الفصل السادس: أخبار أبي بكر الصديق وخلافته رضي الله عنه

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

أخبار أبي بكر الصديق وخلافته رضي الله عنه

لما قبض الله نبيه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ من قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات علوت رأسه بسيفي هذا وإنما ارتفع إِلى السماء فقرأ أبو بكر ‏)‏وما محمد إِلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإِن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏(‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 144‏)‏ فرجع القوم إِلى قوله وبادروا سقيفة بني ساعدة فبايع عمر أبا بكر رضي الله عنهما وانثال الناس عليه يبايعونه في العشر الأوسط من ربيع الأول سنة إِحدى عشرة خلا جماعة من بني هاشم والزبير وعتبة بن أبي لهب وخالد بن سعيد ابن العاص والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي وأبي ذر وعمار بن ياسر والبر بن عازب وأبي بن كعب ومالوا مع علي بن أبي طالب وقال في ذلك عتبة بن أبي لهب‏:‏ ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن عن أول الناس إِيماناً وسابقه وأعلم الناس بالقرآن والسنن وآخر الناس عهداً بالنبي من جبريل عون له في الغسل والكفن وكذلك تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان من بني أمية ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إِلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها وقال‏:‏ إِن أبوا عليك فقاتلهم‏.‏

فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار فلقيته فاطمة رضي الله عنها وقالت‏:‏ إِلى أين يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا قال‏:‏ نعم أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمة فخرج علي حتى أتى أبا بكر فبايعه كذا نقله القاضي جمال الدين بن واصل وأسنده إِلى ابن عبد ربه المغربي‏.‏

وروى الزهري عن عائشة قالت‏:‏ لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة وذلك بعد ستة أشهر لموت أبيها صلى الله عليه وسلم فأرسل علي إِلى أبي بكر رضي الله عنهما فأتاه في منزله فبايعه وقال علي‏:‏ ما نفسنا عليك ما ساقه الله إِليك من فضل وخير ولكنا نرى أنّ لنا في هذا الأمر شيئاً فاستبددت به دوننا وما ننكر فضلك‏.‏

ولما تولى أبو بكر كان أسامة بن زيد مبرزاً وكان عمر بن الخطاب من جملة جيش أسامة علي ما عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر لأبي بكر‏:‏ إِن الأنصار تطلب رجلا أقدم سناً من أسامة فوثب أبو بكر وكان جالساً وأخذ بلحية عمر وقال‏:‏ ثكلتك أمك يا ابن الخطاب استعمله رسول الله وتأمرني أن أعزله ثم خرج أبو بكر معسكر أسامه وأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب فقال له أسامة‏:‏ يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتركبن أو لأنزلن فقال أبو بكر‏:‏ والله لا تنزل ولا ركبت وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ولما أراد الرجوع قال أبو بكر لأسامة‏:‏ إِن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن أسامة لعمر بالمقام‏.‏

وفي أيام أبي بكر ادعت سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية النبوة واتبعها بنو تميم وأخوالها من تغلب وغيرهم من بني ربيعة وقصدت مسيلمة الكذاب ولما وصلت إِليه قصدت الاجتماع به فقال لها‏:‏ أبعدي أصحابك ففعلت فنزل وضرب لها قبة وطيبها بالبخور واجتمع بها وقالت‏:‏ له ماذا أوحي إِليك فقال‏:‏ ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى‏.‏

أخرج منها نسمة تسعى‏.‏

من بين صفاق وغشى‏.‏

قالت‏:‏ وما أنزل الله عليك أيضاً‏.‏

قال‏:‏ ألم تر أن الله خلق النساء أفواجاً‏.‏

وجعل الرجال لهن أزواجاً فتولج فيهن إِيلاجاً‏.‏

ثم نخرج ما شئنا إِخراجاً‏.‏

فينتجن لنا إنتاجاً‏.‏

فقالت‏:‏ أشهد أنك نبي فقال‏:‏ هل لك أن أتزوجك قالت‏:‏ نعم‏.‏

فقال لها‏:‏ ألا قومي إلى النيك فقد هيي لك المضجع فإِن شئت ففي البيت وإن شئت ففي المخدع وإن شئت سلقناَك وإن شئت على أربع وإنْ شئتِ بثلثيه وإن شئت به أجمع فقالت‏:‏ بل به أجمع يا رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ بذلك أُوحي إِلي فأقامت عنده ثم انصرفت إِلى قومها ولم تزل سجاح في أخوالها من تغلب حتى نفاهم معاوية عام بويع فيه فأسلمت سجاح وحسن إِسلامها وانتقلت إِلى البصرة وماتت بها‏.‏

وفي أيام أبي بكر قتل مسيلمة الكذاب وكان أبو بكر قد أرسل إلى قتاله جيشاً وقدَّم عليهم خالد بن الوليد فجرى بينهم قتال شديد وآخره انتصر المسلمون وهزموا المشركين وقتل مسيلمة الكذاب قتله وحشي بالحربة التي قتل بها حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم وشاركه في قتله رجل من الأنصار وكان مقام مسيلمة باليمامة وكان مسيلمة قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني حنيفة فأسلم ثم ارتد وادعى النبوة استقلالاً ثم مشاركة مع النبي صلى الله عليه وسلم وقتل من المسلمين في قتال مسيلمة جماعة من القرّاء من المهاجرين والأنصار ولما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال وجريد النخل والجلود وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولما تولى عثمان ورأى اختلاف الناس في القرآن كتب من ذلك المكتوب الذي كان عند حفصة نسخاً وأرسلها إلى الأمصار وأبطل ما سواها‏.‏

وفي أيام أبي بكر منعت بنو يربرع الزكاة وكان كبيرهم مالك بن نويرة وكان ملكاً فارساً مطاعاً شاعراً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم فولاه صدقه قومه فلما منع الزكاة أرسل أبو بكر إِلى مالك المذكور خالد بن الوليد في معنى الزكاة فقال مالك‏:‏ أنا آتي بالصلاة دون الزكاة‏:‏ فقال خالد‏:‏ أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً لا تقبل واحدة دون الأخرى فقال مالك‏:‏ قد كان صاحبكم يقول ذلك‏.‏

قال خالد‏:‏ أوما تراه لك صاحبا والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجاولا في الكلام فقال له خالد‏:‏ إِني قاتلك‏.‏

فقال له‏:‏ أو بذلك أمرك صاحبك قال‏:‏ وهذه بعد تلك وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين فكلما خالداً في أمره فكره كلامهما‏.‏

فقال مالك‏:‏ يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا‏.‏

فقال خالد‏:‏ لا أقالني الله إِنْ أقلتك وتقدم إِلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه فالتفت مالك إِلى زوجته وقال لخالد‏:‏ هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال فقال خالد‏:‏ بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام‏.‏

فقال مالك‏:‏ أنا على الإسلام فقال خالد‏:‏ يا ضرار اضرب عنقه‏.‏

فضرب عنقه وجعل رأسه اثفية القدر وكان من أكثر الناس شعراً وقبض خالد امرأته قيل‏:‏ إِنه اشتراها من الفيء وتزوج بها وقيل إِنها اعتدت بثلاث حيض وتزوج بها وقال لابن عمر ولأبي قتادة‏:‏ احضرا النكاح فأبيا وقال له ابن عمر‏:‏ نكتب إِلى أبي بكر ونعلمه بأمرها وتتزوج بها فأبى وتزوجها‏.‏

وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي‏:‏ قضى خالد بغياً عليه بعرسه وكان له فيها هوى قبل ذلك فأمضى هواه خالد غير عاطف عنان الهوى عنها ولا متمالك فأصبح ذا أهل وأصبح مالك إِلى غير أهل هالكاً في الهوالك ولما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر‏:‏ إِن خالداً قد زنى فارجمه قال‏:‏ ما كنت أرجمه فإِنه تأول فأخطأ‏.‏

قال‏:‏ فإِنه قد قتل مسلماً فاقتله قال‏:‏ ما كنت أقتله فإِنه تأول فأخطأ‏.‏

قال فاعزله قال ما كنت أغمد سيفاً سله الله عليهم‏.‏

ولما بلغ متمم بن نويرة أخا مالك المذكور مقتل أخيه بكاه وندبه بالأشعار الكثيرة فمن ذلك قصيدة متمم العينية المشهورة التي منها‏:‏ وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن نتصدعا وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وفي أيام أبي بكر فتحت الحيرة بالأمان على الجزية‏.‏ 

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسنة ثلاثة عشرة

فيها كانت

وقعة اليرموك

وهي الوقعة العظيمة التي كانت سبب فتوح الشام وكانت سنة ثلاث عشرة للهجرة وكان هرقل إذ ذاك بحمص فلما بلغه هزيمة الروم باليرموك رحل عن حمص وجعلها بينه وبين المسلمين ولما فرغ خالد بن الوليد وأبو عبيدة من رقعة اليرموك قصدا بصرى فجمع صاحب بصرى الجموع للملتقى ثم إِن الروم طلبوا الصلح فصولحوا على كل رأس دينار وجريب حنطة‏.‏

وفاة أبي بكر رضي الله عنه

وقد اختلف في سبب موته فقيل إِن اليهود سمته في أرز وقيل في حسوٍ فأكل هو والحارث بن كلدة فقال الحارث‏:‏ أكلنا طعاماً مسموماً سُم سنة فماتا بعد سنة وعن عائشة رضي الله عنها أنه اغتسل وكان يوماً بارداً فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة وأمر عمر أن يصلي بالناس وعهد بالخلافة إِلى عمر ثم توفي في مساء ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جمادى الآخر سنة ثلاث عشرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال وعمره ثلاث وستون سنة وغسلته زوجته أسماء بنت عميس وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبر والمنبر وأوصى أن يدفن إِلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفر له وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حسن القامة خفيف العارضين معروق الوجه غائر العينين ناتئ الجبهة أحنى عاري الأشاجع يخضب بالحناء والكتيم‏.‏