الفصل السادس: أخبار علي بن أبي طالب رضي الله عنه

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

أخبار علي بن أبي طالب رضي الله عنه

واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم فهو هاشمي ابن هاشميين بويع بالخلافة يوم قتل عثمان وقد اختلف في كيفية بيعته فقيل‏:‏ اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم طلحة والزبير فأتوا علياً وسألوه البيعة له فقال‏:‏ لا حاجة لي في أمركم من اخترتم رضيت به فقالوا‏:‏ ما نختار غيرك وترددوا إليه مراراً‏.‏

وقالوا‏:‏ إنا لا نعلم أحداً أحق بالأمر منك ولا أقدمٍ منك سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أكون وزيراً خير من أنْ أكون أميراً‏.‏

فأتوا عليه فأتى المسجد فبايعوه‏.‏

وقيل‏:‏ بايعوه في بيته وأول من بايعه طلحة بن عبد الله وكانت يد طلحة مشلولة من نوبة أحد فقال حبيب بن ذؤيب‏:‏ إِنا لله أول من بدأ بالبيعة يد شلاء لا يتم هذا الأمر وبايعه الزبير وقال علي لهما‏:‏ إنْ أحببتما أنْ تبايعا لي بايعا وإن أحببتما بايعتكما فقالا‏:‏ بل نبايعك وقيل إِنهما قالا بعد ذلك‏:‏ إنما بايعنا خشية على نفوسنا ثم هربا إِلى مكة بعد مبايعة علي بأربعة أشهر وجاءوا بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم فقال له علي‏:‏ بايع فقال‏:‏ لا حتى يبايع الناس والله ما عليك مني بأس فقال خلوا سبيله‏.‏

وكذلك تأخر عن البيعة عبد الله بن عمر وبايعته الأنصار إِلا نفراً قليلاً منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد الخدري والنعمان ابن بشير ومحمد بن مسلمة وفضالة بن عبيد وكعب بن عجرة وزيد بن ثابت وكان هؤلاء قد ولاهم عثمان على الصدقات وغيرها وكذلك لم يبايع علياً سعيد بن زيد وعبد الله بن سلام صهيب بن سنان وأسامة بن زيد قدامة بن مطعون والمغيرة بن شعبة سموا هؤلاء المعتزلة لاعتزالهم بيعة علي‏.‏

وسار النعمان بن بشير إِلى الشام ومعه ثوب عثمان الملطخ بالدم فكان معاوية يعلق قميص عثمان على المنبر ليحرض أهل الشام على قتال علي وأصحابه وكلما رأى أهل الشام ذلك ازدادوا غيظاً‏.‏

وقد روي في بيعة علي غير ذلك فقيل‏:‏ لما قتل عثمان بقيصص المدينة خمسة أيام والغافقي أمير المصريين ومن معه يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه ووجدوا طلحة في حائط له ووجدوا سعداً والزبير قد خرجا من المدينة ووجدوا بني أمية قد هربوا وأتى المصريون علياً فباعدهم وكذلك أتى الكوفيون الزبير والبصريون طلحة فباعداهم وكانواٍ مع اجتماعهم على قتل عثمان مختلفين فيمن يلي الخلافة حتى غشى الناس علياً فقالوا‏:‏ نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به فامتنع علي فألحوا عليه فقال‏:‏ قد أجبتكم واعلموا أني إِنْ أجبتكم ركبت بكم ما أعلم وإن تركتموني فإِنّما أنا كأحدكم‏.‏

وافترق الناس على ذلك وتشاوروا فيما بينهم وقالوا‏:‏ إن دخل طلحة والزبير فقد استَقامت البيعة فبعث البصريون إِلى الزبير حكيم بن جبلة ومعه نفر فجاءوا بالزبير كرهاً بالسيف فبايع وبعثوا إِلى طلحة الأشتر ومعه نفر فأتوا بطلحة ولم يزالوا به حتى بايع ولما أصبحوا يوم الجمعة اجتمع الناس في المسجد وصعد علي المنبر واستعفى من ذلك فلم يعفوه فبايعه أولاً طلحة وقال‏:‏ أنا أبايع مكرهاً وكانت يد طلحة شلاء فقيل هذا الأمر لا يتم كما ذكرنا وبايعه أهل المدينة من المهاجرين والأنصار خلا من لم يبايع ممن ذكرنا‏.‏

وكان ذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين‏.‏

ثم فارقه طلحة والزبير ولحقا بمكة واتفقا مع عائشة رضي الله عنهم وكانت قد مضت إِلى الحج وعثمان محصور وكانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه وكانت تخرج قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره وتقول‏:‏ هذا قميصه وشعره لم يبل وقد بلي دينه لكنها لم تظن أن الأمر ينتهي إِلى ما انتهى إِليه‏.‏

وكان ابن عباس بمكة لما قتل عثمان ثم قدم المدينة بعد البيعة لعلي فوجد علياً مسخلياً بالمغيرة بن شعبة قال‏:‏ فسألته عما قال له فقال علي‏:‏ أشار علي بإقرار معاوية وغيره من عمال عثمان إِلى أنْ يبايعوا ويستقر الأمر فأبيت ثم أتاني الآن وقال‏:‏ الرأي ما رأيته‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ نصحك في المرة الأولى وغشك في الثانية وإني أخشى أن ينتقض عليك الشام مع أني لا آمن طلحة والزبير أنْ يخرجا عليك وأنا أشير عليك أن تقر معاوية فإِن بايع لك فعلي أن اقتلعه لك من منزله متى شئت‏.‏

فقال علي والله لا أعطيه إِلا السيف ثم تمثل‏:‏ وما ميتةٌ أن مِتُّها غير َعاجز بعار إذا ما غالتِ النفسُ غولُها فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع ولست صاحب رأي‏.‏

فقال علي‏:‏ إِذا عصيتك فأطعني‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ أفعل إِن أيسر مالك عندي الطاعة وخرج المغيرة ولحق بمكة‏.‏

ثم دخلت سنة ست وثلاثين

فيها أرسل علي إِلى البلاد عماله فبعث إِلى الكوفة عمارة بن شهاب وكان من المهاجرين ووالى عثمان بن حنيف الأنصاري البصرة وعبد الله بن عباس اليمن وكان من المشهورين بالجود وولى قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري مصر وسهل بن حنيف الأنصاري الشام فلما وصل تبوك لقيته خيل فقالوا من أنت‏:‏ قال أمير على الشام‏.‏

فقالوا إِن كان بعثك غير عثمان فارجع‏.‏

قال‏:‏ أو ما سمعتم بالذي كان قالوا‏:‏ إلى‏.‏

فرجع إِلى علي ومضى قيس بن سعد إِلى مصر فوليها واعتزلت عنه فرقة كانوا عثمانية وأبوا أن يدخلوا في طاعة علي إِلا أن يقتل قاتل عثمان ومضى عثمان بن حنيف إِلى البصرة فدخلها واتبعته فرقة وخالفته فرقة ومضى عمارة إِلى الكوفة فلقيه طلحة بن خويلد الأسدي الذي كان ادعى النبوة في خلافة أبي بكر فقال له‏:‏ إِن هل الكوفة لا يستبدلون بأميرهم فرجع إِلى علي وكان على الكوفة من قبل عثمان أبو موسى الأشعري ومضى عبد الله إِلى اليمن وكان العامل بها من جهة عثمان يعلى بن منبه فوليها عبد الله وخرج يعلى وأخذ ما كان حاصلاً من المال ولحق بمكة وصار مع عائشة وطلحة والزبير وسلم إِليهم المال‏.‏

مسير عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة

ولما بلغ عائشة قتل عثمان أعظمت ذلك ودعت إِلى الطلب بدمه وساعدها على ذلك طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وجماعة من بني أمية وجمعوا جمعاً عظيماً واتفق رأيها على المضي إِلى البصرة للاستيلاء عليها وقالوا معاوية بالشام قد كفانا أمرها وكان عبد الله بن عمر قد قدم من المدينة فدعوه إِلى المسير معهم فامتنع وساروا وأعطى يعلى بن منبه عائشة الجمل المسمى بعسكر اشتراه بمائة دينار وقيل بثمانين ديناراً فركبته وضربوا في طريقهم مكاناً يقال له الحوأب فنبحتهم كلابه فقالت عائشة‏:‏ أي ماء هو هذا فقيل‏:‏ هذا ماء الحوأب فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت‏:‏ إِنّا لله وإنا إِليه راجعون سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه‏:‏ ‏(‏ليت شعري أيتّكن ينبحها كلاب الحوأب‏)‏ ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت‏:‏ ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب فأناخوا يوماً وليله وقال لها عبد الله بن الزبير إِنه كذب يعني ليس هذا ماء الحوأب ولم يزل بها وهي تمتنع فقال لها‏:‏ النجاء النجاء فقد أدرككم علي بن أبي طالب فارتحلوا نحو البصرة فاستولوا عليها بعد قتال مع عثمان بن حنيف فقتل من أصحاب عثمان بن حنيف أربعون رجلاً وأُمسك عثمان بن حنيف فنتفت لحيته وحواجبه وسجن ثم أطلقته‏.‏

مسيرة علي إلى البصرة

ولما بلغ علياً مسير عائشة وطلحة والزبير إِلى البصرة سار نحوهم في أربعة آلاف من أهل المدينة فيهم أربع مائة ممن بايع تحت الشجرة وثمانمائة من الأنصار ورأته مع ابنه محمد بن الحنفية وعلى ميمنته الحسن وعلى ميسرته الحسين وعلى الخيل عمار بن ياسر وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر الصديق وعلى مقدمته عبد الله بن العباس‏.‏

وكان مسيره في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ولمّا وصل علي إِلى ذي قار أتاه عثمان بنٍ حنيف وقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وجئتك أمرد‏.‏

فقال أصبت أجراً وخيراً وقال علي‏:‏ إِن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب والسنة ثم وليهم ثالث فقالوا في حقه وفعلوا ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير ثم نكثا ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما علي والله إِنهما يعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم‏.‏

وقعة الجمل

واجتمع إِلى علي من أهل الكوفة جمع واجتمع إلى عائشة وطلحة والزبير جمع وسار بعضهم إلى بعض فالتقوا بمكان يقال له الخريبة في النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة ودعي على الزبير إِلى الاجتماع به فاجتمع به فذكره علي وقال‏:‏ أتذكر يوماً مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم فنظر إِلي فضحكت وضحك إِليّ فقلت‏:‏ لا يدع ابن أبي طالب زَهوَه‏.‏

فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنه ليس بِمُزْه ولتقاتلنه وأنت ظالم له‏)‏ فقال الزبير‏:‏ اللهم نعم ولو ذكرته ما سرت مسيري هذا‏.‏

فقيل إنه اعتزل القتال وقيل بل غيره ولده عبد الله وقال خفت من رايات ابن أبي طالب‏.‏

فقال الزبير إِني حلفت أن لا أقاتله‏.‏

فقال له ابنه‏:‏ كفرْ عن يمينك فعتق غلامه مكحولاً وقاتل ووقع القتال وعائشة راكبة الجمل المسمى عسكر في هودج وقد صار كالقنفذ من النشاب وتمت الهزيمة على أصحاب عائشة وطلحة والزبير ورمى مروان بن الحكم طلحة بسهم فقتلة وكلاهما كانا مع عائشة قيل إنه طلب بذلك أخذ ثأر عثمان منه لأنه نسبه إِلى أنه أعان على قتل عثمان وانهزم الزبير طالباً المدينة وقطعت على خطام الجمل أيد كثيرة وقتل أيضاً بين الفريقين خلق كثير ولما كثر القتل على خطام الجمل قال علي‏:‏ اعقروا الجمل فضربه رجل فسقط فبقيت عائشة في هودجها إِلى الليل وأدخلها محمد بن أبي بكر أخوها إِلى البصرة وأنزلها في دار عبد الله بن خلف وطاف علي على القتلى من أصحاب الجمل وصلى عليهم ودفنهم‏.‏

ولما رأى طلحة قتيلاً قال‏:‏ إنا لله وإنا إِليه راجعون والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى أنت والله كما قال الشاعر‏:‏ فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إِذا ما هو استغنى ويبعده الفقر وصلى عليه ولم ينقل عنه أنه صلى على قتلى الشام بصفين ولما انصرف الزبير من وقعة الجمل طالباً المدينة مر بماء لبني تميم وبه الأحنف بن قيس فقيل للأحنف وكان معتزلاً القتال‏:‏ هذا الزبير قد أقبل فقال‏:‏ قد جمع بين هذين العارين يعني العسكرين وتركهم وأقبل وفي مجلسه عمرو بن جرموز المجاشعي فلما سمع كلامه قام من مجلسه واتبع الزبير حتى وجده بوادي السباع نائماً فقتله ثم أقبل برأسه إِلى علي بن أبي طالب‏.‏

فقال علي‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏بشروا قاتل الزبير بالنار ‏)‏‏.‏

قال عمرو بن جرموز المذكور لعنه الله‏:‏ أتيت علياً برأس الزبير وقد كنت أحسبها زلفة فبشر بالنار قبل العيان فبئس البشارة والتحفه وسيان عندي قتل الزبير وضَرطة عير بذي الجحفة ثم أمر علي عائشة بالرجوع إِلى المدينة وأن تقر في بيتها فسارت مستهل رجب من هذه السنة وشيعها الناس وجهزها علي بما احتاجت إليه وسير معها أولاده مسيرة يوم وتوجهت إِلى مكة فأقامت للحج تلك السنة ثم رجعت إِلى المدينة‏.‏

وقيل كانت عدة القتلى يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف واستعمل علي على البصرة عبد الله بن العباس وسار على الكوفة فنزلها وانتظم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان ولم يبق خارج عنه إِلا الشام وفيه معاوية وأهل الشام مطيعون له فأرسل إِليه علي جريرَ بن عبد الله البجلي ليأخذ البيعة على معاوية ويطلب منه الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار‏.‏

فسار جرير إِلى معاوية فماطله معاوية وكان عمرو بن العاص بفلسطين حتى قدم عمرو إِلى معاوية فوجد أهل الشام يحضون على الطلب بدم عثمان فقال لهم عمرو‏:‏ أنتم على الحق واتفق عمرو ومعاوية على قتال علي وشرط عمرو على معاوية إِذا ظفر أن يوليه مصر فأجابه إلى ذلك وكان قيس بن سعد بن عبادة متولياً على مصر من جهة علي على ما ذكرناه فقد اعتزل عنه جماعة عثمانية إِلى قرية من بلد مصر يقال لها خربتا وكان قيس المذكور من دهاة العرب فرأى من المصلحة مداهنة المذكورين وكف الحرب عنهم لئلا ينضموا إِلى معاوية وكتب معاوية إِلى قيس المذكور يستميله ويبذل له الولايات العظام فلم يفد فيه فزور عليه معاوية كتاباً وقرأه على الناس يوهمهم أن قيساً معه ولذلك لم يقاتل المعتزلين عنه بخربتا فبلغ علياً ذلك فعزل قيساً عن مصر وولى عليها محمد بن أبي بكر ولحق قيس بالمدينة ثم وصل إِلى علي وحضر معه حرب صفين وحكى لعلي ما جرى له مع معاوية فعلم صحة ذلك وبقي قيس المذكور مع علي ثم مع الحسن على ذلك إِلى أن سلم الأمر إِلى معاوية وأما محمد بن أبي بكر فوصل إلى مصر وتولى عليها ووصاه قيس في أنه لا يتعرض إِلى أهل خربتا فلم يقبل محمد ذلك وبعث إلى أهل خربتا يأمرهم بالدخول في بيعة علي أو الخروج من أرض مصر فأجابوه أن لا نفعل ودعنا ننظر إلى ما يصير إِليه أمرنا فأبى عليهم‏.‏

ولما قدم عمرو على معاوية كما ذكرنا واتفقا على حرب علي قدم جرير بن عبد الله البجلي على علي فأعلمه بذلك فسار علي من الكوفة إِلى جهة معاوية وقدم عليه عبد الله بن عباس ومن معه من أهل البصرة فقال علي رضي الله عنه‏:‏ لأصبحن العاص وابن العاصي سبعين ألفاً عاقدي النواصي مجنبين الخيل بالقلاص مستحقبين حلق الدلاص وحدا بعلي نابغة بني جعد الشاعر فقال‏:‏

قد علم المصران والعراق

**

أن علياً فحْلها العتاقُ

أبيض جحجاح له رواقَ

**

إِن الأولى جاروك لا أفاقوا

لكم سباق ولهم سباق

**

قد سلمتْ ذلكم الرفاق

وسار عمر ومعاوية من دمشق بأهل الشام إِلى جهة علي وتأنى معاوية في مسيره حتى اجتمعت الجموع بصفين وخرجت سنة ست وثلاثين والأمر على ذلك‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين

والجيشان بصفين ومضى المحرم ولم يكن بينهم قتال بل مراسلات يطول ذكرها لم ينتظم بها أمر ولما دخل صفر وقع بينهما القتال فيه وكانت بينهم وقعات كثيرة بصفين قيل كانت تسعين وقعة وكان مدة مقامهم بصفين مائة وعشرة أيام وكانت عدة القتلى بصفين من أهل الشام خمسة وأربعين ألفاً ومن أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً منهم ستة وعشرون رجلا من أهل بدر وكان علي قد تقدم إِلى أصحابه أن لا يقاتلوهم حتى يبدؤوا بالقتال وأن لا يقتلوا مدبراً وألا يأخذوا شيئاً من أموالهم وأن لا يكشفوا عورة‏.‏

قال معاوية أردت الانهزام بصفين فتذكرت قول ابن الإطنابة فثبت وكان جاهلياً والإطنابة مرة وهو قوله‏:‏

أبت لي همتي وحياء نفسي

**

وإقدامي على البطل المشيح

وإعطائي على المكروه مالي

**

وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وقولي كلما جاشت وجاشت

**

رويدك تحمدي أو تستريحي

وقاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع علي قتالاً عظيماً وكان قد نيف عمره على تسعين سنة وكانت الحربة في يده ترعد وقال‏:‏ هذه راية قاتلت بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة ودعى بقدح من لبن فشرب منه ثم قال‏:‏ صدق الله ورسوله‏:‏ اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آخر رزقي من الدنيا ضيحة لبن‏)‏ والضيحُ‏:‏ اللبن الرقيق الممزوج‏.‏

وروي أنه كان يرتجز‏:‏

نحن قتلناكم على تأويله

**

 كما قتلناكم على تنزيله

ولم يزل عمار المذكور يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه وفي الصحيح المتفق عليه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقتل عمار الفئة الباغية‏)‏ قيل‏:‏ إِن الذي قتله أبو عادية برمح فسقط عمار فجاء آخر فاحتز رأسه وأقبلا يختصمان إِلى عمرو ومعاوية كل منهما يقول‏:‏ أنا قتلته‏.‏

فقال عمرو‏:‏ إِنكما في النار فلما انصرفا قال معاوية لعمرو‏:‏ ما رأيت مثل ما رأيت اليوم صرفت قوماً بذلوا أنفسهم دوننا‏.‏

فقال عمرو‏:‏ هو والله ذلك والله إِنك لتعلمه ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة‏.‏

وبعد قتل عمار رضي الله عنه انتدب علي اثني عشر ألفاً وحمل بهم على عسكر معاوية فلم يبق لأهل الشام صف إِلا انتقض وعلي يقول‏:‏ أقتلهم ولا أرى معاويه الجاحظ العين العظيم الخاويه ثم نادى‏:‏ يا معاوية علام تقتل الناس ما بيننا هلم أحاكمك إِلى الله فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور‏.‏

فقال عمرو‏:‏ أنصفك ابن عمك فقال معاوية‏:‏ ما أنصف إِنك تعلم أنه لم يبرز إِليه أحد إِلا قتله‏.‏

فقال عمرو وما يحسن بك ترك مبارزته‏.‏

فقال معاوية‏:‏ طمعتَ في الأمر بعدي‏.‏

ثم تقاتلوا ليلة الهرير شبهت بليلة القادسية وكانت ليلة الجمعة واستمر القتال إِلى الصبح وقد روى أن علياً كبر تلك الليلة أربعمائة تكبيرة وكانت عادته أنه كلما قتل قتيلاً كبر ودام القتال إِلى ضحى يوم الجمعة‏.‏

وقاتل الأشتر قتالاً عظيماً حتى انتهى إِلى معسكرهم وأمده علي بالرجال ولما رأى عمرو ذلك قال لمعاوية‏:‏ هلم نرفع المصاحف على الرماح ونقول هذا كتاب الله بيننا وبينكم ففعلوا ذلك ولما رأى أهل العراق ذلك قالوا لعلي‏:‏ لا نجيب إِلى كتاب الله فقال علي‏:‏ امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم فإِن عمراً ومعاوية وابن أبي معيط وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا أعرف بهم منكم ويحكم والله ما رفعوها إِلا خديعة ومكيدة‏.‏

فقالوا‏:‏ لا تمنعنا أن ندعي إِلى كتاب الله فنأبى‏.‏

فقال علي‏:‏ إِني إِنما قاتلتهم ليدينوا بحكم كتاب الله فإِنهم قد عصوا الله فيما أمرهم‏.‏

فقال له مسعود بن فدك التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من الذين صاروا خوارج‏:‏ يا علي أجب إِلى كتاب الله إِذا دعيتُ إِليه وإلا دفعناك برمتك إِلى القرم نفعل بك ما فعلنا بابن عفان‏.‏

فقال علي‏:‏ إِن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم‏.‏

قالوا فابعث إِلى الأشتر فليأتك فبعث إِليه يدعوه فقال الأشتر‏:‏ ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي فرجع الرسول وأخبره بالخبر وارتفعت الأصوات وكثر الرهج من جهة الأشتر فقالوا لعلي‏:‏ ما نراك أمرته إِلا بالقتال فقال‏:‏ هل رأيتموني ساررت الرسول إِليه أليس كلمته وأنتم تسمعون فقالوا‏:‏ فابعث إِليه ليأتك وإلا اعتزلناك فرجع الرسول إِلى الأشتر وأعلمه‏.‏

فقال‏:‏ قد علمت والله أن رفع المصاحف يوقع اختلافاً وإنها مشورة ابن العاهر فرجع الأشتر إِلى علي وقال‏:‏ خدعتم فانخدعتم وكان غالب تلك العصابة الذين نهوا عن القتال قراء ولما كفوا عن القتال سألوا معاوية‏:‏ لأي شيء رفعت المصاحف فقال‏:‏ تنصبوا حكماً منكم وحكماً منا ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله ثم نتبع ما اتفقا عليه فوقعت الإجابة من الفريقين إِلى ذلك‏.‏

فقال الأشعث بن قيس وهو من أكبر الخوارج‏:‏ إِنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري‏.‏

فقال علي‏:‏ قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن‏.‏

لا أرى أن أولي أبا موسى‏.‏

فقالوا‏:‏ لا نرضى إِلا به‏.‏

فقال علي‏:‏ إِنه ليس بثقة قد فارقني وخذل عني الناس ثم هرب مني حتى أمنته بعد أشهر ولكن ابن عباس أولى منه‏.‏

قال علي‏:‏ فالأشتر‏.‏

فأبوا وقالوا‏:‏ هل أسعرها إِلا الأشتر‏.‏

فاضطر علي إِلى إِجابتهم وأخرج أبا موسى وأخرج معاوية عمرو بن العاص بن وائل واجتمع الحكمان عند علي رضي الله عنه وكتب بحضوره كتاب القصة وهو‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى أمير المؤمنين علي‏.‏

فقال عمرو‏:‏ هو أميركم وأما أميرنا فلا‏.‏

فقال الأحنف‏:‏ لا تمح اسم أمير المؤمنين‏.‏

فقال الأشعث بن قيس امح هذا الاسم فأجاب علي ومحاه‏.‏

وقال علي‏:‏ الله أكبر سنة بسنة والله إِني لكاتب رسول الله يوم الحديبية فكتبت محمد رسول الله فقالوا لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحو فقلت‏:‏ لا أستطيع فقال‏:‏ فأرني فأريته فمحاه بيده فقال لي‏:‏ ‏(‏إِنك ستدعى إِلى مثلها فتجيب ‏)‏‏.‏

فقال عمرو‏:‏ سبحان الله تشبهنا بالكفار ونحن مؤمنون‏.‏

فقال علي رضي الله عنه‏:‏ يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمؤمنين عدواً‏.‏

فقال عمرو‏:‏ والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم‏.‏

فقال علي‏:‏ إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك‏.‏

وكتب الكتاب فمنه‏:‏ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم وقاضي معاوية على أهل الشام ومن معهم أنا ننزل عند حكم الله وكتابه نحيي ما أحيى ونميت ما أمات فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى الأشعري عبد الله قيس وعمرو بن العاص - عملاً به وما لم يجدا في كتاب الله فبألسنة العادلة‏.‏

وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين المواثيق أنهما أمينان على أنفسهما وأهلهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه وأجلا القضاء إلى رمضان من هذه السنة وإن أحبا أن يؤخّرا ذلك أخراه‏.‏

وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان فإِن لم يجتمعا لذلك اجتمعا في العام المقبل بإِذرح‏.‏

ثم سار علي إلى العراق وقدم إِلى الكوفة ولم تدخل الخوارج معه إِلى الكوفة واعتزلوا عنه ثم في هذه السنة بعث علي للميعاد أربعمائة رجل فيهم أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس ليصلي بهم ولم يحضر علي‏.‏

وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل ثم جاء معاوية واجتمعوا بإِذرح وشهد معهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة‏.‏

والتقى الحكمان فدعى عمرو أبا موسى إِلى أن تجعل الأمر إِلى معاوية فأبى وقال‏:‏ لم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين ودعى أبو موسى عمرو إِلى أن يجعل الأمر إِلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فأبى عمرو ثم قال عمرو‏:‏ ما ترى أنت فقال أرى أن نخلع علياً ومعاوية ونجعل الأمر شورى بين المسلمين فأظهر لهم عمرو أن هذا هو الرأي ووافقه عليه‏.‏

ثم أقبلا إِلى الناس وقد اجتمعوا فقال أبو موسى‏:‏ إِن رأينا قد اتفق على أمر نرجو به صلاح هذه الأمة‏.‏

فقال عمرو‏:‏ تقدّم فتكلم يا أبا موسى‏.‏

فلما تقدّم لحقه عبد الله بن عباس وقال‏:‏ ويحك والله إِني أظن أنه خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك‏.‏

فإِني لا آمن أن يخالفك‏.‏

فقال أبو موسى‏:‏ إِنا قد اتفقنا فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أيها الناس إِنا لم نر أصلح لأمر هذه الأمة من أمر قد اجتمع عليه رأيي ورأي عمرو وهو أن نخلع علياً ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا وإِني قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً‏.‏

ثم تنحى وأقبل عمرو فقام مقامه‏:‏ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه‏.‏

فقال له أبو موسى‏:‏ ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت‏.‏

وركب أبو موسى ولحق بمكة حياء من الناس وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة ومن ذلك الوقت أخذ أمر علي في الضعف وأمر معاوية في القوة‏.‏

ولما اعتزلت الخوارج علياً دعاهم إِلى الحق فامتنعوا وقتلوا كل من أرسله إِليهم فسار إليهم وكانوا أربعة آلاف ووعظهم ونهاهم عن القتل فتفرقت منهم جماعة وبقي مع عبد الله بن وهب جماعة على ضلالتهم وقاتلوا فقتلوا عن آخرهم ولم يقتل من أصحاب علي سوى سبعة أنفس أولهم يزيد بن نويرة وهو ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أُحد‏.‏

ولما رجع علي إِلى الكوفة حض الناس على المسير إِلى قتال معاوية فتقاعدوا وقالوا‏:‏ نستريح ونصلح عدتنا فاحتاج لذلك علي أن يدخل الكوفة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين

فيها جهز معاوية عمرو بن العاص بعسكر إِلى مصر وكتب محمد بن أبي بكر يستنجد علياً فأرسل إليه الأشتر فلما وصل الأشتر إِلى القلزم سقاه رجل عسلاً مسموماً فمات منه فقال معاوية‏:‏ إِن لله جنداً من عسل وسار عمرو حتى وصل إِلى مصر وقاتله أصحاب محمد بن أبي بكر فهزمهم عمرو وتفرق عن محمد أصحابه وأقبل محمد يمشي حتى انتهى إِلى خربة فقبض عليه وأتوا به إِلى معاوية بن خديح فقتله وألقاه في جيفة حمار وأحرقه بالنار ودخل عمرو مصر وبايع أهلها لمعاوية‏.‏

ولما بلغ عائشة قتل أخيها محمد جزعت عليه وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية وعمرو بن العاص وضمت عيال أخيها محمد إِليها ولما بلغ علياً مقتله جزع عليه وقال‏:‏ عند الله نحتسبه وكان ذلك في هذه السنة أعني سنة ثمان وثلاثين ثم بث معاوية سراياه بالغارات على أعمال علي فبعث النعمان بن بشير الأنصاري إِلى عين التمر فنهب وهزم كل من كان بها من أصحاب علي وبعث سفيان بن عوف إِلى هيت والأنبار والمدائن فنهب وحمل كل ما كان بالأنبار من الأموال ورجع بها إِلى معاوية وسير عبد الله بن مسعدة الفزاري إِلى الحجاز فجهز إِليه علي خيلا فالتقوا بتيماء وانهزم أصحاب معاوية ولحقوا بالشام وتتابعت الغارات على بلاد علي رضي الله عنه وهو في ذلك يخطب الناس الخطب البليغة ويجتهد بحضّهم على الخروج إِلى قتال معاوية فيتقاعد عنه عسكره‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

والأمر على ذلك وفيها سير عبد الله بن عباس وكان عامل البصرة زياداً إِلى فارس وكانت قد اضطربت لما حصل من قتال علي ومعاوية فوصل إِليها زياد وضبطها أحسن ضبط حتى قالت الفرس‏:‏ ما رأينا مثل سياسة أنوشروان إِلا سياسة هذا العربي‏.‏

ثم دخلت سنة أربعين

وعلي بالعراق ومعاوية بالشام وله معها مصر وكان علي يقنت في الصلاة ويدعو على معاوية وعلى عمرو بن العاص وعلى الضحاك وعلى الوليد بن عقبة وعلى الأعور السلمي‏.‏

ومعاوية يقنت في الصلاة ويدعو على علي وعلى الحسن وعلى الحسين وعلى عبد الله بن جعفر‏.‏

وفي هذه السنة سير معاوية بشر بن أرطأة في عسكر إلى الحجاز فأتى المدينة وبها أبو أيوب الأنصاري عاملا لعلي فهرب ولحق بعلي ودخل بشر المدينة وسفك فيها الدماء واستكره الناس على البيعة لمعاوية ثم سار إِلى اليمن وقتل ألوفاً من الناس فهرب منه عبيد الله بن العباس عامل علي باليمن فوجد لعبيد الله ابنين صبيين فذبحهما وأتى في ذلك بعظيمة فقالت أمهما - وهي عائشة بنت عبد الله ابن عبد المدان - تبكيهما‏:‏

ها من أحسّ بابني اللذين هما

**

كالدرتين تشظى عنهما الصدف

ها من أحس بابني اللذين هما قلبي

**

وسمعي فقبلي اليوم مختطف

من ذل والهة حيرى مدلهة على

**

صبيين ذلا إِذ غدا السلف

خبرت بشراً وما صدقت ما زعموا

**

من إِفكهم ومن القول الذي اقترفوا

أنحا على ودجي ابني مرهفة

**

مشحوذة وكذاك الإثم يقترف

رضي الله عنه قيل اجتمع ثلاثة من الخوارج منهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي وعمرو بن بكر التميمي والبرُك بن عبد الله التميمي ويقال إِن اسمه الحجاج فذكروا أخوانهم من المارقة المقتولين بالنهروان فقالوا‏:‏ لو قتلنا أئمة الضلالة أرحنا منهم البلاد فقال ابن ملجم‏:‏ أنا أكفيكم علياً وقال البرك‏:‏ أنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر‏:‏ أنا أكفيكم عمرو بن العاص وتعاهدوا أن لا يفر أحد منهم عن صاحبه الذي توجه إِليه واستصحبوا سيوفاً مسمومة وتواعدوا لسبع عشرة ليلة تمضي من رمضان من هذه السنة أعني سنة أربعين أن يثب كل واحد منهم بصاحبه‏.‏

واتفق مع عبد الرحمن بن ملجم رجلان أحدهما يقال له وردان من تيم الرباب والآخر شبيب من أشجع ووثبوا على علي وقد خرج إِلى صلاة الغداة فضربه شبيب فوقع سيفه في الطاق وهرب شبيب فنجا في غمار الناس وضربه ابن ملجم في جبهته وأما وردان فهرب‏.‏

وأمسك ابن ملجم وأحضر مكتوفاً بين يدي علي ودعا علي الحسن والحسين وقال‏:‏ أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا ولا تبكيا على شيء زوى عنكما منها ثم لم ينطق إِلا بلا إِله إِلا الله حتى قبض رضي الله عنه‏.‏

وأما البرك فوثب على معاوية في تلك الليلة وضربه بالسيف فوقع في إلية معاوية وأمسك البرك فقال له‏:‏ إني أبشرك فلا تقتلني فقال بماذا قال إن رفيقي قتل علياً هذه الليلة فقال معاوية‏:‏ لعله لم يقدر فقال إلى إن علياً ليس معه من يحرسه فقتله معاوية‏.‏

وأما عمرو بن بكر فإِنه جلس تلك الليلة لعمرو بن العاص فلم يخرج عمرو إِلى الصلاة وكان قد أمر خارجة بن أبي حبيبة صاحب شرطته أن يصلي بالناس فخرج خارجة ليصلي بالناس فشد عليه عمرو بن بكر وهو يظن أنه عمرو ابن العاص فقتله فأخذه الناس وأتوا به عمراً فقال‏:‏ من هذا قالوا عمرو‏.‏

فقال‏:‏ أنا مَن قتلت قالوا‏:‏ خارجة‏.‏

فقال عمرو‏:‏ أردت عمراً وأراد الله خارجة‏.‏

ولما مات علي أخُرج عبد الرحمن بن ملجم من الحبس فقطع عبد الله بن جعفر يده ثم رجله وكحلت عيناه بمسمار محمى وقطع لسانه وأحرق لعنه الله‏.‏

ولبعض الخوارج وهو عمران بن حطان لعنه الله يرثي ابن ملجم المذكور لعنه الله‏:‏

لله در المرادي الذي فتكت

**

كفاه مهجة شر الخلق إِنسانا

يا ضربة من ولي ما أراد بها

**

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إِني لأذكره يوماً فأحسبه أو فالخليقة عند الله ميزانا واختلف في عمر علي رضي الله عنه فقيل كان ثلاثاً وستين سنة وقيل خمساً وستين وقيل تسعاً وخمسين وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر وكان قتله ما ذكرنا صبيحة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين واختلف في موضع قبره فقيل دفن مما يلي قبلة المسجد بالكوفة وقيل عند قصر الإِمارة وقيل حوله ابنه الحسن إِلى المدينة ودفنه بالبقيع عند قبر زوجته فاطمة رضي الله عنهما والأصح وهو الذي ارتضاه ابن الأثير وغيره أن قبره هو المشهور بالنجف وهو الذي يزار اليوم‏.‏

صفته رضي الله عنه

كان شديد الأدمة عظيم العينين أصلع عظيم اللحية كثير شعر الصدر مائلاً إِلى القصر حسن الوجه لا يغير شيبه كثير التبسم‏.‏

وكان حاجبه قنبر مولاه وصاحب شرطته نعثل بن قيس الرباحي وكان قاضيه شريح وكان قد ولاه عمر قضاء الكوفة ولم يزل قاضياً بها إِلى أيام الحجاج بن يوسف وأول زوجة تزوج بها علي رضي الله عنه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتزوج غيرها في حياتها‏.‏

وولد له منها الحسن والحسين ومحسن ومات صغيراً وزينب وأم كلثوم التي تزوجها عمر بن الخطاب ثم بعد موت فاطمة تزوج أم البنين بنت حزام الكلابية فولد له منها العباس وجعفر وعبد الله وعثمان قتل هؤلاء الأربعة مع أخيهم الحسين ولم يعقب منهم غير العباس وتزوج ليلى بنت مسعود ابن خالد النهشلي التميمي وولد له منها عبيد الله وأبو بكر قتلا مع الحسين أيضاً وتزوج أسماء بنت عميس وولد له منها محمد الأصغر ويحيى ولا عقب لهما وولد له من الصهباء بنت ربيعة التغلبية وهي من السبي الذي أغار عليهم خالد ابن الوليد بعين التمر عمر ورقية وعاش عمر المذكور حتى بلغ من العمر خمساً وثمانين سنة وجاز نصف ميراث أبيه علي ومات بينبع وله عقب وتزوج علي أيضاً أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وولد له منها محمد الأوسط ولا عقب له وولد له من خولة بنت جعفر الحنفية محمد الأكبر المعروف بابن الحنفية وله عقب وكان له بنات من أمهات شتى منهن‏:‏ أم حسن ورملة الكبرى من أم سعيد بنت عروة ومن بناته أم هاني وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة فجمع بنيه الذكور أربعة عشر لم يعقب منهم إِلا خمسة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس وعمر‏.‏

من ذلك مشاهده المشهورة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق إِسلامه وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كنت مولاه فعلي مولاه‏)‏ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه في غزوة حنين‏:‏ لأبعثن الراية غداً مع رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله صلى الله عليه وسلم له‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى‏)‏ وقال عليه السلام ‏(‏أقضاكم علي‏)‏ والقضاء يستدعي معرفة أبواب الفقه كلها بخلاف قوله‏:‏ ‏(‏أفرضكم زيد‏)‏ وأقرأكم أبي ولم يبن علي بناء أصلاً وكان قد ضاع لعلي درع فوجده مع نصراني فأقبل به إِلى شريح القاضي وجلس إِلى جانبه وقال‏:‏ لو كان خصمي مسلماً لساويته وقال‏:‏ هذه درعي فقال النصراني ما هي إلا درعي فقال شريح لعلي‏:‏ ألك بينة فقال علي لا وهو يضحك‏.‏

فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال‏:‏ أشهد أن هذه أحكام الأنبياء ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إِلى صفين ففرح علي بإسلامه ووهبه الدرع وفرساً‏.‏

وشهد مع علي قتال الخوارج فقتل رحمه الله تعالى‏.‏

وحمل علي في ملحفته تمراً اشتراه بدرهم فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك فقال‏:‏ أبو العيال أحق بحمله‏.‏

وكان يقسم ما في بيت المال كل جمعة حتى لا يترك فيه شيئاً ودخل مرة إلى بيت المال فوجد الذهب والفضة فقال‏:‏ يا صفراء اصفري ويا بيضاء ابيضي وأغري غيري لا حاجة لي فيك‏.‏

وقصده أخوه لأبيه وأمه عقيل بن أبي طالب يسترفده فلم يجد عنده ما يطلب ففارقه ولحق بمعاوية حباً للدنيا وكان مع معاوية يوم صفين فقال له معاوية يمازحه‏:‏ يا أبا يزيد أنت اليوم معنا‏.‏

فقال عقيل‏:‏ ويوم بدر كنت أيضاً معكم وكان عقيل يوم بدر مع المشركين هو وعمه العباس‏.‏

أخبار الحسن ابنه

ولما توفي علي رضي الله عنه بايع الناس ابنه الحسن وكان عبد الله بن العباس قد فارق علياً قبل مقتله وأخذ من البصرة مالاً وذهب إِلى مكة وجرت بينه وبين علي مكاتبات في ذلك ولما تولى الحسن الخلافة كتب إليه ابن عباس يقوي عزيمته على جهاد عدوه وكان أول من بايع الحسن قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري فقال‏:‏ أبسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال المخالفين فقال الحسن‏:‏ على كتاب الله وسنة رسوله فإنهما ثابتان وبايعه الناس وكان الحسن يشترط أنكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت فارتابوا من ذلك وقالوا‏:‏ ما هذا لكم بصاحب وما يريد إِلا القتال‏

ثم دخلت سنة إِحدى وأربعين

تسليم الحسن الأمر إِلى معاوية قيل‏:‏ كان علي قبيل موته قد بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت وأخذ في التجهز إِلى قتال معاوية فاتفق مقتله ولما بويع الحسن بلغه مسير أهل الشام إِلى قتاله مع معاوية فتجهز الحسن في ذلك الجيش الذين كانوا قد بايعوا أباه وسار عن الكوفة إِلى لقاء معاوية ووصل إِلى المدائن وجعل الحسن على مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً وقيل بل الذي جعله على مقدمته عبيد الله ابن عباس وجرى في عسكره فتنة قيل حتى نازعوا الحسن بساطاً كان تحته فدخل المقصورة البيضاء بالمدائن وازداد لذلك العسكر بغضاً ومنهم ذعراً‏.‏

ولما رأى الحسن ذلك كتب إِلى معاوية واشترط عليه شروطاً وقال إِن أجبت إليها فأنا سامع مطيع فأجاب معاوية إِليها وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة وخراج دارا بجرد من فارس وأن لا يسب علياً فلم يجبه إلى الكف عن سبّ علي فطلب الحسن أن لا يشتم علياً وهو يسمع فأجابه إِلى ذلكَ ثم لم يف له به وقيل إِنه وصله بأربعمائة ألف درهم ولم يصل إِليه شيء من خراج دارا بجرد ودخل معاوية الكوفة فبايعه الناس وكتب الحسن إِلى قيس بن سعد يأمره بالدخول في طاعة معاوية ثم جرت بين قيس وعبيد الله بن عباس وبين معاوية مراسلات وآخر الأمر أنهما بايعا ومن معهما وشرطا أن لا يطالبا بمال ولا دم ووفى لهما معاوية بذلك ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته وقيل كان تسليم حسن الأمر إِلى معاوية في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وقيل في ربيع الآخر وقيل في جمادى الأولى وعلى هذا فتكون خلافته على القول الأول خمسة أشهر ونحو نصف شهر وعلى الثاني ستة أشهر وكسراً وعلى الثالث سبعة أشهر وكسراً‏.‏

روى سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يعود ملكاً عضوضاً ‏)‏‏.‏

وكان آخر الثلاثين يوم خلع الحسن نفسه من الخلافة وأقام الحسن بالمدينة إِلى أن توفي بها في ربيع الأول سنة تسع وأربعين وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة وهو أكبر من الحسين بسنة وتزوج الحسن كثيراً من النساء وكان مطلاقاً وكان له خمسة عشر ولداً ذكراً وثماني بنات وكان يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأسه إلى سرته وكان الحسين يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرته إِلى قدمه‏.‏

وتوفي الحسن من سم سقته زوجته جعدة بنت الأشعث قيل فعلت ذلك بأمر معاوية وقيل بأمر يزيد بن معاوية ووعدها أنه يتزوجها إِن فعلت ذلك فسقته السم وطالبت يزيد أن يتزوجها فأبى‏.‏

وكان الحسن قد أوصى أن يدفن عند جده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توفي أرادوا ذلك وكان على المدينة مروان بن الحكم من قبل معاوية فمنع من ذلك وكاد يقع بين بني أمية وبين بني هاشم بسبب ذلك فتنة فقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ البيت بيتي ولا آذن أن يدفن فيه فدفن بالبقيع ولما بلغ معاوية موت الحسن خر ساجداً‏.‏

فقال بعض الشعراء‏:‏

أصبح اليوم ابن هند شامتاً

**

ظاهر النخوة إِذ مات الحسن

يا ابن هند إِن تذق كأس الردى

**

تكُ في الدهر كشيء لم يكن

لست بالباقي فلا تشمت به

**

كل حي للمنايا مرتهن

ومن فضائل الحسن في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما‏)‏ وروى أنه قال عن الحسن‏:‏ ‏(‏إِن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين‏)‏ وروي أنه مر بالحسن والحسين وهما يلعبان فطأطأ لهما عنقه وحملهما وقال‏:‏ ‏(‏نعم المطية مطيتهما ونعم الراكبان هما ‏)‏‏.‏