجلاً يلقى الله لم يسفك دماً حراماً، ولم يشرب خمراً، ولم يأت بفاحشة، أترجو له الجنة؟ قلت: إي والله، فمن هو؟ قال: إني لأرجو أن أكون أنا ذلك الرجل. قلت: بعد زيارتك بثينة وما تحدث به عنكما؟ فقال: والله إني لفي يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، ولا أنالتني شفاعة محمد، صلى الله عليه وسلم، إن كنت حدثت نفسي فيها بريبة قط. قال: فما انقضى يومه حتى مات.

عمر بن أبي ربيع وامرأة من ربيعة

وقال الأصمعي: كان عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق جالسين بفناء الكعبة، فمرت بهما امرأة من ربيعة، وقيل من آل أبي سفيان، فدعا عمر بكتف، فكتب فيها:

ألما بذات الخال، فاستطلعا لنـا

 

على العهد باق ودها أم تصرما

وقولا لها: إن النوى أجنـبـية

 

بنا وبكم، قد خفت أن تتيمـمـا

فقال له ابن أبي عتيق: ما تريد إلى امرأة مسلمة محرمة تكتب إليها بمثل هذا؟ فقال: أترى ما سيرت في الناس من الشعر، ورب هذه البنية ما قبل منها وما دبر، ما قولت امرأة قط ما لم تقله، ولا طالعت فرج حرام قط.


وقيل لكثير عزة: هل نلت من عزة شيئاً طول مدتك؟ فقال: لا والله، إلا أنه ربما كان يشتد بي الأمر، فآخذ يدها، فأضعها على جبيني فأجد لذلك راحة.

الأعرابي المتعفف

وقال أعرابي، وخلا بامرأة كان يتعشقها: ما زال القمر يرينها، فلما غاب أرتينه، قيل: فما كان بينكما؟ قال: أقصى ما أحل الله وأدنى ما حرم الله عز وجل، إشارة في غير باس، ودنو في غير مساس، وأنشأ يقول:

ولرب لذة ليلة قد نلتهـا،

 

وحرامها بحلالها مدفوع

الأعرابي العاشق

قال أعرابي من فزاراة: عشقت جارية من الحي، فحادثتها سنين كثيرة، والله ما حدثت نفسي بريبة قط، سوى أن خلوت بها، فرأيت بياض كفها في سواد الليل، فوضعت كفي على كفها،فقالت: مه! لا تفسد ما صلح. فارفض جبيني عرقاً، ولم أعد.

تعريف الظرف

 واعلم أن الظرف ليس بمستغنى عنه، ولا هو مما يخل منه، ولا يعنف فيه صاحبه، ولا يفند عليه طالبه، بل هو أنبل ما استعمله العلماء وصبا إليه الأدباء وتزينوا به عند أودائهم، وتحلوا به عند أخلائهم، وربما تكلفه قوم ليس من أهله فظرف، وعاناه فلطف، وأنه من المطبوعين أحسن منه من المتكلفين، وللمتكلف علامات تظهر في حركاته وتبين في لحظاته، لا يسترها بتصنعه، ولا تتغيب بتستره، وإن المطبوع على الظرف ليشهد له القلب، عند معاينته، بحلاوته، وتسكن النفس عند لقائه إلى مجالسته، وتصبو إلى محادثته، وترتاح إلى مشاهدته، وهو بين في شمائله، ظاهر في خلائقه، بين في منطقه، غير مستتر عند صمته، دلائله واضحة في مشيته وزيه ولفظه، يستدل عليه بظاهر حركة الملاحة دون اختبار باطن الحلاوة، ألا ترى أن من زيهم التقزز، والنظافة، والملاحة واللطافة، وإظهار البزة، وطيب الرائحة، فالنفوس إليهم تائقة، والقلوب وامقة، والعيون رامقة، والأرواح عاشقة.

وإن من زيهم الوقار، والخشوع، والسكون، والخضوع، والتصنع بالأخلاق الوضية، والشيم السنية، والمذاهب الجميلة، والهمم الجليلة. ومما يستدل به على كمال أدبهم، ويعرف به رجحان هممهم، كثرة استعمالهم الهوى، وطول معاناتهم الجوى، وهو من أحسن مذاهبهم، وأجل مناقبهم. ولسنا نقول إن الهوى ليس بفرض على ذوي العقل، كما قال ذو التقصير والجهل، بل هو من أوكد الفرض عليهم، وأثبت الحجة للمتفرس الناظر إليهم على حسن تركيب الطباع والغرائز، وصفاء جواهر الهمم والنحائز، إذ هو عند ذوي العلوم والأحكام من أجمل مذاهب الأدباء والكرام، وقال محمود الوراق في ذلك، إذ كان الحب عنده كذلك:

ألم تعلم، فداك أبي وأمي،

 

بأن الحب من شيم الكرام

وليس يخلو أديب من هوى، ولا يعرى من ضنىً، لأن الهوى كما وصفته العلماء، وكما قال فيه الحكماء، إنه هو أول باب تفتق به الأذهان، وينفسح به الجنان، وله سورة في القلب يحيا بها اللب، وقد يشجع الجبان، ويسخي البخيل، ويطلق لسان العي، ويقوي حزم العاجز، ليأنس به الجليس، ويمتنع به الأنيس، ويذل له العزيز، ويخضع له المتجبر، ويبرز له كل محتجب، وينقاد له كل ممتنع، وهو أمير مطاع، وقائد متبع، وليس بأديب عندهم من خرج من حدّ الهوى. وقد قال الأحوص بن محمد الأنصاري:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى،

 

فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا

هل العيش إلا ما تلذ وتشـتـهـي

 

وإن لام فيه ذو الشنـان، وفـنـدا

مجنون ليلى

واجتاز رجل بمجنون بني عامر، وهو يخوض سور الحوض، فقال له: ما بك يا فتى؟ ولم يعرفه، فأنشأ يقول:

بي اليأس، أو داء الهيام أصابني،

 

فإياك عني لا يكن بك مـا بـيا

قال أبو الطيب: الهيام داء يأخذ الإبل، وتشرب الماء ولا تروى. ويقال للإبل التي يُصيبها ذلك الهيم. قال الله جل ثناؤه: فشاربون شرب الهيم، فعرفه، فقال: أعاشق أنت؟ قال: نعم، وأنشأ يقول:

إذا أنت لم تعشق فتصبح هائماً،

 

ولم تك معشوقاً، فأنت حمـار

وقال:

الحب أول ما يكون لجاجة،

 

تأتي به، وتسوقه الأقـدار

لا بأس بالعشق

وروينا عن الهزنادي عن هشام عن ابن سيرين قال: كانوا لا يرون بالعشق بأساً في غير ريبة. وقيل لبعض البصريين: إن ابنك قد عشق، فقال: وما بأس به، إنه إذا عشق نظف وظرف ولطف. وقيل لبعض العرب: متى يكون الفتى بليغاً؟ قال: إذا وصف هوىً حياً. وأنشدني بعض الأدباء:

وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى،

 

وما خير فيمن لا يحب ويعـشـق

وقال آخر:

وما تلفت إلا من العشق مهجـتـي،

 

وهل طاب عيش لامرئ غير عاشق

وقال آخر:

وما خير في الدنيا، إذا أنت لم تزر

 

حبيباً، ولم يطرب إليك حـبـيب

وقال آخر:

وما سرني أني خلي من الهـوى،

 

ولا أن لي ما بين شرق إلى غرب

علامات الهوى

واعلم أن أول علامات الهوى على ذي الأدب نحول الجسم، وطول السقم، واصفرار اللون، وقلة النوم، وخشوع النظر، وإدمان الفكر، وسرعة الدموع، وإظهار الخشوع، وكثرة الأنين، وإعلان الحنين، وانسكاب العبرات، وتتابع الزفرات، ولن يخفى المحب، وإن تستر، ولا ينكتم هواه، وإن تصبر، ولن يغبى ادعاء أنه قد قارن العشق والهوى، لأن علامات الهوى نائرة، وآيات الادعاء ظاهرة. وقد قال الأحوص الأنصاري:

ما عالج الناس مثل الحب من سقم

 

ولا برى مثله عظماً، ولا جسدا

ما يلبث الحب أن تبدو شواهـده

 

من المحب وإن لـم يبـده أبـداً

وقال آخر:

ما يعرف الحزن إلا كل من عشقـا

 

وليس من قال إني عاشق صـدقـا

للعاشقين نحـول يعـرفـون بـه،

 

من طول ما حالفوا الأحزان والأرقا

وحدثت عن الزبير بن بكار قال: رأيت رجلاً بناحية الثغر عليه أثر ذلة وخضوع، واستكانة وخشوع، كان يكثر التنفس، ويخفي السكوت، ويبدي الأنين، وحركات المحب لا تخفى في شمائله، ولا يسترها بتصاونه، فسألته في بعض أيامه، وقد خلوت به، عن حاله، فكان جوابه، وقد تحدرت الدموع من عينيه:

أنا في أمري رشاد،

 

بين غزو وجـهـاد

بدني يغزو عـدوي،

 

والهوى يغزو فؤادي

سكينة وابن أذينة

وركبت سكينة ابنة الحسين بن علي ذات ليلة في جواريها، فمرت بعروة بن أذينة الليثي، وهو في فناء قصر ابن عيينة، فقالت لجواريها: من الشيخ؟ فقالوا: عروة. فعدلت إليه فقالت: يا أبا عامر! أنت تزعم أنك لم تعشق قط، وأنت تقول:

قالت وأبثثتها وجدي، فبحـت بـه:

 

قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر

ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها:

 

غطى هواك وما ألقى على بصري

كل من ترى حولي من جواري أحرار إن كان خرج هذا الكلام من قلب سليم قط. فهذان قد كتما هواهما فنمت شواهد نجواهما، لأن من اغتمس في بحر الهوى نمت عليه شواهد الضنى؛ فأما أهل الدعاوى الباطلة الذين ليست أجسامهم بناحلة، ولا ألوانهم بحائلة، ولا عقولهم بذاهلة، فهم عند ذوي الفراسة يكذبون، وعند ذوي الظرف لصحتهم يوبخون.

العباس بن الأحنف والجارية العاشقة

وقد روي أن العباس بن الأحنف قال: بينا أنا بالطواف إذا بثلاث جوار أتراب، فلما أبصرنني قلن: هذا العباس؛ ودنت إليَّ إحداهن، فقالت: يا عباس! أنت القائل:

ماذا لقيت من الهوى وعذابه،

 

طلعت عليَّ بلية من بابـه

قلت: نعم! قالت: كذبت، يا ابن الفاعلة، لو كنت كذاك كنت كأنا، ثم كشفت عن أشاجع معراة من اللحم، وأنشأت تقول:

ولما شكوت الحب قالت: كذبتنـي،

 

فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا

فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا،

 

وتخرس، حتى لا تجيب المنـادي

المأمون وعمه إبراهيم

ودخل إبراهيم بن المهدي على أمير المؤمنين، وكان إبراهيم أثجل البطن، كثير اللحم والشحم، فقال له المأمون: بالله يا عمّ! عشقت قطّ؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، وأنا الساعة عاشق. قال: وأنت على هذه الجثة والشحم الكثير! ثم أنشأ المأمون يقول:

وجه الذي يعشق معروف،

 

لأنه أصفر مـنـحـوف

ليس كمن أمسى له جـثة،

 

كأنه للذبح مـعـلـوف

فأجابه إبراهيم بن المهدي:

وقائل لست بالمحب، ولـو

 

كنت محباً لذبت من زمـن

فقلت قلبي مكاتـم بـدنـي

 

حبي، فالحب فيه مختـزن

أحب قلبي، وما درى بدني،

 

ولو درى ما أقام في السمن

هذان أيضاً قد ادعيا المحبة، ففضحهما شاهد النظر، ولم يجز ادعاؤهما على ذي المعرفة والبصر، وقول إبراهيم: أحب قلبي وما درى بدني محال، لا يعلق القلب، فيسلم الجسم، ولكنه لاستحيائه قد احتج بحجة ضعيفة؛ وأنشدني بعض المشيخة في مثل ذلك:

وقائلة ما بال جسمك سالـمـاً،

 

وعهدي بأجسام المحبين تسقـم

فقلت لها: قلبي لجسمي لم يبـح

 

بحبي، فجسمي بالهوى ليس يعلم

مدح الضمر وذم السمن

فالعرب تمدح بالضمر وتذم بالسمن وتنسب أهل النحول إلى الأدب والمعرفة، وأهل السمن إلى الفدامة وقلة الفهم. وللفلاسفة والأطباء في ذلك قول يثبت ما ادعت العرب. وزعموا أن من غلب عليه البلغم عظم جسمه، وكثر شحمه ولحمه، وقلَّ فهمه، وطال سباته، وانعقد لسانه لغلبة البلغم على قلبه، واحتواء الرطوبة على لبه. ومن كان أغلب مزاجاته المرة خف جسمه، وقلّ لحمه وذاب شحمه وحسن ذهنه وصح فهمه، لأن النحول علامة المتفرسين، ودلالة المتوسمين، لا يكاد أن تخطئ فيه الفراسة، ولا تكذب فيه العيافة، لما أخبرتك من غلبة أحد المزاجين على صاحبه، وابتناء قراره في مركبه، وربما أنجب السمن وخاب الهزال، ولا يكون ذلك إلا في الفرد الشاذ من الرجال. ومن أمثال العرب في ذلك: البِطنة تذهب الفطنة.

جميل بن معمر والبطين

وروي أن جميل بن معمر العذري صحبه رجل من عذرة وكان بطيناً أكولاً، فجعل يشكو إليه هوى ابنة عم له، فأنشأ جميل يقول:

وقد رابني من جعفر أن جـعـفـراً

 

ملح على قرص، ويشكو هوى جمل

فلو كنت عذري الهوى لم تكن كـذا

 

بطيناً، وأنساك الهوى كثرة الأكـل

كيف يكون العاشق

ومن عشق عندهم، فلم ينحل جسمه، ولم يطل سقمه، ويتبين الخشوع في حركته، والذل في نغمته، نسبوه إلى فساد الطبع، ونقصان اللب، وبعد الفهم، وموت القلب. ومن ادعى المحبة، فلم ينحل، ولم يسهر، ولم يخشع، ولم يذل، ولم يخضع، ولم يحمل نفسه على الأمور المتعبة والشدائد الفظيعة، ويركب فيها المراكب الوعرة، ويتقدم على الأشياء المهولة والأهوال المخوفة التي يلاقي فيها الموت، ويعاين فيها الفوت، ويباشر فيها الهلكة، ويغرر فيها بالمهجة، ويصبر منها على حتفه، ويخاطر بنفسه، ويرد الموارد التي يلاقي فيها الموت ويشرف منها على مهول الأمر الذي فيه تلفه وحينه، وحتى يعصي في هواه الأقارب، ويعالج فيه العجائب، فيكون كما قال العرجي:

كم قد عصيت إليك من متنصح،

 

داني القرابة، أو وعيد أعـادي

وتنوفة أرمي بنفسي عرضهـا

 

شوقاً إليك، بلا هداية هـادي

وكما قال سويد بن أبي كاهل:

كم جشمنا دون سلمى مهمـهـاً،

 

نازح الغـور، إذا الآل لـمـع

وكذاك الشوق مـا أشـجـعـه،

 

يركب الهول، ويعصي من وزع

فليس بعاشق عندهم، ولا يثبت له اسم الهوى، ولا يلحق بالظرفاء،ولا يعد في الأدباء ، لأن الهوى عندهم في النحول، والذهول، والضنى، والعناء، والأرق، والقلق، والسهر، والفكر، والذل والخضوع والانكسار والخشوع وإدمان البكاء وقلة العزاء، وكثرة الأنين وطول الحنين، وليس بعاشق من خرج عن هذه الصفات، وانتقل من هذه الحالات، أو وسيم بغير هذه العلامات، وعرف بغير هذه الدلالات.

أنشدني بعض الأدباء:

علامة من كان الهوى في فؤاده،

 

إذا ما لقي أحبابـه يتـحـيروا

ويصفر لون الوجه بعد احمراره،

 

فإن حركوه للكـلام تـشـورا

أنشدني أبو الحسن بن الرومي:

أرى ماء، وبي عـطـش شـديد،

 

ولكن لا سـبـيل إلـى الـورود

أما يكفيك أنـك تـمـلـكـينـي،

 

وأن الخلق كـلـهـم عـبـيدي

وأنك لو قطعـت يدي ورجـلـي،

 

لقلت، من الهوى: أحسنت، وزيدي

المأمون ومخارق

وحدثنا عن ابن مخارق عن أبيه قال: كنا عند المأمون يوماً فقام فدخل إلى حرمه، وخرج وعيناه تذرفان، فقال لي: يا مخارق تغنّ لي بهذين البيتين:

سلام على من لم يطق عند بينه

 

سلاماً، فأومى بالبنان المخضب

فما اسطعت إلا بالبكاء جوابـه،

 

وذلك جهد المستهام المعـذب

فحفظتهما، وتغنيت بهما، فجعل يبكي، وينتحب في بكائه، ويزفر، ثم قال لنا: أتدرون ما قصتي؟ قلت: أمير المؤمنين أعلم، وإن شاء أعلمنا. قال: إني دخلت إلى بعض المقاصير، فرأيت جارية لي كنت أجد بها وجداً شديداً، وهي للموت، فسلمت عليها، فلم تطق رد السلام، فأشارت بإصبعها، فغلبتني العبرة وأرهقتني الزفرة، فخرجت من عندها، فحضرني هذان البيتان من باب قصرها إلى باب مجلسي، ثم أمر برفع الشراب، فما رأيت يوماً أكدر منه.
وأنشدت للمعتصم في بعض جواريه:  

أيا منقذ الغرقى أجرني من الـتـي

 

بها نهلت روحي سقاماً، وعـلّـت

لقد بخلت، حتى لو أني سألـتـهـا

 

قذى العين من سافي التراب لضنت

وأنشدت للمتوكل في جارية له:

أمازحها فتغضب ثم ترضى،

 

وكل فعالها حسن جـمـيل

فإن تغضب فأحسن ذات دلٍ؛

 

وإن ترض، فليس لها عديل

المتوكل وجاريته قبيحة

حدثني أبو العباس بن الفضل الربيع قال: حدثني علي بن الجهم قال: حُمَّ المتوكل يوماً وكان ذلك بعقب شرٍ وقع بينه وبين قبيحة فرماها بمخدة، فغضبت، واحتجبت، فحمّ بعقب ذلك، ودخلنا عليه وإذا الفتح قائم، في يده قارورة فيها الماء، ويحيى بن ماسويه ينظر إليها، فقال: ليس أرى إلا ما أحب، فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدك أبياتاً؟ فقال لي: أنشد. فأنشدته:

تَنكر حال علتي الـطـبـيب،

 

فقال: أرى بجسمك مـا يريب

جسست العرق منك، فدلّ عندي

 

على داء له شـأن عـجـيب

فما هذا الذي بك؟ هات قل لي،

 

فكان جوابه مني الـنـحـيب

فجسمي بالحبيب بلي سقـامـاً،

 

وقلبي، يا طبيب، هو الكـئيب

فحـرّك رأسـه، ودنـا إلـي،

 

وقال: الحب ليس له طـبـيب

فأعجبني تظـرفـه عـلـيّ،

 

فقلت: بلى، إذا رضي الحبيب

فقال: هو الشفاء، فـلا تـوان،

 

فقلت: أجل، ولكن لا تـجـيب

ألا هل مسعد يبكي لشـجـوي،

 

فإني هاهـنـا أبـداً غـريب

فضحك ودعا بالشراب، وشرب وشربنا معه، ووجه إلى قبيحة، فوقع الصلح بينهما وخرجت عندها رقعة بخطّ فضل الشاعرة:

لأصبرنّ على ما بي من المضض،

 

حتى أموت، ولا يشعر بي النـاس

ولا يقال شكا من كان يعـشـقـه،

 

إن الشكاة لمن يهوى هو الـياس

ولا أبوح بسر كنـت أكـتـمـه،

 

عند الجليس، إذا ما دارت الكـاس

من اشتهروا بالعشق

وأما من عشق من الشعراء فما يحصرهم عدد، ولا يحصيهم أحد. وقد عشق أكثر العرب، بل كلهم قد عشق، فمن المذكورين منهم المشتهرين بالصبوة والغزل: فقيس مجنون بني عامر عشق ليلى، وقيس بن ذريح عشق لبنى، وتوبة بن الحمير عشق ليلى الأخيلية، وكثير عشق عزة، وجميل بن معمر عشق بثينة، والمؤمل عشق الذَّلفاء، ومرقش عشق أسماء، ومرقش الأصغر عشق فاطمة بنت المنذر، وعروة بن حزام عشق عفراء، وعمرو بن عجلان عشق هند، وعلي بن أديم عشق منهلة، والمهذب عشق لذة، وذو الرمة عشق مية، وقابوس عشق منية، والمخبل السعدي عشق الميلاء، وحاتم طيء عشق ماوية، ووضاح اليمن عشق أم البنين، والغمر بن ضرار عشق جُمل، والنمر بن تولب عشق حمزة، وبدر عشق نعم، وشبيل عشق فالون، وبشر عشق هند، وعمرو عشق دعد، وعمر بن أبي ربيعة عشق الثريا، والأحوص عشق سلامة، وأسعد بن عمرو عشق ليلى بنت صيفي، ونصيب عشق زينب، وسحيم عبد بني الحسحاس عشق عميرة، وعبيد الله بن قيس عشق كثيرة، وأبو العتاهية عشق عتبة، والعباس بن الأحنف عشق فوز، وأبو الشيص عشق أمامة. فهؤلاء قليل من كثير ممن عشق، وإنما اقتصرنا على ذكر بعضهم دون بعض ليقل به الخطاب ويحسن به الكتاب، ولكل واحد منهم سبب في حبه، وحديث في عشقه يطول شرحه، ويكثر وصفه، ونحن مفردون لأهل العشق كتاباً نذكر فيه أخبار المتيمين، وملح المتعشقين، وأشعار المتغزلين مع جملة من صفات الهوى في كتاب المقتفى، إن شاء الله تعالى.

وقد شهر أيضاً بالصبوة والغزل جماعة من شعراء العرب، منهم: أبو كثير الهذلي، وأبو صخر الهذلي، وأبو دهبل الجمحي، وريسان العذري، والصمة بن عبد الله القشيري، وابن أذينة، وابن الدمينة، وابن الطثرية، وابن ميادة، والحسين بن مطير إلى آخرين، لا يحصيهم العدد، ولا يبلغهم الأمد، وقد ضرب في عروة بعشقه المثل، لأنه كان أطولهم صبوة، وأكثرهم في العشق كثرة.

أنشدني أحمد بن يحيى لأبي وجزة السعدي:

وفي عروة العذري،إن مت، أسوة،

 

وعمرو بن عجلان الذي فتنت هند

وبي مثل ما ماتا به غـير أنـنـي

 

إلى أجل لم يأتني وقـتـه بـعـد

هل الحب إلا عبرة بعـد زفـرة،

 

وحرٌّ على الأحشاء ليس له بـرد

وفيض دموع العين بالليل كلمـا

 

بدا علمٌ من أرضكم لم يكن يبدو

وقال كثير:

وأصبحت مما أحدث الدهر خاشعاً،

 

وكنت لريب الدهر لا أتخـشـع

وعروة لم يلق الذي قد لـقـيتـه

 

بعفراء، والنهدي مـا أتـفـجـع

وقال جرير:

هل أنت شافية قلباً يهيم بـكـم،

 

لم يلق عروة من عفراء ما وجدا

وقال أيضاً:

بالعنبرية والنحـيت أوانـس

 

قدن الهوى بتخلـب وعـذام

هل لا نهينك أن قتلن مرقشاً

 

أم ما صنعن بعروة بن حزام

وقال الأحوص الأنصاري:

لا شك أن الذي بي سوف يقتلني،

 

إن كان أهلك حب قبلـه أحـدا

أحببتها، فوتغت الناس كـلـهـم،

 

يا رب لا تشفني من حبها أبـدا

لو قاس عروة والنهدي وجدهما،

 

لكان وجدي بسعدى فوق ما وجدا

وقال أيضاً:

إذا جئت قالوا قد أتى، وتهامسـوا،

 

كأن لم يجد فيما مضى أحد وجدي

فعروة سنَّ الحبَّ قبلي، إذ شقـي

 

بعفراء، والنهدي مات على هنـد

وقال جميل بن معمر:

وما وجدت وجدي بـهـا أم واحـد،

 

ولا وجد النهدي وجدي على هـنـد

ولا وجد العذري عروة، إذ قـضـى

 

كوجدي ولا من كان قبلي، ولا بعدي

على أن من قد مات صـادف راحة،

 

وما لفؤادي مـن رواح ولا رشـد

وقال مروان بن أبي حفصة:

أردين عروة والمرقش قبلـه،

 

وأخا بني نهد تركن قـتـيلا

ولقد تركن أبا ذؤيب هائمـاً،

 

ولقد قتلن كثـيراً وجـمـيلا

وتركن لابن أبي ربيعة منطقاً،

 

فيهن أصبح سائراً محمـولا

وأنشدني عمرو بن قنان لنفسه:

إن الأولى ماتوا على دين الهوى

 

وجدوا المنية منهلاً معـسـولا

قيسٌ، وعمرو، والمرقش قبلهم،

 

كانوا لتنزيل الـهـوى تـأويلا

ندبوا الطلول لأهلها، لا لأنهـم

 

عشقوا مغاني أربع وطـلـولا

ولبعض المتأدبين:

يا عذولي قد هويت فكـفـا،

 

إنني بالهوى المميت رضيت

مات قيس، وعروة، وجميل

 

وأُراني بموتهم سـأمـوت

وقال جميل بن معمر:

قد مات قبلي أخو نهدٍ وصاحبـه

 

مرقش واشتفى من عروة الكمد

وكلهم كان في عشق منـيتـه،

 

وقد وجدت بها فوق الذي وجدوا

إن لم تنلني بمعروف تجود بـه،

 

أو يدفع الله عني الواحد الصمد

وقد أحسنت، والله، امرأة من خثعم، إذ تقول:

فأقسم أني قد وجدت بجحوش

 

كما وجدت عفراء بابن حزام

فما أنا إلا مثلها، غير أننـي

 

معلقة نفسي لـيوم حـمـام

وأحسن الذي يقول:

عجبت لعروة العذري أضحى

 

أحاديثاً لقـوم بـعـد قـوم

وعروة مات موتاً مستريحـاً،

 

وكيف بميت فـي كـل يوم

وبلغنا أن منهم من عشق صورة في حمَّام، وخيالاً في منام، وكفاً في حائط، ومثالاً في ثوب. والعشق ألوان وأنواع وضروب وفنون، وأمره عجيب. وقال بعض الشعراء:

أبيت كأني للكواكب عـاشـق،

 

فأكثر همي أن تزول الكواكب

عجبت لما يلقى من العشق أهله،

 

وفيما يلاقي العاشقون عجـائب

وبلغ العشق من عروة بن حزام أن أفرده ببلائه، وعذّبه بدائه، وآنسه بانفراده، وشرّده عن بلاده.

موت عروة بن حزام

وحكي عن ابن أبي عتيق قال: بينا أنا أسير في أرض بني عذرة، إذا أنا ببيت حرير، فدنوت منه، فإذا عجوز تمرض شاباً، وقد نهكته العلة، وبانت عليه الذلة، فسألتها عن خبره، فقالت: هذا عروة بن حزام، فدنوت منه فسمعته يقول:

من كان من أمهاتي باكياً لغـدٍ،

 

فاليوم إني أراني اليوم مقبوضا

تسمعيه، فإني غير سـامـعـه،

 

إذا علوت رقاب القوم معروضا

فقلت: أنت عروة بن حزام؟ قال: نعم، أنا الذي أقول:

جعلت لعراف اليمامة حكمة،

 

وعراف نجد إن هما شفياني

فقالا: نعم تشفى من الداء كله،

 

وقاما مع العواد يبـتـدران

فما تركا من سلوة يعلمـانـهـا،

 

ولا شربة، إلا بها سـقـيانـي

فقالا: شفاك الله، والله ما لـنـا،

 

بما حملت منك الضلـوع، يدان

فلهفي على عفراء لهفاً كـأنـه

 

على النحر والأحشاء حدُّسنـان

فعفراء أحظى الناس عندي مودة،

 

وعفراء عني المعرض المتواني

ثم خفق خفقة، فتوهمت أنها غشية، فتنحيت عنه ودنت العجوز منه، فما برحت حتى سمعت الصيحة، فإذا هو قد فارق الدنيا.

مجنون بني عامر وليلاه

وبلغ العشق أيضاً من مجنون بني عامر أن أخرجه إلى الوسواس والهيمان وذهاب العقل، وكثرة الهذيان، وهبوط الأودية، وصعود الجبال، والوطء على العوسج وحرارة الرمال، وتمزيق الثياب واللعب بالتراب، والرمي بالأحجار، والتفرد بالصحاري والاستيحاش من الناس، والاستئناس بالوحش حتى كان لا يعقل عقلاً، فإذا ذكرت ليلة ثاب إليه عقله، وأفاق من غشيته وتجلت عنه غمرته، وحدثهم عنها أصحَّ الرجال عقلاً، وأخلصهم ذهناً، لا ينكرون من حديثه شيئاً، فإذا قطع ذكرها رجع إلى وسواسه وهذيانه وتماديه في ذهاب عقله.

وقد حكي عنه في أول ابتداء وسواسه أنه قيل لأبيه: لو أخرجت قيساً، أيام الموسم، وأمرته بأن يتعلق بأستار الكعبة، ويقول: اللهم أرحني من حب ليلى، لعل الله كان يريحه من ذلك، ففعل. فلما طاف بالبيت أمره، فتعلق بأستار الكعبة، وقال: قل اللهم أرحني من حب ليلى. فقال: اللهم زدني لليلى حباً إلى حبها، وأرني وجهها في خير وعافية! فضربه أبوه، فأنشأ يقول:

ذكرتك، والحجيج له ضجـيج

 

بمكة والقلوب لهـا وجـيب

فقلت، ونحن في بلد حـرام،

 

به لله أخلصت الـقـلـوب:

أتوب إليك، يا رحمن، ممـا

 

عملت، فقد تظاهرت الذنوب

وأما من هوى ليلى وتركـي

 

زيارتها، فـإنـي لا أتـوب

وكيف، وعندها قلبي رهين،

 

أتوب إليك منهـا، أو أنـيب

وقال أيضاً:

دعا المحرمون الله يستغفرونه،

 

بمكة شعثاً، كي تمحى ذنوبهـا

وقلت لرب الناس: أول سؤلتي

 

لنفسي ليلى، ثم أنت حسيبهـا

فإن أُعط ليلى في حياتي لا يتب

 

إلى الله عبد توبة لا أتوبـهـا

وقال أيضاً:

فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى،

 

وبالريح لم يسمع لهـن هـبـوب

ولو أنني أستغفر الـلـه كـلـمـا

 

ذكرتك لم يكتـب عـلـيّ ذنـوب

وبات في بعض ليالي حجه تحت شجرة، فانتبه بنوح حمامة فأنشأ يقول:

لقد هتفت في جنح ليل حمـامة

 

على فنن تدعو، وإني لـنـائم

فقلت اعتذاراً عند ذاك، وإننـي

 

لقلبي، فيما قـد رأيت، لـلائم

أأزعم أني عاشق ذو صـبـابة

 

بليلى، ولا أبكي، ويبكي الحمائم

كذبت، وبيت الله، لو كنت عاشقاً

 

لما سبقتني بالبكاء الـحـمـائم

وسمع هاتفاً من الليل، وهو ينادي: يا ليلى، فخرّ مغشياً عليه، ثم أفاق، وهو يقول:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منـى

 

فهيج أحزان الفـؤاد، ومـا يدري

دعا باسم ليلى، أسخن الله عـينـه،

 

وليلى بأرض عنه نـازحة قـفـر

عرضت على قلبي الغراء،فقال لي:

 

من الآن فاجزع لا أعزك من صبر

إذا بان من تهوى وأسلمك النـوى،

 

ففرقة من تهوى أحر من الجمـر

وقال أيضاً:

فلبيك من داع دعا، ولو أنـه

 

صدى بين أحجار لظل يجيبها

وقد أحسن، إذ حكم على صدى في مسه بالإجابة لدعوتها والمبادرة إلى تلبيتها، وهكذا فلتكن غلبة العشق، وصدق الهوى. ومثل ذلك قوله أيضاً:

لمست ثيابي، إن قدرت، ثيابهـا،

 

ولم ينهني عن مسهنّ حرامهـا

ولو شهدتني، حين تحضر ميتتي،

 

جلا سكرات الموت عني كلامها

ومثل ذلك قول الآخر:

ولو كلمتنا بين زمزم والـصـفـا،

 

وبين حطيم البيت أصبى كلامهـا

ولو مكثت بعد التـطـوع سـاعة

 

بمكة ولاها الصـلاة إمـامـهـا

ولو نطقت، والموت يجري ظلامه،

 

لجلى ظلام الموت عني ابتسامهـا

ومنه قول جميل بن معمر:  

حلفت يميناً، يا بثينة، صادقـاً،

 

فإن كنت فيها كاذباً لعـمـيت

حلفت لها بالبدن تدمى نحورها،

 

لقد شقيت نفسي بكم وعنـيت

فلو أن جلداً غير جلدك مسّني،

 

وباشرني دون الشعار شـريت

ولو أن داع منك يدعو جنازتي،

 

وكنت على أيدي الرجال حييت

ومثله قول الأعشى:

عهدي بها في الحي قد سُربلت

 

صفراء مثل المهرة الضامر

لو أسندت ميتاً إلى نحـرهـا

 

عاش، ولم ينقل إلى قـابـر

حتى يقول الناس ممـا رأوا:

 

يا عجباً للمـيت الـنـاشـر

قد حجم الثدي على نحرهـا،

 

في مشرق ذي بهجة زاهـر

ومثله قول المجنون أيضاً:

ولو كنت أعمى أخبط الأرض بالعصا

 

أصمَّ، فنادتني أجـبـت الـمـنـاديا

وأشهد، عند اللـه، أنـي أحـبـهـا

 

فهذا لها عندي، فما عـنـدهـا لـيا

قال: وسرق هذا المعنى جميل بن عبد الله بن معمر فقال:

ألا ليتني أعمى، أصم، تقودني

 

بثينة، لا يخفى علَّ كلامهـا

فهؤلاء قد زعموا أن كلام النساء ينجلو العمى، ويسمع الصم ويحيي الميت، ويدفع الموات وينشر القبور من قبل أوان النشور، وقد قال بعض الأعراب: إن من كلام النساء ما يقوم مقام الماء فيروي من الظماء. وقال آخر: حلاوة نغم النساء في الآذان ألذ من موقع الماء العذب من العطشان. وقال القطامي في مثل ذلك:

وفي الخدور غمامات برقن لنـا،

 

حتى تصيدنا من كل مصـطـاد

قتلنا بـحـديث لـيس يعـلـمـه

 

من يتيقن ولا مكـنـونـه بـادي

وهن يندبن من قول يُصـبـن بـه

 

مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

وعمر بن أبي ربيعة يقول في سكينة ابنة الحسين بن علي رضي الله عنهما:

أسكين ما ماء الفرات وبـرده

 

مني على ظمأٍ وحب شراب

بأحب منك، وإن نأيت، وقل ما

 

ترعى النساء أمانة الغـياب

ولبعض المتأدبين في مثله:

والله ما شربة من مـاء غـادية،

 

إذا ظمئت، وكرب الموت يغشاني

ألذ من شربة من فيك أجرعهـا،

 

تلك الشفاء لقلب الهائم العـانـي

وروي أن عمر بن أبي ربيعة قال: أتتني امرأتان في أيام غزلي، فجعلت إحداهما تسرّ إلي سراً، والأخرى تعضني، فما شعرت بعضة هذه من لذة سراره هذه.

ودخل كثير على عبد الملك بن مروان فقال: يا كثير حدثني ببعض أخبار جميل! فقال: نعم، يا أمير المؤمنين، لقيت جميلاً ذات يوم، فقال: هل لك في المسير معي نحو بثينة؟ قلت: نعم، فسايرته، حتى دنا من موضعها، فقال: تصير إليها، فتعلمها بمكاني، فمضيت، فأعلمتها، فأقبلت في نسوة من الحي، فلما رأينه انصرفن عنها، وتنحيت عنهما، فلم يزالا من أول الليل إلى أن رهقهما الصبح قائمين في أقدامهما، فلما عزما على الافتراق قالت: ادن مني يا جميل! فدنا منها، فأسرت إليه سراً، فخر مغشياً عليه فما أيقظه إلا حر الشمس، فأفاق، وأنشأ يقول:

فما ماء مزن من جبال منـيفة،

 

ولا ما أكنت في معادنها النحل

بأشهى من القول الذي قلت بعدما

 

تمكن في حيزوم ناقتي الرحـل

وقال جرير أيضاً:

ولقد رمينك يوم رحن، بأعـين،

 

يقتلن من خلل الستور، سواجي

وبمنطق شغف الفؤاد كـأنـه

 

عسل يجدن به بغـير مـزاج

وقال الفرزدق:

إذا هن ساقطن الحديث، كـأنـه

 

جنى النحل، أو أبكار كرم تقطف

تراهن من فرط الحياء كـأنـهـا

 

مراض سلال، أو هوى لك نزف

وليس يمكن أن يكون ذلك عندهم كذلك.

وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من وجوه شتى بأحاديث صحت عن الثقات، ونقلت عن الرواة: إن حبك للشيء يعمي ويصم. وليس بعجب ما قال المجنون وأشباهه من غلبة العشق عليهم، وقد قال غيره أعظم مما قاله، وأقطع، وأجل. ولقد رأينا وسمعنا وخُبرنا أن منهم من قتل نفسه غرقاً، وذبحاً، وخنقاً، كل ذلك أسفاً وحسرة وتلهفاً.

ثلاثة أماتهم الحب

فمن ذلك ما حكي عن شيخ حضر مجلس العتبي، فأخبرهم أنه حضر مجلساً فيه قينة وفتى، وكان الفتى يهوى القينة وكانت القينة تهوى ابنة الشيخ، وابنه الشيخ تهوى الفتى، فغنت القينة:

علامة ذل الهـوى

 

على العاشقين البكا

ولا سيما عـاشـق

 

إذا لم يجد مشتكى

فقال لها الفتى: أحسنت، والله، يا ستي، أتأذنين لي أن أموت؟ قالت: مت راشداً؛ فوضع رأسه على الوسادة، وغمض عينيه، فحركناه فوجدناه ميتاً. قال الشيخ: فخرجنا متعجبين من ذلك، وصرت إلى منزلي، فأعلمتهم ما كان من قصة الفتى، ونظرت إلى ابنتي، وقد حاضرت، فدخلت مجلساً لي، فدخلت وراءها، فإذا هي متوسدة على مثال ما كان عليه الفتى، فحركتها فإذا هي ميتة، فغدونا بجنازتها، وغدوا بجنازة الفتى، فإذا بجنازة ثالثة، فسألنا عنها، فإذا هي جنازة القينة، وبلغها موت ابنتي، فصنعت مثل ذلك، فماتت. فدفنا ثلاثة بموت واحد في موضع واحد. وهذا من عجيب ما سمع به في هذا الأمر.

حديث الجاحظ عن قتلى الحب

ومن ذلك ما أخبرني أبو العيناء قال: حدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال: ذكرت لأمير المؤمنين المتوكل لتأديب ولده، فلما نظر إليّ استبشع منظري، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، وصرفني فخرجت، فلقيت محمد ابن إبراهيم، وهو يريد الانحدار إلى مدينة السلام، فعرض علي الانحدار معه، وقربت حراقته، ودعا بطعامه وشرابه، ونصب ستارته، وأمر بالغناء فاندفعت عوادة له تتغنى:

كل يوم قطيعة وعتاب،ينقضي دهرنا،ونحن غضاب

 

ليت شعري أنا خصصت بهذا

 

دون ذا الـخـلـق أم كــذا الأحـــبـــاب

ثم سكتت، وأمر طنبورية، فغنت:

وارحمتي للعاشـقـينـا

 

ما إن أرى لهم معينـا

كم يهجرون، ويظلمـو

 

ن، ويقطعون فيصبرونا

وتراهم مـمـا بـهـم

 

بين البرية خاشعـينـا

يتجلـدون، ويظـهـرو

 

ن تجلداً للشامـتـينـا

قالت لها العوادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: يصنعون هكذا، وضربت بيدها على الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر،فزجت بنفسها إلى الماء. قال: وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مدية، فلما رآها وما صنعت ألقاها من يده، وأتى إلى حيث رمت بنفسها، فنظر إليها وهي تمور بين الماء فأنشأ يقول:

أنت التي غرقتنـي،

 

بعد القضا، لو تعلمينا

وزج بنفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما معتنقين، ثم غاصا، ولم يريا. فهال ذلك محمداً، واستفظعه، وقال للجاحظ: يا عمرو لتحدثني بحديث يسكن عني فعل هذين، وإلا ألحقتك بهما. قال الجاحظ: فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم، وعرضت عليه القصص، فمرّت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، أن يخرج إلي فلانة، يعني جارية من جواريه، حتى تغنيني ثلاث أصوات، فعل. فاغتاظ من ذلك سليمان، وأمر من يخرج إليه فيأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول برسول آخر، فأمر أن يدخل الرجل إليه، فأدخل؛ فلما مثل الرجل بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك، فأمره بالقعود، حتى لم يبق أحد من بني أمية، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عودها، ثم قال له: اختر! قال له: قل لها تغني بقول قيس بن الملوح:

تعلق روحي روحها قبل خلقهـا

 

ومن بعد ما كنا نطاقاً، وفي المهد

فعاش كما عشنا، فأصبح نـامـياً،

 

وليس، وإن متنا، بمنقضب العهد

ولكنه باق عـلـى كـل حـالة،

 

وسائرنا في ظلمة القبر واللحـد

يكاد فضيض الماء يخدش جلدهـا

 

إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد

وإني لمشتاق إلى ريح جيبـهـا،

 

كما اشتاق إدريس إلى جنة الخلد

فغنته، فقال سليمان: قل! قال: تأمر لي برطل، فشربه ، ثم قال: تغني بقول جميل:

علقت الهوى منها وليداً، فلم تزل

 

إلى اليوم ينمي حبـهـا ويزيد

وأفنيت عمري بانتظاري نوالها،

 

وأبلت بذاك الدهر، وهو جـديد

فلا أنا مردود بما جئت طالبـاً؛

 

ولا جبهـا فـيمـا يبـيد يبـيد

إذا قلت: ما بي، يا بثينة، قاتلـي

 

من الحب، قالت: ثابـت ويزيد

 فتغضب فقال سليمان: قل! قال: تأمر لي برطل، فأتي برطل، فشربه، ثم قال: تغني بقول قيس بن ذريح:

لقد كنت حسب النفس لو دام ودها

 

ولكنما الدنـيا مـتـاع غـرور

وكنا جميعاً قبل أن يظهر النوى،

 

بأحسن حالي غبـطة وسـرور

فما برح الواشون حتى بدت لنـا

 

بطون الهوى مقلوبة لظـهـور

فتغنت، فقال له: قل! قال: تأمر لي برطل، فما استتمه حتى وثب إلى أعلى قبة سليمان، ثم زج بنفسه على دماغه، فمات، فقال سليمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الجاهل ظن أنني أخرج إليه جاريتي، فأردها إلى ملكي! خذوا بيدها فانطلقوا بها إلى أهله، إن كان له أهل، وإلا فبيعوها، وتصدقوا بها عنه، فلما انطلقوا بها نظرت إلى حُفرة في دار قد أُعيدت للمَطر، فجذَبت نفسها، وأنشأت تقول:

من مات عِشقاً فَلْتَمُتْ هكذا،

 

لا خيرَ في العِشقِ بلا مَوتِ

وزجّت بنفسها في الحُفرة على دماغها، فماتت. فسُرّيُ عن محمد، وأحسنَ صِلةً الجاحظ.

من مات من شدة الفقد وتضعضعت أعضاؤه من شدّة الوجد

حكايات عمن قتلهم الحبّ

حُكي لنا عن إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عَديّ، عن هشام بن حسّان، قال: حدثنا رجلٌ من بني تميم قال: خرجتُ في طلب ناقةٍ لي فورّدت على ماء من مياه طيء، فإذا بعسكرين، أحدهما قريبٌ شابٌّ مدنَفٌ قد نهكته العلة فهو كالشنّ البالي، فدنوت لأعرف خبره، فسمعته وهو يقول:

ألا ما للمـلـيحة لا تـعـود،

 

أسُخطٌ بالملـيحة ألأم صُـدودُ

مرضتُ، فعادني أهلي جميعاً،

 

فما لك لا تُرى فيمـن يعـود

فقدتُكِ بينهم فتلفـتُ شـوقـاً،

 

وفقْد الإلف، يا سكني، شـديدُ

فلو كنتِ المريض لجئتُ أسعى

 

إليكِ، ولم ينهنهي الـقـعـود

قال: فسمعتْ كلامه، فبادرت نحوه، وبدرتها النساء، فتعكّفن بها، فأحسّ بها، فوثب مبادراً نحوها، فحبسه الرجال، فجعلَت تجذب نفسها من النساء، ويجذب نفسه من الرجال، حتى التقيا، فاعتنقا، وبكّينا، ثم شهقا فخرّا ميّتين. فخرج شيخٌ من بعض الأخْبية فوقف عليهما، فاسترجع، ثم قال: رحمكما الله، أما والله لقد كنت لم أجمع بينكما في حياتكما، لأجمعنّ بينكما بعد موتكما! فأمر بهما، فكُفّنا في كفَنٍ واحد، ودُفنا في قبر واحد، فسألت عنهما فقال: هذه بنتي، وهذا ابن أخي، بلغ بهما الحب ما ترى.

ومن ذلك أيضاً ما حُكي عن إسحاق الرافقي قال: كنت في مجلس بالرقّة في عدةِ من الظرفاء وجماعة من القيان، ومعنا فتىً كأهيأِ من رأيت من الفتيان، وعليه ذلّة الهوى، يُديم الأنين والبكاء، فتغنّت إحداهنّ:

إني لأبغض كل مصطـبـرٍ

 

عن إلفه في الوصل والهجْرِ

الصبر يحسُن في مواطنـه،

 

ما للفتى المحزون والصبر

فنظر إليها الفتى، وتبادرت عبراته، ثم وثب على قدميه ووضع يده على رأسه وقال:

غداً يكثر الباكون مِنّا ومِنكم،

 

وتزداد داري من دياركم بُعدا

ثم رمى بنفسه، فسقط مجدَّلاً من قامته، فوثبنا إليه فحملناه ميتاً.

الفتاة التي أكلها السبع

 ومن ذلك ما حُكي عن جميل بن معمر الذعري أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا جميل! حدّثني ببعض أحاديث عُذرة، فإنه يبلغني أنهم أصحاب أدب وعزَل. قال: نعم، يا أمير المؤمنين، إن آل بُثينةَ انتجعوا الحيّ وقطعوا بلداً آخر، فخرجت أريدهم، فغلطت الطريق، وجَنّني الليل، ولاحت لي نارٌ، فقصدتها، حتى دنت، ووردتُ على راعٍ في أصل جبل، قد ألجأ غنمه إلى كهف في الجبل، فسلّمت، فرد علي السلام، وقال: أحسبك قد ضللت الطريق؟ قلتُ: قد كان ذاك، فأرشدنيه. قال: بل انزل حتى تُريح ظهرك، وتبيت ليلتك، فإذا أصبحتَ وقفتُك على الطريق. فنولتُ، فترحّب بي، وأكرمني، وعمد إلى شاة فذبحها، وأجّج ناراً، وجعل يشوي ويُلقي بين يديَّ، ويُحدّثني في خلال ذلك، ثم قام بإزار كان معه، فقطع به جانب الخباء ومهّد لي جانباً، وترك جانباً خالياً، فلما كان في الليل سمعته يبكي ويشكو إلى شص كان معه، فأرِقتُ له ليلتي. فلما أصبحتُ طلبت الإذن، فأبى، وقال: الضيافة ثلاثٌ، فأقمتُ عنده، وسألته عن اسمه ونسبته، وحاله، فانتسب لي، فإذا هو من بني عُذرة وأشرافهم، فقلت: يا هذا! وما الذي احلّك هذا الموضع؟ فأخبرني أنه يهوى ابنة عمه له، وتهواه، وأنه خطبها إلى أبيها، فأبى أن يزوّجها منه لقلة ذات يده، وأنه زوّجها رجلاً من بني كِلاب فخرج بها عن الحيّ، فأسكنها في موضعه ذلك، وأنه تنكّر، ورضي أن يكون راعياً له، لتأتيه ابنة عنه، فتراه ويراها، وجعل يشكو إليّ صبابته بها، وشدّة عشقه لها، حتى إذا جَنّنا الليل وحان وقت مجيئها جعل يتقلقل ويقوم ويقعد كالمتوقّع لها. فأبطأت عن الوقت، وغلبه الشوق، فوثب قائماً وأنشأ يقول:

ما بال ميّة لا تأتي لعـادتـهـا،

 

أهاجها طربٌ أم صدّها شُـغُـلُ

لكنّ قلبي لا يلـهـيه غـيرهُـمُ،

 

حتى الممات ولا لي غيرهم أمل

لو تعلمين الذي بي من فراقكُـمُ،

 

لما اعتذرت، ولا طالت لك العللُ

روحي فداؤكِ قد هيّجتِ لي سَقَماً

 

تكاد من حره الأعضاء تنفصـل

لو أن غاديةً منه علـى جـبـلٍ

 

لزال، وانهدَّ عن أركانه الجبـل

ثم قال: يا أخا بني عُذرة، مكانك حتى أعود إليك، فإني أتوهم أن أمراً عرض لابنة عمي. ثم مضى فغاب عن بصري، فلم يلبث أن أقبل وعلى يديه شيء محمولٌ، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخا بني عُذرة، هذه بنت عمي أرادت أن تأتيني، فاعترضها السبع فأكلها؛ ثم وضعها عن يده وقال: على رِسْلك حتى أعود إليك، ومضى فأبطأ، حتى أيستُ من رجوعه، ثم أقبل ورأس الأسد على يده، فوضعه، وجعل بنكُتُ على أسنانه، وهو يقول:

ألا أيها الليث المدلّ بـنـفـسـه،

 

هُبِلتَ لقد جرّت يداك لنا حُـزنـا

وغادرتَني فرداً، وقد كنت آنـسـاً

 

وصيّرت بطن الأرض ثمّ لنا سِجنا

 

ثم قال: يا أخا بني عُذرة، إنك ستراني بين يديك ميتاً، فإذا أنا متّ، فاعمد إليّ وإلى بنت عمي، فأدرجنا في كفنٍ واحد، واحفر لنا جدثاً واحداً، وادفنّا فيه، واكتب على قبري هذين البيتين:

 

كنا على ظهرها، والعيش في مَهَلٍ،

 

والعيش يجمعنا، والدار والوطـن

ففرّق الدهر بالتشتيت أُلـفـتـنـا،

 

فاليومَ يجمعنا في بطنها الكـفـنُ

ورُدّ الغنم على صاحبها، وأعلمه بقصتنا، ثم عمد إلى خِناقٍ فطرَحه في عنقه. فناشدته الله أن لا يفعل، فأبي، وجعل يخنق نفسه، حتى سقط بين يديّ ميتاً. فلما أصبحتُ كفّنته وابنه عمه كما أمرني، ودفنتهما في فبر واحد، وكتبتُ البيتين على قبرهما ورددتُ الغنم على زوجها، وأعلمتُه بقصته، فجعل يأكل كفّيه أسفاً أن لا يكون جمع بينهما في حياتهما. فهذا وما أشبهه كثير جداً.

ورُوي عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: كنا عند عُروة بن الزبير وعنده رجل من بني عُذرة فقال له عروة: يا عُذري بلغني أن فيكم رقةً وغزلاً، فأخبرني ببعض ذلك! قال: لقد خلّفتُ في الحي ثمانين مريضاً دنفاً عِشقاً ما بهم غير الحب قد خامر قلوبهم.

من وصف الحب وما فيه من شدة المرارة والكرب

واعلم أن الحبّ، مع ما فيه من المرارة والنكد، وطول الحسرات والكمد، ومرٌّ لا تعدله مرارة، قال الكميت بن زيد:

الحب فيه حـلاوةٌ ومَـرارةٌ،

 

سائلْ بذلك من تطاعم، أو ذُقِ

ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها،

 

فيما مضى، أحدٌ إذا لم يعشقِ

وقال آخر:

يا أيها الدنِف المُعذَّب بالهوى!

 

إني بأحوال الهوى لـعـلـيمُ

الحب صاحبه يبيت مُسهَّـداً،

 

ويطير عنه فـؤاده، ويهـيم

الحب داءٌ قد تضمّن في الحشا

 

بين الجوانح والضلوع مقـيمُ

الحب لا يخفى، وإن أخفيتـه،

 

إن البكاء على المُحبّ نَمـوم

الحب فيه حـلاوةٌ ومَـرارةٌ،

 

والحب فيه شقـاوةٌ ونـعـيم

الحب أهون ما يكون مُبـرِّحٌ،

 

والحب أصغر ما يكون عظيم

أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب:

سَلني عن الحب يا من ليس يعرفه،

 

ما أطيب الحب لولا أنـه نَـكـدُ

طعمان: حلوٌ ومرٌّ لـيس يعـدلـه

 

في حَلْق ذائقه مُـرٌّ، ولا شـهـد

وأنشدني إبراهيم بن محمد الواسطي لنفسه:

سلْني عن الحب، فإني به

 

أعلم ذي وَطْءٍ على نعل

طعمان ضدّان، فمستعذَبٌ

 

وآخر أشرى من القتـل

ولبعض المتأدبين أيضاً في مثله:

سَلني عن الحب يا من ليس يعلمه،

 

عندي من الحب، إن ساءلتُمُ، الخَبَر

أنا الذي بالهوى ما زلتُ مشتهـراً،

 

لاقيتُ فيه الذي لم يلقـه بـشـر

الحب أوَّلـه عـذبٌ مَـذاقـتُـهُ،

 

لكنّ آخره التنغـيص والـكَـدَر

كم تيّم الحب أقواماً، ودلـلّـهـم،

 

وكم يدٍ للهوى قد وارت الحُـفَـر

أنشدني ابن أبي الرعد:

من كان لم يدرِ ما حبٌّ وصفْتُ له،

 

إن كان في غفلةٍ، أو كان لم يجد

الـحـب أوّلـه عـذبٌ، وآخـره

 

مثل الحَزازة بين القلب والكـبِـد

أنشدني الوليد بن عُبيد البحتري لأبي العتاهية:

أخلاّني بي شَجْوٌ، وليس بكم شجْـو

 

وكل امرئٍ مما بصاحبـه خِـلْـو

أذاب الهوى جسمي ولحمي وقُوّتي،

 

فلم يبق إلا الروح والجسد النِّضْـو

رأيت الهوى جمر الغضا، غير أنه

 

على كل حالٍ، عند صاحبه حُلْـوُ

وما من محبٍّ نال ممـن يحـبـه

 

هوىً صادقاً إلا سيدخلـه زَهـو

قال: وأنشدني ابن أبي الدنيا:

الحب يترك منْ أحبَّ مُـدَلَّـهـاً،

 

حَيران، أو يقضي عليه فيسـرع

الحب أهـونـه ثـقـيلٌ فـادحٌ،

 

يُهوي الجليد من الرجال، فيَصرع

ما في معرفة الهوى وما كان اسمه في البداية أوّلاً

واعلم أن الهوى عندهم هو الهوان الصُّراح، والبلاء المتاح، لأنه يُهين الكريم، ويُذلُّ العزيز، ويدلّه العاقل، ويحطّ منزلة الشريف. وسُئلت أعرابية عن الهوى، فقالت: الهوى هو الهوان وإنما غُلِظ باسمه، واشتُقّ من طبعه، ولن يعرف ما أقول إلا من أبكته المنازل والطلول؛ وأنشأت تقول:

 

ليت الهوى لذوي الهوى لم يُخلقِ،

 

بلْ ليت قلبي بالهوى لم يَعـلـق

إن الذي عَلِق الهوى بـفـؤاده،

 

كمنوَّطٍ دون السماء مُـعـلَّـقِ

لا يستطيع نزولـه لـشـقـائه،

 

لكن إليه كـل هـمٍّ يرتـقـي

إن الهوى لهو الهوان بعـينـه،

 

ما ذاق طعم الذل من لم يعشـق

وأُنشِدتُ لغيرها أيضاً:

 

إن الهوان هو الهوى نُقص اسمه،

 

فإذا هويت لقد لقـيتَ هَـوانـا

وإذا هَويتَ لقد تعبّدك الـهـوى،

 

فاخضع لحبك كائناً مـن كـانـا

أنشدنا أبو عبد الله الواسطي لنفسه:

 

لم يدر ما بؤس الحياة ولينُهـا،

 

إلا الذين مِنَ الهوى بمكـان

كم من عزيزٍ قد ألمّ به الهوى،

 

فأقرّ بعد كـرامةٍ بـهَـوان

ليس الهوى إلا الهوان، ونونه

 

نُقِصت كفعل الزور والبُهتان

ليس الحياة إذا نظرتَ، وبؤسها

 

بين الوصال وغُصّة الهِجران

ما العشق عندي باختيارٍ إنمـا

 

ذاك البلاء يُتاح لـلإنـسـان

قال: وأنشدني أبو العَيناء:  

 

وما كَسَيٌ في الناس يُحمـد رأيه،

فيوجد إلا وهو في الحب أحمق

وما من فتىً ما ذاق بؤس معيشةٍ،

من الدهر، إلا ذاقها حين يَعشقُ

ما سئل عنه أهل الصدق من تمام خَلاّت العشق

قال الأصمعي لأبي وائل الإضاخي: ما تقول في العشق؟ فقال: إن لم يكن عُصارة من الشجر، فهو ضَرب من الجنون؛ وأنشأ يقول:

 

بقلبي شيءٌ لستُ أعرف وصفَه،

 

على أنه، ما كان، فهـو شـديد

تمرّ به الأيام تسحـب ذيلـهـا،

 

فتَبلى بـه الأيام، وهـو جـديد

لعَمَري إن بذلك ما وجب لهم الدعاء، فصار مفترضاً على الأدباء كالفرض اللازب، والحقّ الواجب، لجليل الخطب وفادح الأمر.


أخبرني أحمد بن عُبيد قال: أخبرني الأصمعي قال: رأيت أبا السائب المخزومي متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهمّ ارحمِ العاشقين، واعطفْ عليهم قلوب المعشوقين بالرأفة والرحمة، يا أرحم الراحمين. فقلت: يا أبا السائب، أفي هذا المقام تقول هذا المقال؟ قال: إليك عني! الدعاء لهم أفضل من حجّةٍ بعمرةٍ. ثم أنشأ يقول:

 

يا هجر كُفّ عن الهوى، ودع الهوى

 

للعاشـقـين يطـيب، يا هـجـر

ماذا تريد من الـذين جـفـونـهـم

 

قَرحى ، وحشو صدورهم جـمـر

وسوابق العَبرات فوق خـدودهـم،

 

هُطلاً تلوح كأنـهـا الـقـطْـر

صرعى على جسر الهوى لشقائهم،

 

بنفوسـهـم يتـلاعـب الـدهـر

قال: وخُبّرت عن الأصمعي أيضاً أنه قال: رأيت جاريةً وهي تقول: اللهمّ، مالك يوم القضاء وخالق الأرض والسماء، ارحم أهل الهوى، واستنقذهم من عظيم البلاء، واعطف عليهم قلوب أودّائهم بالصفاء، فإنك سميع النجوى، قريبٌ لمن دعا؛ ثم أنشأت تقول:

 

يا ربّ! إنك ذو منٍّ ومـغـفـرةٍ،

 

بيِّتْ بعافيةٍ منك الـمـحـبـينـا

الذاكرين الهوى من بعد ما سهروا،

 

حتى يظلوا على الأيدي مكبّـينـا

فقلت: يا هذه، أتُغنّين وأنت في الطواف؟ فقالت: إليك عني، لا يُهقك الحب! فقلت لها: وما الحب؟ وأنا به أعرف منها. فقالت: جلّ أن يخفى ودقّ عن أن يُرى له كمونٌ ككمون النار في الحجر، إن قدحته أوراك، وإن تركته توارى. قال: فتبعتها حتى عرفت منزلها، فلما كان من الغد جاء مطر شديد، فمررت ببابها، وهي قاعدةٌ مع أتراب لها زُهرٍ، يقلن لها: لقد أضرّ بنا المطر، ولولا ذلك لخرجنا إلى التطواف؛ فأنشأت تقول:

 

قالوا أضرّ بنا السحاب بقطره،

 

لما رأوه لعبرتـي يحـكـي

لا تعجبوا مما ترون، وإنـمـا

 

هذا السحاب لرحمتي يبكـي

وزعم قومٌ أنه لا ذنب على أهل الهوى ولا وزر، وأن خطاياهم تُمحّص عنهم بطول بلائهم، وكثرة زفراتهم وما لقوا من الشقاء بأودائهم.


وأخبرني أحمد بن يحيى عن عبد الله بن شَبيب عن رجل ذكره قال: كنت عند مالك بن أنس، فأتاه شابٌّ، فقال: إني قد قلت أبياتاً ذكرتُك فيها، فاسمعها. قال: لا حاجة لي فيها. فقال لي: أحبّ أن تفعل، قال: هات. فقال:

 

سلوا مالك المفتي عن اللهو والصِّبي،

 

وحب الحِسان المغنجات الفَـواركِ

يخبركُمُ أنـي مـصـيبٌ، وإنـمـا

 

أُسلّي هموم النفس عنـي بـذلـك

فهل في محبٍّ يكتم الحب والهـوى

 

أثامٌ، وهل في ضَمّة المتـهـالـك

فسرّي عن مالك، وقال: إن شاء الله. وكان ظنّ أنه هجاه.


أخبرني أحمد بن يحيى ثعلب عن عبد الله بن شَبيب عن شيخ من عاملة قال: مرّ ابن مَرجانة الشاعر بسعيد بن المسيَّب فقال: هذا ابن مَرجانة؟ قالوا: نعم. قال: هذا الذي يقول:

 

سألتُ سعيد بن المسيَّب مفـتـي ال

 

مدينة: هل في حب دهماء من وِزر

فقال سعيد بن الـمـسـيَّب: إنـمـا

 

تُلام على ما تستطيع مـن الأمـر

والله ما سأني إنسان عن شيء من هذا، ولو سألني لأجبت.

قال: وسئل شريك بن عبد الله القاضي عن العشّاق، فقال: أشدّهم حباً أعظمهم أجراً.

وأنشدني محمد بن يحيى لمسلم:

 

فواللـه مـا أدري، وإنـي لـسـائلٌ

 

بمكة أهل العلم: هل في الهوى وِزر

وهل في اكتحال العين بالعـين ريبةٌ

 

إذا ما التقى الإلفان، لا بل به أجـر

 وأنشدني إبراهيم الأزدي لنفسه:

ما العشق في الأحرار مستنكرٌ،

 

وما على العاشـق مـن وِزر

قال وأنشدني الجمّاش:

إذا قبّل الإنسان إنسان يشتهـي

 

ثناياه لم يأثم، وكان له أجـرا

فإن زاد زادَ الله في حسنـاتـه

 

مثاقيل يمحو الله عنه بها وزرا

وقال سائب راوية كُثيّر: حضرتُ مع كثيّر عند ابن أبي عتيق، فأنشدنا أبيات ابن قيس الرُّقيَّات التي يقول فيها:

خبّروني هل على رجلٍ

 

عاشقٍ في قبلةٍ حرج

فقال كُثيّر: لا! إن شاء الله، ونهض.

وأنشدني علي بن العباس بن رومي:

أيها العاشق المعذَّب إصبر،

 

فخَطيّات ذي الهوى مغفوره

زفرةٌ في الهوى أحطّ لذنبٍ،

 

من غزاةٍ وحجّةٍ مبـروره

وقال المؤمَّل، وأحسن، والله، في قوله:

صِفْ للأحبة ما لقِّيتَ من سهرٍ،

 

إن الأحبة لا يدرون ما السهر

حسْبُ المحبين في الدنيا عذابهمُ،

 

والله لا عذّبتْهم بعدها سَـقَـرُ

وقال الأصمعي: رأيتُ جاريةً بالطواف وهي تقول:

لن يقبل الله من معشوقةٍ عملاً

 

يوماً، وعاشقها حَيرانُ مهجور

وليس يأجرها في قتل عاشقها،

 

لكنّ عاشقها لا شكّ مأجـور

فقلت: يا جارية! أفي هذا المقام، أما حياء فيردعك؟ فأنشأت تقول:

بيضٌ أوانس ما هممن بريبةٍ،

 

كظباء مكة صيدهنّ حـرام

يُحسَبْن من لين الكلام زوانياً،

 

ويصدّهنّ عن الخَنى الإسلام

وقد قيل أيضاً: إن قتيل الهوى لا قَوَدَ له، وإن دماء أهل الهوى تبطل وتُهدَر.

قتيل الهوى

ومن ذلك ما حُكي عن ابن عباس أنه أُتي بشابّ محمول قد صار كالشنّ البالي، فقيل له: استشفِ الله لهذا المريض، يا ابن عمّ رسول الله، فقال له ابن عباس: ما علّتك يا فتى؟ فلم يُحِرْ إليه جواباً، ثم رفع رأسه، وقال بلسان فصيح طليق:

به لوعةٌ تشتكي الصُّمُّ مثلـهـا،

 

تفطّرت الصُّمُّ الصِّلابُ وخرّتِ

ولو قسم الله الذي بي من الهوى،

 

على كل نفس حظّها ما أبلّـتِ

ثم خفت خفنةً ثم فتح عينيه، وهو يقول:

بنا من جوَى المبرِّح لـوعةٌ،

 

نكاد لها نفسُ الشفيق تـذوب

ولكنما أبقى حُشاشةَ ما تـرى

 

على ما به عودٌ هناك صليبُ

فقال ابن عباس: ممن الرجل؟ فقال: من بتي عُذرة، ثم شهق شهقة فمات. فقال ابن عباس لجلسائه: هل رأيتم وجهاً أليق ولساناً أذلق من هذا؟ هذا والله قتيل الهوى لا قَودَ ولا دِيَة، وإلى الله أرغب في العافية مما نرى.

دماء العشاق مهدورة

وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب:

إذا هنّ ساقَطن الحديث لذي الهـوى

 

سقوط حصى المَرجان من كفّ ناظمِ

رمَين، فأصمينَ القلوب، فنـا تـرى

 

دماً سائلاً، إلا جوىً في الـحَـيازِم

فأي دمٍ، لو تعـلـمـين، جَـنَـتـيه

 

على الحُرّ، جاني مثله غيرُ سـالـم

أما إنه لو كـان غـيرُك أرقـلـت

 

إليه القَنا بالمُرهَفـات الـصـوارمِ

ولكن، وبيت الله، ما طلّ مُسـلِـمـاً

 

كغُرّ الثنايا، واضحات المـعـاصـمِ

وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه:

قضى الله في القتلى قِصاصَ دمائهم

 

ولكنْ دماء العاشـقـين جُـبـارُ

تُطلّ دماء العاشـقـين، وثـأرهـا

 

لدى الحدقِ المرضى، وذلك ثـار

قال الأحوص بن محمد الأنصاري:

ما تُذكر الدهر لي سُعدى وإن بعُدن

 

إلاّ ترقرق ماء العين، فـاطَّـردا

يا للرجال لمقـتـولٍ بـلا تِـرَةٍ،

 

لا يأخذون له عـقـلاً، ولا قَـوَدا

وحدّثني العَنَزي أبو علي عن الزبير بن بكّار عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن جُندَب عن أبيه قال: خرجتُ مع أبي سفيان، فلقينا نُسوةً ينظرن العقيق، فيهن امرأةٌ حسناء العين، فقال أبي:

ألا يا عبـاد الـلـه هـذا أخـوكـمُ

 

قتيلاً، فهلْ فيكـم بـه الـيوم ثـائر

خذوا بدمي، إن متُّ، كـل خَـريدةٍ،

 

مريضة طَرف العين، والجَفنُ ساحر

قال: فالتفتت إليّ امرأةٌ، فقالت: يا بنيّ احتسب أباك، واغتنم نُهبيك، فإن قتيلنا لا يودى وأسيرنا لا يُفدى.
وأنشدني أحمد بن يحيى لجَرير بن الخَطَفى:

هل في الغوادي لمت قتّلن من قَودٍ،

 

أو من دياتٍ لقتلى الأعين الحـور

تبيت ليلك في وجـدٍ تُـخـامـره،

 

كأن في القلب أطرافَ المسامـير

ما كنت أوّل مَحـزونٍ أضـرّ بـه

 

بَرْحُ الهوى، وعذابٌ غير تَفتـيرِ

وقال أيضاً:

إذا كَحَلْن عيوناً غـير مـقـرفةٍ

 

ريّشن نَبلاً لأصحاب الصِّبى صُيُدا

ما بال قَتلاكِ لا تخشين طائلهـم،

 

لم تضمني ديةً منهـم ولا قَـوَدا

وقال عمر بن لجأٍ:

تراءت، كي تكيدك أمّ عمرو،

 

وكيدك بالتبرُّج مـا تـكـيد

وكيف قَتَلني، يا أمّ عمـروٍ،

 

ولا قَوَدٌ علـيكِ، ولا حـدودُ

وقال أعرابي، وما أساء:

أقاتلتي، يا للرجـال، حـبـيبةٌ

 

إليّ، بلا جُرم لديها ولا دَحْـلِ

فقيمُ دماء العاشقين مـضـاعةٌ

 

بلا قَوَدٍ، عن الحِسان، ولا عقلِ

وأحسن والله المؤمَّل حيث يقول:

إني قُتلتُ بلا جُرمٍ، وقـاتـلـتـي،

 

يا قومِ، جاريةٌ في طَرفهـا حَـوَرُ

لما رمَت مُهجتي قالت لجارتـهـا:

 

إني قتلتُ قتيلاً مـا لـه خَـطَـرُ

قتلتُ شاعر هذا الحيّ من مُضـرٍ،

 

فالله يعلم ما ترضى بـذا مُـضَـرُ

شكوتُ ما بي إلى هندٍ، فما اكترثَت،

 

يا قلبها! أحـديدٌ أنـت أم حـجـر

إن كُنتِ جاهلةً بالحبّ، فانطلـقـي

 

إلى القبور، ففيمن حلّهـا عِـبَـرُ

وقد قيل أيضاً: إن قتيل الهوى شهيدٌ، على ذلك أجمع، والله يعلم، الأدباء وأهل العلم والظرف لموجود ومسند الآثار.


حدثنا قاسم الزُّبيدي بإسناد ذكَرَه عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من تعشّق فعفّ فهو شهيد.

شهداء الحب

وقال بشار بت برد العُقيلي:

قُربُ دار الحبيب قُرّةُ عـينٍ،

 

وكأنّ البُعاد في القلب ثُكـلُ

إنّ موت الذي يموت من الـح

 

ب عفيفاً له على الناس فضلُ

ولبعض المتأدبين:

ليتني مُتُّ، والهوى داء قلبي،

 

إنّ مَيتَ الهوى لَمَيتٌ شهيدُ

ولقد أحسن جميل حيث يقول:

ألا ليتَ شعري هل أبِيتنّ لـيلةً

 

بوادي القُرى، إني إذاً لسعـيدُ

يقولون جاهدْ، يا جميلُ، بغَزوةٍ،

 

وأيَّ جهـادٍ غـيرهـن أريد

لكل حديثٍ بينهـنّ بـشـاشةٌ،

 

وكلّ قتيلٍ بينـهـنّ شـهـيد

ومَلُح الحَمَمي حيث يقول:

ولقد كُـنّـا رُوينـا

 

عن سعيدٍ عن قَتاده

عن سعيد بن المسيَّبْ

 

أنّ سَعدَ بنَ عُبـاده

قال: من مات محباً،

 

فله أجرُ الشهـاده

ممن يحسن الحب

واعلم بأن العشق يَحسُنُ بأهل العفّة والوفاء، ويقبحُ بأهل العهر والخَنى مع أن الهوى قد فسد وقلّ الوفاء وكثُرت الخيانة والغدر، واستعمل الناس في العشق شيئاً ليس من سُنّة الظرف، ولا من أخلاق الظرفاء، وذلك أن أحدهم متى ظفر بحبيبه، وأصاب الغفلة من رقيبه، لم يَعفّ دون طلب الصفاء. أنشدني عبد الحميد المَلطي:

قد فسد الحب وهان الهوى،

 

وصار من يعشق مُستعجلا

يريد أن ينكِحَ أحـبـابـه،

 

من قبلِ أن يسهر، أو يَنحُلا

ولأحمد بن أبي فنَن في مثل ذلك:

أنـا لا أَبْـدا بـغـدرٍ أبـداً،

 

فإذا ما غـدرَت لـم أتَّـركْ

واجداً منها بديلاً مـثـل مـا

 

وَجَدَت مني بديلاً، لا تَشُـكّ

أتُراني أقعد الـلـيل لـهـا

 

ساهراً أطلب وَصلاً قد هلكْ

وهْيَ فيما تشتهـي لاهـيةٌ،

 

مِتُّ إن دار بهـذين فَـلَـكْ

كان للـنـاس وفـاءٌ مـرّةً،

 

فانقضى، وانحلّت اليوم التّكَكْ

مسامير الحبّ

وحدثني أبو العَيناء قال: حدثني الجاحظ قال: كتب بعض الظرفاء إلى مُلْك جارية أبي جعفر:

يا مُلْكُ قد صِرتُ إلى خُطةٍ،

 

وكنتُ فيها منْـكِ ذا ضَـيمِ

يلومني الناسُ على حبّكـم،

 

والناس أولى فيكِ بالـلـوم

فكتبت إليه:

إنْ تكُنِ الغُلمةُ هاجت بكم،

 

فسكّنِ الغُلمةَ بالـصـومِ

ليس بك الشوقُ، ولكنّمـا

 

تدور من هذا على الكَوْمِ

واعلم أن العشق لا يكون مع الفسق، ومتى مازج العشق الفسق ضَعُفت قُواه، وانفصمت عُراه، وهم لا يريدون غير الرَّفثِ، ويسمونه مسامير الحبّ، وزعموا أن أسباب الحب لا تتصل إلا به، ولا يزال منحلاً، حتى يشدّها ذلك، وينشدون:

 

الـعـشـق داءٌ دويٌّ لا دواء لـه،

 

إلا العناق وإفشـاءُ الـسـريراتِ

وليس يُلتذّ طيبُ العـيش مـن أحـد

 

إلا بعضّكَ، أو رشفِ الـثـنـيّاتِ

ووضعك الصدر فوق الصدر تجمعه

 

ضمّاً إليك على ظهر الحـشـيّاتِ

وينشدون أيضاً في مثل ذلك:

 

رأيتُ الـحـبّ لـيس لـه دواءٌ،

 

سوى وضع البُطون على البطونِ

وإلصاق الثـنـايا بـالـثـنـايا،

 

وأخذٍ بالمَنـاكـب والـقُـرونِ

وقد ناظرتُ بعضهم مرة من الِمرار، فاحتج بخبر ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فاحتجّوا بظاهر الخبر، ولم يفحصوا عن التأويل، وهذا خلاف ما يفعل أهل الظرف والأدب، وغير هذا جاء عن العَرب. وقد بلغني عن الأصمعي أنه قال: قلت لأعرابي مرة: ما العشق فيكم؟ قال: النظرة بعد النظرة، وإن كانت القبلة بعد القُبلة، فهو الوصول إلى الجنّة. فقلت: ليس العشق عندنا كذلك، قال: فما هو عندكم؟ قلت: تفرقُ بين رجليها وتحمل نفسك عليها. فقال: بأبي أنت لستَ بعاشقٍ، إنما أنت طالب ولد.

ما جاء فيمن تعفف في محبته ورعى عقود عهود مودّته

وما وجدنا أحداً من العرب يفعل ذلك، ولا صمد نحوه، وقد كان الواحد منهم يعشق من أول دهره إلى آخره لا يُحاول فِسقاً، ولا يقرب رفثاً، ولم يكن لهم مراد إلا في النظر، ولا حظّ في غير الاجتماع والمؤانسة، والحديث والشعر، كما قال الفرزدق:

 

وجدتُ الحب لا يشـفـيه إلاّ

 

لقاءٌ يقتل الغُللَ الـنِّـهـالا

أُحبّ من النساء، وهنّ شتّى،

 

حديث النزْر، والحدقَ الكِلالا

موانعُ للحرام بغير فُـحـشٍ،

 

وتبذل ما يكون لهـا حـلالا

وكان الواحد منهم إذا تعلّق خلّةً لم يفارقها حتى الممات، ولم يشغل قلبه بغيرها، ولم يهمّ بالسلوّ عنها، وقَصَر طرفه عمّن سِواها، وكذلك هي أيضاً كانت له بتلك المنزلة، فأيّهما هلك قبل صاحبه قتلّ الآخرُ نفسه في أثره، أو عاش حافظاً لودّه قائماً بعهده، لا ينسى ذكره، ولا يصل غيره، فاستحسن الناس الملّل والاستبدال، والغدر والانتقال، وصار أشدّهم ظَرْفاً، وأحسنهم يتعشّق السنين الكثيرة، والدهور الطويلة، ويتوهّم بفعله أنه عاشقٌ، فإذا فقد حبيبه يوماً واحداً، استبدل به سواه، ويُنشدن في ذلك:

 

افخر بآخر من بُليتَ بحبّـه،

 

لا خر في حب الحبيب الأول

أتشُكّ في أن النبي محـمـداَ

 

ساد البريّة، وهو آخر مُرسَلِ

وأنا أبرأ إلى الله أن يكون هذا من شعرِ ظريفٍ أو من فعل حَصيفٍ، ولكن قد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:

 

البين جرّعني نقيعَ الحَـنـظَـل،

 

والبينُ أثكلني، وإن لـم أثـكـل

ما حسرتي أن كِدتُ أقضي، إنما

 

حسرات نفسي أنني لم أفـعـلِ

نقّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى،

 

ما الحب إلا للـحـبـيب الأوّلِ

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى،

 

وحنـينـه أبـداً لأوّل مـنـزل

على أنه ليس التنقّل من حبيب أول إلى حبيب ثانٍ بحسن، وإنما الحب ما أقام عليه القلب، فلم يجد التخلّص منه إلى غيره كما قال جرير:

أخالدَ! قد هويتُكِ بعد هندٍ،

 

فشيّبني الخوالدُ والهنـودُ

هوىً بتهامةٍ، وهوىً بنجدٍ،

 

فتُبْليني التهائم والنُّـجـودُ

ولا كقوله أيضاً:

أحبّ ثرى نجدٍ، وبالغَور حـاجةٌ،

 

فغار الهوى، يا عبد قيسٍ، وأنجدا

ولا كقول الآخر:

إني سأُبدي الحب فيما أُبدي

 

لي شَجَنانِ: شَجَنٌ بنجـدِ

وشجنٌ لي ببلاد الهِندِ

   

ولا كقول الآخر:

هوىً بالغَور لي، وهوىً بنجدٍ،

 

فما أدري أأنجِـدُ أم أغـورُ

بكُلّ حاجةٌ، وهـوىً مـقـيمٌ

 

بقلبك قد تَضَمّنه الضـمـير

بشرقيّ العراق، بباب عمروٍ،

 

وبالغَورين زينبَ والـقـدور

هذا والله من ألفاظ الشعر أسمجُ جداّ، وقد كذب هؤلاء، وادّعوا وجداً، وهل يجتمع وَجدان في موضع؟ ولكن قد أحسن جميلٌ حيث يقول:

وقلتُ لنسوانٍ تعرّضْن دونها:

 

إليكنّ إني غـيركُـنّ أُريد

وحيث قال أيضاً:

وكم من بديلٍ قد وجدنا وطُرفةٍ،

 

فتأبى عليّ النفسُ تلك الطرائفا

فهذا هو الصادق الهوى الخالص الوفاء، لا جرير وصاحبه، ولا الذي يقول:

أرى ذا، فأهواه، وأُبصرُ غيره،

 

فأترك ذا ثم استبدُّ بذا عِشـقـا

ثمانون لي في كل يومٍ أحبّهـم،

 

وما في فؤادي واحدٌ منهم يبقى

فقبّح الله هذا اللفظ لفضاً، ولا أعطيَ قائله حظّاً، فليس من شعر وامقٍ، بل هو من فعل مُماذق، ولا والله ما التنقّل من شأن الأدباء، ولا الاستبدال من فِعلِ الظرفاء، وإنما الهوى ما حسُن سريرته، وهيهات ذوو الوداد الخالص، والصفاء الدائم، والحب اللازم، ودود الحفاظ، ورعاة العهود، والمتمسكون بالوفاء، والراغبون في صحيح الإخاء إليك. فقد تنقّضت وثائق الحب، وانفصمت عُرى الهوى، وتقطّعت أسباب العشق، وتكدّر صافي المودّة، والناس كما قال الشاعر:

قلّ الثقاتُ، فما أدري ثمـن أثـق،

 

لم يبقَ في الناس إلا الزور والملَقُ

الغدر طبع في النساء

وإن الغدر في النساء طبع، والمطل منهن غريزة، وهو في النساء أكثر منه في الرجال، فقد أنشدني بعض الأدباء:

وكنا جعلنا الله شاهدَ بيننـا،

 

وفي الله بينَ المسلمين شهيدُ

فخِستِ بعهد الله لو تعلمينه،

 

وفيكُنّ من ليست لهنّ عهودُ

واعلم أنهنّ لا عهود لهنّ، ولا وفاء لحبّهن، ولا دوام لودّهن، وأن أقبح ما رُوي من غدرهنّ ما حدثنيه ابن أبي خيثمة عن شيوخه: أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل كانت عند ابن أبي بكر الصدّيق، رضي الله عنه، فأحبها حباً شديداً شغلته عن تجارته، فأمره أبو بكر، فطلّقها، ثم اطّلع عليه وهو يقول:

فلم أر مثلي طلّق، اليوم، مثلهـا،

 

ولا مثلها في غير جُرمٍ تُطلَّـقُ

لها خُلُقٌ سهلٌ، وحُسنٌ، ومنصِبٌ،

 

وخلاْقٌ، سَويٌّ ما يُعاب، ومنطق

أعاتكَ قلبـي، كـل يومٍ ولـيلةٍ،

 

إليكِ ما تُخفي النفوس مُعـلَّـقُ

أعاتكَ لا أنساكِ ما حجّ راكـبٌ،

 

وما لاح نجمٌ في السماء محلِّـقُ

فرقّ عليه أبو بكر وأمره فراجعها، فقال لما رجعت إليه:

أعاتكَ! قد طُلّقتِ من غير بغضةٍ،

 

ورُوجِعتِ للأمر الذي هو كائنُ

كذلك أمـرُ الـلـه غـادٍ ورائحٌ،

 

على الناس، فيه أُلفةٌ وتـبـايُنُ

وما زال قلبي للتفـرّق بـائنـاً،

 

فقلبي لما قد قرّب الله سـاكـنُ

ليهنِكِ أني لم أجد منك سَخـطةً،

 

وأنك قد جَلّت عليك المحـاسـنُ

وأنك ممن زيّن اللـه أمـرهـا،

 

وليس لما قد زيّن الـلـه شـائنُ

فلن تزل عنده، حتى قُتل يوم الطائف، رُمي بسهم فمات، فجزعت عليه جزعاً شديداً وقالت ترثيه:

أآليتُ لا تنـفـكّ عـينـي حـزينةً

 

عليك، ولا ينفكّ جِـلـدي أغـبـرا

فلله عينا من رأى مـثـلـه فـتـىً

 

أشدّ، وأحمى في الهياج، وأصبـرا

إذا أُشرِعت فيه الأسنّة خـاضـهـا

 

إلى الموت، حتى يترُكَ الرمح أشقرا

ثم خطبها عمر بن الخطاب، فتزوّجها، فأولم عليها، ودعا أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: فقال له علي بن أبي طالب: ائذن لي لأُدخِل رأسي إلى عاتكة أكلّمها؛ قال: افعل، فأدخل رأسه إليها فقال: يا عُديّة نفسها! أهكذا كان قولك:

أآليتُ لا تنفكّ عيني سَـخـينةً

 

عليك، ولا ينفكّ جلدي أغبرا!

فبكَت، فقال له عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن؟ فغفر الله لك، أنهنّ يفعلن هذا، قال: أردتُ أن أُعلمها أنه لا عهد لهنّ، فمكثت عنده، حتى قُتل أبو لؤلؤة، فقالت ترثيه:

 

عينِ جودي بعبـرةٍ ونـحـيبِ

 

لا تَملّي على الأمير النـجـيب

فجعتني المَنونُ بالفارس المـع

 

لم يوم الـهـياج والـتـأتـيبِ

عصمة الله، والمُعين على الـده

 

ر، غياث الملهوف والمكروبِ

قل لأهل البأساء والضُّرّ: موتوا،

 

قد سقته المنون أمُّ الـرقـوب

ثم تزوّجها الزبير بن العوام، فمكثت عنده حتى قُتل عنها، منصرفاً من الجمل، بوادي السباع، قتله ابن جرموز فرثتْه، وفيه تقول:

 

غَدَرَ ابنُ جُرْموز بفارس بُهمةٍ،

 

يوم اللقاء، وكان غير مُـعـرِّدِ

يا عمرو لو نبّهتَـه لـوجـدْتَـهُ

 

لا طائشاً، رُغْبَ الجنان، ولا اليد

ثكلتك أمُّك أن قتلتَ لمسـلـمـاً

 

حلّت عليك عقوبة المتـعـمِّـدِ

فخطبها عليّ بن أبي طالب، فبعثت إليه: إني لأضَنّ بك عن القتل، وإنما استحْيَت فامتنعت، وقد تزوجت باثنين من بعد قولها:

أآليتُ لا تنفكّ عيني سَخـينةً

 

عليك، ولا ينفكّ جلدي أغبرا

قال: وحدثني أبو الفضل الربيع قال: حدثني أبو ربيعة العامري الكوفي قال: حدثني علي بن عمرو الأنصاري قال: دخلت المُدلّة البَكرية، زوجة المُغيرة بن أبي ضِمام البكري، وكان يحبّها حباً شديداً، على المغيرة بن أبي عقيل، تُخاصم في بعض أمورها، فلما خرجت المُدلّة قال: أنت التي يقول فيك المُعَذَّل:

 

قلْ للمدلّة طال ذا التعـديدُ،

 

فدعي التعلُّلَ والمِطالَ قليلا

ويّزيدها حَلْي النساء مَلاحةً،

 

ويَزيد ذلك بعضهن خُبـولا

قالت: نعم. قال: فلِم تزوّجت بعده؟ أفٍّ لكنّ! قالت: أتنصف ما كنتُ بديّاً، وما بَنيّاً! فضحك منها وأمرها بالانصراف.

ورُوي أن امرأة من نساء العرب تزوّجت رجلاً من خَشْعَم، فوجد كل واحد منهما بصاحبه وجداً شدياً، وأنهما تحالفا أن لا يتزوج أحدهما بعد صاحبه، فمات قبلها، فتزوجت، فلامها بعض أهلها، وقالوا: أين ما كنت تجدين به؟ فأنشأت تقول:

 

وقد كان حُبي ذاك حباً مُبرِّحاً،

 

وحُبّي لذا إذ مات ذاك شـديد

وكان هواي عند ذاك صَبـابةً،

 

وحبّي لذا، طول الحـياة، يزيد

فلما مضى عادت لهذا مَوَدّتي،

 

كذاك الهوى، بعد الذهاب يعودُ

وقال صالح بن حسان: لما احتُضر حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كانت فاطمة بنت حسن بن علي جالسةً عند رأسه تبكي، فقال: ما يُبكيك؟ قالت: على فراقك، ابن عمّ، قال: مَهْ! ما صنعتِ؟ فإياك أن تنكحي عبد الله بن عمرو بن عثمان، وقد علم أن أحداً لا يجترئ على خُطبتها غيره. قالت: ما كنتُ لأفعل. وهلك، وله منها عبد الله بن حسن، وإبراهيم بن حسن. فلما انقَضَت عدّنها دعت مولاةً لها يقال لها: زير، فقالت: إيتي عبد الله بن عمرو، فقولي له: أعرنا بغلتك الشهباء برحالتها، فإني قد أردت أن أسير إلى بعض أموال ولدي بالعالية. فأتته، فقال: يا زير لو كان لي إلى مولاتك سبيلٌ! ارحلوا لها البغلة. فلما جاءت قالت: هل لقيته؟ قالت: نعم! قالت: فما قال لك؟ قالت قال: لو كان لي إلى مولاتك سبيلٌ! قالت: يلكِ، وأين المذهب عنه؟ فرجَعت زير، فدخلت عليه وأعلمته، فأرسل إليها، فخطبها، فتزوجته، وولدت له الهيثم ومحمداً ورقيّة، وكان لها من الحسنِ ثلاثة، ومن عبد الله ثلاثة.
ورُوي عن سماك بن حرب أنه قال: كانت العرب تقول: لم تُنْهَ امرأةٌ قطّ عن رجل إلا تزوجته.


وقال ابن عباس: حدثني شيخٌ من بني ضبّة قال: كان رجل منا ظريفاً شريفاً احتُضر، فبينا هو يجود بنفسه، وبُني له يُسمّى مَعْمَراً يدبّ بين يديه، فنظر إليه وبكى، ثم التفت إلى امرأته، فقال: يا هذه،

إني لأخشى أن أموت، فتُنكَحـي،

 

ويُقدف في أيدي المراضع مَعمرُ

فحالت ستـورٌ بـعـده وولـيدةٌ،

 

وأشغلهم عنه نحورٌ ومُجْـمَـرُ

قالت: ما كنتُ فاعلةً. قال الشيخ: فوالله ما انقضت عنها عِدّتها حتى تزوجت بشابّ من الحي، ورأيت كما مصف.

قال: وأنشدني بعض الشعراء:

إنّ من غَرّه النساء بشيءٍ،

 

بعد هند لجاهلٌ مغـرورُ

كل أنثى، وإن بدا لك منها

 

غاية الحب، حبُّها خَيتَعورُ

وإن الوفاء فيهن عَزيز، وغير موجود، ووالله لئن كان كذاك وعُرفن بذاك، ففي الرجال من هو أكثر منهن غدراً، وأسرع منهن خَتراً، وأسمح منهن تنقّلاً، وأقبح منهن تبدُّلاً.

غدر الرجال

خُبِّرت عن الأصمعي قال: كان رجل من الأعراب يُظهر الوجدَ لامرأته، والحب لها. وكانت تُظهر له مثل ذلك، فتعاهدا ألاّ يتزوّج منهما الباقي بعد صاحبه، فاختُرمَت المرأة قبله، فخطب الرجل امرأةً من يومه ذلك، فقيل له: أتخطب بعد يمينك وعهدك؟ فقال:

خَطَبْتُ، كما لو كنتُ قد مُتُّ قبلها،

 

لكانت، بلا شكٍّ، لأول خـاطـبِ

إذا غاب بعلٌ كان بعلٌ مكـانـه،

 

ولا بدّ مـن آتٍ وأخـرَ ذاهـبِ

وخُبّرت أن بعض وُلاة العهود كانت له جاريةٌ، فكان يُظهر الميل إليها، والاستهتار بحبها. وكان يقول لها: إذا أفضتِ الخلافة إليه أن يفضّلها على نسائه، ويقدّمها في البِرّ والكرامة عليهنّ، فلما بلغ من ذلك أمله جفاها واطّرحها وقَلاها، فكتبت إليه:

أين ذاك الوُدُّ والقَبـول،

 

وأين ما كنتَ لنا تقول؟

فكتب إليها:

قد قال في أشعاره لَبيدُ:

 

يا حبّذا الطارف والتليد

فعلمت أنه لا حاجة له فيها. فهذا في القُبح يتجاوز غدر النساء، ويعلو على كثير من جنايات الإماء، وإنهنّ، والله، على ما فيهن من الغدر والخيانة والشرّ، لربما عَشِقن فاشتهرن، ووفين فأحسنّ.

وفاء النساء

وإن من حُسن ما بلغ من وفائهن ما صنعتْه ابنة الفَرافِصة مع عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكان من قصّتها أن سعيد بن العاص تزوج هند ابنة الفَرافِصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحرث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكليبة، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فكتب إلى سعيد: أما بعد، فقد بلغني أنك تزوّجتَ امرأةً من كلب، فاكتب إليّ بنسبها وجمالها. فكتب إليه سعيد: أما بعد، أما نسبُها، فه ابنة الفَرافِصة بن الأحوص، وأما جمالها، فبيضاء، مَديدة، والسلام. فكتب إليه عثمان: إن كانت لها أختٌ فزوِّجْنيها. فبعث سعيد إلى أبيها، فخطب إليه إحدى بناته على عثمان، فقال الفَرافصة لابن له يُدعى ضبّاً، وكان قد أسلم، وأبوه نصراني: يا بُنيّ! زوّج عثمان بن عفان أختك، فزوّجه. فلما أراد حملها قال لها أبوها: أي بُنيّة! إنك ستقدمين على نساء قريش، وهن أقدر على الطيب منك فاحفظي عني اثنتين: تكحّلي وتطيّبي بالماء، حتى تكون ريحك كريح الشباب التطهَّرين. فلما حُملت شقّ عليها الغُربة واشتاقت إلى أهلها، فقالت:

ألستَ ترى، يا ضَبّ باللـه، أنـنـي

 

مصاحبةٌ نحو الـمـدينة أركـبـا

إذا قطعوا خَرْقاً تخبّ رِكـابـهـا،

 

كما زعزعت ريحٌ يراعاً مُقصَّبـا

لقد كان في أبناء حِصن بن ضمضمٍ،

 

لك الويل، ما يُغني الخِباء المُطنَّبـا

قلما قدمت على عثمان بن عفان قعد على سرير، وألقى لها سريراً حياله، فجلست عليه، ورفع العِمامة عن رأسه، فبدا الصلع فقال: يا ابنة الفَرافصة، لا يهولنّك ما ترين من الصلع، فإن من ورائه ما تحبين. قالت: إني لمن نُسوةٍ أحب بعولتهنّ إليهنّ الكهول البيض، السادة. فقال: إما أن تقومي إليّ وإما أن أقوم إليك. فقالت: ما تجشّمتُ من كراهة جَنباتِ السماوة أبعد مما بيني وبينك. ثم قامت إليه، فجلست إلى جانبه، فمسح رأسها، ودعا بالبركة، وقال: اطرحي عنك خِمارك، فطرحته، ثم قال: اخلعي دِرعك، فخلعته، ثم قال: حُلّي إزارك، فقالت: ذاك إليك، فحلّه، فكانت من أحظى نسائه عنده. فلما كان يوم الدار أهوى رجلٌ إلى عثمان بالسيف، فألقت نفسها عليه، فضرب عَجيزتها، وكانت من أعظم النساء عَجيزةٌ، فقالت: أشهد أنك فاسقٌ لم تأت غضباً لله ولرسوله! فأهوى إليها بالسيف ليضربها، فاتّقته بيدها فقطع إصبعين من أصابعها، فلما قُتل عثمان قالت فيه ترثيه:

ألا إنّ خير الناس بـعـد نـبـيّه

 

قتيل التَّجوبيّ الذي جاء من مِصرِ

وما لي لا أبكي، وتبكي قَرابتـي،

 

وقد ذهبَت عنا فُضول أبي عمرِو

فبعث معاوية بعد ذلك يخطبها، فنزعت ثنيّتها العليا وقالت: أذاتُ عروسٍ هذه. فهذا، والله، حسنٌ من وفاء النساء.
وقد تقدم ذكر جماعة من أهل الوفاء اللاتي قتلن أنفسهن في أثر متعشّقهيهنّ أغنى عن كثير من أخبارهنّ.

عبد الله بن علقمة وحُبيشة

وقد رُوي أيضاً عن أبي حَدْرَد الأسلمي قال: نشأ فينا غُلامٌ يقال له: عبد الله علقمة، فعلق جاريةً منا يقال لها حُبيشة لم تكن من فخذه، وكان يتحدّث إليها كثيراً. فخرج ذات يوم من عندها، فنظر إلى ظبيةٍ على رابية فالتفت إلى أمّه وهو يقول:

يا أُمّتي خبّرينـي غـير كـاذبةٍ،

 

وما يُريد مَسولُ الخُبرِ بالكـذبِ

حُبيشٌ أحسنُ أم ظبيُ بـرابـيةٍ،

 

لا بل حُبيشةُ من ظبيٍ ومن ذهبِ

ثم انصرف من عندها مرة أخرى فأصابته السماء، فأنشأ يقول:

وما أدري إذا أبصرتُ يومـاً،

 

أصوب القطر أحسن أم حُبيشُ

حُبيشة والذي خلق الـهـدايا،

 

على أن ليس عند حُبيشَ عيشُ

فلما سمع بذلك قومه قالوا لأمه: هذا غلامٌ يتيمٌ لا مال عنده، وآل تلك يرغبون عنكم، فانظري له بعض نساء قومه، لعله يسْلى عنها، فزوّجته جاريةٌ ذات جمال وكمال، وزيّنتها بأحسن زينةٍ، وأقامتها بين يديه، فلما نظر إليها قال: مرعىً ولا كالسعدان! فذهبَت كلمتُه مثلاً، والسعدان نَبْتٌ يرعاه إبل الملوك؛ فعلموا أنه لا ينصرف عن هواها. فتواعدوا حُبيشة وقالوا: إذا جاء فأعرضي عنه، وتجهّميه بالكلام، رجاء أن ينصرف بعض الانصراف. فلما رآها لم تستطع أن تفعل ما أُمرت به غير أنها جعلت تنظر إليه وتبكي، فعلم بقصّتها، فانصرف وهو يقول:

وما كان حبي عن نوالٍ بذلـتُـه،

 

فليس بمُسليه التجهّن والهَـجـر

سوى أن دائي منـك داءٌ مـودةٍ،

 

قديماً ولم يُمزَج كما مُزج الخمر

وما أنس ملأشياء لا أنسَ دمعهـا

 

ونظرتها حتى يُغيّبني الـقـبـر

ثم مكثا على حالهما، وطول وحدهما، إلى أن وافتهما خيلٌ خالد بن الوليد يوم الغُميضاء، فأُخذا فيمن أُخذ من الأسرى فأُوثقا رباطاً.

وهذا حديثٌ مشتهر قد رواه محمد بن حميد الخُراساني عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، وحكاه المدائني عن يعقوب بن عُتبة بن المُغيرة الثقفي عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي حَدْرَد الأسلمي عن أبيه قال: كنتُ يوم الغُميضاء، وهو يوم بني جذيمة، في خيل خالد بن الوليد المخزومي، حين وجهه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتل وأسر، فقال لي فتىً منهم، وقد جُمعت يداه إلى عُنُقه، ونُسوةٌ مجتمعاتٌ غير بعيدٍ منه: يا فتى! هل أنت آخذٌ بزمام ناقتي، فقائدي إلى هؤلاء النسوة، فأقضي إليهن حاجةً، ثم ترى بعد ذلك ما بدا لك؟ قلتُ: يسيرٌ ما سألتَ، فألحقته بهن، فوقف عليهن، فاقل: اسلمي حُبيش على نفاذ العيش! قالت: وأنت فاسلم سعيتَ سقاك ربي الغيث؛ ثم قالت: وأنت فحُيّيتُ عشراً وسبعاً وِتراً وثمانياً تترى، فقال الفتى:

أريتكِ إذ طالبتكم، فـوجـدتـكـم

 

بحَليةَ، أو ألفيتكُم بـالـخـوانـقِِ

ألم يكُ حقّـاً أن يُنـوَّلَ عـاشـقٌ

 

يُكلَّفُ إدلاج السُّـرى والـودائقِ

فلا ذنب لي، قد قلت إذ نحن جِيزةٌ:

 

أثيبي بوُدٍّ قبل إحدى الصـفـائق

أثيبي بودٍّ قبل أن يشحط الـنـوى،

 

وينأى عدوٌّ بالمحب الـمـفـارق

فإني ما ضـيّعـتُ سـر أمـانةٍ،

 

ولا راق عيني، بعد وجهك، رائقُ

على أن ما نال العشيرة شـاغـلٌ

 

عن الودّ إلا أن يكون التَّـوامـقُ

ثم بكى وبكت، ثم أنشأ يقول:

فإن يقتلوني، يا حُبـيشُ، فـلـم يدع

 

هواكِ لهم مني سوى غُلّةِ الـصـدرِ

وأنتِ التي انحلت جِلدي على دمـي،

 

وعظمي، وأسبلت الدموع على النحر

ثم انصرفت به، فضربتُ عنقه، فنظرتْ إليه فأقبلت حتى أكبّت عليه.

عفراء وعروة

وقد فعلت أيضاً مثل ذلك عفراء بنت عِقال بعروة بن حزتم؛ لما بلغها موته استأذنت من زوجها في زيارة قبره، فخرجت في نُسوة لها، حتى وردت قبره، فلما رأته من بعيد صرخت ثم دنت فرمت بنفسها عن راحلتها، ثم جعلت تبكي ونشهق غلة أن خمد صوتها، فدنوا منها، فوجدوها ميتة، فدفنت إلى جانبه.

فبعث معاوية بعد ذلك يخطبها، فنزعت ثنيّتها العليا وقالت: أذاتُ عروسٍ هذه. فهذا، والله، حسنٌ من وفاء النساء.
وقد تقدم ذكر جماعة من أهل الوفاء اللاتي قتلن أنفسهن في أثر متعشّقهيهنّ أغنى عن كثير من أخبارهنّ.

عبد الله بن علقمة وحُبيشة

وقد رُوي أيضاً عن أبي حَدْرَد الأسلمي قال: نشأ فينا غُلامٌ يقال له: عبد الله علقمة، فعلق جاريةً منا يقال لها حُبيشة لم تكن من فخذه، وكان يتحدّث إليها كثيراً. فخرج ذات يوم من عندها، فنظر إلى ظبيةٍ على رابية فالتفت إلى أمّه وهو يقول:

يا أُمّتي خبّرينـي غـير كـاذبةٍ،

 

وما يُريد مَسولُ الخُبرِ بالكـذبِ

حُبيشٌ أحسنُ أم ظبيُ بـرابـيةٍ،

 

لا بل حُبيشةُ من ظبيٍ ومن ذهبِ

ثم انصرف من عندها مرة أخرى فأصابته السماء، فأنشأ يقول:

وما أدري إذا أبصرتُ يومـاً،

 

أصوب القطر أحسن أم حُبيشُ

حُبيشة والذي خلق الـهـدايا،

 

على أن ليس عند حُبيشَ عيشُ

فلما سمع بذلك قومه قالوا لأمه: هذا غلامٌ يتيمٌ لا مال عنده، وآل تلك يرغبون عنكم، فانظري له بعض نساء قومه، لعله يسْلى عنها، فزوّجته جاريةٌ ذات جمال وكمال، وزيّنتها بأحسن زينةٍ، وأقامتها بين يديه، فلما نظر إليها قال: مرعىً ولا كالسعدان! فذهبَت كلمتُه مثلاً، والسعدان نَبْتٌ يرعاه إبل الملوك؛ فعلموا أنه لا ينصرف عن هواها. فتواعدوا حُبيشة وقالوا: إذا جاء فأعرضي عنه، وتجهّميه بالكلام، رجاء أن ينصرف بعض الانصراف. فلما رآها لم تستطع أن تفعل ما أُمرت به غير أنها جعلت تنظر إليه وتبكي، فعلم بقصّتها، فانصرف وهو يقول:

وما كان حبي عن نوالٍ بذلـتُـه،

 

فليس بمُسليه التجهّن والهَـجـر

سوى أن دائي منـك داءٌ مـودةٍ،

 

قديماً ولم يُمزَج كما مُزج الخمر

وما أنس ملأشياء لا أنسَ دمعهـا

 

ونظرتها حتى يُغيّبني الـقـبـر

ثم مكثا على حالهما، وطول وحدهما، إلى أن وافتهما خيلٌ خالد بن الوليد يوم الغُميضاء، فأُخذا فيمن أُخذ من الأسرى فأُوثقا رباطاً.

وهذا حديثٌ مشتهر قد رواه محمد بن حميد الخُراساني عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، وحكاه المدائني عن يعقوب بن عُتبة بن المُغيرة الثقفي عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي حَدْرَد الأسلمي عن أبيه قال: كنتُ يوم الغُميضاء، وهو يوم بني جذيمة، في خيل خالد بن الوليد المخزومي، حين وجهه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتل وأسر، فقال لي فتىً منهم، وقد جُمعت يداه إلى عُنُقه، ونُسوةٌ مجتمعاتٌ غير بعيدٍ منه: يا فتى! هل أنت آخذٌ بزمام ناقتي، فقائدي إلى هؤلاء النسوة، فأقضي إليهن حاجةً، ثم ترى بعد ذلك ما بدا لك؟ قلتُ: يسيرٌ ما سألتَ، فألحقته بهن، فوقف عليهن، فاقل: اسلمي حُبيش على نفاذ العيش! قالت: وأنت فاسلم سعيتَ سقاك ربي الغيث؛ ثم قالت: وأنت فحُيّيتُ عشراً وسبعاً وِتراً وثمانياً تترى، فقال الفتى:

أريتكِ إذ طالبتكم، فـوجـدتـكـم

 

بحَليةَ، أو ألفيتكُم بـالـخـوانـقِِ

ألم يكُ حقّـاً أن يُنـوَّلَ عـاشـقٌ

 

يُكلَّفُ إدلاج السُّـرى والـودائقِ

فلا ذنب لي، قد قلت إذ نحن جِيزةٌ:

 

أثيبي بوُدٍّ قبل إحدى الصـفـائق

أثيبي بودٍّ قبل أن يشحط الـنـوى،

 

وينأى عدوٌّ بالمحب الـمـفـارق

فإني ما ضـيّعـتُ سـر أمـانةٍ،

 

ولا راق عيني، بعد وجهك، رائقُ

على أن ما نال العشيرة شـاغـلٌ

 

عن الودّ إلا أن يكون التَّـوامـقُ

ثم بكى وبكت، ثم أنشأ يقول:

فإن يقتلوني، يا حُبـيشُ، فـلـم يدع

 

هواكِ لهم مني سوى غُلّةِ الـصـدرِ

وأنتِ التي انحلت جِلدي على دمـي،

 

وعظمي، وأسبلت الدموع على النحر

ثم انصرفت به، فضربتُ عنقه، فنظرتْ إليه فأقبلت حتى أكبّت عليه.

عفراء وعروة

وقد فعلت أيضاً مثل ذلك عفراء بنت عِقال بعروة بن حزتم؛ لما بلغها موته استأذنت من زوجها في زيارة قبره، فخرجت في نُسوة لها، حتى وردت قبره، فلما رأته من بعيد صرخت ثم دنت فرمت بنفسها عن راحلتها، ثم جعلت تبكي ونشهق غلة أن خمد صوتها، فدنوا منها، فوجدوها ميتة، فدفنت إلى جانبه.

هاتف من القبر

وروى الأصمعي أيضاً قال: حرجتُ أريد بعض أحياء العرب، فجنّتي الليل، وبتّ في جَبّان، وتوسّدتُ قبراً، فسمعت في الليل من القبر قائلاً يقول:

أنعم الله بالـخـيالَـين عـينـاً،

 

وبمسراكِ، يا سُعـاد، إلـينـا

وحشةً ما لقيتُ من خَلَل القـب

 

ر، عسى أن أراك، أو أن ترينا

فأرقتُ له ليلتي، فلما أصبحتُ دخلت الحيَّ، فإذا بجنازة قد أقبل بها، فسألت عنها، فقيل: هذه سعاد كانت تحبّ ابن عمٍّ لها، وإنهما تعاقدا على الوفاء فهلك قبلها، فلم تزل تبكي عليه، فها هي قد لحقت به. فتبعتُهُم، حتى دُفنت إلى جانب القبر الذي بِتُّ عنده، وإذا هو قبر ابن همها، فخبّرتهم بما سمعتُ وانصرفت.

مالك الغساني وابنة عم النعمان بن بشير

ورُوي أن مالك بن عمرو الغساني تزوج ابنة عمّ للنعمان بن بشير الأنصاري، فأحب كل واحد منهما صاحبه، وكان شجاعاً بطلاً مقداماً، فعهدَتْ إليه أن لا يباشر حرباً، ثم إنه غدا، فلقي العدوّ، فطُعن، فقال وهو يجود بنفسه:

ألا ليت شعري عن غزالٍ تركتُهُ،

 

إذا ما أتتهُ ميتتي كيف يصـنـع

أيلبس أثواب الحداد تفـجّـعـاً،

 

على مالكٍ أم فيه للبعل مَطمَـعُ

فلو أنني كنتُ الموخَّر بـعـده،

 

لما برححَت نفسي عليه تقطَّـعُ

فلما أتاها خبره استمسك لسانها حولاً، فقال رهطها وعشيرتها: لو زوّجتموها غيره، لعلها تسلى، وتُفيق، فزوّجوها رجلاً من أبناء الملوكِ، فساق إليها هديةً عظيمة القدر، فلما كان ليلة بنائه بها أخذت بعضادتي الباب ثم أنشأت تقول:

يقول رجالٌ: زوَّجوها لـعـلّـهـا

 

تُفيق وترضى بعـده بـحـلـيلِ

فأضمرتُ في النفس التي ليس بعده

 

رجاءٌ لها، والصدق أفضل قـيلِ

أبعد ابن عمرٍو سيّد القوم مـالـكٍ

 

أزفّ إلى زوجٍ بعَضبٍ كـلـيلِ

وخبّرني أصحابـه أنّ مـالـكـاً

 

خفيفٌ على العلاّت غير ثـقـيل

وخبّرني أصحابـه أن مـالـكـاً

 

ضَروبٌ بماضي الشَّفرتين صقيلِ

وخبّرني أصحابـه أنّ مـالـكـاً

 

جوادٌ بما في الرحل غير بـخـيلِ

وخبّرني أصحابـه أنّ مـالـكـاً

 

ثوى، وتنادى صحبُـهُ بـرحـيلِ

فما كان يشيني خلـيلـي بـخُـلّةٍ،

 

وما كنتُ أشري مالكاً بـخـلـيلِ

فقال لها بعلها: ارجعي إلى أهلك، ولك كل ما سُقتُ إليك، مثلك فليتزوّج الرجال.

العامرية ووفاؤها

ومن حُسن وفائهن أيضاً ما رواه الهيثم بن عَديّ، فإنه كان في بني عامر بن صعصعة امرأةٌ توفي عنها زوجها، ولها ابنا عمّ، فصارا إلى بعض شيوخهم، فقالا له: فلانة جاريةٌ شابةٌ، والقالة إلى مثلها سريعةٌ، فوجّه إليها فلتحضرْ، واعرِض عليها أيّنا أهوى إليها، حتى يتزوجها. فوجه الشيخ إليها، فأتته، فعرض عليها مقالتهما. فأطرقت مليّاً تنكُتُ الأرض، حتى حفرت فيها حفيرةً، وملأتها من دموعها. وكان زوجها دُفن بمقبرةٍ تدعى بحَوضى، فالتفتت إلى ابني عمها، وأنشأت تقول:

فإن تسألاني عن هـواي، فـإنـه

 

رهينٌ بحوضى، أيها الـفـتـيانِ

وإني لأستحييه، والموت دونـنـا،

 

كما كنتُ أستحييه حـين يرانـي

أهابك إجلالاً، وإن كنتُ في الثرى

 

لوجهك يوماً إن يسؤْكَ مكـانـي

وقامت فانصرفت. فقال: قد رأيتما وسمعتما. فانصرفا، وقد يئسا، ثم لقياها يوماً في المقابر وعليها مُصبَّغاتٌ وحلىً وحُللٌ، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في أي زيّ خرجت، والله ما أراها إلا متعرّضةً للرجال، هلمّ فلننظر ما تصنع. فقربا منها، فأتت القبر فالتزمته، ثم أنشأت تقول:

يا صاحب القبر يا من كان يؤنسي

 

وكان يُحسن في الدنيا مؤاتاتـي

أزور قبرك في حَلْيٍ وفي حُلَلٍ،

 

كأنني لست من أهل المصيبـات

أتيتُ ما كنتَ من قُربي تحب، وما

 

قد كان يلهيك في ألوان لـذّاتـي

ومن يراني يرى عَبرى مفجَّـعةً،

 

طويلة الحُزن في زُوّار أمـوات

ثم شهقت فماتت.

ومثل هذا وأشباهه من الوفاء قليل في النساء وهو من وفاتهن عجبٌ، والغدر عليهن أغلب، إذ على ذلك طبع خلقهنُ، وعليه جُعلت بنيتهنّ. وسأصف لك جملة من مكرهنّ لتقف به على غدرهن، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.