الفصل الثامن: خلافة الرشيد بن المهدي

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

خلافة الرشيد بن المهدي وهـو خامسهـم

وفـي هـذه السنـة أعنـي سنـة سبعيـن ومائة بويع للرشيد هارون ابن المهدي محمد بالخلافـة فـي الليلـة التـي مـات فيهـا الهـادي وكـان عمـر الرشيد حين ولي اثنتين وعشرين سنة وأمه وأم الهادي الخيزران أم ولد وكان مولد الرشيد بالري في آخر ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة ولما مات الهادي بعيسا باذ صلى عليه الرشيد وسار إِلى بغداد وفي هذه السنة في شوال أولد الأمين محمد بن الرشيد من زبيدة واستوزر الرشيد يحيى بن خالد وألقى إِليه مقاليد الأمور‏.‏

وفي هذه السنة عزل الرشيد الثغور كلها من الجزيزة وقنسرين وجعلها حيزاً واحداً وسميت العواصم وأمر بعمارة طرسوس على يد فـرج الخـادم التركـي ونزلهـا النـاس‏.‏

وفـي هـذه السنـة أمـر عبـد الرحمـن الداخـل الأمـوي المستولـي علـى الأندلس ببناء جامع قرطبة وكان موضعه كنيسة وأنفق عليه مائة ألف دينار‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى وسبعين ومائة

في هذه السنة توفي عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلـس بقرطبـة ويعـرف بعبـد الرحمـن الداخـل لدخولـه بلـاد المغـرب وهـو عبـد الرحمـن بن معاويـة بـن هشـام بـن عبـد الملك بن مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف‏.‏

في ربيع الآخر وكان مولده بأرض دمشق سنة ثلاث عشرة ومائة ومدة ملكه الأندلـس ثلـاث وثلاثـون سنـة لأنـه تولى الأندلس في سنة تسع وثلاثين ومائة ولما مات ملك بعده ابنه هشام بن عبد الرحمن وكان عبد الرحمن أصهب خفيف العارضين طويلاً نحيفاً أعور‏.‏

وقصده بنو أمية من المشرق والتجأوا إِليه‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة

 فيها توفي رباح وكنيته أبو زيد اللخمي الزاهد بمدينة القيروان وكان مجاب الدعوة‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة

فيها ماتت الخيزران أم الرشيد وفيها حج الرشيد وأحرم من بغداد‏.‏

ثم دخلت سنة أربـع وسبعيـن ومائة

وسنة خمس وسبعين ومائة‏:‏ فيها صار يحيي بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى الديلم‏.‏

فتحرك هناك وفيها ولد إِدريس بن إِدريـس بـن عبـد اللـه بـن الحسـن بـن الحسن بن علي بن أبي طالب وإدريس بن عبد الله المذكور هـو الذي سلم وانهزم لما قتل أهل بيته يوم التروية بظاهر مكة حسب ما ذكرناه في سنة تسع وستين ومائة وكان قد توفي أبوه إِدريس الأول وله جارية حبلى ولم يكن له ولـد فولـدت الجاريـة بعـد موتـه فـي ربيـع الآخـر مـن هـذه السنـة ولـداً ذكراً فسموه إِدريس أيضاً باسم أبيه فبقي دخلـت سنـة سـت وسبعيـن ومائـة‏:‏ فيهـا ظهـر أمـر يحيـى بـن عبـد اللـه بـن الحسـن ابـن الحسـن بـن علي بن أبي طالب بالديلم واشتدت شوكته ثم إِن الرشيد جهز إِليه الفضل بن يحيى في جيش كثيف فكاتبه الفضل وبذل له الأمان وما يختاره فأجاب يحيى بن عبد الله إِلى ذلك وطلب يمين الرشيد وأن يكون بخطه ويشهد فيه الأكابر ففعل ذلك وحضر يحيى بن عبد الله إِلى بغداد فأكرمه الرشيد وأعطاه مالا كثيراً ثم أمسكه وحبسه حتى مات في الحبس‏.‏

وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمنية وكان على دمشق حينئذ عبد الصمد بن علي فجمع الرؤساء وسعوا في الصلح بينهم فأتوا بني القين وكلموهم في الصلح فأجابوا وأتوا اليمانية وكلموهم في الصلح فقالوا‏:‏ انصرفوا عنا حتى ننظر ثم سارت اليمانية إِلى بني القين وقتلوا منهم نحو ستمائة فاستنجدت بنو القين قضاعة وسليحا فلم ينجدوهم فاستنجدوا قيساً فأجابوهم وساروا معهم إِلى العواليك من أرض البلقاء فقتلوا مـن اليمانيـة ثمانمائـة وكثـر القتـال بينهم ثم عزل الرشيد عبد الصمد عن دمشق وولاها إِبراهيم بن صالح بن علي ودام القتال بين المذكورين نحو سنتين وكان سبب الفتنة بين اليمانيين والمضريين أن رجلا من القين أتى رحى بالبلقاء ليطحن فيه فمر بحائط رجل من لخم أو جذام وفيه بطيخ فتناول منه فشتمه صاحبه وتضاربا واجتمع قوم من اليمانيين وضربوا الذي من القين فأعانه جماعة

وفيها مات الفرج بن فضالة وصالح بن بشر القاري وكان ضعيفاً في الحديث‏.‏

وفيها مات نعيم بن مسيرة النحوي الكوفي‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وسبعيـن ومائـة‏:‏

فـي هـذه السنـة أعنـي سنـة سبـع وسبعيـن ومائـة توفـي بالكوفـة أبـو عبـد اللـه شريك بن عبد الله بن أبي شريك تولى القضاء أيام المهدي ثم عزله الهادي وكان عالمـاً عادلاً في قضائه كثير الصواب حاضر الجواب ذكر معاوية بن أبي سفيان عنده ووصف بالحلم فقال شريك‏:‏ ليس بحليم من سفّه الحق وقاتل علي بن أبي طالب وكان مولده ببخارى سنـة خمـس وتسعيـن للهجـرة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمـان وسبعيـن ومائـة

وسنـة تسـع وسبعيـن ومائـة‏:‏

فيها توفـي مالـك بـن أنـس بـن مالـك بـن أبـي عامـر بـن عمـرو بـن الحـارث مـن ولـد فـي الأصبـح‏.‏

ولذلـك قيـل له الأصبحي وذو الأصبح اسمه الحارث بن عوف من ولد يعرب بن قحطان وكان مولد الإِمام مالك المذكور سنة خمس وتسعين للهجرة أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم وسمع الزهري وأخذ العلم عن ربيعة الراي‏.‏

قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ قال لي محمد بن الحسن أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم يعني أبا حنيفة ومالكاً‏.‏

قال‏:‏ قلت على الإنصاف‏.‏

قال‏:‏ قلت فأنشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أو صاحبكم‏.‏

قال‏:‏ اللهم صاحبكم‏.‏

قال‏:‏ قلت فأنشدك الله من علم بالسنة قال‏:‏ اللهم صاحبكم‏.‏

قال‏:‏ قلت فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم‏.‏

قال‏:‏ اللهم صاحبكم‏.‏

قال الشافعي‏:‏ فلم يبق إِلا القياس والقياس لا يكون إِلا على هذه الأشياء وسعى بمالك إِلى جعفـر بـن سليمـان بـن علـي بـن عبـد اللـه بـن العبـاس وهـو ابـن عـم أبـي جعفر المنصور وقالوا له‏:‏ إِنه لا يرى الإِيمان ببيعتكم هذه بشيء لأن يمين المكره ليست لازمة فغضب جعفر ودعا بمالك وجرده وضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمراً عظيماً فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة‏.‏

وتوفي مالك المذكور بالمدينة ودفن بالبقيع وكان شديد البياض إِلى الشقرة طويلاً وفيها توفي مسلم بن خالد الزنجي الفقيه المكي وكان الشافعي قد صحبه قبل مالك وأخذ عنه الفقه وفيهـا أعنـي فـي سنـة تسـع وسبعيـن ومائـة توفـي السيـد الحميـري الشاعـر واسمه إِسماعيل بن محمد بـن يزيـد بـن ربيعة بن مفرغ الحميري والسيد لقب غلب عليه أكثر من الشعر وكان شيعياً كثيراً الوقيعة في الصحابة وكان كثير المدح لآل البيت والهجو لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فمن ذلك قوله في مسيرها إِلى البصرة لقتال علي من قصيدة طويلة‏:‏ كأنها في فعلها حية تريد أن تأكـل أولادهـا وكذلك له فيها وفي حفصة أبيات منها‏:‏ إِحداهمـا نمت عليه حديثه وبغت عليه بغية إِحداهما

ثم دخلت سنة ثمانين ومائهَ

فيها مات هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملـك صاحـب الأندلـس‏.‏

وكانـت إِمارتـه سبـع سنيـن وسبعـة أشهـر وثمانية أيام وعمره تسع وثلاثون سنة وأربعة أشهر واستخلف بعده ابنه الحكم ابن هشام ولما وليَ الحكم خرج عليه عمّاه سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن وكانا في بر العدوة فتحاربوا مدة والظفر للحكم وظفر الحكم بعمه سليمان فقتله سنة أربع وثمانين ومائة فخاف عمه عبد الله وصالح الحكم سنة ست وثمانين ولما اشتغل الحكم بقتال عميـه اغتنمـت الفرنـج الفرصـة فقصـدوا بلـاد الإسلـام وأخذوا مدينة برشلونة في سنة خمس وثمانين ومائة‏.‏

وفـي هـذه السنـة أعنـي سنـة ثمانيـن ومائة سار جعفر بن يحيى بن خالد إلى الشام فسكّن الفتنة التـي كانـت بالشـام وفيهـا هـدم الرشيـد سـور الموصـل بسبـب مـا كـان يقع من أهلها من العصيان في كل وقت‏.‏

وفيها أي سنة ثمانين ومائة وقيل سنة سبع وسبعين ومائة توفي سيبويه النحوي بقرية يقال لها البيضـاء مـن قـرى شيـراز واسـم سيبويـه عمـرو بـن عثمـان بـن قنبـر وكـان أعلـم المتقدمين والمتأخرين بالنحو وجميع كتب الناس في النحو عيلة على كتاب واشتغل على الخليل بن أحمـد وكـان عمـره لمـا مـات نيفـاً وأربعيـن سنـة وقيل توفي بالبصرة سنة إِحدى وستين ومائة وقيل سنة ثمان وثمانين ومائة وقال أبو الفرج ابن الجوزي توفي سيبويه في سنة أربع وتسعين ومائة وعمره اثنتان وثلاثون سنة وإنه توفي بمدينة ساوة وذكر خطيب بغـداد عـن ابـن دريـد أن سيبويه مات بشيراز وقبره بها وكان سيبويه كثيراً ما ينشد‏:‏

إِذا بل من داء به ظـن أنْه نجا

**

 وبه الـداء الـذي هـو قاتلـه

وسيبويه لقبه هو لفظ فارسي معناه بالعربية رائحة التفاح وقيل إِنما لقب سيبويه لأنه كان جميل الصورة ووجنتاه كأنهما تفاحتان وجرى له مع الكسائي البحث المشهور في قولك‏:‏ كنت أظـن لسعة العقرب أشد من لسعة الزنبور‏.‏

قال سيبويه‏:‏ فإِذا هو هي وقال الكسائي فإِذا هو إِياها وانتصر الخليفة للكسائي فحمل سيبويه من ذلـك همـاً وتـرك العـراق وسافـر إِلـى جهـة شيراز وتوفي هناك‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين ومائة

فيها غزا الرشيد أرض الروم فافتتح حصن الصفصاف وفيها توفي عبد الله بن المبارك المروزي في رمضان وعمره ثلاث وستون سنة‏.‏

وفيهـا توفـي مـروان بـن أبـي حفصة الشاعر وكان مولده سنة خمس ومائة وفيها توفي أبو يوسف القاضي واسمه يعقوب بن إبراهيم من ولد سعـد بـن خيثمـة وسعـد المذكـور صحابـي مـن الأنصار وهو سعد بن بجير واشتهر باسم أمه خيثمة وأبو يوسف المذكور هو أكبر أصحاب أبي حنيفة‏.‏  

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة

فيها مات جعفر الطيالسي المحدث‏.‏

ثم دخلت سنة ثلـاث وثمانين ومائة

فيها توفي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بـن علـي زيـن العابديـن بـن الحسيـن بـن علـي بـن أبـي طالـب ببغـداد فـي حبـس الرشيد وحبسه عند السندي بن شاهك وتولى خدمته في الحبس أخت السندي وحكت عن موسى المذكور أنه كان إِذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعـاه إِلـى أن يـزول الليـل ثـم يقـوم يصلـي حتـى يطلـع الصبح فيصلي الصلح ثم يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم يقعد إِلى ارتفاع الضحى ثم ويستيقظ قبل الزوال ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر ثم يذكر الله تعالى حتى يصلي المغرب ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة فكان هذا دأبه إِلى أن مات رحمة الله عليه وكان يلقب الكاظم‏:‏ لأنه كان يحسن إِلى من يسيء إِليه وموسى الكاظم المذكور سابع الأئمة الاثني عشـر علـى رأي الإمامية وقد تقدم ذكر أبيه جعفر الصادق في سنة ثمان وأربعين ومائة وتقدم ذكـر جـده محمـد الباقـر فـي سنـة ست عشرة ومائة وولد موسى المذكور في سنة تسع وعشرين ومائـة وتوفـي فـي هـذه السنـة أعنـي سنـة ثلاث وثمانين ومائة لخمس بقين من رجب ببغذاد وقبره مشهـور هنـاك وعليـه مشهـد عظيـم فـي الجانـب الغربـي مـن بغـداد وسنذكـر باقـي الأئمـة الاثني عشر إِن شاء الله تعالى‏.‏

وفي هذه السنة توفي يونس بن حبيب النحوي المشهور أخذ العلم عن أبي عمرو بن العلاء وكان عمره قد زاد علـى مائـة سنـة وروى عنـه سيبويـه وليونـس المذكـور قيـاس فـي النحـو ومذاهب ينفرد بها‏.‏

ثم دخلت سنة أربـع وثمانيـن ومائـة

فيهـا ولـى الرشيـد حمـاد البربـري اليمن ومكة وولىّ داود بن يزيد بـن مرثـد بـن حاتـم المهلبـي السنـد‏.‏

وولـى يحيـى الحرسـي الجبـل وولـى مهرويـه الـرازي طبرستـان وولى إِفريقية إبراهيم بن الأغلب وكان على الموصل وأعمالها يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة

فيها مات عم المنصور عبد الصمد ابن علي بن عبد الله بـن عبـاس وكـان فـي القـرب إلـى عبـد المناف بمنزلة يزيد بن معاوية وبين موتهما ما يزيد على مائة وعشرين سنة‏.‏

وفيها توفي يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني وهو ابن أخي معن بن زائدة‏.‏

ثم دخلت سنة ست وثمانين

ومائة ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة‏.‏

الإيقاع بالبرامكة

فـي هـذه السنـة أوقـع الرشيـد بالبرامكـة وقتـل جعفـر بـن يحيـى وقـد اختلـف فـي سبـب ذلك اختلافاً كثيراً والأكثر أن ذلك لإتيانه عباسة أخت الرشيد فإنه زوجه بها ليحل له النظر إِليها وشرط على جعفر أنه لا يقربها فوطئها وحبلت منه وجاءت بغلام وقيل بل الرشيد حبس يحيى بن عبـد اللـه بـن الحسـن بـن الحسيـن بـن علـي بـن أبـي طالـب عند جعفر فأطلقه جعفر وقيل بل إِنه لما عظم أمر البرامكة واشتهر كرمهم وأحبهم الناس والملوك لا تصبر على مثل ذلك فنكبهم لذلك وقيل غير ذلك وكان قتل جعفر بالأنبار مستهل صفر من هذه السنة عند عود الرشيد من الحج وبعد أن قتل جعفر وحمل رأسه أُرسل أن أحاط بيحيى وولده وجميع أسبابه وأخذ ما وجـد للبرامكـة مـن مـال ومتـاع وضيـاع وغيـر ذلـك وأُرسـل إِلـى سائـر البلـاد بقبـض أموالهـم ووكلائهم وسائر أسبابهم وأرسل رأس جعفر وجيفته إِلى بغْداد وأمر بنصب رأسه وقطعة مـن جيفتـه علـى الجسـر ونصـب الأخـرى علـى الجسـر الآخـر ولـم يتعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمـك وولـده وأسبابـه لبراءتـه ممـا دخـل فْيـه أخوه يحيى بن خالد بن برمك وولده وكان عمر جعفر لمـا قتـل سبعـاً وثلاثيـن سنـة وكانـت الـوزارة إِليهم سبع عشرة سنة وفي ذلك يقول الرقاشي وقيل أبو نواس‏:‏ الآن استرحنا واستراحت ركابُنا وأمسك من يجدي ومن كان يحتدي فقل للمطايا قد أمنت من السرى وطي الفيافي فدْفداً بعد فدْفد وقل للمنايا قـد ظفـرت بجعفـر ولـم تظفـري مـن بعـده بمسود وقل للعطايا يا بعد فضل تعطلي وقـل للرزايـا كـل يوم تجددي ودونـك سيفـاً برمكياً مهنداً أصيب بسيف هاشمـي مهنـدِ وقال يحيى بن خالد لما نكب‏:‏ الدنيا دول والمال عازية ولنا بمن قبلنا أسوة وفينا لمن بعدنا عبرة‏.‏

وفـي هـذه السنـة خلـع الـروم ملكتهـم وكانـت امـرأة تدعى رمنى وملكوا تقفور فكتب إِلى الرشيد‏:‏ من تقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أمّا بعد فإِن الملكة التي كان قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إِليها لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن فإِذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وإلا السيف بيننا وبينك فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب وكتب على ظهر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إِلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار الرشيد من يومه حتى نزل على هرقلة ففتح وغنم وخرب فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله في كل سنة فأجابه‏.‏

وفـي هـذه السنـة هاجت الفتنة بالشام بين المضرية واليمانية فأرسل الرشيد وأصلح بينهم وفيها ترفـي الفضيـل بـن عيـاض الزاهـد وكـان مولده بسمرقند وانتقل إِلى مكة ومات بها وفيها توفي أبو مسلم معاذ الفرءا النحوي وعنه أخذ الكسائي النحو وولد أيام يزيد بن عبد الملك‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة

فيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائـة

فيهـا وقيـل فـي سنـة إِحـدى وثمانيـن توفـي أبـو الحسـن علـي بـن حمـزة بن عبد الله بن فيروز المعروف بالكسائي في الري وهو أحد القراء السبعة وكان إِماماً في النحـو واللغة وقيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وأتى إِلى حمزة بن حبيب الزيات ملتفاً بكساء وقيل بل حج وأحرم بكساء‏.‏

وفيهـا سـار الرشيـد إلـى الـري وأقـام بـه أربعـة أشهـر ثـم رجـع الرشيد إِلى العراق ودخل بغداد في آخر ذي الحجة وأمر بإِحراق جثة جعفرة وكانت مصلوبة على الجسر ولم ينزل ببغداد ومضى من فوره إِلى الرقة فقال في ذلك بعض شعراء الرشيد‏:‏ ما أنخنا حتى ارتحلنا فانف - - رق بين المناخ والارتحال سألونـا عن حالنا إِذ قدمنا فقرأنا وداعهم بالسـؤال فقـال الرشيـد‏:‏ واللـه إِنـي أعلـم أنـه مـا فـي الشـرق ولا فـي الغـرب مدينـة أيمـن ولا أيسر من بغداد وأنها دار مملكة بني العباس ولكنـي أريـد المنـاخ علـى ناحيـة أهـل الشقـاق والنفـاق والبغـض لأئمـة الهدي والحب لشجرة اللعنة بني أمية ولولا ذلك ما فارقت بغداد‏.‏

وفي هذه السنة مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه صاحب أبي حنيفة وكان والده الحسن من أهل قرية حرستا من غوطة دمشق فسار إِلى العراق وأقام بواسط فولد ولده محمد بن الحسن المذكور ونشأ بالكوفة ثم صحب أبا حنيفة وتفقه على أبي يوسـف وصنـف عـدة كتب مثل‏:‏ الجامع الكبير والجامع الصغير في فقه أبي حنيفة وغير ذلك‏.‏

ثم دخلت سنة تسعيـن ومائـة

فـي هـذه السنـة سـار الرشيـد فـي مائـة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة سوى من لا ديوان له من الأتباع والمتطوعة حتى نزل على هرقلة وحصرها ثلاثين يوماً ثم فتحها فـي شـوال مـن هـذه السنـة وسبـى أهلهـا وبـث عساكـره فـي بلـاد الـروم ففتحـوا الصفصاف وملقونية وخربوا ونهبوا وبعث تقفور بالجزية عن رعيته وعـن رأسـه أيضـاً ورأس ولـده وبطارقته وفي هذه السنة نقض أهل قبرس العهد‏.‏

فغزاهم معتوق بن يحيى وكان عاملاً على سواحل مصر والشام فسبى أهل قبرس وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون وكـان مجوسيـاً وفيهـا توفـي أسـد بـن عمـر وابـن عامـر الكوفـي صاحـب أبـي حنيفـة وفيهـا توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوساً بالرقة في المجرم وعمره سبعون سنة‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى وتسعين ومائة

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة فيها سار الرشيد من الرقة إلى خراسان فنزل بغداد ورحل عنها إِلى النهروان لخمس خلون من شعبان واستخلف على بغداد ابنه الأمين‏.‏

ثم دخلت سنة ثلـاث وتسعيـن ومائـة

فيهـا مـات الفضل بن يحيى بن خالد ابن برمك في الحبس بالرقة في المحرم وعمره خمس وأربعون سنة وكان من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله‏.‏

موت الرشيد في هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين ومائة مات الرشيد لثلاث خلون من جمادى الآخرة وكـان بـه مرض من حين ابتدأ بسفره فاشتدت علته بجرجان في صفر فسار إِلى طوس فمات بهـا فـي التاريـخ المذكـور وكـان قـد سيـر ابنـه المأمون إِلى مرو وحفر الرشيد قبره في موضع الدار التـي كان فيها وأنزل فيه قوماً ختموا فيه القرآن وهو في محفة على شفير القبر وكان يقول في تلك الحالة واسوءتاه من رسول الله ولما دنت منه الوفاة غشي عليه ثم أفاق فرأى المفضل بن الربيع على رأسه فقال‏:‏ يا فضل أحين دنا ما كنت أخشى دنوه رمتني عيونُ الناس من كل جانب فأصبحتُ مرحوماً وكنت محسداً فصبرا على مكروه مر العواقب سأبكي على الوصل الذي كان بيننا وأندبُ أيام السرور الذواهب ثم مات وصلى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح وسرور وحسين وكانت خلافته ثلاثاً وعشريـن سنـة وشهريـن وثمانيـة عشـر يومـاً وكـان عمـره سبعـاً وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام وكان جميلاً أبيض قد وخطه الشيب وكان له من البنين‏:‏ الأمين من زبيدة والمأمون من أم ولـد اسمهـا مراجـل والقاسـم المؤتمـن والمعتصـم محمـد وصالح وأبو عيسى محمد وأبو يعقوب وأبو العباس محمد وأبو سليمان محمد وأبو علي محمد وأبو محمد وهو اسمه وأبو أحمد محمد كلهم لأمهات أولاد وخمس عشرة بنتاً وكان الرشيد يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم وعهد بالخلافة إِلى الأمين ثم من بعده إِلى المأمون وكتب بينهما عهداً بذلك وجعله في الكعبة وكان قد جعل ابنه القاسم ولقبه المؤتمن ولي العهد بعد المأمون وجعل أمر استقراره وعزله إلى المأمون إِن شاء استمر به وإن شاء عزله‏.‏