المختصر في أخبار البشر
(تاريخ أبي الفداء)
أبو الفداء
الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام 672 هـ والمتوفي عام 732 هـ
خلافة المعتصم وهو ثامنهم
وبويع للمعتصم أبي إِسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة بعد موت المأمون ولما بويع له ونادوا باسـم العبـاس بـن المأمـون فأرسـل المعتصـم إِلـى العبـاس وأحضـره فبايعـه العباس ثم خرج إِلى الجند فقال لهم قد بايعت عمي فسكنوا وانصرف المعتصم إِلى بغداد ومعه العباس بن المأمون فقدمها مستهل شهر رمضان.
وفي هذه السنة توفي بشر بن غياث المريسي وكان يقول بخلق القرآن.
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين
في هذه السنة أحضر المعتصم أحمد ابن حنبل وامتحنه بالقرآن فلم يجب إِلى القول بخلقه فجلده حتى غاب عقله وتقطع جلده وقيد وحبس.
وفيها توفي أبو نعيم الفضل التيمي وهو من مشايخ البخاري ومسلم.
وكان مولده سنة ثلاثين ومائة وكان شيعياً.
ثم دخلت سنة عشريـن ومائتين
في هذه السنة خرج المعتصم لبناء سامراء فخرج إلى القاطول واستخلف على بغداد ابنه الواثق وفيها قبض المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وكان قد استولـى علـى الأمور بحيث لم يبق للمعتصم معه أمر وولى المعتصم مكانه محمد بن عبد الملك وفـي هـذه السنـة توفـي محمـد الجـواد بـن علـي بـن موسـى بـن جعفـر بـن محمـد ابـن علـي بـن الحسيـن بـن علـي بـن أبـي طالـب.
وهـو أحـد الأئمـة الاثنـي عشر عند الإمامية وصلى عليه الواثق وكان عمره خمساً وعشرين سنة ودفن ببغداد عند جده مَوسى بن جعفر ومحمـد الجـواد المذكـور هـو تاسـع الأئمـة الاثنـي عشـر وقـد تقـدم ذكـر أبيـه علـي الرضا في سنة ثلاث ومائتين وسنذكر الباقين إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين ومائتين
فيها توفي قاضي القيروان أحمد ابن محرز وكان من العلمـاء العامليـن الزاهديـن.
وفيهـا توفـي آدم بن أبي إِياس العسقلاني وهو من مشايخ البخاري في صحيحه.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين
فتح عمورية وإمساك العباس بن المأمون وحبسه وموته.
فـي هـذه السنـة خـرج ملـك الـروم نوفيـل فـي جمـع عظيـم فبلـغ زبطـرة وقتـل وسبـى ومثـل بمن وقع في يده من المسلمين ولمـا بلـغ المعتصـم ذلـك وأن امـرأة هاشميـة صاحـت وهـي فـي أيـدي الـروم وامعتصماه استعظمه ونهض من وقته وجمع العساكر وسار لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من هذه السنة أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وبلغـه أن عموريـة هـي عيـن النصرانية وهي أشرف عندهم من قسطنطينة وأنه لم يتعرض أحد إِليها منذ كان الإسلام وتجهز المعتصم جهازاً لم يعهد قبله مثله من السلاح وخيام الأدم وغير ذلك وسار المعتصم حتى نزل على نهر قريـب مـن البحـر بينـه وبيـن طرسـوس يـوم وجعـل عسكره ثلاث فرق فرقة مع الإفشين خيذر ابن كاؤوس ميمنة وفرقة مع أشناس ميسرة وفرقة مـع المعتصـم فـي القلـب وبيـن كـل فرقـة وفرقة فرسخان وأمرهم المعتصم بحريق القرى وتخريب بلاد الروم ففعلوا ذلك حتى وصلوا إِلى عمورية فأول من قدمها أشناس ثم المعتصم ثم الإفشين فأحدقـوا بها وكان نزوله عليها لست خلون من رمضان من هذه السنة وأقام عليها المنجنيقـات وجـرى بيـن المسلميـن والروم عليها قتال شديد يطول شرحه وآخره أن المسلمين خربوا في السور مواضع بالمنجنيق وهاجموا البلد وقتلوا أهله ونهبوا الأموال والنساء وأقبـل النـاس بالسبي والأسرى إِلى المعتصم من كل جهة وأمر بعمورية فهدمت وأحرقت وكان مقامه على عمورية خمسة وخمسين يوماً ثم ارتحل راجعـاً إِلـى الثغـور فلمـا كان في أثناء الطريق بلغ المعتصم أن العباس بن المأمون قد بايعه جماعة من القواد وهو يريـد أن يثـب عليـه ويأخـذ الخلافـة منـه فدعـا المعتصـم بالعبـاس بـن المأمـون وأمسكـه.
وسلمـه إِلـى الافشيـن خيـذر فلمـا وصـل إِلـى منبج طلب العباس الطعام فأكل ومُنع الماء حتى مات بمنبج فصلى عليه بعض أخوته وأتم المعتصم سيره حتى دخل سامراء.
وفيهـا أعنـي سنة ثلاث وعشرين ومائتين توفي ملك إِفريقية زيادة الله إِبراهيم بن الأغلب وتولى بعده أخوه أبو عقال الأغلب بن إِبراهيم بن الأغلب.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين
في هذه السنة مات إِبراهيم المهدي في رمضان وصلى عليه المعتصم.
وفيها مات أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام اللغوي وكان عمره سبعاً وستين سنة.
ثم دخلت سنة خمـس وعشريـن ومائتين
في هذه السنة توفي أبو دلف وعلي بن محمد المدايني المشهور.
ثم دخلت سنة سـت وعشريـن ومائتين
فـي هـذه السنة غضب المعتصم على الإفشين خيذر بن كاؤوس وحبسه حتى مات في حبسه وأُخرج فصُلب أُحرقت جثته والإفشين هو الذي قاتل بابك المجوسي الذي استولى على جبال طبرستان مدة عشرين سنة وعظم أمره وهزم عدة مـرار عساكـر المعتصـم حتى انتدب له المعتصم الإفشين المذكور فجرى له معه قتال شديد في مدة طويلة انتصر الإفشين وأخذ مدينة بابك البذ وأسر بابك وأحضره إِلى المعتصم فقتلـه والإفشيـن خيـذر المذكـور بفتـح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها والذال المعجمة وفي آخرها راء مهملة.
وفي هذه السنة توفي الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف البصري شيخ المعتزلة وزاد عمره على مائة سنة.
وفيها توفي أبو عقال الأغلب بن إِبراهيم بن الأغلب وتولى بعده أخوه أبو العباس محمد بن إِبراهيـم بـن الأغلب فكانت ولاية الأغلب سنتين وتسعة أشهر.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين
وفاة المعتصم
وفيها توفي أبو إِسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد لثماني عشرة مضت من ربيع الأول بسامراء وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومين وكان مولده سنة سبع وتسعين ومائة وهو ثامن الخلفاء والثامن مـن ولـد العبـاس ومـات عـن ثمانيـة بنيـن وثمـان بنـات وكـان أبيـض أصهب اللحية طويلها مربوعاً مشرب اللون بحمرة وهو أول من أضيف إِلى لقبه اسم الله تعالى من الخلفاء وكان المعتصم بالله طيـب الأخلـاق لكنـه إِذا غضـب لا يبالـي مـن قتـل ومـا فعـل وقـد حكـي أن المعتصـم انفـرد عـن أصحابـه فـي يـوم مطر فبينما هو يسير إِذ رأى شيخاً مع حمار عليه حمل شوك وقد توحل الحمار ووقع الحمل وهو ينتظر من يمر عليه ويساعده على ذلك فنزل المعتصم بالله عن دابته وخلص الحمار ورفع معه الحمل عليه ثم لحقه أصحابه فأمـر لصاحب الحمار بأربعة آلاف درهم وقال ابن أبي داود: تصدق المعتصم ووهب على يدي مائة ألف ألف درهم.
خلافة ابنه الواثق
وهـو تاسعهـم وبويـع الواثق بالله هارون بن المعتصم في اليوم الذي توفي أبوه وذلك يوم الخميس لثمانـي عشـرة مضـت من ربيع الأول في هذه السنة أعني سنة تسع وعشرين ومائتين وأم الواثق أم ولد رومية تسمى قراطيس.
وفي هذه السنة هلك نوفيل ملك الروم وملك بعده امرأته بدورة وابنها ميخائيل بن نوفيل.
الفتنة بدمشق لما مات المعتصم ثارت القيسية بدمشق وعاثوا وأفسدوا وحصروا أميرهم بدمشق.
فبعث إِليهـم الواثـق عسكـراً مع رجاء بن أيوب فقاتلهم وكانوا قد اجتمعوا بمرج راهط فقتل من القيسة نحو ألف وخمس مائة وانهزم الباقي وصلح أمر دمشق.
وفي هذه السنة توفي بشر بن الحارث الزاهد المعروف بالحافي في ربيع الأول.
ثم دخلت سنة ثمـان وعشريـن ومائتيـن
فـي هـذه السنـة فتح المسلمون عدة أماكن من جزيرة صقلية وكان الأمير على صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب وكان مقيماً في صقلية بمدينة بلرم لم يخرج منها لكن يجهز الجيوش والسرايا فيفتح ويغنم وكانت إِمارته علـى صقليـة تسـع عشـرة وفـي هذه السنة مات أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر وفيها أعطى الواثق أشناس تاجاً ووشاحين.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين
في هذه السنة حبس الواثق الكتاب وألزمهـم أمـوالاً عظيمة وفيها توفي خلف بن هشام البزار المقرئ البزار بالزاي المنقوطة والراء المهملة.
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين
في هذه السنة مات عبد الله بن طاهر بنيسابور وهو أمير خراسـان وعمـره ثمـان وأربعـون سنـة واستعمـل الواثـق موضعـه ابنه طاهر بن عبد الله.
وفي هذه السنـة خرجـت المجـوس فـي أقاصي بلاد الأندلس في البحر إِلى بلاد المسلمين وجرى بينهم وبين المسلمين بالأندلس عدة وقائع انهزم فيها المسلمون وساروا يقتلون المسلمين حتى دخلوا حاضر إِشبيلية ووافاهم عسكر عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ثم اجتمع عليهم المسلمون من كل جهة فهزموا المجوس وأخذوا لهم أربعة مراكب بما فيها وهربت المجوس في مراكبهم إِلى بلادهم.
وفي هذه السنة مات أشناس التركي بعد عبد الله بن طاهر بتسعة أيام.
ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين ومائتين
فيها مات مخارق المغني وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه صاحب الشافعي وكان قد حبس في محنة الناس بالقرآن المجيد فلم يجب إِلى القـول بأنـه مخلـوق وكـان البويطي من الصالحين وهو منسوب إِلى بويط قرية من قرى مصر.
وفيها توفـي محمـد بن زياد المعروف بابن الأعرابي الكوفي صاحب اللغة وكان أبوه زياد عبداً سندياً أخـذ الـأدب عن المفضل الضبي صاحب المفضليات ولابن الأعرابي المذكور عدة مصنفات منها: كتـاب النـوادر وكتـاب الأنـواء وكتاب تاريخ القبائل وغير ذلك وولد في الليلة التي توفي فيها أبو حنيفة سنة خمسين ومائة والأعرابي منسوب إِلى الأعراب يقال رجل أعرابي إِذا كان بدوياً وإن لم يكن من العرب ورجل عربي منسوب إِلى العرب وإن لم يكن بدوياً ويقال رجل أعجم وأعجمي إِذا كان في لسانه عجمة وإن كان من العرب ورجل عجمي منسوب إِلى العجم وإن كان فصيحاً هكذا ذكر محمد بن عزيز السجستاني في كتابه الذي فسر فيه غريب القرآن.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
موت الواثق بالله
وتوفي الواثـق باللـه أبـو جعفر هارون بن المعتصم بالله في هذه السنة لست بقين من ذي الحجة بالاستسقاء وعولج بالإِقعاد في تنور مسخن ووجد عليه خفة فعاوده وشدد سخونته وقعد فيه أكثر من اليوم الأول فحمي عليه وأخرج منه في محفة فمات فيها ودفن بالهاروني ولما اشتد مرض الواثق أحضر المنجمين فنظروا في مولده فقدروا لـه أنـه يعيـش خمسيـن سنـة مستأنفة من ذلك اليوم فلم يعش بعد قولهم إِلا عشرة أيام وكان أبيض مشرّباً حمرة في عينه اليسرى نكتة بياض وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وكسراً وعمره اثنتان وثلاثون سنـة وكـان الواثـق يبالـغ فـي إِكـرام العلوييـن والإِحسـان إِليهـم وفـرق فـي الحرميـن أمـوالا عظيمـة حتـى أنه لـم يبـق بالحرميـن فـي أيـام الواثـق سائـل ولمـا بلـغ أهـل المدينة موته كانت تخرج نساؤهم إِلى البقيع كل ليلة ويندبن الواثق لفرط إِحسانه إِليهم وسلك الواثق مذهب أبيه المعتصم وعمه المأمون في امتحان الناس بالقرآن المجيد وألزمهم القول بخلق القرآن وأن الله لا يُرى في الآخرة بالأبصار.