الفصل الثامن: خلافة المنصور

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

خلافة المنصور

وهو ثاني خلفاء بني العباس كان السفاح قد عهد بالخلافة إِلى أخيه أبي جعفر المنصور ثم من بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فعقد العهد في ثوب وختم عليه ودفعه إلى عيسى بن موسى ولما مات السفاح كان أبو جعفر في الحج فأخذ لـه البيعـة على الناس عيسى بن موسى وأرسل يعلمه بذلك وبموت السفاح وكان مع أبي جعفر أبو مسلم في الحج فبايع أبو مسلم أبا جعفر وبايعه الناس‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

فيها قدم أبو جعفر المنصور من الحج إلى الكوفة فصلى بأهلها الجمعة وخطبهم وسار إلى الأنبار فأقام بها‏.‏

وفيهـا بايـع عـم المنصـور عبـد اللـه بـن علـي بن عبد الله بن عباس لنفسه بالخلافة وكان أبو مسلم قـد قـدم مـن الحـج مـع أبـي جعفـر المنصـور فأرسـل أبو جعفر أبا مسلم ومعه الجنود إِلى قتال عمه عبـد اللـه بن علي وكان عبد الله بأرض نصيبين فاقتتل هو وأبو مسلم عدة دفوع واجتهد أبو مسلـم بأنـواع الخـدع فـي قتالـه ودامـوا كذلـك مـدّة وفـي آخر الأمر انهزم عبد الله بن علي وأصحابه في جمادى الآخرة من هذه السنة إِلى جهة العراق واستولى أبو مسلم على عسكره وكتب قتل أبي مسلم الخراساني وفيها قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني بسبب وحشة جرت بينهما فإِن المنصور كتب إِلى أبي مسلم بعـد أن هـزم عبـد اللـه عمـه بالولايـة علـى مصـر والشـام وصرفـه عـن خراسان فلم يجب أبو مسلم إِلى ذلك وتوجه أبو مسلم يريد خراسان وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم يطلبه إليه فاعتذر عن الحضور إِليه وطالت بينهما المراسلـات فـي ذلـك وآخـر الأمـر أن أبـا مسلـم قـدم علـى أبـي جعفـر المنصـور بالمدائن في ثلاثة آلاف رجـل وخلـف باقـي عسكـره بحلـوان ولمـا قـدم أبو مسلم دخل على المنصور وقبل يده وانصرف فلما كان من الغد ترك المنصور بعض حرسه خلف الرواق وأمرهم أنـه إذا صفـق بيديه يخرجون ويقتلون أبا مسلم ودعا أبا مسلم فلما حضر أخذ المنصور يعدد ذنوبه وأبو مسلـم يعتذر عنها ثم صفق المنصور فخْرجَ الحرس وقتلوا أبا مسلم وكان قتله في شعبان من هـذه السنـة أعنـي سنـة سبع وثلاثين ومائة وكان أبو مسلم قد قتل في مدة دولته ستمائة ألف صبراً‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة

في هذه السنة خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلد الإسلام فأخذ ملطية عنوة وهدم سورها وعفا عن من فيها من المقاتلة والذرية وقد مر في سنة ثلاث وثلاثين ومائة نحو ذلك وفيها وسع المنصور في المسجد الحرام‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة

 ابتداء الدولة الأموية بالأندلس

فـي هـذه السنـة دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم إِلى الأندلس وسبب ذلك أنّ بني أميـة لمـا قتلـوا استخفـى مـن سلـم منهـم فهـرب عبـد الرحمـن المذكـور واستولـى علـى الأندلـس فـي هـذه السنـة‏.‏

وفيهـا ظفـر المنصور بعمه عبد الله بن علي بن عبـد اللـه بـن عبـاس وأعدمـه وكـان عبـد اللـه مستخفيـاً عنـد أخيـه سليمـان بن علي من حين هرب من أبي مسلم على ما ذكرناه‏.‏

ثم دخلت سنة أربعين ومائة

في هذه السنة أرسل المنصور عبد الوهاب ابن أخيه إبراهيم الإمـام والحسـن بـن قحطبـة فـي سبعيـن ألف مقاتل ليعمروا ملطية فعمروها في ستة أشهر وسار إِليهم ملك الروم في مائة ألف مقاتل حتى نزل على نهر جيحان فبلغه كثرة المسلمين فرجع عنهم‏.‏

وفيهـا حـج المنصـور وتوجه إلى البيت المقدس ثم إِلى الرقة وعاد إِلى هاشمية الكوفة وفيها أمر المنصور بعمارة مدينـة المصيصـة وبنـى بهـا مسجـداً جامعـاً وأسكنهـا ألـف جنـدي وسماهـا المعمورة‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة

في هذه السنة كان خروج الراوندية علـى المنصور وهم قوم من أهـل خراسـان علـى مذهـب أبـي مسلـم الخراسانـي يقولـون بالتناسـخ فيزعمـون أن روح آدم فـي عثمـان بـن نهيـك وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو الخليفة أبو جعفر المنصـور فلمـا ظهـروا وأتـوا إِلى قصر المنصور قالوا‏:‏ هذا قصر ربنا فحبس المنصور رؤساءهم وهم مائتان فغضب أصحابهم وأخذوا نعشاً وحملوه ومشوا به على أنهم ماشون في جنازة حتى بلغوا باب السجن فرموا بالنعش وكسروا باب السجن وأخرجوا رؤساءهم ثم قصدوا المنصـور وهـم نحـو ستمائـة رجـل فتنـادى النـاس وأغلقـت أبـواب المدينـة وخـرج المنصور ماشياً واجتمع عليه الناس وكان معن بن زائدة مستخفياً من المنصور فحضر وقاتل الراوندية بين يدي المنصور فعفا عن معن لذلك وقتل في ذلك اليوم الراوندية عن آخرهم‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتيـن وأربعيـن ومائـة

فيهـا مات عم المنصور سليمان بن علي‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة

ودخلت سنة أربع وأربعين ومائة في هذه السنة حبس المنصور من بني الحسـن بـن علـي بـن أبـي طالـب أحـد عشـر رجـلا وقيدهـم وفيهـا مات عبد الله بن شبرمة وعمرو بن عبيد المعتزلي الزاهد وعقيل بن خالد صاحب الزهري‏.‏

ثم دخلت سنة خمـس وأربعيـن ومائـة

فيهـا ظهـر محمـد بـن عبـد اللـه بـن الحسـن ابـن الحسين بن علي بـن أبي طالب واستولى على المدينة وتبعه أهلها فأرسل المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى إِليـه فوصل إِلى المدينة وخندق محمد ابن عبد الله على نفسه موضع خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب وجرى بينهما قتال آخره أن محمد بن عبد الله المذكـور فتـل هـو وجماعة من أهل بيته وأصحابه وانهزم من سلم من أصحابه وكان محمد المذكور سميناً أسمر شجاعاً كثير الصوم والصلاة وكان يلقب المهدي والنفس الزكية ولما قتـل محمـد أقـام عيسـى بن موسى بالمدينة أياماً ثم سار عنها في أواخر رمضان يريد مكة معتمراً‏.‏

بناء بغداد

وفي هذه السنة ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداد وسبب ذلك‏:‏ أن المنصور كره سكنى الهاشمية التي ابتناها أخوه بنواحي الكوفة لما ثارت عليه الراوندية فيها وكرهها أيضاً لجوار أهل الكوفة فإنه كان لا يأمنهـم علـى نفسـه فخـرج يرتـاد لـه موضعـاً يسكنـه فاختـار موضـع بغداد وابتدأ في عملها سنة خمس وأربعين ومائة‏.‏

ظهور إبراهيم العلوي

فـي هـذه السنـة أيضـاً فـي رمضـان ظهـر إبراهيـم بـن عبـد اللـه بـن الحسـن بـن الحسيـن بـن علـي بـن أبـي طالب أخو محمد النفس الزكية وكان مستخفياً هارباً من بلد إِلى بلد والمنصور مجتهد على الظفر به فقدم البصرة ودعا الناس إِلى بيعة أخيه محمد بن عبد الله وذلك قبل أن يبلغه قتله بالمدينة فبايعه جماعة منهم‏:‏ مرة العبشمي وعبد الواحد بن زياد وعمرو بن سلمة الهجيمي وعبد الله بن يحيى الرقاشي وأجابه جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف وكان أمير البصرة سفيان بن معاوية فلما رأى اجتماع الناس على إِبراهيم المذكور تحصـن فـي دار الإمـارة بجماعـة فقصـده إِبراهيـم وحصـره فطلـب سفيـان منه الأمان فأمنّه إبراهيم ودخل إِبراهيم القصر فجاء يجلس على حصير فرشت له هناك فقلبها الريح فتطير النـاس بذلـك فقال إِبراهيم‏:‏ إِنا لا نتطير وجلس عليها مقلوبة ووجد إبراهيم في بيت المال ألفي ألف درهم فاستعان بها وفرض لأصحابه خمسين خمسين‏.‏

ومضى إِبراهيم بنفسه إِلى دار زينب بنت سليمان بن علي بن عبد اللّه بن عباس وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين فنادى هناك لأهل البصرة بالأمان وأن لا يتعرض إليهم أحد‏.‏

ولمّـا استقرت البصرة لإبراهيم أرسل جماعة فاستولوا على الأهواز ثم أرسل هارون بن سعد العجلي في سبعة عشر ألفاً إِلى واسط فملكها العجلي ولم يزل إبراهيم بالبصرة يفرق العمال والجيوش حتى أتاه خبر مقتل أخيه محمد بن عبد اَلله قبل عيد الفطر بثلاثة أيام‏.‏

ثم إِن إبراهيم أجمع على المسير إِلى الكوفة وسار من البصرة وقد أحصى ديوانه مائة ألف حتـى نـزل باحمـرا وهـي مـن الكوفـة على ستة عشر فرسخاً وكان المنصور قد استدعى عيسى بـن موسـى من الحجاز فحضر وجعله في جيش قبالة إِبراهيم بن عبد الله وجرى بينهما قتال شديـد انهـزم فيـه غالـب عسكـر عيسـى بـن موسى ثم تراجعوا‏.‏

ثم وقعت الهزيمة على أصحاب إِبراهيـم وثبـت هـو فـي نفـر قليـل مـن أصحابـه يبلغـون ستمائـة فجـاء سهـم في حلق إِبراهيم فتنحى عن موقفه فقال أردنا أمراً وأراد الله غيره واجتمع عليه أصحابه وأنزلوه فحمل عليهم عسكر عيسـى ابـن موسـى وفرقوهم عنه واحتزوا رأس إِبراهيم وأتوا به إِلى عيسى فسجد شكراً لله تعالى وبعث به إِلى المنصور‏.‏

وكان قتل إِبراهيم لخمس بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعيـن ومائـة وكـان عمـره ثمانيـاً وأربعيـن سنـة‏.‏

ثم دخلت سنة سـت وأربعيـن ومائـة

فيهـا تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إِلى بغـداد ليكمـل عمارتهـا واستشـار أصحابـه وفيهـم خالـد بـن برمـك فـي نقـض إِيـوان كسـرى والمدائن ونقل ذلك إلى بغداد فقال خالد ابن برمك‏:‏ لا أرى ذلك لأنه من أعلام المسلمين فقال المنصور‏:‏ مِلتَ يا خالد إلى أصحابك العجم وأمر المنصور بنقـض القصـر الأبيـض فنقضـت ناحية منه فكان ما يغرمون على نقضه أكثر مـن قيمـة ذلـك المنقـوض فتـرك نقضـه فقـال لـه خالد‏:‏ إِني لا أرى أن تبطل ذلك لئلا يقال أنك عجزت عن تخريب ما بناه غيرك فلم يلتفت المنصور إِلى ذلك وترك هدمه ونقل المنصور أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد وجعل المنصور بغداد مدوّرة لئلا يكون بعض الناس أقرب إِلى السلطان من بعض وبني قصره في

ثم دخلت سنة سبـع وأربعيـن ومائـة

فيهـا خلـع المنصـور ابـن أخيـه عيسـى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من ولاية العهد وبايع لابنه المهدي محمد بن المنصور‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

فيها ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك وفيها ولىّ المنصور خالد بن برمك الموصل وكان مولد الفضل قبل مولد الرشيد بتسعة أيام فأرضعته الخيزران أم الرشيد‏.‏

وفيهـا توفـي جعفـر الصـادق بـن محمـد الباقـر بـن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب‏.‏

وجعفر الصادق أحد الأئمة الاثني عشر على رأي الإمامية فإِنه قد تقدم منهم علي بن أبي طالب ثم ابنـه الحسـن ثـم الحسيـن ثـم زيـن العابديـن ثـم الباقـر ثـم جعفـر الصـادق المذكور وسنذكر الباقين إِن شاء الله تعالى وسمي جعفر بالصادق لصدقه وله كلام في صنعة الكيميـاء والزجـر والفـأل وولـد سنـة ثمانيـن وتوفـي في هذه السنة‏.‏

أعني سنة ثمان وأربعين ومائة بالمدينة ودفن بالبقيع وأمّه بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

وفيها توفى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة

فيها مات مسلم بن قتيبة بالري وكان مشهوراً عظيم القـدر وفيهـا مات كهمش بن الحسن التميمي البصري‏.‏

وفيها مات عيسى بن عمر الثقفي وعنه

ثم دخلت سنة خمسيـن ومائـة

فيها بنى عبد الرحمن الأموي سور قرطبة وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور وفيها مات الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ابن زوطا مولى تيم الله بن ثعلبة وكان زوطا من أهل كابل وقيل من أهل بابل وقيل من أهل الأنبار وهو الذكي مسه الرق فأعتق وولد له ثابت على الإسلام وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة المذكور‏:‏ ما وقع علينا رِق قط وروى أن ثابتاً أبا أبي حنيفة وهو صغير ذهب إِلى علي بن أبي طالب فدعا له بالبركة فيـه وفـي ذريتـه‏.‏

وقيـل فـي نسـب أبـي حنيفـة غيـر ذلـك فقيـل‏:‏ هـو النعمـان بـن ثابـت بـن النعمـان بـن المرزبـان وأن جده النعمان بن المرزبان أهدى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم المهرجان فالوذجا فقال له علي‏:‏ مهرجونا في كل يوم وأدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة وهم أنس بن مالك وعبد الله بن أُبي أوفى بالكوفة وسهل بـن سعـد الساعـدي بالمدينة وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة ولم يلق أحداً منهم ولا أخذ عنهم وأصحابه يقولون‏:‏ لقي جماعة من الصحابة وأخذ عنهم ولم يثبت ذلك عند أهل النقل‏.‏

وكان أبو حنيفة عالماً عاملاً زاهداً ورعاً راوده أبو جعفر المنصور في أن يلي القضاء فامتنع وكان حسن الوجه ربعة وقيل طويلاً أحسن الناس منطقاً‏.‏

قال الشافعي‏:‏ قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة فقال‏:‏ نعم رأيت رجلاً لـو كلمتـه فـي هـذه السارية أن يجعلها ذهباً لقـام بحجتـه وكـان يصلـي غالـب الليـل حتـى قيـل إِنـه صلـى الصبـح بوضـوء عشـاء الآخـرة أربعيـن سنـة وحفـظ عليـه أنـه ختـم القـرآن فـي الموضـع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة‏.‏

وكان يعاب بقلة العربية وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة وقيل ولد سنة إِحدى وستين وكانت وفاته ببغداد في السجن ليلي القضاء فلم يفعل وقيل إِنه توفي في اليوم الذي ولد فيه الشافعي وذلك في رجب من هذه السنة وقيل في جمادى الأولى وقبره ببغـداد مشهور‏.‏

وزوطا بضم الزاي المعجمة وسكون الواو وفتح الطاء المهملة‏.‏

وفيها مات محمد بن إسحاق صاحب المغازي فقيل كانت وفاة محمد بـن إِسحـاق المذكـور سنة إحدى وخمسين ومائة وكان ثبتاً في الحديث عند أكثر العلماء وقد ذكره البخاري في تاريخـه ولكـن لـم يـرو عنـه وكذلـك مسلـم لـم يخـرج عنـه إلا حديثـاً واحـداً فـي الرجـم وإنمـا لـم يرو عنه البخاري لأجل طعن الإمام مالك بن أنس فيه وكانت وفاة ابن إسحاق ببغداد وفيها مـات مقاتل بن سليمان البلخي المفسر‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين ومائة

فيها ولى المنصور هشام بن عمرو الثعلبي على السند وكـان على السند عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة فعزله وولاه إِفريقية وكان يلقـب عمـر المذكور بهزار مرد أي ألف رجل وفيها بنى المنصور الرصافة للمهدي ابنه وهي من الجانب الشرقي من بغداد وحول إليها قطعة من جيشه وفيها قتل معن بن زائدة الشيبانـي بسجستان في بست‏.‏

وكان المنصور قد استعمله على سجستان قتله جماعة من الخوارج هجمـوا عليـه فـي بيتـه بغتـة وهـو يحتجـم فقتلـوه وقـام بالأمـر بعـده ابن أخيه يزيد بن مزبد بن زائدة الشيباني‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة

فيها غزا حميد بن قحطبة كابل وكان أمير خراسان‏.‏

ثم دخلت سنة ثلـاث وخمسيـن وسنـة أربـع وخمسيـن ومائـة

فيهـا أعنـي فـي سنـة أربـع وخمسيـن ومائـة توفي بالكوفة أبو عمرو واسمه كنيته ابن العلا بن عمار من ولد الحصين التميمـي المازنـي البصري وكانت ولادته في سنة سبعين وقيل ثمان وستين وهو أحد القراء السبعة وكان أعلم الناس بالقرآن الكريم وفيها سار المنصور إِلى الشام وجهز جيشاً إِلى المغرب لقتال الخوارج بها وفيها مات أشعب الطامع وفيها مات وهيب بن الورد المكي الزاهد‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

فيها عمل المنصور للكوفـة والبصـرة سـوراً وخندقـاً وجعل ما أنفق فيه مـن أمـوال أهلهمـا ولمـا أراد المنصـور معرفـة عددهـم أمـر أن يقسـم فيهـم خمسة الدراهم خمسة الدراهم ثم جبى منهم أربعين أربعين فقال بعض شعرائهم‏:‏ يا لقوم ما لقينا مـن أمير المؤمنينا

ثم دخلت سنة سـت وخمسيـن ومائـة

فـي هذه السنة توفي حمزة بن حبيب ابن عمارة الكوفي المعروف بالزيـات أحـد القـراء السبعـة وعنـه أخـذ الكسائـي القـراءة‏.‏

وكـان يجلـب الزيـت مـن الكوفة إِلى حلوان ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة فقيل له الزيات لذلك‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة

فيها مات الأوزاعي الفقيه واسمه‏:‏ عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد وعمره سبعون سنة وكنيته أبو عمرو وكان يسكن بيوت وبها توفي وكانت ولادته ببعلبـك سنة ثمان وثمانين للهجرة وكان يخضب بالحناء وكان إمام أهل الشام قيل إِنه أجاب في سبعيـن ألـف مسألة وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها خنتوس وأهل القرية لا يعرفونه بل يقولون هاهنا رجل صالح‏.‏

والأوزاعي منصوب إِلى أوزاع وهي بطن من ذي كلاع وقيل بطن مـن همـذان وجـده يحمـد بضم الياء المثناة من تحتها وسكون الحاء المهملة وكسر الميم وبعدها دال مهملة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

وفاة المنصور وهـو المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وكانت وفاته في هذه السنة لست خلون من ذي الحجة ببئر ميمونة وكان قد خرج من بغداد لحج فسار معه ابنه المهدي فقـال لـه المنصور‏:‏ إِني ولدت في ذي الحجة ووليت في ذي الحجة وقد هجس في نفسي أني أمـوت فـي ذي الحجـة مـن هـذه السنـة وهـذا هـو الـذي حدانـي على الحج فاتق الله فيما عهد إِليك من أمور المسلمين بعدي ووصاه وصية طويلة ثم ودعه وبكيا ثم سار إِلى الحج ومات ببئر ميمونة محرماً في التاريخ المذكور وكان مرضه القيام وكان عمره ثلاثـاً وستيـن سنـة وكانـت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة وثلاثة أشهر وكسراً‏.‏

وكان المنصور أسمر نحيفاً خفيف العارضين ولد بالحميمة من أرض الشراة ودفن بمقابر بابه المعلـى وبقـي أثـر الإحرام فدفن ورأسه مكشوف ومما يحكى عنه فيما جرى له في حجه قيل‏:‏ بينمـا الخليفـة المنصـور يطـوف بالكعبـة ليـلاً إِذ سمع قائلاً يقول‏:‏ اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفسـاد فـي الـأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أمنتني أنبأتك بالأمور على جليتها وأصولها فأمنه‏.‏

فقال‏:‏ إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحـق وأهلـه هـو أنـت يـا أميـر المؤمنين فقال المنصور‏:‏ ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلـو والحامض عندي فقال الرجل‏:‏ لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم فجعلت بينك وبينهم حجابـاً مـن الجـص والآجـر وأبوابـاً مـن الحديـد وحجابـاً معهـم الأسلحـة وأمرتهـم أن لا يدخـل عليـك إلا فلـان وفلـان ولم تأمر بإِيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير وما أحد إلا وله من هذا المال حق فلما رآك هؤلاء النفر الذي استخلصتهم لنفسك وأثرتهم على رعيتك تجبي الأموال فلا تعطيها وتجمعها ولا تقسمها قالوا‏:‏ هذا قد خان الله تعالى فما لنا لا نخونه وقد سخّر لنا نفسه فاتفقوا على أن لا يصل إِليك من أخبار الناس إِلا ما أرادوا ولا يخرج لـك عامـل فيخالـف أمرهـم إِلا أقصـوه ونفـوه حتـى تسقـط منزلتـه ويصغـر قدره فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهـم فكـان أول مـن صانعهـم عملـك بالهدايا ليتقووا بهم على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلـم مـن دونهـم فامتلـأت بلـاد اللـه بالطمـع ظلمـاً وفسـاداً وصـار هـؤلاء القـوم شركـاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلـم حيـل بينـه وبيـن الدخـول إِليـك فـإن أراد رفـع قصـة إِليك وجدك قد منعت من ذلك وجعلت رجلاً ينظر في المظالم فلا يزال المظلوم يختلف إِليه وهو يدافعه خوفاً من بطانتك فإذا صرخ بين يديك ضرب ضرباً شديداً ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر ولا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا فإِن قلت إِنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وماله في الأرض مال وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحوبه فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى يعظم رغبة الناس إِليه ولست الذي يعطي وإنما الله عز وجلّ يعطي من يشاء بغير حساب وإن قلت إِنما أجمع المال لتسديد الملك وتقويته فقد أراك الله في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله تعالى لهم ما أراد وإن قلت إِنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها فو الله ما فوق الذي أنت فيه منزلةً إِلا منزلةً ما تنال إِلا بخلاف ما أنت عليه‏.‏

أولاده وهم المهدي محمد وجعفر الأكبر مات في حياة أبيه المنصور ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب وجعفر الأصغر وصالح المسكين وكان المنصور أحسن الناس خلقاً في الخلوة حتى يخرج إِلى الناس‏.‏