الفصل السادس: رسول الله مولده صلى الله عليه وسلم

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

التاريخ الإسلامي

رسول اللّه مولده صلى الله عليه وسلم

وذكر شيء من شرف بيته الطاهر أما أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عبد الله بن عبد المُطلب المذكور وكانت ولادة عَبْد الله المذكور قبل الفيل بخمس وعشرين سنة وكان أبوه يحبه لأنه كان أحسن أولاده وأعفهم وكان أبوه قد بعثه يمتار له فمر عبد الله المذكور بيثرب فمات بها ولرسول اللّه صلى الله عليه وسلم شهران وقيل كان حملاً ودفن عبد الله في دار الحارث بن إِبراهيم بن سراقة العدوي وهم أخوال عبد المطلب وقيل دفن بدار النابغة ببني النجار‏.‏

وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج عبد الله وأبوه عبد المطلب وأمّا آمنة أمّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو قريش فخطب عبد المطلب من وهب المذكور - وكان وهب حينئذ سيد بني زهرة - ابنته آمنة لعبد الله فزوّجه بها فولدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول من عام الفيل‏.‏

وكان قدوم الفيل في منتصف المحرّم تلك السنة وهي السنة الثامنة والأربعون من ملك كسرى أنوشروان وهي سنة إِحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الإِسكندر على دارا وهي سنة ألف وثلاثمائة وست عشرة لبخت نصر‏.‏

ومن دلائل النبوة للحافظ أبي بكر أحمد البيهقي الشافعي قال‏:‏ وفي اليوم السابع من ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح جده عبد المطلب عنه ودعا له قريشاً فلما أكلوا قالوا‏:‏ يا عبد المطلب أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته قال‏:‏ سميته محمداً‏.‏

قالوا‏:‏ فيم رغبت به عن أسماء أهل بيته قال‏:‏ أردت أن يحمده الله تعالى في السماء وخلقه في الأرض وروى الحافظ المذكور بإِسناده المتصل بالعباس رضي الله عنه قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً‏.‏

قال‏:‏ فأعجب جده عبد المطلب وحظي عنده وقال‏:‏ ليكونن لابني هذا شأن‏.‏

وذكر الحافظ المذكور إِسناداً ينتهي إلى مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه قال‏:‏ لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الَله صلى الله عليه وسلم ارتجس إِيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت بحيرة ساوة ورأى الموبذان وهو قاضي الفرس في منامه إِبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك واجتمع بالموبذان فقص عليه ما رأى فقال كسرى‏:‏ أي شيء يكون هذا فقال الموبذان‏:‏ وكان عالماً بما يكون حدث من جهة العرب أمر‏.‏

فكتب كسرى إِلى النعمان بن المنذر‏:‏ أما بعد‏:‏ فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه فوجّه النعمان بعبد المسيح بن عمرو بن حنان الغساني‏.‏

فأخبره كسرى بما كان من ارتجاس الإِيوان وغيره فقال له‏:‏ علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح‏.‏

قال كسرى فاذهب إِليه وسله وأتني بتأويل ما عنده‏.‏

فسار عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه وحياه فلم يحر جواباً فأنشد عبد المسيح يقول‏:‏

أصمّ أمْ يسمع غطريف اليمن

**

أمْ فاد فازلَمَ به شأو العنن

يا فاضِلَ الخطةَ أعيت مَنْ

**

ومَنْ وكاشِفَ الكُربَة عن وجه الغضن

أتاكَ شيخُ الحيِّ من آل سنن

**

وأمه من آل ذيب بن حجن

أبيضَ فضفاضِ الرداءِ والبدن

**

رسول قيلَ العجمُ يسري بالوسن

لا يرهبُ الرعدَ ولا ريبَ الزمنْ

**

تجوب في الأرض علنِدات شجن

قال‏:‏ ففتح سطيح عينيه ثم قال‏:‏

عبد المسيح على جمل مشيح أتى إِلى سطيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إِبلاً صعاباً تقوم خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها‏.‏

يا عبد المسيح إِذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وخمدت نار فارس وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة فليس الشام لسطيح شاماً يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت‏.‏

ثم قضى سطيح مكانه ثم قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره بقول سطيح فقال‏:‏ إِلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً كانت أمور فملك منهم عشرة في أربع سنين وذكر في العقد أن سطيحاً كان على زمن نزار بن معد بن عدنان وهو الذي قسم الميراث بين بني نزار وهم مضر وأخوته‏.‏

وأما شرف النبي صلى الله عليه وسلم وشرف أهل بيته فقد روى الحافظ البيهقي المذكور بإِسناد يرفعه إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ قلت يا رسول الله إِن قريشاً إِذا التقوا لقي بعضهم بعضاً بالبشاشة وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها‏.‏

فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ذلك غضباً شديداً ثم قال‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإِيمان حتى يحبكم لله ولرسوله‏)‏‏.‏

وذكر في موضع آخر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ إِنا لقعود بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ مرت به امرأة فقال بعض القوم‏:‏ هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سُفيان‏:‏ مثل محمد في بني هشام مثل الريحانة في وسط النتن‏.‏

فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال‏:‏ ‏(‏ما بال أقوام تبلغني عن أقوام إِنَّ الله عز وجل خلق السموات سبعاً فاختار العُلى منها فأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشاً واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم ‏)‏‏.‏

وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبرائيل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من مُحمد وقلبت الأرضَ مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم‏.‏

نسب رسول اللّه

قد تقدم في آخر الفصل الخامس ذكر بني إِسماعيل عليه السلام الذين على عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخارجين عن عمود النسب‏.‏

وأما نسبة عليه السلام سرداً فهو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إِلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان‏.‏

ونسبه صلى الله عليه وسلم إِلى عدنان متفق عليه من غير خلاف وعدنان من ولد إِسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام من غير خلاف ولكن الخلاف في عدة الآباء الذين بين عدنان وإسماعيل عليه السلام فعد بعضهم بينهما نحو أربعين رجلاً وعد بعضهم سبعة وروي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عدنان بن أدد بن زيد بن برا بن أعراق الثرى‏.‏

فقالت أم سلمة‏:‏ زيد هميسع وبرا نبت وإسماعيل أعراق الثرى‏.‏

والذي ذكره البيهقي قال‏:‏ عدنان بن أدد بن المقوم بن ناحور بن تارح بن يعرب بن يشحب بن نابت بن إِسماعيل بن إِبراهيم الخليل عليهما السلام‏.‏

وأما الذي ذكره الجواني النسابة في شجرة النسب وهو المختار‏:‏ فهو عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إِسماعيل عليه السلام وقد تقدم نسب إِسماعيل مع نسب إِبراهيم الخليل عليهما السلام مستقصى في موضعه من الفصل الأول فأغنى عن الإعادة‏.‏

قال‏:‏ البيهقي المذكور وكان شيخنا أبو عبد الله الحافظ يقول نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة إِلى عدنان وما وراء عدنان فليس فيه شيء يعتمد عليه‏.‏

رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأول من أرضعته بعد أمه ثويبة مولاة عمه أبي لهب وكان لثويبة المذكورة ابن اسمه مسروح فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسموح المذكور وأرضعت أيضاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن مسروح المذكور حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا سلمة ابن عبد الأسد المخزومي فهما أخوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع‏.‏

رضاعه من حليمة السعدية صلى الله عليه وسلم‏.‏

من حليمة السعدية كانت المراضع يقدمن من البادية إِلى مكة يطلبن أن يرضعن الأطفال فقدمت عدة منهن وأخذت كل واحدة طفلاً ولم تجد حليمة طفلاً تأخذه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتيماً قد مات أبوه عبد الله فلذلك لم يرغبن في أخذه لأنهن كن يرجين الخير من أبي الطفل ولا يرجين أمه فأخذته حليمة بنت أبي ذؤيب بن الحارث السعدية وتسلمته من أمه آمنة وأرضعته ومضت به إِلى بلادها وهي بادية بني سعد فوجدت من الخير والبركة ما لم تعهده قبل ذلك ثم قدمت به إِلى مكة وهي أحرص الناس على مكثه عندها فقالت لأمه آمنة‏:‏ لو تركت ابنك عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة ولم تزل بها حتى تركته معها فأخذته وعادت به إلى بلاد بني سعد وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك ولما كان بعض الأيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه‏.‏

الرضاع خارجاً عن البيوت إِذ أتى ابن حليمة أمه وقال لها‏:‏ ذلك القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه فخرجت حليمة وزوجها نحوه فوجداه قائماً فقالا‏:‏ مالك يا بني فقال‏:‏ ‏(‏جاءني رجلان فأضجعاني وشقا بطني‏.‏

فقال زوج حليمة لها‏:‏ قد حسبت أن هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله‏.‏

فاحتملته حليمة وقدمت به على أمه آمنة‏.‏

فقالت آمنة‏:‏ ما أقدمك به وكنت حريصة عليه فأبدت حليمة عذراً لم تقبله آمنة منها وسألتها عن الصحيح‏.‏

فقالت حليمة‏:‏ أتخوف عليه من الشيطان‏.‏

فقالت أمه آمنة‏:‏ كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل إِن لابني شأناً وأخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع عبد الله وأنيسة وجذامة وهي الشيماء غلب ذلك على اسمها وأمهم حليمة السعدية وأبوهم الحارث بن عبد العزى السعدي وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع‏.‏

فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها خديجة فأعطتها أربعين شاة‏.‏

ثم قدمت حليمة وزوجها الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة فأسلمت هي وزوجها الحارث وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مح أمه آمنة فلما بلغ ست سنين توفيت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إِياهم فماتت وهي راجعة إِلى مكة وكفله جده عبد المطلب فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين توفي جده عبد المطلب ثم قام بكفالته عمه أبو طالب بن عبد المطلب وكان أبو طالب شقيق عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم خرج به أبو طالب في تجارة إِلى الشام حتى وصل إِلى بصرى وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ ذاك ثلاث عشرة سنة وكان بها راهب يقال له بحيرا فقال لأبي طالب‏:‏ ارجع بهذا الغلام واحذر عليه من اليهود فإِنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ فكان أعظم الناس مهرة وحلماً وأحسنهم جواباً وأصدقهم حديثاً وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش حتى صار اسمه في قومه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة وحضر مع عمومته حرب الفجار وعمره أربع عشرة سنة وهي حرب كانت بين قريش وكنانة وبين هوازن وسميت بالفجار لما انتهكت فيها هوازن حرمة الحرم وكانت الكرة في هذه الحرب أولاً على قريش وكنانة ثم كانت على هوازن وانتصر قريش‏.‏

سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الشام في تجارة لخديجة

كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب تاجرة ذات شرف ومال وكانت قريش قوماً تجاراً فلما بلغها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمانته عرضت عليه الخروج في تجارتها إِلى الشام مع غلام لها يقال له ميسرة فأجاب إِلى ذلك وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم الشام ومعه ميسرة وباع ما كان معه واشترى عوضه ثم أقبل قافلاً إِلى مكة ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال خديجة وحدثها ميسرة بما شاهده من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يشاهد ملكين يظلانه وقت الحر فعرضت خديجة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها وأصدقها عشرين بكرة وهي أول امرأة تزوجها ولم يتوج غيرها حتى ماتت وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها خمساً وعشرين سنة وكان عمرها يومئذ أربعين سنة وكانت أيماً ولم يترج رسول الله فَي بكراً غير عائشة وخديجة أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وبقيت معه بعد مبعثه عشر سنين وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين‏.‏

قيل لما مات إِسماعيل عليه السلام ولي البيت بعده ابنه نابت ثم صارت ولاية البيت إِلى جرهم قال عامر بن الحارث الجرهمي‏:‏ وكنا ولاة البيت من بعد نابت نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر ومنها‏:‏ كأن لم يكن بين الحجون إِلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر إلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر ثم إِن جرهماً بغت واستحلت المحارم فأبيدوا وصارت ولاية البيت إِلى خزاعة ثم صارت من بعدهم إِلى قريش وكانت الكعبة قصيرة البناء فأرادت قريش رفعها فهدموها ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود فاختصموا فيه لأن كل قبيلة أرادت أن ترفعه إِلى موضعه ثم اتفقوا على أن يحكّموا أول داخل من باب الحرم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول داخل فحكموه فأمرهم أن يضعوا الحجر في ثوب وأن يمسك كل قبيلة بطرف من أطرافه وأن يرفعوه إِلى موضعه ففعلوا ذلك وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وصوله إِلى موضعه فوضعه بيده موضعه ثم أتموا بناء الكعبة وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود وأول من كساها الديباج الحجاج ابن يوسف وكان عمر النبي صلى الله عليه مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى إِلى الأسود والأحمر رسولاً ناسخاً بشريعته الشرائع الماضية فكان أول ما ابتدئ به من النبوة الرؤيا الصادقة وحبب الله تعالى إليه الخلوة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في جبل حراء من كل سنة شهراً فلما كانت سنة مبعثه خرج إِلى حراء في رمضان للمجاورة فيه ومعه أهله‏.‏

حتى إِذا كانت الليلة التي أكرمه الله سبحانه وتعالى فيها جاءه جبريل عليه السلام فقال له‏:‏ اقرأ‏.‏

قال له فما أقرأ قال‏:‏ ‏)‏اقرأ باسم ربك الذي خلق‏(‏ ‏(‏العلق‏:‏ 1‏)‏ إِلى قوله ‏)‏علم الإِنسان ما لم يعلم(‏ ‏(‏العلق‏:‏ 5‏)‏ فقرأها‏.‏

ثم إِن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إِلى وسط الجبل فسمع صوتاً من جهة السماء‏:‏ يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرائيل فبقي واقفاً في موضعه يشاهد جبرائيل حتى انصرف جبرائيل ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأتى خديجة فحكى لها ما رأى فقالت‏:‏ أبشر فوالذي نفس خديجة بيده إنفي لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم انطلقت خديجة إِلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان ورقة قد نظر في الكتب وقرأها وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأخبرته ما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ورقة‏:‏ قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران وإنه نبي هذه الأمة فرجعت خديجة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة‏.‏

ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف طاف بالبيت أسبوعاً ثم انصرف إِلى منزله ثم تواتر الوحي إِليه أولاً فأولاً وكان أول الناس إِسلاماً خديجة لم يتقدمها أحد وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إِلا أربع‏:‏ آسية زوجة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ‏)‏‏.‏

أول من أسلم من الناس

لا خلاف في أن خديجة أول من أسلم واختلف فيمن أسلم بعدها فذكر صاحب السيرة وكثير من أهل العلم أن أول الناس إِسلاماً بعدها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمره تسع سنين وقيل عشر سنين وقيل إِحدى عشرة سنة وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام وذلك أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب كثير العيال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس‏:‏ ‏(‏إِن أخاك أبا طالب كثير العيال فأنطلق لنأخذ من بنيه ما يخفف عنه به‏)‏ فأتيا أبا طالب وقالا‏:‏ نريد أن نخفف عنك فقال أبو طالب‏:‏ اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فضمه إِليه وأخذ العباس جعفراً فلم يزل علي مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً فصدقه علي ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم من شعر علي في سبقه‏:‏ سبقتكم إِلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلمي وذكر صاحب السيرة أن الذي أسلم بعد علي زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراه وأعتقه ثم أسلم بعد زيد أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو عبد اللّه بن أبي قحافة واسم أبي قحافة عثمان وذهب آخرون إِلى أن أول الناس إِسلاماً أبو بكر ثم أسلم بعد أبي بكر عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وكان إِسلامهم بأن دعاهم أبو بكر إِلى الإسلام وجاء بهمٍ إِلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه رضي الله عنهم فهؤلاء أول الناس إيماناً ثم أسلم أبو عبيدة واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح وعبيدة بن الحارث وسعيد بن زيد بن عمرو وابن نفيل بن عبد العزى وهو ابن عم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر‏.‏

وكانت دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إِلى الإسلام سراً ثلاث سنين ثم بعدها أمر الله رسوله بإِظهار الدعوة ولما نزل ‏)‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏(‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 214‏)‏ دعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقال‏:‏ ‏(‏اصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملا لنا عساً من لبن واجمع لي بني المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ‏)‏‏.‏

ففعل ما أمره ودعاهم وهم أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأحضر علي الطعام فأكلوا حتى شبعوا‏.‏

قال علي‏:‏ لقد كان الرجل الواحد منهم ليأكل جميع ما شبعوا كلهم منه فلما فرغوا من الأكل وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال‏:‏ أشد ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏يا علي قد رأيت كيف سبقني هذا الرجل إِلى الكلام فاصنع لنا في غد كما صنعت اليوم واجمعهم ثانياً‏)‏ فصنع علي في الغد كذلك فلما أكلوا وشربوا اللبن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أعلم إِنساناً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إِليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم‏)‏ فأحجم القوم جميعاً‏.‏

قال علي‏:‏ فقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً وأنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم‏.‏

فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برقبة علي وقال‏:‏ ‏(‏إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا‏)‏ فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب‏:‏ قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع واستمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمره الله ولم يبعد عنه قومه في أول الأمر ولم يردوا عليه حتى عاب آلهتهم ونسب قومه وآباءهم إِلى الكفر والضلال فأجمعوا على عداوته إِلا من عصمه اللّه بالإسلام وذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب فجاء رجال من أشراف قريش إِلى أبي طالب منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد مناف وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس وأبو البختري بن هشام ابن الحارث بن أسد والأسود بن المطلب بن أسد وأبو جهل بن هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة المخزومي عم أبي جهل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان والعاص بن وائِل السهمي وهو أبو عمرو بن العاص فقالوا‏:‏ يا أبا طالب إِنّ ابن أخيك قد عاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فانْهِه عنا أو خلِّ بيننا وبينه فردهم أبو طالب رداً حسناً واستمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على مَا هو عليه فعظم عليهم وأتوا أبا طالب ثانياً وقالوا له ما قالوه أولاً‏.‏

وقالوا‏:‏ إِن لم تنهه وإِلا نازلناك وِإياه حتى يهلك أحد الفريقين فعظم على أبي طالب ذلك وقال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا ابن أخي إِنَّ قومك قالوا إِلي كذا وكذا فظن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏(‏واللّه يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر‏)‏ ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى وقام فولى فناداه أبو طالب أقبل يا ابن أخي وقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً فأخذت كل قبيلة تعذب من أسلم منها ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب‏.‏

إسلام حمزة رضي الله عنه

كان النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا فمر به أبو جهل بن هشام فشتم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكلمه صلى الله عليه وسلم وكان حمزة في القنص فلما حضر أنبأته مولاة لعبد اللّه بن جدعان بشتم أبي جهل لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم فغضب حمزة وقصد البيت ليطوف به وهو متوشح قوسه فوجد ابن هشام قاعداً مع جماعة فضربه حمزة بالقوس فضجه ثم قال‏:‏ أتشتم محمداً وأنا على دينه فقامت رجال من بني مخزوم إِلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل دعوه فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً وتم حمزة على إِسلامه وعلمت قريش أن رسول اَلله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع بإِسلام حمزة‏.‏

إِسلام عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى

وكان شديد البأس والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم فروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام‏)‏ وهو أبو جهل فهدى الله تعالى عمر وكان قد أخذ سيفه وقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه نعيم بن عبد الله النحام فقال‏:‏ ما تريد يا عمر‏:‏ فأخبره فقال له نعيم‏:‏ لأن فعلت ذلك لن يتركك بنو عبد مناف تمشي على الأرض ولكن اردع أختك وابن عمك سعيد بن زيد وخباب فإِنهم قد أسلموا فقصدهم عمر وهم يتلون سورة طه من صحيفة فسمع شيئاً منها فلما علموا به أخفوا الصحيفة وسكتوا فسألهم عما سمعه فأنكروه فضرب أخته فشجهما وقال‏:‏ أريني ما كنتم تقرؤونه وكان عمر قارئاً كاتباً فخافت أخته على الصحيفة وقالت‏:‏ تعدمها فأعطاها العهد على أنَه يردها إِليها فدفعتها إِليه وقال‏:‏ ما أحسن هذا وأكرمه فطمعت في إِسلامه وكان خباب قد استخفى منه فلما سمع ذلك خرج إِليه فسألهم عمر عن موضع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا له‏:‏ هو بدار عند الصفا وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هناك وعنده قريب أربعين نفساً ما بين رجال ونساء منهم حمزة وأبو بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب فقصدهم عمر وهو متوشح بسيفه فاستأذن في الدخول فأذن له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلما دخل نهض إِليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأخذ بمجمع ردائه وجبذه جبذة شديدة وقال‏:‏ ‏(‏ما جاء بك يا ابن الخطاب أو ما تزال حتى تنزل بك القارعة‏)‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله جئت لأؤمن باللّه وبرسوله فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتم

الهجرة الأولى

وهي هجرة المسلمين إِلى أرض الحبشة ولما اشتد إِيذاء قريش لأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمن ليس له عشيرة تحميه في الهجرة إِلى أرض الحبشة فأول من خرج اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة منهم عثمان بن عفان ومعه زوجة رقيه بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام وعثمان بن مظعون وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وركبوا البحر وتوجهوا إِلى النجاشي وأقاموا عنده ثم خرج جعفر بن أبي طالب مهاجراً وتتابع المسلمون أولاً فأولاً فكان جميع من هاجر من المسلمين إِلى أرض الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة نسوة سوى الصغار ومن ولد بها فأرسلت قريش في طلبهم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأرسلوا معهما هدية من الأدم إِلى النجاشي فوصلا وطلبا من النجاشي المهاجرين فلم يجبهما النجاشي‏.‏

وقال عمرو بن العاص‏:‏ سلهم عما يقولون في عيسى فسألهم النجاشي فقالوا ما قاله الله تعالى من أنه كلمة الله ألقاها إِلى مريم العذراء فلم ينكر النجاشي ذلك‏.‏

فأقام المهاجرون في جوار النجاشي آمنين ورجع عمرو بن العاص وعبد الله بن ولما رأت قريش ذلك وأن الإسلام قد جعل يفشو في القبائل تعاهدوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم وكتبوا بذلك صحيفة وتركوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم وانحازت بنو هاشم كافرهم ومسلمهم إلى أبي طالب ودخلوا معه في شعبه وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إِلى قريش مظاهراً لهم وكانت امرأته أم جميل بنت حرب وهي أخت أبي سفيان على رأيه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي التي سماها الله تعالى‏:‏ حمالة الحطب لأنها كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامت بنو هاشم في الشعب ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاث سنين وبلغ المهاجرين الذين في الحبشة أن أهل مكة أسلموا فقدم منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ولما قربوا من مكة لم يجدوا ذلك صحيحاً فلم يدخل أحد منهم مكة إلا متخفياً وكان من الذين قدموا عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعثمان بن مظعون‏.‏

نقض الصحيفة

روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب‏:‏ ‏(‏يا عم إِن ربي سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها غير أسماء الله ونفت منها الظلم والقطيعة ‏)‏‏.‏

فخرج أبو طالب إِلى قريش وأعلمهم بذلك وقال‏:‏ إِن كان ذلك صحيحاً فانتهوا عن قطيعتنا وإن كان كذباً دفعت إِليكم ابن أخي فرضوا بذلك ثم نظروا فإذا الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شراً فاتفق جماعة من قريش ونقضوا ما تعاهدوا عليه في الصحيفة من قطيعة بني المطلب‏.‏

الإسراء

ذكر صاحب السيرة أن الإسراء كان قبل موت أبي طالب وذكر ابن الجوزي أنه كان بعد موت أبي طالب في سنة اثنتي عشرة للنبوة واختلف فيه فقيل‏:‏ كان ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثالثة عشرة للنبوة وقيل كان في ربيع الأول وقيل‏:‏ كان في رجب وقد اختلف أهل العلم فيه هل كان بجسده أم كان رؤيا صادقة فالذي عليه الجمهور أنه كان بجسده وذهب آخرون إلى أنه كان رؤيا صادقة ورووا عن عائشة رضي الله عنها أنفاً كانت تقول‏:‏ ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه ونقلوا عن معاوية أيضاً أنه كان يقول‏:‏ إِنّ الإسراء كان رؤيا صادقة ومنهم من جعل الإسراء إِلى بيت المقدس جسدانياً ومنه إِلى السموات السبع وسدرة المنتهى روحانياً‏.‏

توفي في شوال سنة عشر من النبوة ولما اشتد مرضه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏يا عم قلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة‏)‏ يعني الشهادة‏.‏

فقال له أبو طالب يا ابن أخي لولا مخافة السبة وأن تظن قريش إِنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها فلما تقارب من أبي طالب الموت جعل يحرك شفتيه فأصغى إِليه العباس بأذنه وقال‏:‏ واللّه يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏الحمد لله الذي هداك يا عم ‏)‏‏.‏

هكذا روي عن ابن عباس والمشهور أنه مات كافراً ومن شعر أبي طالب مما يدل على أنه كان مصدقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ ودعوتني وعلمتْ أنك صادق ولقد صدقت وكنت ثم أمينا ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا والله لن يصلوا إِليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا وكان عمر أبي طالب بضعاً وثمانين سنة‏.‏

وفاة خديجة رضي الله عنها

ثم توفيت خديجة بعد أبي طالب وكان موتهما قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين‏.‏

وتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتهما المصائب ونالت منه قريش خصوصاً أبو لهب بن عبد المطلب والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية فإِنهم كانوا جيران النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بما يلقون عليه وقت صلاته وفي طعامه من القاذورات‏.‏

سفره إلى الطائف

ولما نالت قريش من رسول الله بعد وفاة عمه سافر إلى الطائف يتلمس من ثقيف النصرة ورجاء أن يقبلوا ما جاء به من الله فوصل إِلى الطائف وعمد إلى جماعة من أشراف ثقيف مثل مسعود وحبيب ابني عمرو فجلس إِليهم ودعاهم إِلى الله وقال له واحد منهم‏:‏ أما وجد الله أحداً يرسله غيرك وقال الآخر‏:‏ والله لا أكلمك أبداً لأنك إِن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول الله من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إِلى حائط ورجع عنه سفهاء ثقيف فقال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم إِليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي على من تكلني إِن لم تكن علي غضباناً فلا أبالي‏)‏ ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى مكة وقومه أشد مما كانوا عليه من خلافه‏.‏

عرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل

كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج ويدعوهم إِلى الله فيقول‏:‏ ‏(‏يا بني فلان إِني رسول الله إِليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تخلعوا ما يعبد من دونه وأن تؤمنوا بي وتصدقوني ‏)‏‏.‏

وعمه أبو لهب ينادي إِنما يدعوكم إِلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه وكان أبو لهب أحول له غديرتان‏.‏

ابتداء أمر الأنصار رضي اللّه عنهم

ولما أراد الله تعالى إِظهار أمر دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم يعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع فبينما هو عند العقبة إِذ لقي نفراً من الخزرج من أهل مدينة يثرب وأهلها قبيلتان الأوس والخزرج يجمعهم أب واحد وهم يمانيون وبين القبيلتين حروب وهم حلف قبيلتين من اليهود يقال لهما قريظة والنضير من نسل هارون بن عمران فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهم وتلى عليهم القرآن وكانوا ستة رجال فآمنوا به وصدقوه ثم انصرفوا إِلى يثرب وذكروا ذلك لقومهم ودعوهم إِلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم تبق دار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

بيعة العقبة الأولى

ولما كان العام المقبل وافى الموسم اثنا عشر رجلاً من الأنصار فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب وبيعة النساء هي المبايعة على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ليعلمهم شرائع الإسلام والقرآن‏.‏

ولما قدم مصعب المدينة دخل به أسعد بن زرارة وهو أحد الستة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة حائطاً من حوائطم بني ظفر وكان سعد ابن معاذ سيد الأوس ابن خالة أسعد بن زرارة وكان أسيد بن حصين أيضاً سيداً فأخذ أسيد بن حصين حربته ووقف على مصعب وأسعد وقال‏:‏ ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إِنْ كان لكما بأنفسكما حاجة فقال له مصعب‏:‏ أو تجلس فتسمع فجلس أسيد وأسمعه مصعب القرآن وعرّفه الإسلام فقال سيد‏:‏ ما أحسن هذا كيف تصنعون إِذا أردتم الدخول في هذا الدين فعلمه مصعب فأسلم وقال‏:‏ ورائي رجل إِن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد وسأرسله إِليكما يعني سعد بن معاذ ثم أخذ أسيد حربته وانصرف إِلى سعد بن معاذ وبعث به إِلى مصعب وأسعد فلما أقبل قال أسعد لمصعب‏:‏ جاءك والله سيد من ورائه فلما وقف عليهما سعد بن معاذ تهدد أسعد وقال‏:‏ لولا قرابتك مني ما صبرت على أن تغشانا في دارنا بما نكره فقال له مصعب‏:‏ أو ما تسمع فإِن رضيت أمراً قبلته وإلا عزلنا عنك ما تكره فقال‏:‏ أنصفت‏.‏

فعرض مصعب عليه الإسلام وقرأ عليه القرآنَ‏.‏

قال فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم‏.‏

ثم قال‏:‏ كيف تصنعون إِذا أنتم أسلمتم فعرفاه ذلك فأسلم وانصرف إِلى النادي حتى وقف عليه ومعه أسيد بن حصين فلما رآه قومه مقبلاً قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد بغير الوجه الذي ذهب به فقال‏:‏ يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا‏.‏

قال‏:‏ فإِن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله فما أمسى في دار بني عبد الأشهل أحد حتى أسلم ونزل سعد بن معاذ ومصعب في دار أسعد بن زرارة يدعون الناس إِلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إِلا وبّها مسلمون إِلا ما كان من دار بني أمية بن زيد‏.‏

بيعة العقبة الثانية

وكانت في سنة ثلاث عشرة من المبعث وذلك أن مصعب بن عمير عاد إِلى مكة ومعه من الذين أسلموا ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان بعضهم من الأوس وبعضهم من الخزرج مع كفار من قومهم وهم مستخفون من الكفار فلما وصلوا إِلى مكة وأعدوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا به ليلاً في أوسط أيام التشريق بالعقبة وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس وهو مشرك إِلا أنه أحب أن يتوثق منهم لابن أخيه فقال العباس‏:‏ يا معشر الخزرج إِن محمداً منا حيث علمتم وقد منعناه من قومنا وهو في عز ومنعة في بلده وإنه قد أبى إِلا الانحياز إِليكم واللحوق بكم فإن كنتم تقفون عند ما دعوتموه إِليه وتمنعونه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك‏.‏

وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن فدعوه‏.‏

فقالوا‏:‏ قد سمعنا العباس فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت‏.‏

فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن ثم قال‏:‏ ‏(‏أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم ‏)‏‏.‏

ودار الكلام بينهم واستوثق كل فريق من الآخر ثم سألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إِن قتلنا دونك ما لنا قال‏:‏ الجنة‏.‏

قالوا‏:‏ فابسط يدك فبسط يده وبايعوه ثم انصرفوا راجعين إِلى المدينة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إِلى المدينة فخرجوا أرسالاً وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما‏.‏

الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام

وهي ابتداء التاريخ الإسلامي أما لفظة التاريخ فإِنه محدث في لغة العرب لأنه معرب من ماه روز وبذلك جاءت الرواية روى ابن سليمان عن ميمون بن مهران أنه رفع إِلى عمر بن الخطاب في خلافته رضي الله تعالى عنه صك محله شعبان فقال‏:‏ أي شعبان أهذا هو الذي نحن فيه أو الذي هو آت ثم جمع وجوه الصحابة وقال‏:‏ إن الأموال قد كثرت وما قسمنا منها غير موقت فكيف التوصل إِلى ما نضبط به ذلك فقالوا‏:‏ نحب أن نتعرف ذلك من رسوم الفرس فعندها استحضر عمر الهرمزان سأله عن ذلك فقال‏:‏ إِن لنا به حساباً نسميه ماه روز وَمعناه حساب الشهور والأيام فعربوا الكلمة فقالوا مؤرخ ثم جعلوا اسمه التاريخ واستعملوه ثم طلبوا وقتاً يجعلونه أولاً لتاريخ دولة الإسلام واتفقوا على أن يكون المبدأ سنة هذه الهجرة وكانت الهجرة من مكة إِلى المدينة شرفهما الله وقد تصوم من شهور هذه السنة وأيامها المحرم وصفر وثمانية أيام من ربيع الأول‏.‏

فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقري ثمانية وستين يوماً وجعلوا مبدأ التاريخ أول المحرم من هذه السنة ثم أحصوا من أول يوم في المحرم إِلى آخر يوم من عمر النبي صلى الله عليه وسلم فكان عشر سنين وشهرين وأما إِذا حسب عمره من الهجرة حقيقة فيكون قد عاش بعدها تسع سنين وأحد عشر شهراً واثنين وعشرين يوماً وقد وضعنا زايجة تتضمن ما بين الهجرة وبين التواريخ القديمة المشهورة من السنين وإذا أردت أن تعرف ما بين أي تاريخين شئت منها فانظر إلى ما بينهما وبين الهجرة وأنقص أقلهما من أكثرهما فمهما بقي يكون ذلك هو ما بينهما مثاله إِذا أردنا أن نعرف ما بين مولد المسيح ومولد رسول الله صلوات الله عليهما وسلامه نقصنا ما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الهجرة وهو ثلاث وخمسون سنة وشهران وثمانية أيام من ستمائة وإحدى وثلاثين سنة يبقى خمسمائة وثمان وسبعون سنة تنقص شهرين وثمانية أيام هي جملة ما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مولد المسيح ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهما وكذلك أي تاريخين أردت من هذه الدائرة‏.‏

التواريخ القديمة المشهورة من السنين بين الهجرة وبين آدم على مقتضى التوراة اليونانية واختيار المؤرخين ستة آلاف ومائتان وست عشرة سنة وعلى مقتضى التوراة اليونانية واختيار المنجمين حسبما أثبتوا في الزيجات خمسة آلاف وتسعمائة وسبع وستون سنة وعلى مقتضى التوراة العبرانية واختيار المؤرخين أربعة آلاف وسبعمائة وإحدى وأربعون سنة وأما على اختيار المنجمين ينقص عنه مائتان وتسع وأربعون سنة وعلى مقتضى التوراة السامرية واختيار المؤرخين خمسة آلاف ومائة وسبع وثلاثون سنة وأما على اختيار المنجمين فينقص ما ذكر كذلك جاء الأمر في جميع التواريخ إلى قبل بخت نصر‏.‏

بين الهجرة وبين الطوفان على اختيار المؤرخين ثلاث آلاف وتسعمائة وأربع وسبعون سنة وكان الطوفان لستمائة سنة مضت من عمر نوح وعاش نوح بعده ثلاثمائة وخمسين سنة وعلى اختيار المنجمين ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وعشرون سنة حسبما قرره أبو معشر وكوشيار وغيرهما في الزيجات والتقاويم بين الهجرة وبين تبلبل الألسن على اختيار المؤرخين ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع سنين وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة حسبما تقدم ذكره‏.‏

بين الهجرة وبين مولد إِبراهيم الخليل على اختيار المؤرخين ألفان وثمانمائة وثلاثة وتسعون سنة وأما على اختيار المنجمين فتنقص عته مائتين وتسعاً وأربعين سنة بين الهجرة وبين بناء الكعبة على يد إِبراهيم الخليل وولده إِسماعيل ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة وكان ذلك بعد مضي مائة سنة من عمر إبراهيم وهو القريب والله أعلم‏.‏

بين الهجرة وبين وفاة موسى عليه السلام على اختيار المؤرخين ألفان وثلاثمائة وثمان وأربعون سنة وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة بين الهجرة وبين عمارة بيت المقدس على اختيار المؤرخين ألف وثمانمائة وقريب سنتين وكان فراغه لمضي أحد عشر سنة من ملك سليمان ولمضي خمسمائة وست وأربعين سنة لوفاة موسى وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة‏.‏

بين الهجرة وبين ابتداء ملك بختنصر ألف وثلاثمائة وتسع وستون سنة وليس فيه خلاف بين الهجرة وبين خراب بيت المقدس ألف وثلاثمائة وخمسون سنة وكان لمضي تسعهَ عشرة سنة لبختنصر واستمر خراباً سبعين سنة ثم عمر‏.‏

بين الهجرة وبين غلبة الإِسكندر على دارا ملك الفرس تسعمائة وأربع وثلاثون سنة وكانت أيضاً ابتداء ملكه على الفرس‏.‏

وبقي الإسكندر بعد غلبته على دارا نحو سبع سنين‏.‏

بين الهجرة وبين فيلبس تسعمائة وسبع وعشرون سنة وهو أخو الإسكندر أصغر منه باثني عشر سنة وملك بعده على مقدونية ذكره ببطلميوس‏.‏

بين الهجرة وبين غلبة أغسطس على قلوبطرا ملكة مصر ستمائة واثنان وخمسون سنة وكانت بسنة اثنتي عشرة من ملك أغسطس‏.‏

بين الهجرة وبين مولد المسيح عليه السلام ستمائة وإحدى وثلاثون سنة وكان بسنة أربع بين الهجرة وبين خراب بيت المقدس الثاني خمسمائة وثمان وخمسون سنة وكان لمضي أربعين سنة من رفع المسيح عليه السلام وهو تاريخ لشتة اليهود إِلى الآن‏.‏

بين الهجرة وبين أول ملك أدريانس خمسمائة وسبع سنين‏.‏

بين الهجرة وبين قيام أزدشير بن بابك أربعمائة واثنان وعشرون سنة وهو أيضاً تاريخ انقراض ملوك الطوائف‏.‏

بين الهجرة وبين أول ملك دوقلطيانس ثلاثمائة وتسع وثلاثون سنة وهو آخر عبدة الأصنام ملوك الروم‏.‏

بين الهجرة وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وخمسون سنة وشهرين وثمانية أيام‏.‏

بين الهجرة وبين مبعث رسول الله ثلاث عشرة سنة وشهران وثمانية أيام‏.‏

بين الهجرة وبين وفاة رسول الله تسع سنين وأحد عشر شهراً واثنان وعشرون يوماً وهي بعد الهجرة‏.‏

 حديث الهجرة

وأما ما كان من حديث الهجرة فإِنه لما علمت قريش أنه قد صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنصار وأن أصحابه بمكة قد لحقوا بهم خافوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة فاجتمعوا واتفقوا على أن يأخذوا من كل قبيلة رجلاً ليضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد ليضيع دمه في القبائل وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علياً أن ينام على فراشه وأن يتشح ببرده الأخضر وأن يتخلف عنه ليؤدي ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الودائع إِلى أربابها وكان الكفار قد اجتمعوا على باب النبي صلى الله عليه وسلم يرصدونه ليثبوا عليه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب وتلا أول ‏(‏يس‏)‏ وجعل ذلك التراب على رؤوس الكفار فلم يروه فأتاهم آت وقال‏:‏ إِن محمداً خرج ووضع على رؤوسكم التراب وجعلوا ينظرون فيرون علياً عليه برد النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون محمد نائم فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي فعرفوه‏.‏

وأقام علي بمكة حتى أدّى ودائع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقصد النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من داره دار أبي بكر رضي الله عنه وأعلمه بأنّ الله قد أذن بالهجرة فقال أبو بكر‏:‏ الصحبة يا رسول الله قال الصحبة‏:‏ فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحاً واستأجرا عبد الله بن أرقط وكان مشركاً ليدلهما على الطريق ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إِلى غار ثور وهو جبل أسفل مكة فأقاما فيه ثم خرجا من الغار بعد ثلاثة أيام وتوجها إِلى المدينة ومعهما عامر بن فهير مولى أبي بكر الصدّيق وعبد الله بن أرقط الدليل وهو كافر‏.‏

وجدت قريش في طلبه فتبعه سراقة بن مالك المدلجي فلحق النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله أدركنا الطلب‏.‏

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تحزن إِن الله معنا ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سراقة فارتطمت فرسه إِلى بطنها في أرض صلبة‏.‏

فقال سراقة‏:‏ ادع الله يا محمد أن يخلصني ولك أنْ أرد الطلب عنك فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فخلص ثم تبعه فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فترطم ثانياً وسأل الخلاص وأن يرد الطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له وقال‏:‏ كيف بك يا سراقة إِذا سورت بسوار كسرى برويز فرجع سراقة ورد كل من لقيه عن الطلب‏.‏

أن يقول كفيتم ما هاهنا‏.‏

وقدم المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من سنة إِحدى وذلك يوم الاثنين الظهر فنزل قباءْ على كلثوم بن الهدم وأقام بقباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجد قباء وهو الذي نزل فيه‏:‏ ‏)‏لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه‏(‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 108‏)‏ وخرج من قباء يوم الجمعة فما مر على دار من دور الأنصار إِلا قالوا‏:‏ هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة ويعترضون ناقته فيقول‏:‏ ‏(‏خلوا سبيلها فإِنها مأمورة‏)‏ حتى انتهت إِلى موضع مسجده صلى الله عليه وسلم وكان مربداً لسهل وسهيل ابني عمرو يتيمين في حجر معاذ بن أعفر فبركت هناك ووضعت جرانها فنزل عنها النبي صلى الله عليه وسلم واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل الناقة إِلى بيته وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه وقيل بل كان موضع المسجد لبني النجار وفيه نخل وخرب وقبور المشركين‏.‏

تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما

وتزوجها قبل الهجرة بعد وفاة خديجة ودخل بها بعد الهجرة بثمانية أشهر وهي ابنة تسع سنين وتوفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة‏.‏

المؤاخاة بين المسلمين

آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذ رسول الله علي بن أبي طالب أخاً وكان علي يقول على منبر الكوفةِ أيام خلافته‏:‏ أنا عبد اللِّه وأخو رسول الله وصار أبو بكر وخارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري أخوين وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ الأنصاري أخوين وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الأنصاري أخوين وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ربيع الأنصاري أخوين وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري أخوين وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك الأنصاري أخوين وسعيد ابن زيد وأبي بن كعب الأنصاري أخوين وأول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة عبد الله بن الزبير وأول مولود ولد للأنصار النعمان بن بشير‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين من الهجرة فيها حولت الصلاة إِلى الكعبة وكانت الصلاة بمكة وبعد مقدمه إِلى المدينة بثمانية عشر شهراً إِلى بيت المقدس وذلك يوم الثلاثاء منتصف شعبان فاستقبل الكعبة في صلاة الظهر وبلغَ أهل قباء ذلك فتحولوا إِلى جهة الكعبة وهم في الصلاة وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين فرض صيام رمضان‏.‏

وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي في ثمانية أنفس إِلى نخلة بين مكة والطائف ليتعرفوا أخبار قريش فمر بهم عير لقريش فغنموها وأسروا اثنين وحضروا بذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول غنيمة غنمها المسلمون من الأشراف للمسعودي وفي هذه السنة ‏:‏

غزوة بدر الكبرى

وهي الغزوة التي أظهر الله بها الدين وكان من خبرها أنه لما قدم لقريش قفل من الشام مع أبي سفيان بن حرب ومعه ثلاثون رجلاً فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم وبلغ أبا سفيان ذلك فبعث إِلى مكة وأعلم قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصده فخرج الناس من مكة سراعاً ولم يتخلف من الأشراف غير أبي لهب وبعث مكانه العاص بن هشام وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين رجلاً فيهم مائة فارس وخرج محمد عليه السلام من المدينة لثلاث خلون من رمضان سنة اثنتين للهجرة ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً منهم سبعة وسبعون من المهاجرين والباقون من الأنصار ولم يكن فيهم إِلا فارسان أحدهما المقداد بن عمرو الكندي بلا خلاف والثاني قيل هو الزبير بن العوام وقيل غيره وكانت الإِبل سبعين يتعاقبون عليها ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء وجاءته الأخبار بأن العير قد قاربت بدراً وأن المشركين قد خرجوا ليمنعوا عنها ثم ارتحل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونزل في بدر على أدنى ماء من القوم وأشار سعد بن معاذ ببناء عريش لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعمل وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وأقبلت قريش فلما رآهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اللهّم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تكذّب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني وتقاربوا وبرز من المشركين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبة وحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم شيبة وعلي بن أبي طالب الوليد بن عتبة فقتل حمزة شيبة وعلي الوليد وضرب كل واحد من عبيدة وعتبة صاحبه وكَّر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ثم مات وتزاحفت القوم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر على العريش وهو يدعو ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم إِن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض اللهم أنجز لي ما وعدتني‏)‏ ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه فوضعها أبو بكر عليه وخفق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خفقة ثم انتبه فقال‏:‏ أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر اللّه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش يحرض الناس على القتال وأخذ حفنة من الحصباء ورمى بها قريشاً وقال‏:‏ شاهت الوجوه ثم قال لأصحابه‏:‏ شدوا عليهم فكانت الهزيمة وكانت الوقعة صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان وحَمَل عبد الله ابن مسعود رأس أبي جهل بن هشام إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فسجد شكراً لله تعالى وقتل أبو جهل وله سبعون سنة واسم أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكذلك قتل أخو أبي جهل وهو العاص بن هشام ونصر الله نبيه بالملائكة‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ )‏إِذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إِني ممدكم بألف من الملائكة‏( ‏(‏الأنفال‏:‏ 9‏)‏ وجاء الخبر إِلى أبي لهب بمكة عن مصاب أهل بدر فلم يبق غير سبع ليال ومات كمداً وكانت عدة قتلى بدر من المشركين سبعين رجلاً والأسرى كذلك فمن القتلى غير من ذكرنا حنظلة بن أبي سفيان بن حرب وعبيدة بن سعيد بن العاص بن أمية قتله علي بن أبي طالب وزمعة بن الأسود قتله حمزة وعلي وأبو البحتري بن هشام قتله المجدر بن زياد ونوفل بن خويلد أخو خديجة وكان من شياطين قريش وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة بن خويلد لما أسلما في حبل قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمير بن عثمان بن عمر التميمي قتله علي أيضاً ومسعود بن أبي أمية المخزومي قتله حمزة وعبد الله بن المنذر المخزومي قتله علي بن أبي طالب ومنبه بن الحجاج السهمي قتله أبو يسر الأنصاري وابنه العاص بن منبه قتله علي بن أبي طالب وأخوه نبيه بن الحجاج اشترك فيه حمزة وسعد بن أبي وقاص وأبو العاص بن قيس السهمي قتله علي بن أبي طالب‏.‏

وكان من جملة الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وابنا أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ولما انقضى القتال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسحب القتلى إِلى القليب وكانوا أربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا فيه وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرصة بدر ثلاث ليال وجميع من استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفراء راجعاً من بدر أمر علياً فضرب عنق النضر بن الحارث وكان من شدة عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم إِذا تلا النبي صلى الله عليه وسلم القرآن يقول لقريش‏:‏ ما يأتيكم محمد إِلا بأساطير الأولين ثم أمر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أمية وكان عثمان بن عفان قد تخلف عن رسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بأمره بسبب مرضِ زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وماتت رقية في غيبة رسول صلى الله عليه وسلم وكانت مدة غيبة رسول فَي تسعة عشر يوماً‏.‏

 غزوة بني قينقاع مع اليهود

وهم أول يهود نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد فخرج إِليهم في منتصف شوال سنة اثنتين فتحصنوا فحاصرهم خمس عشرة ليلة ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتفوا وهو يريد قتلهم فكلمه عبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق وكان هؤلاء اليهود خلفاء الخزرج فأعرض النبي عنه فأعاد السؤال فأعرض عنه فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا رسول الله أحسن‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏ويحك أرسلني‏)‏ فقال لا والله حتى تحسن‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏هم لك‏)‏ ثم أمر بإِجلائهم وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون جميع أموالهم‏.‏

ثم كانت غزوة السويق وكان من أمرها أن أبا سفيان حلف أن لا يمس الطيب والنساء حتى يغزو محمد صلى الله عليه وسلم بسبب قتلى بدر فخرج في مائتي راكب وبعث قدامه رجال إِلى المدينة فوصلوا إِلى العريض وقتلوا رجالاً من الأنصار فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ركب في طلبه وهرب أبو سفيان وأصحابه وجعلوا يلقونْ جرب سويق تخفيفاٌ فسميت لذلك غزوة السويق‏.‏

غزوة قرترة الكدر

وقيل كانت سنة ثلاث وقرقرة الكدر ماء مما يلي جادة العراق إِلى مكة وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بهذا المرضع جمعاً من سليم وغطفان فخرج لقتالهم فلم يجد أحداً فاستاق ما وجد من النعم ثم قدم المدينة‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه‏.‏

وفي هذه السنة تزوج علي بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها كانت الوقعة بذي قار بين بكر بن وائل وبين جيش كسرى برويز وعليه الهامرز واقتتلوا قتالاً شديداً وانهزمت الفرس ومن كان معهم من العرب وقتل الهامرز‏.‏

وفيها هلك أمية بن أبي الصلت واسم أبي الصلت عبد الله ابن ربيعة وكان أميةْ المذكور من رؤساء الكفار وكان قد قرأ في الكتب واطلع على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فكفر به حسداً وكان يرتجي أن يكون هو المبعوث وكان أمية قد سافر إلى الشام وعاد إِلى الحجاز عقب وقعة بدر ولما مر بالقليب قيل له أن فيه قتلى بدر ومنهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وهما ابنا خال أمية المذكور فجدع أذني ناقته ووقف على القليب وقال قصيدة طويلة منها‏:‏

ألا بكيتَ على الكرا

**

 م بني الكرامِ أولى الممادح

فبكا الحمام على فرو

**

 ع الأيك في الغصن الجوانح

يبكين حزني مستكي

**

 نات يرحن مع الروايح

أمثالهن الباكيا

**

 تُ المعولات من النوايح

ماذا ببدرٍ والعتن

**

 قل من مرازبة حجاجح

شمطٌ وشبانٌ بها

 **

 ليل مغاوير وحاوح

 ثم دخلت سنة ثلاث وفيها في رمضان ولد الحسن بن علي‏.‏

وفيها قتل كعب بن الأشرف اليهودي قتله محمد بن مسلمة الأنصاري‏.‏

غزوة أحد

وكان من حديثها أنه اجتمعت قريش في ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومعهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب ومعه زوجته هند بنت عتبة‏:‏ وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة ومعهن الدفوف يضربن بها ويبكين على قتلى بدر ويحرضن المشركين على حرب المسلمين‏.‏

وساروا من مكة حتى نزلوا ذا الحليفة مقابل المدينة وكان وصولهم يوم الأربعاء لأربع ليال مضين من شوال سنة ثلاث وكان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام في المدينة وقتالهم بها وكذلك رأي عبد الله بن أبي بن أبي سلول المنافق وكان رأي باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة إِلى أن صار بين المدينة وأحد فانخزل عنه عبد الله بن أبي بن أبي سلول في ثلث الناس وقال‏:‏ أطاعهم وعصاني علام نقتل أنفسنا هاهنا ورجع بمن تبعه من أهل النفاق ونزل رسول الله كلَ الشعب من أحد وجعل ظهره إِلى أُحد ثم كانت الوقعة يوم السبت لسبع مضين من شوال وعدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة فيهم مائة دارع ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس لأبي بردة وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مصعب بن عمير من بني عبد الدار وكان على ميمنة المشركين خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماة وهم خمسون رجلاً وراءه ولما التقى الناس وعنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان في النسوة اللاتي معها وضربن بالدفوف خلف الرجال وهند تقول‏:‏ وبها بني عبد الدار وبها حماة الأدبار ضرباً بكل بتار وقاتل حمزة عم النبي عليه السلام قتالاً شديداً يومئذ فقتل أرطأة حامل لواء المشركين ومر به سباع بن عبد العزى وكانت أمه ختانة بمكة فقال له حمزة هلم يا ابن مقطعة البظور وضربه فكأنما أخطأ رأسه فبينما هو مشتغل بسباع إِذ ضربه وحشي عبد جبير بن مطعم وكان وحشي حبشياً بحربة فقتل حمزة وقتل ابن قمية الليثي مصعب بن عمير حامل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقريش‏:‏ إِني قتلت محمداً ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية لعلي بن أبي طالب‏.‏

وانهزمت المشركون فطمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمداً قتل وانكشفت المسلمون وأصاب فيهم العدو وكان يوم بلاء على المسلمين وكانت عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلاً وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلاً ووصل العدو إِلى رسول الله عليه السلام وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته وشج في وجهه وكلمت شفته وكان الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص وجعل الدم يسيل على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إِلى ربهم فنزل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏)‏ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإِنهم ظالمون‏(‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 128‏)‏ ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشجة ونزع أبو عبيدة بن الجراح إِحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيته الواحدة ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان أبو عبيدة ساقط الثنيتين ومص سنان أبو سعيد الخدري الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدرده فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من مس دمي دمه لم تصبه النار ‏)‏‏.‏

وروى أن طلحة أصابته يومئذ ضربة فشلت يده وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الآذان والأنوف واتخذن منها قلائد وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تسغها وضرب أبو سفيان زوجها بزج الرمح شدق حمزة وصعد الجبل وصرخ بأعلى صوته‏:‏ الحرب سجال يوم بيوم بدر أعل هبل أي ظهر دينك ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى إِنَّ موعدكم بدراً العام القابل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لواحد قل‏:‏ ‏(‏هو بيننا وبينكم ‏)‏‏.‏

ثم سار المشركون إِلى مكة ثم التمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة فوجده وقد بقر بطنه وجدع أنفه وأذناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين منهم ‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏جاءني جبرائيل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله‏)‏ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببرده ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون إِلى حمزة فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة وهذا دليل لأبي حنيفة فإنه يرى الصلاة على الشهيد خلافاً للشافعي رحمهما الله تعالى ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إِلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال‏:‏

ثم دخلت سنة أربع فيها في صفر قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عضل والقارة وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يفقه قومهم في الدين فبعث معهم ستة نفر وهم‏:‏ ثابت بن أبي الأقلح وخبيب بن عدي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن البكير الليثي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق وقدم عليهم مرثد بن أبي مرثد‏.‏

فلما وصلوا إِلى الرجيع وهو ماء لهذيل على أربعة عشر ميلاً من عسفان غدروا بهم فقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل ثلاثة وأسر ثلاثة وهم زيد بن الدثنة وخبيب وعبد الله بن طارق فأخذوهم إِلى مكة وانفلت عبد الله بن طارق في الطريق فقاتل إِلى أن قتلوه بالحجارة ووصلوا بزيد بن الدثنة وخبيب إِلى مكة وباعوهما من قريش فقتلوهما صبراً‏.‏

وفي صفر سنة أربع أيضاً قدم أبو برا عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم ولم يبعد من الإسلام وقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو بعثت من أصحابك رجالاً إِلى أهل نجد يدعونهم رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أخاف على أصحابي‏)‏ فقال أبو برا‏:‏ أنا لهم جار‏.‏

فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمر الأنصاري في أربعين رجلا من خيار المسلمين فيهم عامر بن فهير مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فمضوا ونزلوا بئر معونة على أربع مراحل من المدينة وبعثوا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى عدو الله عامر بن الطفيل فقتل الذي أحضر الكتاب وجمع الجموع وقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقاتلوا وقُتلوا عن آخرهم إِلا كعب بن زيد فإنه بقي فيه رمق وتوارى بين القتلى ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم الخندق وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار فرأيا الطيور تحوم حول العسكر فقصدا العسكر فوجدا القوم مقتولين فقاتل الأنصاري وقتل وأما عمرو بن أمية فأخذا أسيراً وأعتقه عامر ابن الطفيل لكونه من مضر ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر فشق عليه‏.‏

غزوة بني النضير من اليهود

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم وحاصرهم في ربيع الأول سنة أربع‏.‏

ونزل تحريم الخمر وهو محاصر لهم فلما مضى ست ليال محاصراً لهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخْليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إِلا السلاح فأجابهم إِلى ذلك فخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير مظهرين بذلك تجلداً وكانت أموالهم فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها حيث شاء فقسمها على المهاجرين دون الأنصار إِلا أنّ سهل بن حنيفة وأبا دجانة ذكراً فقراً فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئاً ومضى إِلى خيبر من بني النضير ناس وإلى الشام ناس‏.‏

غزوة ذات الرقاع

ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجداً فلقي جمعاً من غطفان في ذات الرقاع وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وكان ذلك في جمادى الأولى سنة أربع وفي هذه الغزوة قال رجل من غطفان لقومه‏:‏ ألا أقتل لكم محمداً قالوا‏:‏ إلى وحضر إِلى عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا محمد أريد أنظر إِلى سيفك هذا وكان محّلى بفضة فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إِليه فأخذه واستله ثم جعل يهزه ويهم ويكبته الله ثم قال يا محمد‏:‏ ما تخافني فقال له‏:‏ لا أخاف منك ثم رد سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إِذ هم قوم أن يبسطوا إِليكم أيديهم فكيف أيديهم عنكم‏)‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 11 ‏)‏‏.‏

غزوة بدر الثانية

وفي شعبان سنة أربع خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لميعاد أبي سفيان وأتى بدراً وأقام ينتظر أبا سفيان وخرج أبو سفيان من مكة ثم رجع من أثناء الطريق إِلى مكة فلما لم يأت انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة وفي هذه السنة ولد الحسين بن علي رضي الله عنهما‏.‏

ثم دخلت سنة خمس‏.‏

غزوة الخندق

وهي غزوة الأحزاب وكانت في شوال من هذه السنة وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تحزب قبائل العرب فأمر بحفر الخندق حول المدينة قيل‏:‏ إِنه كان بإِشارة سلمان الفارسي وهو أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عدة معجزات‏.‏

منها‏:‏ ما رواه جابر قال‏:‏ اشتدت عليهم كدية أي صخرة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بماء وتفل فيه ونضحه عليها فانهالت تحت المساحي ومنها أن ابنة بشير بن سعد الأنصاري وهي أخت النعمان بن بشير بعثتها أمها بقليل تمر غذاء أبيها بشير وخالها عبد الله بن رواحة فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاها وقال‏:‏ ‏(‏هاتي ما معك يا بنية‏)‏ قالت‏:‏ فصببت ذلك التمر في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما امتلأتا ثم دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بثوب وبدد ذلك التمر عليه ثم قال لإِنسان‏:‏ اصرخ في أهل الخندق أنْ هلموا إِلى الغداء فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط ومنها ما رواه جابر قال‏:‏ كانت عندي شويهة غير سمينة فأمرت امرأتي أن تخبز قرص شعير وأن تشوي تلك الشاة لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وكنا نعمل في الخندق نهاراً وننصرف إذا أمسينا فلما انصرفنا من الخندق قلت‏:‏ يا رسول الله صنعت لك شويهة ومعها شيئاً من خبز الشعير وأنا أحب أن تنصرف إِلى منزلي فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصرخ في الناس أن انصرفوا مع رسول صلى الله عليه وسلم إِلى بيت جابر قال جابر‏:‏ فقلت إِنّا لله وإنّا إِليه راجعون وكان قصده أن يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه وقدّمنا له ذلك فبرك وسمى ثم أكل وتواردها الناس كلما صدر عنها قوم جاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها‏.‏

وروى سلمان الفارسي قال‏:‏ كنت قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أعمل في الخندق فتغلظ علي الموضع الذي كنت أعمل فيه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة المكان أخذ المعول وضرب ضربة فلمعت تحت المعول برقة ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى قال‏:‏ فقلت بأبي أنت وأمي ما هذا الذي يلمع تحت المعول فقال‏:‏ ‏(‏أرأيت ذلك يا سلمان فقلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن وأما الثانية‏:‏ فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب وأما الثالثة‏:‏ فإن الله فتح علي بها المشرق‏)‏ وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من كنانة في عشرة آلاف وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد وكان بنو قريظة وكبيرهم كعب بن أسد قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فما زال عليهم أصحابهم من اليهود حتى نقضوا العهد وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم عند ذلك الخطب واشتد البلاء حتى ظن المؤمنون كل الظن ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير‏:‏ كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وأقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلهم وليس بينهم قتال غير المراماة بالنبل ثم خرج عمرو بن عبد ود من ولد لؤي بن غالب يريد المبارزة فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له عمرو‏:‏ يا ابن أخي والله ما أحب أن أقتلك‏.‏

فقال علي‏:‏ لكني والله أحب أن أقتلك فحمي عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه فعقره وأقبل إلى علي وتجاولا وعلا عليهما الغبرة وسمع المسلمون التكبير فعلموا أن علياً قتله وانكشفت الغبرة وعلي على صدر عمرو يذبحه ثم إن الله تعالى أهب ريح الصبا كما قال الله عزّ وجل‏:‏ ‏)‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها‏(‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏9) ‏وكان ذلك في أيام شاتية‏.‏

فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم ورمى الله الاختلاف بينهم فرحلت قريش مع أبي سفيان وسمعت غطفان ما فعلت قريش فرحلوا راجعين إلى بلادهم‏.‏

غزوة بني قريظة

ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة ووضع المسلمون السلاح فلما كان الظهر أتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي‏:‏ من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا ببني قريظة وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبارهم وتلاحق الناس وأتى قوم بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصل أحد العصر إلا ببني قريظة فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك وحاصر بني قريظة خمساً وعشرين ليلة وقذف الله في قلوبهم الرعب ولما اشتد بهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حلفاء الأوس فسأل الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلم في إطلاقهم كما أطلق بني قينقاع حلفاء الخزرج بسؤال عبد الله بن أبي بن أبي سلول المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا ترضون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس ‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ إلى ظناً منهم أن يحكم بإطلاقهم فأمر بإحضار سعد وكان به جرح في أكحله من الخندق فحملت الأوس سعداً على حمار قد وطأوا له عليه بوسادة وكان رجلاً جسيماً ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون لسعد‏:‏ يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قوموا إلى سيدكم‏.‏

والمهاجرون يقولون‏:‏ إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار والأنصار يقولون‏:‏ قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فقاموا إليه وقالوا‏:‏ يا أبا عمرو إن رسول الله قد حكمك في مواليك‏.‏

فقال سعد‏:‏ أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة‏)‏ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وحبس بني قريظة في بعض دور الأنصار وأمر فحفر لهم خنادق ثم بعث بهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وكانوا سبعمائة رجل يزيدون أو ينقصون عنها قليلاً‏.‏

ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني قريظة فأخرج الخمس واصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو فكانت في ملكه حتى ماتت ولما انقضى أمر بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فمات رضي الله عنه وجميع من استشهد من المسلمين في حرب الخندق ستة نفر منهم سعد بن معاذ ما بعد حرب بني قريظة على ما وصفناه وكان سعد بن معاذ لما جرح على الخندق قد سأل الله تعالى أن لا يميته حتى يغزو بني قريظة لغدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فاندمل جرحه حتى فرغ من غزو بني قريظة كما سأل الله تعالى ثم انتقض جرحه ومات رحمه الله تعالى وفي حرب بني قريظة لم يستشهد غير رجل واحد وكانت غزوة بني قريظة في ذي القعدة سنة خمس وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حتى خرجت السنة‏.‏

ثم دخلت سنة ستة فيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى إلى بني لحيان طلباً بثأر أهل الرجيع فتحصنوا برؤوس الجبال فنزل عسفان تخويفاً لأهل مكة ثم رجع إلى المدينة‏.‏

غزوة ذي قرد

ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أياماً فأغار عيينة بن حصين الفزاري على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بالغابة فخرج رسول الله يوم الأربعاء حتى وصل إلى ذي قرد لأربع خلون من ربيع الأول فاستنقذ بعضها وعاد إلى المدينة وكانت غيبته غزوة بني المصطلق وكانت في شعبان من هذه السنة أعني سنة ست وقيل سنة خمس وكان قائد بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار ولقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ماء لهم يقال له المريسيع واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق فقتل وسبى وغنم الأموال ووقعت جويرة بنت قائدهم الحارث بن أبي ضرار في سهم ثابت بن قيس فكاتبته على نفسها فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها فقال الناس‏:‏ أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فكانت عظيمة البركة على قومها وفي هذه الغزوة قتل رجل من الأنصار رجلاً من المسلمين خطأ يظنه كافراً وكان المقتول من بني ليث بن بكر واسمه هشام وكان أخوه مقيس مشركاً فلما بلغه قتل أخيه خطأ قدم من مكة مظهراً الإسلام وأنه يطلب دية أخيه فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم رجع إلى مكة مرتداً وقال من أبيات لعنه الله‏:‏ حللت به وترى وأدركت ثورتي وكنت إلى الأوثان أول راجع وهو ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة وفي هذه الغزوة ازدحم جهجاه الغفاري أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسنان الجهني حليف الأنصار على الماء وتقاتلا فصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين وصرخ الجهني‏:‏ يا معشر الأنصار فغضب عبد الله بن أُبي بن أبي سلول المنافق وعنده رهط من قومه فيه زيد بن أرقم فقال عبد الله المنافق‏:‏ لقد فعلوها قد كاثرونا في بلادنا أما والله لئن رجعنا إلى المدينة لنخرجن الأعز منها الأذل ثم قال لمن حضر من قومه‏:‏ هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ولو مسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا عنكم فأخبر زيد بن أرقم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله‏:‏ مر به عبد الله بن بشير فليقتله فقالي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف يتحدث الناس إذن أن محمداً يقتل أصحابه ثم أمر بالرحيل في وقت لم يكن ليرحل فيه ليقطع ما الناس فيه فلقيه أسيد بن حصين وقال‏:‏ يا رسول الله رحت في ساعة لم تكن لتروح فيها فقال‏:‏ أوما بلغك ما قاله عبد الله بن أبي فقال‏:‏ وماذا قال‏:‏ فأخبره رسول الله بمقاله‏.‏

فقال أسيد‏:‏ أنت والله تخرجه إن شئت أنت العزيز وهو الذليل وبلغ ابن عبد الله المنافق واسمه أيضاً عبد الله وكان حسن الإسلام مقال أبيه فقال يا رسول الله‏:‏ بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت فاعلاً فمرني فأنا أحمل إليك رأسه قصة الإفك ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة وكان ببعض الطريق قال أهل الإفك ما قالوا‏:‏ وهم مسطح بن إثاثة بن عباد بن عبد المطلب وهو ابن خالة أبي بكر وحسان بن ثابت وعبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق وأم حسنة ابنة جحش فرموا عائشة بالإفك مع صفوان بن المعطل وكان صاحب الناقة فلما نزلت براءتها جلدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين ثمانين إلا عبد الله بن أبي فإنه لم يجلده‏.‏

من الأشراف للمسعودي وفي هذه الغزوة أعني غزوة بني المصطلق نزلت آية التيمم

عمرة الحديبية

وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست معتمراً لا يريد حرباً بالمهاجرين والأنصار في ألف وأربعمائة وساق الهدي وأحرم بالعمرة وسار حتى وصل إِلى ثنية المرار مهبط الحديبية أسفل مكة وأمر بالنزول فقالوا‏:‏ لينزل على غير ماء فأعطى رجلاً سهماً من كنانته وغرره في بعض تلك القلب في جوفه فجاش حتى ضرب الناس عنه وهذا من مشاهير معجزاته صلى الله عليه وسلم فبعث قريش عروة بن مسعود الثقفي وهو سيد أهل الطائف فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إِنّ قريشاً لبسوا جلود النمور وعاهدوا الله أن لا تدخل عليهم مكة عنوة أبداً‏.‏

ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقرع يده ويقول‏:‏ كف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إِليك‏.‏

فقال له عروة‏:‏ ما أفظك وأغلظك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام عروة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى ما يصنع أصحابه لا يتوضأ إِلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق إِلا ابتدروا بصاقه ولا يسقط من شعره شيء إِلا أخذوه ورجع إِلى قريش وقال لهم‏:‏ أني جئت‏:‏ كسرى وقيصر في ملكهما فوالله ما رأيت ملكاً في قومه مثل محمد في أصحابه ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إِلى قريش ليعلمهم بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت لحرب فقال عمر‏:‏ أني أخاف قريشاً لغلظي عليهم وعدواتي لهم فبعث رسول الله عثمان بن عفان إِلى أبي سفيان وأشراف قريش أنه لم يأت لحرب إنما جاء زائراً ومعظماً لهذا البيت فلما وصل إِليهم عثمان وعرفهم بذلك قالوا له‏:‏ إِن أحببت أنك تطوف بالبيت فطف فقال‏:‏ ما كنت لأفعله حتى يطوف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمسكوه وحبسوه وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ عثمان قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نبرح حتى نناجز القوم‏)‏ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان الناس يقولون بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وكان جابر يقول‏:‏ لم يبايعنا إِلا على أننا لا نفر فبايع رسول الله عليه السلام الناس ولم يتخلف أحد من المسلمين إِلا الجد بن قيس استتر بناقته وبايع رسول الله عليه السلام لعثمان في غيبته فضرب بإِحدى يديه على الأخرى ثم أتى النبي الخبر أن عثمان لم يقتل‏.‏

الصلح بين النبي وقريش ثم إِن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو في الصلح وتكلمّ مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلما أجاب إِلى الصلح قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه‏:‏ يا رسول الله أو لست برسول الله أولسنا بالمسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إلى قال‏:‏ فعلام نعُطي لبينة في ديننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعني‏)‏ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال‏:‏ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل‏:‏ لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اكتب باسمك اللهم ثم قال‏:‏ اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال سهيل‏:‏ لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن أكتب اسمك واسم أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عن الناس عشر سنين وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأشْهد في الكتاب على الصلح رجالاً من المسلمين والمشركين وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرجوا من المدينة لا يشكون في فتح مكة لرؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع داخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك نحر هديه وحلق رأسه وقام الناس أيضاً فنحروا وحلقوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يومئذ ‏(‏يرحم الله المحلقين‏)‏ قالوا والمقصرين يا رسول الله قال‏:‏ ‏(‏رحم الله المحلقين حتى أعادوا وأعاد ذلك ثلاث مرات ثم قال‏:‏ ‏(‏والمقصرين‏)‏ ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة وأقام بها حتى خرجت السنة

ثم دخلت سنة سبع‏‏

غزوة خيبر

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتصف المحرم من هذه السنة أعني سنة سبع إلى خيبر وحاصرهم وأخذ الأموال وفتحها حصناً حصناً فأول ما فُتح حصن ناعم ثم افتتح حصن القموص وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما سبايا منهن صفية بنت كبيرهم حيي بن أخطب فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها وهي من خواصه عليه السلام ثم افتتح حصن المصعب وما كان بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً منه ثم انتهى إِلى الوطيح والسلالم وكانا آخر حصون خيبر افتتاحاً‏.‏

وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما كانت تأخذه الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج فلما نزل خيبر أخذته فأخذ أبو بكر الصدّيق الراية فقاتل قتالاً شديداً ثم رجع فأخذها عمر بن الخطاب فقاتل قتالاً أشد من الأول ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أما والله لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله‏.‏

كراراً غير فرار يأخذها عنوة‏)‏ فتطاول المهاجرون والأنصار وكان علي بن أبي طالب غائباً فجاء وهو أرمد قد عصب عينيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ادن مني فدنا منه فتفل في عينيه فزال وجعهما ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه حلة حمراء وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفرة وهو يقول‏:‏ قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب فقال علي‏:‏ أنا الذي سمتني أمي حيدره أكيلكم بالسيف كيل السندره فاختلفا بضربتين فقدت ضربة علي المغفر ورأس مرحب وسقط على الأرض‏.‏

وروى ابن إسحاق خلاف ذلك والذي ذكرنا هو الأصح وفتحت المدينة على يد علي رضى الله عنه وذلك بعد حصار بضع عشرة ليلة وحكى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ خرجنا مع علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى خيبر فخرج إِليه أهل الحصن وقاتلهم علي رضي الله عنه فضربه رجل من اليهود فطرح ترس علي من يده فتناول باباً كان عند الحصن فتترس به ولم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده‏.‏

فلقد رأيتني في سبعة نُفر أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه‏.‏

وكان فتح خيبر في صفر سنة سبع للهجرة وسأل أهل خيبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على أن يساقيهم على النصف من ثمارهم ويخرجهم متى شاء ففعل ذلك وفعل ذلك أهل فدك فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها فتحت بغير إيجاف خيل ولم يزل يهود خيبر كذلك إِلى خلافة عمر رضي الله عنه فأجلاهم منها ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إِلى وادي القرى فحاصره ليلة وافتتحه عنوة ثم سار إِلى المدينة ولما قدمها وصل إليه من الحبشة بقية المهاجرين ومنهم جعفر بن أبي طالب فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما أدري بأيهما أسَر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إِلى النجاشي يطلبهم ويخطب أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصر عبيد الله المذكور وأقام بالحبشة فزوجها للنبي صلى الله عليه وسلم ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية وكان بالحبشة من جملة المهاجرين وأصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار ولما بلغ أباها أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قال‏:‏ ذلك الفحل الذي لا يقرع أنفه فقدمت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أن يدخلوا الذين حضروا من الحبشة في سهامهم من مغنم خيبر ففعلوا وفي غزوة خيبر هدت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث اليهودية شاة مسمومة فأخذ منها قطعة ولاكها‏.‏

ثم لفظها وقال‏:‏ تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة ثم قال في مرض موته أن أكلة خيبر لم تزل تعاودني وهذا زمان انقطاع أبهري‏.‏

رسل النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الملوك

في هذه السنة أعني سنة سبع بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتبه ورسله إِلى الملوك يدعوهم إِلى الإسلام فأرسل إلى كسرى برويز بن هرمز عبد الله بن حذافة فمزَق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يكاتبني بهذا وهو عبدي ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال‏:‏ مزق الله ملكه ثم بعث كسرى إلى باذان عامله باليمن أن ابعث إِلى هذا الرجل الذي في الحجاز فبعث باذان إِلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنين أحدهما يقال له خرخسره وكتب معهما يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إِلى كسرى فدخلا على النبي عليه السلامُ وقد حلقا لحاهما وشواربهما فكره النبي النظر إِليهما وقال‏:‏ ويلكما من أمركما بهذا قالا‏:‏ ربنا، يعنيان كسرى فقال النبي عليه السلام‏:‏ لكنّ ربي أمرني أن أعف عن لحيتي وأقص شاربي فأعلماه بما قَدما له وقالا‏:‏ إِن فعلت كتب فيك باذان إِلى كسرى وإن أبيت فهو يهلكك فأخر النبي صلى الله عليه وسلم الجواب إِلى الغد وأتى الخبر من السماء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله‏.‏

فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهما بذلك وقال لهما‏:‏ ‏(‏إِن ديني وسلطاني سيبلغ ما يبلغ ملكَ كسرى فقولا لباذان أسلم فرجعا إِلى باذان وأخبراه بذلك ثم ورد مكاتبةَ شيرويه إِلى باذان بقتل أبيه كسرى وأن لا يتعرض إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان وأسلم معه ناس من فارس‏.‏

فأرسل دحية بن خليفة الكلبي إِلى قيصر ملك الروم فأكرم قيصر دحية وضع كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مخدة ورد دحية رداً جميلاً‏.‏

وأرسل حاطب بن أبي بلتعة وهو بالحاء المهملة إلى صاحب مصر وهو المقوقس جريج بن متى فأكرم حاطباً وأهدى إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أربع جوار وقيل جاريتين إِحداهما مارية وولدت من النبي صلى الله عليه وسلم إِبراهيم ابنه وأهدى أيضاً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم دلدل وحماره يعفور‏.‏

وكان قد أرسل إِلى النجاشي عمرو بن أمية فقبّل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب حيث كان عنده في الهجرة‏.‏

وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إِلى الحارث بن أبي شمرّ الغساني‏.‏

فلما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ها أنا سائر إِليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك‏:‏ ‏(‏باد وأرسل سليط بن عمرو إِلى هوذة بن علي ملك اليمامة وكان نصرانياً فقال هوذة‏:‏ إِن جعل الأمر لي من بعده سرت إِليه وأسلمت ونصرته وإلا قصدت حربه‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ولا كرامة اللهم اكفنيه‏)‏ فمات بعد قليل‏.‏

وكان قد أرسل هوذة رجلاً يقال له الرحال بالحاء وقيل بالجيم إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقدم وأسلم وقرأ سورة البقرة وتفقه ورجع إِلى اليمامة وارتد وشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك معه مسيلمة الكذاب في النبوة‏.‏

وأرسل العلاء بن الحضرمي إِلى ملك البحرين وهو المنذر بن ساوي فأسلم وهو من قبل الفرس وأسلم جميع العرب بالبحرين‏.‏

عمرة القضاء

ثم خرج رسول صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من سنة سبع معتمراً عمرة القضاء وساق معه سبعين بدنة ولما قرب من مكة خرجت له قريش عنها وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في عسر وجهد فاصطفوا له عند دار الندوة فلما دخل المسجد اضطبع بأن جعل وسط ردائه تحت عضده الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ثم قال رحم الله أمرأ أراهم اليوم قوة ورمل في أربعة أشواط من الطواف ثم خرج إِلى الصفا والمروة فسعى بينهما وتزوج في سفره هذا ميمونة بنت الحارث زوجه إِياها عمه العباس وذكر أنه تزوجها محرماً وهي من خواصه ثم رجع إِلى المدينة

ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة وهو بالمدينة‏.‏

إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص

وفي سنة ثمان قدم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص السهمي وعثمان بن طلحة بن عبد الدار فأسلموا ثم كانت

غزوة مؤتة

وهي أول الغزوات بين المسلمِين والروم وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف وأمر عليهم مولاه زيد بن حارثة وقال‏:‏ ‏(‏إِن قتل فأمير الناس جعفر بن أبي طالب فإن قتل فأميرهم عبد الله بن رواحة‏)‏ ووصلوا إلى مؤتة من أرض الشام وهي قبلي الكرك فاجتمعت عليهم الروم والعرب المنتصرة في نحو مائة ألف والتقوا بمؤته وكانت الراية مع زيد فقتل فأخذها جعفر فقتل فأخذها عبد اللهّ بن رواحة فقتل واتفق العسكر على خالد بن الوليد فأخذ الراية ورجع بالناس وقدم الِمدينة وكان سبب هذه الغزوة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير رسولاً إِلى ملك بصرى بكتاب كما بعث إِلى سائر الملوك فلما نزل مؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني نقض الصلح وفتح مكة كان السبب في نقض الصلح أنّ بني بكر كانوا في عقد قريش‏.‏

وعهدهم وخزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده وفي هذه السنة‏.‏

أعني سنة ثمان لقيت بنو بكر خزاعة فقتلوا منهم وأعانهم على ذلك جماعة من قريش فانتقض بذلك عهد قريش وندمت قريش على نقض العهد فقدم أبو سفيان بن حرب إِلى المدينة لتجديد العهد ودخل على ابنته أمّ حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يجلس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته عنه فقال‏:‏ يا بنية أرغبت به عني‏.‏

فقالت‏:‏ هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجس فقال‏:‏ لقد أصابك بعدي شر ثم أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد شيئاً وأتى كبار الصحابة مثل أبي بكر الصديق وعلي رضي الله عنه فتحدث معهما فأجاباه إلى ذلك فعاد إِلى مكة وأخبر قريشاً بما جرى وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد أن يبغت قريشاً بمكة من قبل أن يعلموا به فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إِلى قريش مع سارة مولاة بني هاشم يعلمهم بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏

وأرسل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركا سارة وأخذا منها الكتاب وأحضرا النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال‏:‏ ما حملك على هذا فقال‏:‏ والله إني مؤمن ما بدلت ولا غيرت ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد وليس لي عشيرة فصانعتهم‏.‏

فقال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه فإِنه منافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ثم خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المدينة لعشر مضين من رمضان سنة ثمان ومعه المهاجرون والأنصار وطوائف من العرب فكان جيشه عشرة آلاف حتى قارب مكة فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ لعلي أجد حطاباً أو رجلاً يعلم قريشاً بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتونه ويستأمنونه وإلا هلكوا عن آخرهم‏.‏

قال‏:‏ فلما خرجت سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي‏:‏ قد خرجوا يتجسسون فقال العباس‏:‏ أبا حنظلة يعني أبا سفيان فقال أبا الفضل قلت نعم قال لبيك فداك أبي وأمي ما وراءك فقلت‏:‏ قد أتاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من المسلمين‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ ما تأمرني به قلت تركب لأستأمن لك رسول اللّه وإِلا يضرب عنقك فردفني وجئت به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت طريقي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمرو‏:‏ أبا سفيان الحمد للهّ الذي أمكنني منك بغير عقد ولا عهد ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركته فقال‏:‏ يا رسول الله دعني اًضرب عنقه وسأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقال‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنته وأحضره يا عباس بالغداة فرجع به العباس إِلى منزله وأتى به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغداة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا سفيان أما آن أن تعلم أن لا إِله إِلا الله قال إلى‏:‏ قال‏:‏ ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله‏)‏ فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي أما هذه ففي النفس منها شيء فقال له العباس‏:‏ ويحك تشهّد قبل أن تُضرب عنقك فتشاهد وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس ‏(‏اذهب بأبي سفيان إِلى مضيق الوادي ليشاهد جنود الله‏)‏ فقال العباس يا رسول الله إِنه يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه فقال‏:‏ ‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجت به كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت عليه القبائل وهو يسأل عن قبيلة وأنا أعلمه حتّى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار لا يبين منهم إِلا الحدق فقال من هؤلاء‏.‏

فقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار‏.‏

فقال‏:‏ لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكاً عظيماً‏.‏

قال‏:‏ فقلت ويحك إِنها النبوة فقال نعم‏.‏

سعد بن عبادة سيد الخزرج أن يدخل ببعض الناس من ثنية كداء ثم أمر عليّاً أن يأخذ الراية منه فيدخل بها لما بلغه من قول سعد‏:‏ اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة‏.‏

وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة في بعض الناس وكل هؤلاء الجنود لم يقاتلوا لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال إِلا أن خالد بن الوليد لقيه جماعة من قريش فرموه بالنبل ومنعوه من الدخول فقاتلهم خالد فقتل من المشركين ثمانية وعشرين رجلاً فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك قال‏:‏ ألم أنه عن القتال فقالوا‏:‏ إِن خالد قوتل فقاتل وقُتل من المسلمين رجلان‏.‏

وكان فتح مكة يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وملكها صلحاً وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله عنه وقال أبو حنيفة إِنها فتحت عنوة ولما أمكن الله رسوله من رقاب قريش عنوة قال لهم‏:‏ ما تروني فاعلاً بكم قالوا له‏:‏ خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال ‏(‏فاذهبوا فأنتم الطلقاء‏)‏ و لما اطمأن الناس خرج النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الطواف فطاف بالبيت سبعاً على راحلته واستلم الركن بمحجن كان في يده ودخل الكعبة ورأى فيها الشخوص على صور الملائكة وصورة إِبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم فقال‏:‏ قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إِبراهيم والأزلام ثم أمر بتلك الصور فطمست وصلى في البيت وأهدر دم ستة رجال وأربع نسوة أحدهم عكرمة بن أبي جهل ثم استأمنت له زوجته أم حكيم فأمنّه فقدم عكرمة فأسلم‏.‏

وثانيهم هبار بن الأسود وثالثهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة فأتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فيه فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم أمنّه فأسلم وقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏إِنما صمت ليقوم أحدكم فيقتله‏)‏ فقالوا‏:‏ هلا أومأت إِلينا فقال‏:‏ ‏(‏إِن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين‏)‏ وكان عبد الله المذكور قد أسلم قبل الفتح وكتب الوحي فكان يبدل القرآن ثم ارتد وعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وولاه مصر‏.‏

ورابعهم مقيس بن صبابة لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ وارتد وخامسهم عبد الله بن هلال كان قد أسلم ثم قتل مسلماً وارتد‏.‏

وسادسهم الحويرث بن نفيل كان يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويهجوه فلقيه علي بن أبي طالب فقتله‏.‏

وأما النساء فإِحداهن هند زوج أبي سفيان أم معاوية التي أكلت من كبد حمزة فتفكرت مع نساء قريش وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عرفها قالت‏:‏ أنا هند فاعف عما سلف فعفا ولما جاء وقت الظهر يوم الفتح أذن بلال على ظهر الكعبة فقالت جويرية بنت أبي جهل‏:‏ لقد أكرم اللّه أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة وقال الحارث بن هشام ليتني مت قبل هذا وقال خالد بن أسيد‏:‏ لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر لهم ما قالوه فقال الحارث بن هشام أشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد فنقول أخبرك ومن النساء المهدرات الدم سارة مولاة بني هاشم التي حملت كتاب حاطب‏.‏

غزوة خالد بن الوليد على بني خزيمة

لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث السرايا حول مكة إِلى الناس يدعوهم إِلى الإسلام ولم يأمرهم بقتال وكان بنو خزيمة قد قتلوا في الجاهلية عوفاً أبا عبد الرحمن بن عوف وعم خالد بن الوليد كانا أقبلا من اليمن وأخذوا ما كان معهما وكان من السرايا التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الناس ليدعوهم إِلى الإسلام سرية مع خالد بن الوليد فنزل على ماء لبني خزيمة المذكورين فلما نزل عليه أقبلت بنو خزيمة بالسلاح فقال لهم خالد‏:‏ ضعوا السلاح فإِن الناس قد أسلموا فوضعوه وأمر بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله خالد رفع يديه إِلى السماء حتى بان بياض إبطيه وقال‏:‏ ‏(‏اللهم إِني أبرأ إِليك مما صنع خالد‏)‏ ثم أرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بمال وأمر أن يؤدي لهم الدماء والأموال ففعل علي ذلك ثم سألهم هل بقي لكم مال أو دم فقالوا لا وكان قد فضل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قليل مال فدفعه إليهم زيادة تطييباً لقلوبهم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأعجبه وأنكر عبد الرحمن بن عوف على خالد فعله ذلك فقال خالد‏:‏ ثأرتُ أباك‏.‏

فقال عبد الرحمن‏:‏ بل ثأرت عمك الفاكه وفعلت فعل الجاهلية في الإسلام وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خصامهما فقال‏:‏ يا خالد دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أُحدٌ ذَهَبَاً ثم أنفقته في سبيل الله تعالى ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته‏.‏

غزوة حنين

وكانت في شوال سنة ثمان وحنين واد بين مكة والطائف وهو إِلى الطائف أقرب‏.‏

لما فُتحت مكة تجمّعت هوازن بحريمهم وأموالهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقدمهم مالك بن عوف النضري وانضمت إِليهم ثقيف وهم أهل الطائف وبنو سعد بن بكر وهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مرتضعاً عندهم وحضر مع بني جشم دريد ابن الصمة وهو شيخ كبير قد جاوز المائة وليس يراد منه التيمن برأيه وقال رجزاً‏:‏ يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم خرج من مكة لست خلون من شوال ثمان وكان يقصر الصلاة بمكة من يرم الفتح إِلى حين خرج للقاء هوازن وخرج معه اثنا عشر ألفاً ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف كانت معه وكان صفوان ابن أمية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر لم يُسلم سأل أن يُمهل بالإسلام شهرين وأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى ذلك واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مائة درع في هذه الغزوة وحضرها أيضاً جماعة كثيرة من المشركين وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى حنين والمشركون بأوطاس فقال دريد بن الصمة‏:‏ بأي واد أنتم‏.‏

قالوا‏:‏ بأوطاس‏.

قال‏:‏ نعْمَ مجال الخيل لا حَزن ضرس ولا سهل دَهِس وركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلته الدُلَدُل وقال رجل من المسلمين لما رأى كثرة جيش النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لن يغلب هؤلاء من قلة‏)‏ وفي ذلك نزل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ويوم حنين إِذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 25‏)‏ ولما التقوا انكشف المسلمون لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين في نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته ولما انهزم المسلمون أظهر أهل مكة ما في نفوسهم من الحقد فقال أبو سفيان بن حرب‏:‏ لا تنتهي هزيمتهم دون البحر وكانت الأزلام معه في كناتته وصرخ كلدة‏:‏ الآن بطل السحر وكلدة أخو صفوان بن أمية لأمه وكان صفوان حينئذ مشركاً فقال له صفوان‏:‏ اسكت فضّ الله تعالى فاك‏.‏

قال والله لئن يُربني رجل من قريش أحبّ إِلي من أن يُربني رجل من هوازن واستمر رسول الله ثابتاً وتراجع المسلمون واقتتلوا قتالاً شديداً وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لبغلته الدلدل‏:‏ البدي البدي فوضعت بطنها على الأرض وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب فرمى بها في وجه المشركين فكانت الهزيمة ونَصَر الله تعالى المسلمين واتبع المسلمون المشركين يقتلونهم ويأسرونهم وكان في السبي الشيماء بنت الحارث وأمها حليمة السعدية وكانت أخت رسول الله من الرضاع فعرفته بذلك وأرته العلامة وهي عضة النبي صلى الله عليه وسلم في ظهرها فعرفها وبسط لها رداءه وزودها وردها إِلى قومها حسبما سألت‏.

حصار الطائف

ولما انهزمت ثقيف من حنين إِلى الطائف سار النبي صلى الله عليه وسلم إِليهم فأغلقوا باب مدينتهم وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين يوماً وقاتلهم بالمنجنيق وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف فقطعت ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل فرحل عنهم حتى نزل الجعرانة وكان قد ترك بها غنائم هوازن وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض هوازن ودخلوا عليه فرد عليهم نصيبه ونصيب بني عبد المطلب ورد على الناس بناءهم ونساءهم ثم لحق مالك بن عوف مقدم هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم وحسن إِسلامه واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل وكان عدة السبي الذي أطلعه ستة آلاف رأس ثم قسم الأموال وكانت عدة الإبل أربعة وعشرين ألف بعير والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ومن الفضة أربعة آلاف أوقية وأعطى المؤلفة قلوبهم مثل‏:‏ أبي سفيان وابنيه يزيد ومعاوية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام أخي أبي جهل وصفوان بن أمية وهؤلاء من قريش وأعطى الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الذبياني وملك بن عوف مقدم هوازن وأمثالهم فأعطى لكل واحد من الأشراف مائة من الإبل وأعطى للآخرين أربعين أربعين وأعطى للعباس بن مرداس السلمي أباعر لهم يرضها وقال في ذلك من أبيات‏:‏

فأصبح نهبي ونهب العبي

**

د بين عيينة والأقرع

وما كان حصن ولا حابس

**

يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما

**

ومن يضع اليوم لا يرفع

فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اقطعوا عني لسانه فأعطي حتى رضي‏.‏

ولما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم لم يعط الأنصار شيئاً فوجدوا في نفوسهم فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم‏:‏ ‏(‏أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ألفت بها قوماً ليسلموا وكلتكم إِلى إِسلامكم أما ترضون أن يذهب الناس بالبعير والشاة وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم أما والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعْب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار‏)‏‏.‏

ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة هوازن وأعطى عيينة بن حصن وأبا سفيان ابن حرب وغيرهما ما ذكرنا قال ذو الخويصرة من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم أرك عدلت فغضب صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏ويحك إِذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون‏)‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ألا أقتله قال‏:‏ ‏(‏لا دعوه فإِنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة‏)‏ وهذه الرواية عن محمد بن إِسحاق‏.‏

وروى غيره أن ذا الخويصرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت قسم الغنيمة المذكورة‏:‏ لم تعدل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرميّة لا يجاوز إِيمانهم تراقيهم‏)‏‏.‏

فكان كما قاله صلى الله عليه وسلم فإِنه خرج من ذي الخويصرة المذكور حرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية وهو أوّل من بويع من الخوارج بالإمامة وأول مارق من الدين وذو الخويصرة تسمية سماه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد إِلى المدينة واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية وهو شاب لم يبلغ عشرين سنة وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس وحج بالناس في هذه السنة عتاب بن أسيد على ما كانت العرب تحج‏.‏

وفي ذي الحجة سنة ثمان ولد إِبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية

وفيها أعني سنة ثمان مات حاتم الطائي وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج من ولد طي بن أدد وكان حاتم يكنى أبا سفانة وهو اسم ابنته كني بها وسفانة المذكورة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته وشكت إِليه حالها وحاتم المذكور كان يضرب بجرده وكرمه المثل وكان من الشعراء المجيدين‏.‏

ثم دخلت سنة تسع والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وترادفت عليه وفود العرب فممن ورد عليه عروة بن مسعود الثقفي وكان سيد ثقيف وكان غائباً عن الطائف لما حاصرها النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم وحسن إِسلامه وقال‏:‏ يا رسول الله أمضي إِلى قومي بالطائف فأدعوهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنهم قاتلوك‏)‏ فاختار المضي فمضى إلى الطائف ودعاهم إِلى الإسلام فرماه أحدهم بسهم فوقع في أكحله فمات رحمه الله تعالى ووفد كعب بن زهير ابن أبي سلمى بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدته المشهورة وهي‏:‏ بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بردته فاشتراها معاوية في خلافته من أهل كعب بأربعين ألف درهم ثم توارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون حتى أخذها التتر‏.‏

غزوة تبوك

وفي رجب من هذه السنة أعني سنة تسع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق وقوة العدو وكان قبل ذلك إِذا أراد غزوة ورَّى بغيرها وكان الحر شديداً والبلاد مجدبة والناس في عسرة ولذلك سمي ذلك الجيش جيش العسرة وكانت الثمار قد طابت فأحب الناس المقام في ثمارهم فتجهزوا على كره وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالنفقة فأنفق أبو بكر جميع ماله وأنفق عثمان نفقة عظيمة قيل كانت ثلاثمائة بعير طعاماً‏.‏

وألف دينار وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يضر عثمان ما صنع بعد اليوم وتخلف عبد الله بن أبي المنافق ومن تبعه من أهل النفاق وتخلف ثلاثة من عين الأنصار وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأرجف به المنافقون وقالوا‏:‏ ما خلفه إِلا استثقالا له فلما سمع ذلك علي أخذ سلاحه ولحق النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قال المنافقون فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كذبوا وإنما خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إِلا أنه لا نبي بعدي‏.‏

وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون ألفاً فكانت الخيل عشرة آلاف فرس ولقوا في الطريق شدة عظيمة من العطش والحر ولما وصلوا إِلى الحجر وهي أرض ثمود نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورود ذلك الماء وأمرهم إن يريقوا ما استقوه من مائه وأن يطعموا العجين الذي عجن بذلك الماء الإبل ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك وأقام بها عشرين ليلة وقدم عليه بها يوحنا صاحب أيلة فصالحه على الجزية فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار وصالح أهل أذرج على مائة دنيار في كل رجب وأرسل خالد بن الوليد إِلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل وكان نصرانياً من كندة فأخذه خالد وقتل أخاه وأخذ منه خالد قباء ديباج مخوصاً بالذهب فأرسله إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل المسلمون يتعجبون منه وقدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة فاعتذر إِليه الثلاثة الذي تخلفوا عنه فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم وأمر باعتزالهم فاعتزلهم الناس فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وبقوا كذلك خمسين ليلة ثم أنزل اللّه تعالى توبتهم فقال تعالى‏:‏ ‏)‏وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إِذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إِلا إِليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إِن الله هو التواب الرحيم‏(‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 81‏)‏ وكان قدوم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رمضان ولما دخلها قدم عليه وفد الطائف من ثقيف ثم إِنهم أسلموا وكان فيما سألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات التي كانوا يعبدونها لا يهدمها إِلى ثلاث سنين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فغزِلوا إلى شهر واحد فلم يجبهم وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال‏:‏ ‏(‏لا خير في دين لا صلاة فيه‏)‏ فأجابوا وأسلموا وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب ليهدما اللات فتقدم المغيرة فهدمها وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها‏.‏

حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس وبعث النبيِ صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق في سنة تسع ليحج بالناس ومعه عشرون بدنة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة رجل فلما كان بذي الحُلَيْفَة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في إثره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره بقراءة آيات من أول سورة براءة على الناس وأن ينادي أن لا يطوف بالبيت بعد السنة عريان ولا يحج مشرك فعاد أبو بكر وقال‏:‏ يا رسول الله أنزل فيّ شيء قال‏:‏ ‏(‏لا ولكن لا يبلغ عني إِلا أنا أو رجل مني ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وصاحبي على الحوض‏)‏ قال‏:‏ إلى فسار أبو بكر رضي الله عنه أميراً على الموسم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يؤذن براءة يوم الأضحى وأن لا يحج مشرك ولا يطوف عريان من الأشراف للمسعودي‏.‏

وفي ذي القعدة سنة تسع كانت وفاة عبد الله بن أُبي بن أبي المنافق

ثم دخلت سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وجاءته وفود العرب قاطبة ودخل الناس في الدين أفواجاً كما قال اللّه‏:‏ ‏(‏إِذا جاء نصر الله والفتح( (‏النصر‏:‏1‏)‏ وأسلم أهل اليمن وملوك حمير‏.‏

إرسال علي بن أبي طالب إِلى اليمن روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً كرم الله وجهه إِلى اليمن فسار إليها وقرأ كتاب رسول الله على أهل اليمن فأسلمت همذان كلها في يوم واحد وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام وكتب بذلك إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فسجد شكراً لله تعالى ثم أمر علياً بأخذ صدقات نجران وجزيتهم ففعل وعاد فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع‏.‏

حجة الوداع

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً لخمس بقين من ذي القعدة وقد اختلف في حجه هل كان قراناً أم تمتعاً أم إِفراداً والأظهر الذي اشتهر أنه كان قارناً وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ولقي علي بن أبي طالب محرماً فقال‏:‏ ‏(‏حل كما حل أصحابك‏)‏ فقال‏:‏ إِني أُهللت بما أُهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي على إِحرامه ونحر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الهدي عنه وعلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مناسك الحج والسنن ونزل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏اليوم يئس الذي كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً‏)‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 3‏)‏ فبكى أبو بكر رضي الله عنه لما سمعها فكأنه استشعر أنه ليس بمعد الكمال إِلا النقصان وأنه قد نعيت إِلى النبيَ صلى الله عليه وسلم نفسه وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس خطبة بين فيها الأحكام منها‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس إِنما النسيء زيادة في الكفر فإِن الزمان استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً‏)‏ وتمم حجته وسميت حجة الوداع لأنه لم يحج بعدها ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام بها حتى خرجت السنة‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى عشَرة‏.‏

مرضه صلى الله عليه وسلم ووفاته

لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع أقام بالمدينة حتى خرجت سنة عشر والمحرم من سنة إِحدى عشرة ومعظم صفر وابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه في أواخر صفر قيل لليلتين بقيتا منه وهو في بيت زينب بنت جحش وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه وهو في بيت ميمونة بنت الحاِرث فجمع نساءه واستأذنهن في أن يمرض في بيت إحداهن فأذن له أن يمرض في بيت عائشة فانتقل إِليها كان قد جهز جيشاً مع مولاه أسامة بن زيد وأكد في مسيره في مرضه وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي صداع وأنا أقول وارأساه فقال‏:‏ ‏(‏بل أنا والله يا عائشة أقول وارأساه‏)‏ ثم قال ما ضرك لو متّ قبلي فقمت عليكِ وكفنتك وصليت عليك ودفنتك‏)‏ قالت‏:‏ فقلت كأني بك والله لو فعلت ذلك ورجعت إِلى بيتي وتعزيت ببعض‏.‏

نسائك فتبسم صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي أثناء مرضه وهو في بيت عائشة خرج بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب حتى جلس على المنبر فحمد الله ثم قال‏:‏ ‏(‏أيّها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستفد منه ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قبلي فإِنها ليست من شأني ‏)‏‏.‏

ثم نزل وصلى الظهر ثم رجع إِلى المنبر فعاد إِلى مقالته فادعى عليه رجل ثلاثة دراهم فأعطاه عوضها ثم قال‏:‏ ‏(‏ألا إِن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة‏)‏ ثم صلى على أصحاب أُحد واستغفر لهم ثم قال‏:‏ ‏(‏إِنّ عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده‏)‏ فبكى أبو بكر ثم قال‏:‏ فديناك بأنفسنا‏.‏

ثم أوصى بالأنصار فقال‏:‏ يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد والأنصار عيبتي التي أويت إِليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم‏.‏

ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أيام مرضه يصلي بالناس وإنما انقطع ثلاثة أيام فلما أذن بالصلاة أول ما انقطع فقال‏:‏ ‏(‏مروا أبا بكر فليصل بالناس‏)‏ وتزايد به مرضه حتى توفي يوم الاثنين ضحوة النهار وقيل نصف النهار وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أعني على سكرات الموت ‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ وثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول‏:‏ ‏(‏بل الرفيق الأعلى)‏‏.‏

قالت‏:‏ فلما قبض وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي مع النساء وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فعلى هذه الرواية يكون يوم وفاته ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد أكثر العرب إِلا أهل المدينة ومكة والطائف فإِنه لم يدخلها ردة وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية فاستخفى عتاب خوفاً على نفسه فارتجت مكة وكاد أهلها يرتدون فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بقريش وغيرهم فاجتمعوا إِليه فقال‏:‏ يا أهل مكة كنتم آخر من أسلم فلا تكونوا أول من ارتدّ والله ليتمن الله هذا الأمر كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام فامتنع أهل مكة من الردة وحكى القاضي شهاب الدين بن أبي الدم في تاريخه قال‏:‏ فاقتحم جماعة على النبي صلى الله عليه وسلم ينظرون إِليه وقالوا‏:‏ كيف يموت وهو شهيد علينا‏.‏ لا والله ما مات بل رفع كما رفع عيسى ونادوا على الباب لا تدفنوه فإن رسول الله لم يمت فتربصوا به حتى خرج عمه العباس وقال‏:‏ والله الذي لا إِله إِلاَ هو لقد ذاق رسول الله الموت‏.‏

وقيل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء ثاني يوم موته وقيل ليلة الأربعاء وهو الأصح وقيل بقي ثلاثاً لم يدفن وكان الذي تولى غسله علي بن أبي طالب والعباس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم فكان العباس وابناه يقلبونه وأسامة بن زيد وشقران يصبان الماء وعلي يغسله وعليه قميصه وهو يقول بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً ولم ير منه ما يرى من ميت وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وبرد حبرة درج فيها أدراجاً وصلوا عليه ودفن تحت فراشه الذي مات عليه وحفر له أبو طلحة الأنصاري ونزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم أبناء العباس‏.‏

عمره

واختلف في مدة عمره فالمشهور أنه ثلاث وستون سنة وقيل خمس وستون سنة وقيل ستون سنة والمختار أنه بعث لأربعين سنة وأقام بمكة يدعو إِلى الإسلام ثلاث عشرة سنة وكسراً وأقام بالمدينة بعد الهجرة قريب عشر سنين فذلك ثلاث وستون سنة وكسور وقد مضى ذكره وتحقيقه عند ذكر الهجرة‏.‏

صفته

وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير ضخم الرأس كثّ اللحية شثن الكفين والقدمين ضخم الكراديس مشرباً وجهه حمرة وقيل كان أدعج العين سبط الشعر سهل الخدين كأن عنقه إِبريق فضة وقال أنس‏:‏ لم يشنه الله بالشيب وكان في مقدم لحيته عشرون شعرة بيضاء وفي مفرق رأسه شعرات بيض وروي أنه كان يخضب بالحناء والكتم وكان بين كتفيه خاتم النبوة وهو بضعة ناشزة حولها شعر مثل بيضة الحمامة تشبه جسده وقيل كان لونه أحمر قال القاضي شهاب الدين بن أبي الدم في تاريخه المظفري وكان أبو رثمة طبيباً في الجاهلية فقال‏:‏ يا رسول الله إِني أداوي فدعني أطب ما بكتفك فقال‏:‏ يداريها الذي خلقها‏.‏

خلقه

كان صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً يكثر الذكر ويقل اللغو دائم البشر مطيل الصمت لين الجنب سهل الخلق وكان عنده القريب والبعيد والقوي والضعيف في الحق سواء وكان يحب المساكين ولا يحقر فقيراً لفقره ولا يهاب ملكاً لملكه وكان يؤلف قلوب أهل الشرف وكان يؤلف أصحابه ولا ينفرهم ويصابر من جالسه ولا يحيد عنه حتى يكون الرجل هو المنصرف وما صافحه أحد فيترك يده حتى يكون ذلك الرجل هو الذي يترك يده وكذلك من قاومه لحاجة يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى يكون الرجل هو المنصرف وكان يتفقد أصحابه يسأل الناس عما في الناس وكان يحب العنز ويجلس على الأرض وكان يخصف النعل ويرقع الثوب ويلبس المخصوف والمرقوع عن أبي هريرة قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار وكان قوتهم التمر والماء ‏.‏

أولاده

وكان رسول الله صلى الله أولاده وكل أولاده عليه السلام من خديجة إِلا إِبراهيم فإِنه من ماريّة وولد إبراهيم في سنة ثمان من الهجرة في ذي الحجة وتوفي سنة عشر من الأشراف للمسعودي قال‏:‏ عاش إِبراهيم سنة وعشرة أشهر وأولاده الذكور من خديجة القاسم وبه كان يكنى والطيب والطاهر وعبد الله ماتوا صغاراً والإِناث أربع فاطمة زوج علي رضي اللّه عنهما وزينب زوج أبي العاص وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بالإسلام ثم ردها إِلى أبي العاص بالنكاح الأول لما أسلم ورقية وأم كلثوم تزوج بهما عثمان واحدة بعد أخرى‏.‏

زوجاته

وتزوج صلى الله عليه وسلم خمس عشرة امرأة دخل بثلاث عشرة وجمع بين إِحدى عشرة وقيل أنه دخل بإِحدى عشرة ولم يدخل بأربع وتوفي عن تسع غير مارية القبطية سريته والتسع هن عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر سودة بنت زمعة وزينب بنت جحش وميمونةِ وصفية وجويرية وأم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن‏.‏

كُتّابه

وكان يكتب له عثمان بن عفان أحياناً وعلي بن أبي طالب وكتب له خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد والعلا بن الحضرمي وأول من كتب له أبي بن كعب وكتب له زيد بن ثابت وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح وارتد ثم أسلم بوم الفتح وكتب له بعد الفتح معاوية بن أبي سفيان‏.‏

سلاحه

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من السلاح سيفه المسمى ذا الفقار غنمه يوم بدر وكان لمنبه بن الحجاج السهمي وقيل لغيره وسمي ذا الفقار لحفر فيه وغنم من بني قينقاع ثلاثة أسياف وقدم معه إِلى المدينة لما هاجر سفيان شهد بأحدهما بدراً وكان له أرماح ثلاثة وثلاثة قسي ودرعان غنمهما من بني قينقاع وكان له ترس فيه تمثال فأصبح وقد أذهبه اللّه تعالى‏.‏

عدد غزواته وسراياه صلى الله عليه وسلم

قيل كانت غزواته تسع عشرة وقيل ستاً وعشرين وقيل سبعاً وعشرين غزوة وآخر غزواته غزوة تبوك ووقع القتال منها في تسع وهي بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف وباقي الغزوات لم يجر فيها قتال وأما السرايا والبعوث فقيل خمس وثلاثون وقيل ثمان وأربعون‏.‏

أصحابه

قد اختلف الناس فيمن يستحق أن يطلق عليه صحابي فكان سعيد بن المسيب لا يعد الصحابي إِلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وأكثر وغزا معه وقال بعضهم كل من أدرك الحلم وأسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي ولو أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة وقال بعضهم لا يكون صحابياً إِلا من تخصص به الرسول صلى الله عليه وسلم وتخصص هو بالرسول صلى الله عليه وسلم بأن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم بسريرته ويلازم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر والأكثر على أن الصحابي‏:‏ هو كل من أسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو أقل زمان وأما عددهم على هذا القول الأخير فقد روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سار في عام فتح مكة في عشرة آلاف مسلم وسار إِلى حنين في اثني عشر ألفاً وسار إِلى حجة الوداع في أربعين ألفاً وأنهم كانوا عند وفاته صلى الله عليه وسلم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً‏.‏

وأما مراتبهم فالمهاجرون أفضل من الأنصار على الإِجمال وأما على التفضيل فسبْاق الأنصار أفضل من متأخري المهاجرين وقد رتب أهل التواريخ والصحابة على طبقات فالطبقة الأولى أول الناس إِسلاماً كخديجة وعلي وزيد وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم ومن تلاهم ولم يتأخر إِلى دار الندوة‏.‏

الطبقة الثانية أصحاب دار الندوة وفيها أسلم عمر رضي الله عنه‏.‏

الطبقة الثالثة المهاجرون إلى الحبشة الرابعة أصحاب العقبة الأولى وهم سباق الأنصار الخامسة أصحاب العقبة الثانية السادسة أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين السابعة المهاجرون الذين وصلوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته وهو بقباء قبل بناء مسجده الثامنة أهل بدر الكبرى التاسعة الذين هاجروا بين بدر والحديبية العاشرة أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا بالحديبية تحت الشجرة الحادية عشرة الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل الفتح الثانية عشرة الذين أسلموا يوم الفتح الثالثة عشرة صبيان أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه ومن الصحابة أهل الصفة وكانوا أناساً فقراء لا منازل لهم ولا عشائر ينامون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ويظلون فيه وكان صفة المسجد مثواهم فنسبوا إِليها وكان إِذا تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو منهم طائفة يتعشون معه ويفرق منهم طائفة على الصحابة ليعشوهم وكان من مشاهيرهم أبو هريرة وواثلة بن الأسقع وأبو ذر رضي الله خبر الأسود العنسي وفي مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل الأسود العنسي واسمه عيهلة بن كعب ويقال له ذو الخمار لأنه كان يقول يأتيني ذو خمار وكان الأسود المذكور يشعبذُ ويُري الجهال الأعاجيب ويسبي بمنطقه قلب من يسمعه وهو ممن ارتد وتنبأ من الكذابين وكاتبه أهل نجران وكان هناك من المسلمين عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص فأخرجهما أهل نجران وسلموهما إِلى الأسود ثم سار الأسود من نجران إِلى صنعاء فملكها وصفي له ملك اليمن واستفحل أمره وكان خليفته في مذحج عمرو بن معدي كرب فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بعث رسولاً إلى الأبناء وأمرهم أن يخاذلوا الأسود إما غيلة وإما مصادمة وأن يستنجدوا رجالاً من حمير وهمذان وكان الأسود قد تغير على قيس بن عبد يغوث فاجتمع به جماعة ممن كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثوا معه في قتل الأسود فوافقهم واجتمعوا بامرأة الأسود وكان الأسود قد قتل أباها فقالت‏:‏ والله إِنه لأبغض الناس إليّ ولكن الحرس محيطون بقصره فانقبوا عليه البيت فواعدوها على ذلك ونقبوا عليه البيت ودخل عليه شخص اسمه فيروز فقتل الأسود وأحز رأسه فخار خوار الثور فابتدر الحرس الباب فقالت زوجته‏:‏ هذا النبي يوحى إِليه فلما طلع الفجر أمروا المؤذن فقال‏:‏ أشهد أن محمداً رسول الله وأن عيهلة كذاب وكتب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فورد الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم أصحابه بقتل الأسود المذكور ووصل الكتاب بقتل الأسود في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس إِني قد رأيت ليلة القدر ثم انتزعت مني ورأيت في يدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة وصاحب صنعاء ولن تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً كل منهم يزعم أنه نبي‏)‏ وكان قتل الأسود المذكور قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة وكان من أول خروج الأسود إِلى أن قتل أربعة أشهر وأما صاحب اليمامة فهو مسيلمة الكذاب وسنذكر خبره ومقتله في خلافة أبي بكر رضي الله عنه‏.‏