المختصر في أخبار البشر
(تاريخ أبي الفداء)
أبو الفداء
الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام 672 هـ والمتوفي عام 732 هـ
خلافة أبي العباس
أحمد المعتضد بالله وهو سادس عشرهم وفي صبيحة الليلة التي مات فيهـا المعتمـد بويـع لأبـي العبـاس أحمـد المعتضد بالله بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل.
وفي هذه السنة توفي نصر بن أحمد الساماني فقام بما كان إِليه من العمل بما وراء النهر أخوه إِسماعيـل ابـن احمـد بـن أسـد بـن سامان.
وفي هذه السنة قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر بهدايا عظيمة من خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر بسبب تزويج المعتضد بنت خمارويه.
وفيها توفي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سودة الترمذي السلمي بترمذ في رجب وكان إِماماً حافظاً له تصانيف حسنة منها الجامع الكبير في الحديث وكان ضريراً وهو عن أئمة الحديث المشهورين الذين يقتدى بهم في علم الحديث وهو تلميذ محمد بن إِسماعيل البخاري وشاركه في بعض شيوخه مثل قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين
فيها توفي جعفر بن المعتمد وهو الذي كان لقبه المفوض وخلعه
ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين ومائتين
فيها سار المعتضد إِلى ماردين فهرب صاحبها حمدان وخلى ابنه بها فقابله المعتضد فسلمها إِليه.
وفيها دخل طغج بن جف وكان عاملاً على دمشق من طرسوس إِلى بلاد الروم من قبل خمارويه وفتح وسبى.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن أبي عبد الله بن أبي الدنيا صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين
النيروز المعتضدي فيهـا أمـر المعتضـد بافتتـاح الخـراج فـي النيـروز المعتضـدي للرفـق بالناس وهو في حزيران من شهور الروم عند كون الشمس في أواخر الجوزاء.
قتل خمارويه فـي هـذه السنـة قتـل خمارويـه بن أحمد بن طولون ذبحه بعض خدمه على فراشه في ذي الحجة بدمشق وكان سببه أنـه نقـل إِلـى خمارويـه أن جواريـه قـد أخـذت كـل واحـدة منهـن خصيـاً وجعلته لها كالزوج وقصد خمارويه تقرير بعض الجواري على ذلك فاجتمع جماعة من الخدم واتفقوا على قتله ثم قتل من خدمه الذين اتهموا بذلك نيفاً وعشرين نفساً.
ولما مات خمارويه بايع قواده جيش بن خمارويه وكان صبياً وفيها توفي أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري صاحب كتاب النبات.
وفيها توفي الحارث ابن أبي أسامة وله مسند.
وفيها توفي أبو العينـاء محمـد بـن القاسـم وكـان روى عـن الأصمعـي وكـان ضريـراً صاحـب نـوادر وأشعـار وكـان مـن ظرفـاء الناس وفيه من سرعة الجواب والذكاء ما لم يكن في أحد وولد في سنة إِحدى وتسعين ومائتين وكف بصره وقد بلغ أربعين سنة ولقب بأبي العيناء لأنه قال: لأبي زيد الأنصاري كيف تصغر عيناً فقال عييناً يا أبا العيناء فبقي عليه لقباً وكان قد ذكر للمتوكل للمنادمة فقال المتوكل: لولا أنه ضرير لصلح لذلك وبلغ ذلك أبا العيناء فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة فإِني أصلح للمنادمة.
ثم دخلت سنة ثلـاث وثمانيـن ومائتيـن
في هذه السنة خلع طغج بن جف أمير دمشق جيش بن خمارويه بدمشق واختلف جند جيش عليه لصباه وتقريبه الأرذال وتهديده لقواد أبيه فثاروا به فقتلوه ونهبوا داره ونهبـوا مصـر وأحرقوهـا وأقعـدوا أخـاه هـارون بـن خمارويـه فـي الولايـة وكانت ولاية جيش بن خمارويه تسعة أشهر.
وفي هذه السنة مات البحتري الشاعر واسمه الوليد بن عبادة بمنبـج أو بحلـب وكـان مولـده سنـة سـت ومائتيـن وفيهـا توفـي علـي بـن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر وفيها أمر المعتضد أن يكتـب إلـى الأقطـار بـرد الفاضـل مـن سهـام المواريث على ذوي الأرحام وإبطال ديوان المواريـث.
مـن تاريـخ القاضـي شهـاب الدين بن أبي الدم قال: وفيها أمر بكتبة الطعن في معاوية وابنه وأبيه وإباحة لعنهم وكان من جملة ما كتب في ذلك: بعد الحمد لله والصلاة على نبيه وأنـه لمـا بعثـه اللـه رسـولاً كـان أشـد النـاس في مخالفته بنو أمية وأعظمهم في ذلك أبو سفيان ابن حـرب وشيعتـه مـن بنـي أميـة قـال اللـه تعالـى فـي كتابـه العزيـز (والشجـرة الملعونة) (الإسراء: 60) اتفـق المفسـرون أنـهِ أراد بهـا بنـي أميـة.
ورأى النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم أبـا سفيان مقبلاً ومعاوية يقوده ويزيد أخو معاوية يسوق به فقال: (لعن الله القائد والراكب والسائق) وقد روى أن أبا سفيـان قـال: يـا بنـي عبـد منـاف تلقفوهـا تلقف الكرة فما هناك جنّة ولا نار.
وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية ليكتب بين يديه فتأخر عنه واعتذر بطعامه فقال النبي صلى اللـه عليـه وسلـم (لا أشبـع اللـه بطنـه) فبقـي لا يشبـع وكان يقول: والله ما أترك الطعام شبعاً وإنما أتركـه إعيـاء.
وروي أن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم قـال: (إِذا رأيتـم معاويـة على منبري فاقتلوه) وأطال في ذلك وأمر أن يقال ذلك في البلاد ولعن معاوية على المنابر فقيل له: إِنّ في ذلك استطالـة للعلوييـن وهـم فـي كل وقت يخرجون على السلطان ويحصل به الفتن بين الناس فأمسك عن ذلك.
ثم دخلت سنة أربـع وثمانيـن ومائتيـن
فـي هـذه السنـة أخبـر المنجمون الناس بغرق أكثر الأقاليم وأن ذلك يكون بسبب كثرة الأمطار وزيادة الأنهار فتحفظ النـاس فقلـت الأمطـار وغـارت الميـاه حتى استسقوا ببغداد مرات.
وفيها اختل حال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر واختلف القواد عليه وانحل نظام مملكته وكان على دمشق من جهته طغج بن جف.
وفيها توفي إِسحاق بـن موسـى الإسفراييني الفقيه الشافعي.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين
في هذه السنة سار المعتضد إِلى آمد فافتتحها بالأمان وكان صاحبها محمد بن أحمد بن عيسى بن الشيخ ثم سار المعتضد إِلى فنسرين فتسلمها وتسلم العواصم من نواب هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر وكان هارون قـد سـأل المعتضـد فـي أن يتسلـم هـذه البلـاد منـه.
وفيهـا توفـي إِبراهيـم بن إسحاق وهو من أعيان المحدثين ببغداد.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين
في هذه السنة ظهر رجل من القرامطة بالبحرين يعرف بأبي سعيد الجنابي وكثر جمعه وقتل جماعة بالقطيف وبتلك القرى.
وفيها توفي المبرد وهو أبو العباس محمد بن عبد الله بن زيد وكان إِماماً في النحو واللغة وله التصانيف المشهورة منهـا: كتـاب الكامـل والروضـة والمقتضـب وغيـر ذلـك أخـذ العلـم عن أبي عثمان المازني وغيره وأخذ عنه نفطويه وغيره وولد سنة سبع ومائتين والمبرد لقب غلب عليه قيل: إِنه كان عند بعض أصحابه وأن صاحب الشرطة طلبه للمنادمة فكره المبرد المسير إِليه وألح الرسول في طلبه وكان هناك مزملة لتبريد الماء فارغة فدخل المبرد واختفى في غلاف تلك المزملة ودخل رسول صاحب الشرطة في تلك الدار وفتش على المبرد فلم يجده فلما تركه ومضى جعل صاحب الدار وكان يقال له أبو حاتم السجستاني يصفق وينادي على المزملة: المبـرد المبرد وتسامع الناس بذلك فلهجوا به وصار لقباً على أبي العباس المذكور.
ثم دخلت سنة سبـع وثمانيـن ومائتيـن
فـي هـذه السنـة استولـى إِسماعيـل بـن أحمـد السلمانـي صاحب ما وراء النهر على خراسان بعد قتال وأسر أمير خراسان وهو عمرو بن الليث الصفار ثم أرسله إِلى المعتضد ببغداد فحبس عمرو بها ولم يزل محبوساً حتى قُتل سنة تسع وثمانين ومائتيـن فـي الحبـس.
وفـي هـذه السنـة سـار محمـد بـن زيـد العلـوي صاحـب طبرستـان إِلـى خراسان لمـا بلغـه أسـر الصفـار ليستولـي عليهـا فجرى بينه وبين عسكر إسماعيل الساماني قتال شديد ثم انهزم عسكر العلوي وجرح جراحات عديدة ثم مات محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان المذكور من تلك الجراحات بعد أيام وأسر ابنه زيد في الوقعة وحمل إلى إسماعيل الساماني فأكرمه ووسع عليه وكانَ محمد بن زيد أديباً فاضلاً شاعراً حسن السيرة رحمه الله تعالى ثم قام بعده بالأمر الناصر للحق الحسن بن علي وكان يعرف بالأطروش وتوفي الناصر في سنة أربع وثلاثمائة على ما سنذكره إِن ساء الله تعالى.
وفيها مات علي بن عبد العزيز البغوي بمكة.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين في هذه السنة كانت حروب بالشام بين طغج بن جف أمير دمشق وبين القرامطة.
وفاة المعتضد
فـي هـذه السنـة لثمـان بقيـن مـن ربيـع الآخر توفي أبو العباس أحمد المعتضد ابن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد ودفن ليلا في دار محمد بن طاهر وكان مولده في ذي الحجـة سنـة اثنتيـن وأربعيـن ومائتيـن.
وكانـت خلافتـه تسـع سنيـن وتسعـة أشهـر وثلاثـة عشر يوماً وخلـف مـن الذكـور عليـاً وهـو المكتفـي وجعفـر أو هـو المقتـدر وهـارون وخلـف إِحدى عشرة بنتاً ولما حضرت المعتضد الوفاة أنشد أبياتاً منها: ولا تأمنن الدهَر إِني أمنته فلم يبق لي خلا ولم يرع لي حقا قتلت صناديدَ الرجالِ ولم أدع عدواً ولم أمهل على طغيه خلقا وأخليت دار الملك من كل نازع فشردتهم غرباً ومزّقتهم شرقـا فلما بلغت النجـمٍ عـزاً ورفعـة وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا وكان المعتضد شهماً مهيباً عند أصحابه يتقون سطوته ويكفون عن المظالم خوفاً منه وكان فيه الشح وكان عفيفاً حكى القاضي ابن إِسحاق قال: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحـداثٌ رومٌ صبـاح الوجـوه فأطلـت النظـر إِليهم فلما قمت أمرني بالقعود فجلست فلما تفرق الناس قال: يا قاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط.