الفصل الثامن: أبو العباس السفاح

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

أبو العباس السفاح

وفي هذه السنة بويع أبو العباس السفاح واسمه عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بالخلافة في ربيع الأول وقيل في ربيع الآخر بالكوفة بعد مسيره من الحميمة وكان سبب مسيره من الحميمة وكان مقامه بها أن إِبراهيم الإمام لما أمسكه مروان نعى نفسه إِلى أهل بيته وأمرهم بالمسير إلى أهل الكوفة مع أخيه أبي العباس السفاح وبالسمع له والطاعة وأوصى إِبراهيم الإمام بالخلافة إِلى أخيه السفاح وسار أبو العباس السفاح بأهل بيته منهم أخوه أبو جعفر المنصور وغيره إِلى الكوفة فقدم إليها في صفر واستخفى إِلى شهر ربيع الأول فظهر وسلم عليه الناس بالخلافة وعزره في أخيه إبراهيم الإمام ودخل دار الإمارة بالكوفة صبيحة يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الأول من هذه السنة أعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏

ثم خرج إِلى المسجد فخطب وصلى بالناس ثم صعد إِلى المنبر ثانياً وصعد عمه داود بن علي فقام دونه وخطبا الناس وحضاهم على الطاعة ثم نزل السفاح وعمه داود بن علي أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور في المسجد يأخذ له البيعة على الناس ثم خرج السفاح فعسكر بحمام أعين واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن علي وحاجب السفاح يومئذ عبد الله ابن بسام‏.‏

ثم بعث السفاح عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس إلى شهرزور وأهلها مذعنون بالطاعة لبني العباس وبها من جهة بني العباس أبو عون عبد الملك بن يزيد الأزدي‏.‏

وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد إِلى الحسن بن قحطبة وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط‏.‏

وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس إِلى حميد بن قحطبة أخي الحسن بن قحطبة بالمدائن وأقام السفاح في العسكر أشهراً ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية وهي هاشمية الكوفة بقصر الإِمارة‏.‏

هزيمة مروان بالزاب وأخباره

إلى أن قتل كان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف آخر خلفاء بني أمية وكان يقال له مروان الجعدي وحمار الجزيرة أيضاً بحران فسار منها طالباً أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي المستولي على شهرزور من جهة بني العباس فلما وصل مروان إِلى الزاب نزل به وحفر عليه خندقاً وكان في مائة ألف وعشرين ألفاً وسار أبو عون من شهرزور إِلى الزاب بما عنده من الجموع وأردفه السفاح بعساكر في دفوع مع عدة مقدمين منهم سلمة بن محمد ابن عبد الله الطائي وعم السفاح عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس كما ذكرناه ولما قدم عبد الله بن علي على أبي عون تحول أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه‏.‏

ثم إِن مروان عقد جسراً على الزاب وعبر إِلى جهة عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس فسار عبد الله بن علي إلى مروان وقد جعل على ميمنته أبا عون وعلى ميسرته الوليد بن معاوية وكان عسكر عبد الله عشرين ألفاً وقيل أقل من ذلك والتقى الجمعان واشتد بينهم القتال وداخل عسكر مروان الفشل وصار لا يريد أمراً إِلا وكان فيه الخلل حتى تمت الهزيمة على عسكر مروان فانهزموا وغرق من أصحاب مروان عدة كثيرة وكان ممن غرق إِبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان المخلوع وهو يومئذ مع مروان الحمار وكتب عبد الله بن علي إِلى السفاح بالفتح وحوى من عسكر مروان سلاحاً كثيراً‏.‏

وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ولما انهزم مروان من الزاب أتى الموصل فسبّه أهلها وقالوا‏:‏ يا جعدي الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا فسار عنها حتى أتى حران وأقام بها نيفاً وعشرين يوماً حتى دنا منه عسكر السفاح فحمل مروان أهله وخيله ومضى منهزماً إلى حمص وقدم عبد الله بن علي حران ثم سار مروان من حمص وأتى دمشق ثم سار عن دمشق إِلى فلسطين وكان السفاح قد كتب إِلى عمه عبد الله بن علي باتباع مروان فسار عبد الله في أثره إلى أن وصل إلى دمشق فحاصرها ودخلها عنوة يوم الأربعاء لخمس مضين من رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏

ولما فتح عبد الله بن علي دمشق أقام بها خمسة عشرة يوماً ثم سار من دمشق حتى أتى فلسطين فورد عليه كتاب السفاح يأمره أن يرسل أخاه صالح بن علي بن عبد الله بن عباس في طلب مروان فسار صالح في ذي القعدة من هذه السنة حتى نزل نيل مصر ومروان منهزم قدامه حتى أدركه في كنيسة في بوصير من أعمال مصر وانهزم أصحاب مروان وطعن إِنسان مروان برمح فقتله وسبق إِليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه وكان قتله لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ولما أحضر رأسه قدام صالح بن علي بن عبد الله ابن العباس أمر أن ينفض فانقطع لسانه فأخذته هرة وأرسله صالح إلى السفاح قد فتحَ اللهُ مصراً عنوةً لكُمُ وأهلك الفاجرَ الجعديَ إِذ ظلما وذاك مقوله هر يجرره وكان ربُكَ من ذي الكفر منتقما ثم رجع صالح المذكور إِلى الشام وخلف أبا عون بمصر ولما وصل الرأس إِلى السفاح وهو بالكوفة سجد شكراً لله تعالى ولما قتل مروان هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إِلى أرض الحبشة فقاتلتهم الحبشة فقتل عبيد الله ونجا عبد الله في عدّة ممن معه وبقي إلى خلافة المهدي فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين فبعث به إِلى المهدي ولما قتل مروان حُملت نساؤه وبناته إِلى بين يدي صالح بن علي بن عبد الله بن عباس فأمر بحملهن إلى حران فلما دخلنها ورأين منازل مروان رفعن أصواتهن بالبكاء وكان عمر مروان لما قتل اثنتين وستين سنة وكانت مدة خلافته خمس سنين وعشرة أشهر ونصفاً وكان يكنى أبا عبد الملك وكانت أمه أم ولد كردية وكان يلقب بالحمار وبالجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وكان مروان بن محمد الحكمٍ المذكور أبيض أشهل ضخم الهامة كث اللحية أبيضها ربعة وكان شجاعاً حازماً إلا أن مدته انقضت فلم ينفعه حزمه وهو آخر الخلفاء من بني أمية‏.‏

من قتل من بني أمية كان سليمان بن هشام بن عبد الملك قد أمنه السفاح وأكرمه فدخل سديف على السفاح وأنشده‏:‏ لا يغرنك ما ترى من رجال إِنّ تحت الضلوع داء دويا فضع السيفَ وارفع السوطَ حتّى لا ترىَ فوق ظهرها أمويا فأمر السفاح بقتل سليمان فقتل وكان قد اجتمع عند عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس عدة من بني أمية نحو تسعين رجلاً فلما اجتمعوا عند حضور الطعام دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي عم السفاح المذكور وأنشده‏:‏ أصبحَ الملك ثابتُ الأساسِ بالبهاليل من بني العباسِ طلبوا وتر هاشم فشفوها بعد ميل من الزمان وياسِ لا تقيلن عبد شمس عثاراً واقطعن كل رقلة وغرَاس ذلها أظهر التودد منها وبها منكم كحد المواسي ولقد ساءني وساء سوائي قربهم من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها الل - - ه بدار الهوان والإتعاسِ واذكروا مصرع الحسين وزيد وشهيد بجانبَ المهراس فأمر عبد الله بهم فضربوا بالعمد حتى وقعوا وبسط عليهم الأنطاع ومد عليهم الطعام وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم حتى ماتوا جميعاً وأمر عبد الله بنبش قبور بني أمية بدمشق فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان ونبش قبر يزيد ابنه ونبش قبر عبد الملك بن مروان ونبش قبر هشام بن عبد الملك فوجد صحيحاً فأمر بصلبه فصلب ثم أحرقه بالنار وذراه وتتبع يقتل بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فلم يفلت منهم غير رضيع أو من هرب إِلى الأندلس وكذلك قَتَل سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة جماعة من بني أمية وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب ولما رأى من بقي من بني أمية ذلك تشتتوا واختفوا في البلاد‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة خلع أبو الورد بن الكوثر وكان من أصحاب مروان بن محمد طاعة بني العباس بعد أن كان قد دخل في طاعتهم فسار عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس إِلى أبي الورد وهو بقنسرين في جمع عظيم واقتتلوا قتالاً شديداً وكثر القتل في الفريقين ثم انهزمت أصحاب أبي الورد وثبت أبو الورد حتى قتل‏.‏

ولما فرغ عبد الله بن علي من أمر أبي الورد من أهل قنسرين وجدد البيعة معهم ثم رجع إِلى دمشق وكان قد خرج من بها عن الطاعة أيضاً ونهبوا أهل عبد الله بن علي فلما دنا عبد الله من دمشق هربوا ثم أمنهم‏.‏

وفيها ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الموصل وكان أهلها قد أخرجوا الوالي الذي بها فسار يحيى إِلى الموصل ولما استقر بها قتل من أهلها نحو أحد عشر ألف رجل ثم أمر بقتل نسائهم وصبيانهم وكان مع يحيى قائد معه أربعة آلاف زنجي فاستوقفت امرأة من الموصل يحيى وقالت‏:‏ مأنف للعربيات أن ينكحن الزنوج فعمل كلامها فيه وجمع الزنوج فقتلهم عن آخرهم‏.‏

وفي هذه السنة أرسل السفاح أخاه أبا جعفر المنصور والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمنية وولى عمه داود المدينة ومكة واليمن واليمامة وولى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الكوفة وسوادها وكان على الشام عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس وعلى مصر أبو عون بن يزيد وعلى خراسان والجبال أبو مسلم‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة

فيها استولى ملك الروم وكان اسمه قسطنطين على ملطية وقاليقلا وفيها ولى السفاح عمه سليمان بن علي ابن عبد الله بن عباس البصرة وكور دجلة والبحرين وعمان واستعمل عمه إِسماعيل ابن علي بن عبد الله بن عباس على الأهواز‏.‏

وفيها مات عم السفاح داود بن علي بالمدينة وولى السفاح مكانه زياد بن عبد الله الحارثي‏.‏

وفيها عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل لكثرة قتله فيهم وولى عليها عمه إِسماعيل

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة

فيها تحول السفاح من الحيرة وكان مقامه بها إِلى الأنبار في ذي الحجة‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة

فيها توفي يحيى أخو السفاح بفارس وكان قد ولاه إِياها السفاح بعد عزله عن الموصل‏.‏

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة

فيها استأذن أبو مسلم السفاح في القدوم عليه وفي الحج فأذن له فحج أبو مسلم وحج أبو جعفر المنصور أيضاً وكان أبو جعفر هو أمير الموسم‏.‏

موت السفاح

في هذه السنة مات السفاح بالأنبار في ذي الحجة بالجدري وعمره ثلاث وثلاثون سنة فمدة خلافته من لدن قتل مروان أربع سنين وكان قد بويع له بالخلافة قبل قتل مروان بثمانية أشهر وكان السفاح طويلا أقنى الأنف أبيض حسن الوجه واللحيه وصلى عليه عمه عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس ودفنه بالزنبار العتيقة‏.‏