الفصل الثامن: خلافة المقتدر بالله

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

خلافة المقتدر باللّه

أبي الفضل جعفر بن المعتضد باللّه وأمه أم ولد يقال لها شعب وهو ثامن عشرهم بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه المكتفي وكان عمر المقتدر يوم بويع ثلاث عشرة سنة‏.‏

موت الترمذي

وفيها في المحرم توفي أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي الفقيه الشافعي المحدث روى عن يحيى بن بدير المصري ويوسف بن عدي وكثيرين يحيى وغيرهم وروى عنـه أحمـد بـن كامل الشافعي وغيره وكان مولد الترمذي المذكور سنة مائتين وقيل ست عشرة ومائتين‏.‏

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين‏.‏

خلع المقتدر ومبايعة ابن المعتز

في هذه السنة خلع القواد والقضاة المقتدر وبايعوا عبد الله بن المعتـز ولقبـوه الراضـي باللـه وجرت بين غلمان الدار المريدين للمقتدر وبين المريدين لابن المعتز حروب وآخر ذلك أن عبد الله بن المعتز انهزم واختفى وتفرق أصحابه ثم أمسك عبد الله بن المعتز وحبس ليلتين وقتل خنقـاً وأظهـروا أنه مات حتف أنفه وأخرجوه إلى أهله وكان مولد عبد الله بن المعتز لسبع بقين من شعبان سنـة سبـع وأربعيـن ومائتيـن وكـان فاضـلا شاعـراً وتشبيهاتـه وأشعـاره مشهـورة وأخذ العلم عن المبرد وثعلب وتولى الخلافة يوماً واحداً وقال حين تولى‏:‏ قد آن للحـق أن يتضح وللباطل أن يفتضح له الكلام البديع فمن ذلك قوله‏:‏ أنفاس الحمى خطاه إلى أجله ربما أورد الطمع ولم يصدر يشفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك‏.‏

وكان عبد الله بن المعتز آمناً في سربه منعكفاً على طلب العلم والشعر قد اشتهر عند الخلفاء أنه لم يؤهل نفسه للخلافة فكان مستريحاً إِلى أن حمله على تولي الخلافة القوم الذين خذلوه بعد بيعته وقد رثاه علي بن محمد بن بسام فقال‏:‏ لله درك من ملك بمضيعة ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيـه لـولا ولا ليـت قتنقصـه وإنما أدركته حرفة الأدب وقد روى عنه أنه كان يقول‏:‏ إِنْ ولاني الله لأفنين جميع بني أبي طالب فبلغ ذلك ولد علي فكانوا يدعون عليه‏.‏  

أخبار أبي نصر زيادة الله

كان المذكور قد ملك إِفريقية سنة تسعين ومائتين في مستهل رمضان بعد قتل أبيه باتفاق من زيادة الله المذكور فإِن زيادة الله كان قد حبسه أبو عبد الله على شرب الخمر فاتفق مع ثلاثة من خدم أبيه الصقالية على قتل أبيه فقتلوه في شعبان سنة تسعين ومائتين وأحضروا رأسـه إِلـى زيـادة اللـه فـي الحبـس فلمـا تولـى زيادة الله أمر بهم فقُتلوا وهو الذي كان أمرهم بذلك ولما تولى زيادة الله على إِفريقية انعكف على اللذات وملازمة المضحكين وأهمل أمور المملكة وقتل من الأغالبة كل من قدر عليه من أعمامه وأخوته‏.‏

وفي أيام زيـادة اللـه قـوي أمـر أبـي عبـد اللـه الشبعـي القائـم بدعـوة الدولـة العلويـة الفاطميـة بالمغرب فأرسل إليه زيادة الله جميع عسكره وكانوا أربعين ألفاً مع إِبراهيم من بني الأغلب وهو من بني عمه فهزمهم أبو عبد الله الشيعي ولما رأى زيادة الله هزيمة عسكره وضعفه عن مقاومة أبي عبد الله الشيعي جمع ما قدر عليه من الأموال وسار عن ملكه إِلى الشرق في هذه السنة فقدم مصر وبها النوشري عاملا فكتب بأمره إِلى المقتدر ثم سار زيادة الله إِلى الرقة فأمره المقتدر بالعود إِلى المغرب لقتال أبي عبد الله الشعبي وكتب إِلى النوشري عامل مصـر يإِمـداد زيـادة الله بالعساكر والأموال فقدم إِلى مصر فأمره النَّوشري بالخروج إِلى الحمامات ليخرج إِليه ما يحتاجه من الرجال والأموال فخرج ومطله النوشـري وزيـادة اللـه مـع ذلك يلازم شرب الخمر واستماع الملاهي وطال مقامه هناك فتفرق عنه أصحابـه وتتابعـت به الأمراض وسقط شعر لحيته وأيس من النَّوشري فسار إِلى القدس للمقام به فمات بالرملة ودفـن بهـا ولـم يبـق بالمغـرب مـن بنـي الأغلـب أحـد وكانـت مـدة ملكهـم مائة سنة واثنتي عشرة سنة بالتقريب لأنه قد تقدم أن الرشيد ولى إِبراهيم بن الأغلب على إِفريقية في سنة أربع وثمانين ومائة وانقضى ملكهم في هذه السنة أعني سنة ست وتسعين ومائتين كان مدة ملك زيادة اللـه إِلـى أن هـرب مـن الشيعـي فـي هـذه السنة خمس سنين وتسعة أشهر وأياماً فسبحان الذي لا يزول ملكه‏.‏

ابتداء الدولة العلوية الفاطمية

وفي هذه السنة أعني سنة ست وتسعين ومائتين كان ابتداء ملك الخلفاء العلويين إِفريقية وانقرضت دولتهم بمصر سنة سبع وستين وخمس مائة على ما نذكره إِن شاء الله تعالى وأول من ولِي منهم أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إِسماعيل بن جعفـر بـن محمـد بـن علـي بـن الحسيـن ابـن علـي بـن أبـي طالـب رضـي اللـه عنهـم وقيـل‏:‏ هـو عبيـد اللـه بـن أحمـد بـن إِسماعيـل الثانـي بـن محمـد بـن إِسماعيـل بـن جعفـر بـن محمـد بـن علـي بـن الحسيـن بـن علـي بـن أبـي طالـب وقـد اختلـف العلمـاء فـي صحـة نسبـه‏.‏

فقـال القائلون بإمامته‏:‏ إِن نسبه صحيح ولم يرتابـوا فيـه وذهـب كثيـر من العلويين العالمين بالأنساب إِلى موافقتهم أيضاً ويشهد بصحته ما قاله الشريف الرضي‏.‏

ما مُقامي على الهوان وعندي مقولٌ صارمٌ وأنفٌ حمـي ألبِـسَ الـذل فـي بلـاد الأعـادي وبمصـر الخليفـة العلوي مَنْ أبوه أبي ومولى مولا - - ي إِذا ضامني البعيد القصي لف عرقي بعرقه سيد النا - - سِ جميعاً محمد وعلي وذهـب آخرون إلى أن نسبهم مدخول ليس بصحيح وبالغ طائفة منهم إِلى أن جعلوا نسبهم في اليهـود فقالـوا‏:‏ لـم يكـن اسـم المهـدي عبيد الله بل كان اسمه سعيد ابن أحمد بن عبد الله القداح بـن ميمـون بـن ديصـان وقيـل عبيـد اللـه بن محمد وقيل فيه سعيد بن الحسين وأن الحسين المذكور قدم إِلى سلمية فجرى بحضرته حديث النساء فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد بسلمية مات عنها زوجها فتزوجها الحسين بن محمد المذكور لابن أحمد بن عبد الله القداح المذكور‏.‏

وكـان للمـرأة ولد من اليهودي فأحبه الحسين وأدبه ومات الحسين ولم يكن له ولد فعهد إِلى ابن اليهـودي الحداد وهو المهدي عبيد الله وعرفه أسرار الدعوة وأعطاه الأموال والعلامات فدعا له الدعاة وقد اختلف كلام المؤرخين وكثر في قصة عبـد اللـه القـداح بـن ميمـون بـن ديصـان المذكـور ونحـن نشيـر إِلـى ذلـك مختصراً‏.‏

قالوا‏:‏ ابن ديصان المذكور هو صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة وكان يظهر التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ لميمون بن ديصان ولد يقـال له عبد الله القداح لأنه كان يعالج العيون ويقدحها وتعلم من ميمون أبيه الحيل وأطلعه أبوه على أسرار الدعاة لآل النبي صلى الله عليه سلم ثم سار عبد الله القداح من نواحي كرج وأصفهان إلى الأهواز والبصرة وسلمية من أرض حمص يدعو الناس إِلى آل البيت ثم توفي عبـد اللـه القـداح وقـام ابنـه أحمد وقيل محمد مقامه وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين بن حوشب بن زادان النجار من أهل الكوفة فأرسله أحمد إلى الشيعة باليمن وأن يدعو الناس إِلـى المهـدي مـن آل محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم فسار رستم بن حوشب إِلى اليمن ودعا الشيعة إِلى المهدي فأجابوه وكان أبو عبد الله الشيعي من أهل صنعاء وقيل من أهل الكوفة وسمع بقدوم ابن حوشب إِلى اليمن وأنه يدعو الناس إِلى المهدي فسار أبو عبد الله الشيعي من صنعاء إِلى ابن حوشب وكان بعَدن فصحبه وصار من كبار أصحابه وكان لأبي عبد الله الشيعـي علـم ودهـاء وكـاَن قد أرسل ابن حوشب قبل ذلك الدعاة إِلى المغرب وقد أجابه أهل كتامة ولما رأى ابن حوشب علْمَ أبي عبد الله الشيعي ودهاه أرسله إِلى المغرب إِلى أهل كتامة وأرسل معه جَملة من المال فسار أبو عبد الله الشيعي إِلى مكة وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا ولما قدم الحجاج مكة اجتمع بالمغاربة من أهل كتامة فرآهم مجيبين إِلى ما يختار فسار معهم إِلى أرض كتامة من المغرب فقدمها منتصف ربيع الأول سنة ثمانين ومائتين وأتاه البربر من كل مكان وعظم أمره وكان اسمه عندهم‏:‏ أبا عبد اللـه المشرقـي‏.‏

وبلـغ أمـره إِلـى إِبراهيـم بـن أحمـد الأغلبـي أميـر إِفريقيـة إِذ ذاك فاستصغـر أمـر أبـي عبد الله واستحقره ثم مضى أبو عبد الله إِلى مدينة تاهرت فعظم شأنه وأتته القبائـل مـن كـل مكـان وبقـي كذلـك حتـى تولـى أبـو نصر زيادة الله آخر من ملك من بني الأغلب وكان عم زيادة الله ويعرف بالأحول قبالة أبـي عبـد اللـه الشيعـي يقاتلـه فلمـا تولـى زيـادة اللـه أحضـر عمـه الأحول وقتله فصفت البلاد لأبي عبد الله الشيعي‏.‏

اتصال المهدي عُبيد الله بأبي عبد اللّه الشيعي

كانت الدعاة بالمغرب يدعون إِلى محمد والد المهدي وكان بسلمية فلما توفي أوصى إِلى ابنه عبيد الله المهدي وأطلعه على حال الدعاة وشاع ذلك أيام المكتفي فطلب فهرب عبيد الله وابنه أبو القاسم محمد الذي ولي بعد المهدي وتلقب بالقاَئم وتوجها نحو المغرب ووصل عبيد اللـه المهـدي إِلى مصر في زي التجار وكان عامل مصر حينئذ عيسى النّوشري وقد كنت إليه الخليفة بتطلب عبيد الله المهدي والتوقع عليه فَجَد المهدي في الهرب وقدم طرابلس الغرب وزيادة الله بن الأغلب متوقع عليه وقد كتب إِلى عماله بإمساكه متى ظفروا به فهرب من طرابلس ولحق بسجلماسة فأقام بهـا‏.‏

وكـان صاحـب سجلماسـة يسمـى اليسـع بـن مـدرار فهاداه المهدي على أنه رجل تاجر قد قدم إلى تلك البلاد فوصل كتاب زيادة الله إِلى اليسع يعلمه أن هذا الرجل هو الذي يدعو له عبد الله الشيعي إِليه فقبض اليسع على عبيد الله المهـدي وحبسـه بسجلماسـة ولمـا كـان مـن قتـل زيـادة اللـه عمه الأحول وهرب زيادة الله واستيلاء أبي عبد الله الشيعي على إِفريقية ما قدمنا ذكره سار أبو عبد الله الشيعي من رقـادة فـي رمضـان مـن هـذه السنـة أعني سنة ست وتسعين ومائتين إِلى سجلماسة واستخلف أبـو عبـد الله الشيعي أخاه أبا العباس وأبا زاكي على إفريقية‏.‏

فلما قرب من سجلماسة خرج صاحبها اليسع وقاتله فرأى ضعفه عنه فهرب اليسع تحت الليل ودخل أبو عبد الله الشيعي إِلى سجلماسة وأخرج المهـدي وولـده مـن السجـن وأركبهمـا ومشـى هـو ورؤوس القبائـل بيـن أيديهما وأبو عبد الله يشير إلى المهدي ويقول للناس‏:‏ هذا مولاكم وهو يبكي من شدة الفرح حتى وصل إلى فسطاط قد نصب له ولما استقر المهدي فيه أمـر بطلـب اليسـع صاحـب سجلماسة فأدرك وأحضر بين يديه فقتله وأقام المهدي بسجلماسة أربعين يوماً وسار إِلـى إفريقية ووصل إِلى رقادة في ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين فدون الدواوين وجبى الأموال وبعث العمال إِلى سائر بلاد المغرب واستعمل على جزيرة صقلية الحسن ابن أحمد بن أبي حفتزير وزال بملك المهدي ملك بني الأغلب وملك بني مدرار أصحاب مملكة سجلماسة وكـان آخـر بنـي مـدرار اليسـع وكـان مـدة ملـك بني مدرار مائة سنة وثلاثين سنة وزال ملك بني رستم من تاهرت وكانت مدة ملكهم مائة سنة وستين سنة‏.‏

قتل أبي عبد اللّه الشيعي أخيه أبي العباس لما استقرت قدم المهدي في المملكة باشر الأمور بنفسه ولم يبق لأبي عبد الله ولأخيه أبي العباس مع المهدي حكم والفطام صعب فشرع أبو العباس أخو أبي عبد الله الشيعي يندّم أخاه ويقول له‏:‏ أخرجت الأمر عنك وسلمته لغيرك‏.‏

وأخوه ينهاه عن قول مثل ذلك إِلى أن أحنقه وذلك يبلغ المهدي حتى شرع يقول لرؤوس القبائل‏:‏ ليس هـذا المهـدي الـذي دعوناكـم إِليه‏.‏

فطلبهما المهدي وقتلهما كذا أورد ابن الأثير في الكامل مقتل أبـي عبـد اللـه الشيعـي المذكـور فـي سنـة سـت وتسعيـن ومائتيـن ورأيـت مقتل أبي عبد الله في الجمع والبيان في تاريخ القيروان أنه كان في نصف جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين ومائتين وهو الأصح عندي‏.‏

وكذلك ذكر في تاريخ مقتله ابن خلكان أنّه كان في سنة ثمان وتسعين ومائتين‏.‏

ثم دخلت سنة سبـع وتسعيـن ومائتيـن

وسنـة ثمـان وتسعيـن ومائتيـن فيهـا توفـي أبـو القاسـم جنيـد بـن محمـد الصوفي وكان إمام وقته وأخذ الفقه عن أبي ثور صاحب الشافعي وأخذ التصوف عن سري السقطي‏.‏

ثم دخلت سنة تسـع وتسعيـن ومائتين

في هذه السنة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسين بن الفرات ونهب داره وهتك حرمه وولى الوزارة أبا علي محمد ابـن يحيـى بـن عبيـد اللـه ابـن خاقان وكان الخاقان المذكور ضجوراً وتحكمت عليـه أولـاده فكـل منهـم يسعـى لمـن يرتشـي منه فكان يولي العمل الواحد عدة من العمال في الأيام القليلة حتى أنه ولى ماء الكوفة في عشرين يوماً سبعة من العمال فقيل فيه‏:‏ وزير قـد تكامـل فـي الرقاعـه يولي ثم يعزل بعد ساعه إذا أهـل الرشـا اجتمعـوا عليـه فخير القوم أوفرهم بضاعه والخليفة مع ذلـك يتصـرف علـى مقتضـى إِشـارة النسـاء والخـدام ويرجـع إِلـى قولهـم وآرائهـم فخرجت الممالك وطمـع العمـال فـي الأطـراف‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي أبـو الحسـن محمـد بـن أحمـد بـن كيسان النحوي وكان عالماْ بنحو البصريين والكوفيين‏.‏

وفيها توفي إِسحاق بن حنين الطبيب‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاثمائة

فيها عزل المقتدر الخاقاني عن الوزارة وولاها علي بن عيسى‏.‏

وفاة عبد الله صاحب الأندلس

فـي هذه السنة توفي عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن الداخـل بـن معاويـة بـن هشـام بـن عبـد الملـك بن مروان بن الحكم طريد رسول الله صلى الله عيه وسلـم فـي ربيـع الـأول وكـان عمـره اثنتيـن وأربعيـن سنـة وكـان أبيـض أصهب أزرق ربعة يخضب بالسراد وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وكسراً لأنه تولى في سنة خمس وسبعين ومائتين ورزق إِحدى عشر ولداً ذكراً أحدهم محمد المقتول قتله أبوه المذكور في حد مـن الحـدود وهـو والـد عبـد الرحمـن الناصـر‏.‏

ولمـا توفـي عبـد الله ولى ابن ابنه واسمه عبد الرحمن بن محمد المقتول بن عبد الله المذكور وتولى عبد الرحمن بحضرة أعمامه وأعمام أبيه ولم يختلفوا عليه وهذا عبد الرحمن هو الذي يسمى الناصر فيما بعد‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثمائة

مقتل أحمد الساماني

في هذه السنة قتل الأمير أحمد بن إِسماعيل الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر ذبحه بالليل جماعة من غلمانه على سريره وهربوا ليلة الخميس لسبع بقين من جمادى الآخرة وكان قد خرج إلى البر متصيداً فحمل إِلى بخارى ودفن بها وظفروا ببعض أولئك الغلمان فقتلوهم وولي الأمر بعده ولده أبو الحسن نصر ابن أحمد وهو ابن ثمان سنين‏.‏

وفـي هـذه السنـة قتـل أبـو سعيـد الحسـن بـن بهـرام الجنابـي كبير القرامطة قتله خادم له صقلبي في الحمام ولما قتله استدعى رجلا آخر من أكابر رؤسائهم وقال له‏:‏ إِن الرئيس يستدعيك فلما دخل قتله وفعل كذلك بغيره حتى قتل أربعة أنفس من كبرائهم ثم علموا به فاجتمعوا عليه وقتلـوه وكـان أبـو سعيـد الجنابي قد جعل ولده سعيداً الأكبر ولي عهده فتولى بعده وعجز عن القيام بالأمر فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان وكان شهماً شجاعاً واستولى على الأمر ولما قتل أبو سعيد كان مسستولياً على هجر والأحساء والقطيف وسائر بلاد البحرين‏.‏

غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سير المهدي العلوي جيشاً مع ولده أبي القاسم محمد إلى ديار مصر فاستولى على الإسكندرية والفيوم فسيّر إليهم المقتـدر مـع مؤنـس الخـادم جيشـاً فأجلاهـم عـن ديـار مصـر وعـادوا إِلـى المغـرب وفيهـا توفـي القاضـي أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري الثقفي‏.‏

وفيها توفي محمد بن يحيى بن مندة الحافظ المشهور صاحب تاريخ أصفهان كان أحد الحفاظ الثقاة وهو من أهل بيت كبير خرج منه جماعة من العلماء‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتيـن وثلاثمائـة

فـي هـذه السنـة قبـض المقتـدر على الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص الجوهري وأخذ منه من صنوف الأموال ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار وأكثر من ذلك وفي هذه السنة أرسل المهدي العلوي جيشاً مع مقدم يقال له جاشـه فـي البحـر فاستولـى علـى الإسكندريـة وأرسـل المقتـدر جيشـاً مع مؤنس الخادم فاقتتلوا بين مصر والإسكندرية أربع دفعات انهزمت فيها المغاربة وعادوا إلى بلادهم وقتل من الفريقين خلق كثيـر‏.‏

وفـي هـذه السنـة انتهـى تاريـخ أبـي جعفر الطبري‏.‏

وفيها وقيل في السنة التي قبلها توفي علي بن أحمد بن منصور الشاعر المعروف بالبسامي وكان من أعيان الشعراء كثير الهجاء هجا أباه وأخوته وأهل بيته وعمل في القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد‏.‏

قـل لأبـي القاسـم المـرزي قاتلك الدهر بالعجائبِ مات لك ابن وكان زينا وعاش ذو الشين والمعايبِ حيـاة هذا كموتِ هذا فلستَ تخلو منَ المصائب وله في المتوكل لما هدم قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما ومنع الناس من زيارته‏.‏

تاللـه إِن كانـت أميـة قـد أتـت قتيـل ابـن بنـت نبيها مظلوما فلقـد أتـاه بنـو أبيـه بمثلـه هذا لعمرك قبره مهدومـا أسِفوا على أن لا يكونوا شاركوا فـي قتلـه فتتبعـوه رميما

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة

في هذه السنة اختار المهدي موضع المهدية على ساحل البحر وهو جزيرة متصلة بالبر كهيئة كفّ متصلة بزند فبناها وجعلها دار ملكه وجعل لها سوراً محكماً وأبواباً عظيمة وزن كـل مصراع مائة قنطار وكان ابتداء بنائها يوم السبت في هذه السنة لخمس خلون من ذي القعدة ولمـا تـم بناؤهـا قـال المهـدي‏:‏ الـآن أمنـت علـى الفاطميـة بحصانتهـا وفـي هـذه السنـة أغـارت الروم على الثغـور الجزريـة فغنمـوا وسبـوا‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي أبـو عبـد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي صاحب كتاب السنن بمكة ودفن بين الصفا والمروة وكان إماماً حافظاً محدثاً رحل إلـى نيسابـور ثـم إِلـى العـراق ثم إِلى الشام ومصر ثم عاد إلى دمشق فامتحن في معاوية وطُلب منه أن يروى شيئاً من فضائله فامتنع وقال‏:‏ ما يرضى معاويـة أن يكـون رأسـاً بـرأس حتـى يفضـل‏.‏

فقيـل إنـه وقـع فـي حقـه مكـروه وحمـل إِلـى مكـة فتوفـي بهـا‏.‏

وفيها توفي أبو علي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي‏.‏

ثم دخلت سنة أربـع وثلاثمائـة

فيهـا توفـي الناصر العلوي صاحب طبرستان وعمره تسع وسبعون سنـة وكـان يقـال لـه الأطـروش‏.‏

واسمـه الحسـن بـن علـي بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين بن علـي بـن أبـي طالـب رضـي اللـه عنهـم وكـان قـد ملـك طبرستـان فـي سنـة إِحـدى وثلاثمائة واستولى على مملكتها ثم قام بعد الناصر المذكور الحسن بن القاسم العلوي ويلقب بالداعي وقتل في يوسف ابن الحسين بن علي الرازي صاحب ذي النون المصري وهو صاحب قصة الغار معه‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة

في هذه السنة مات أبو جعفر محمد بن عثمان العسكري المعروف بالسمان ويعرف أيضاً بالعمري رئيس الإمامية‏.‏

وكان يدعـي أنـه البـاب إِلـى الإمـام المنتظر‏.‏

وفيها قدم رسول ملك الروم إلى بغداد فلما استحضروا عبئ لهم العسكر وصفت الـدار بالأسلحة وأنواع الزينة وكان جملة العسكر المصفوف حينئذ مائة ألف وستين ألفاً ما بين راكب وواقف ووقف الغلمان الحجرية بالزينة والمناطق المحلاة ووقف الخدام الخصيان كذلـك كانوا سبعة آلاف أربعة آلاف خادم أبيض وثلاثة آلاف أسود ووقف الحجاب كذلك وهم حينئذ سبع مائة حاجب وألقيت المراكب والزوارق في دجلة بأعظم زينة وزينت دار الخلافة فكانت الستور المعلقة عليها ثمانية وثلاثين ألف ستر منها ديباج مذهبة اثنا عشر ألفاً وخمس مائة وكانت البسط اثنين وعشرين ألفاً وكان هناك مائة سبع مع مائة سباع وكان في جملة الزينة شجرة من ذهب وفضة تشتمل على ثمانية عشر غصناً وعلى الأغصان والقضبان الطيور والعصافير من الذهب والفضة وكذلك أوراق الشجرة من الذهب والفضـة والأغصـان تتمايل بحركات موضوعة والطيور تصفر بحركات مرتبة وشاهد الرسول من العظمة ما يطـول شرحه وأحضر بين يدي المقتدر وصار الوزير يبلغ كلامه إِلى الخليفة ويرد الجواب عن الخليفة‏.‏

ثم دخلت سنة سـت وثلاثمائـة

فـي هـذه السنـة جعـل علـى شرطـة بغـداد نجح الطولوني فجعل في الأرباع فقهاء يكون عمل أصحاب الشرطة بفتواهم فضعفت هيبة السلطنة بسبب ذلك فطمع اللصوص والعيارون وأخذت ثياب الناس في الطرق المنقطعة وكثرت الفتن‏.‏

إرسال المهدي العلوي ابنه القائم بعساكر إِفريقية إِلى مصر

وفي هذه السنة جهز المهدي جيشاً كثيفاً مع ابنه القائم إِلى مصر فوصل إِلى الإسكندرية واستولى عليها ثم سار حتى دخل الجيزة وملك أشمونين وكثيراً من الصعيد وبعث المقتدر مؤنسـاٌ الخـادم فوصـل إِلى مصر وجرى بينه وبين القائم عدة وقعات ووصل إِلى الإسكندرية من إِفريقية ثمانون مركباً نجدة للقائم وأرسل المقتدر مراكب من طرسوس إِلى قتال مراكب القائم وكانت خمسة وعشرين مركباً فالتقت المراكب المراكب على رشيد واقتتلوا واقتتلت العساكر في البر وكانت الهزيمة على عسكر المهدي ومراكبه فعادوا إِلى إِفريقية بعد أن قتل منهم وأُسر‏.‏

وفي هذه السنة توفي القاضي محمد بن خلف بن حيان الضبي المعروف بوكيع وكان عالماً بأخبار الناس وله تصانيف حسنة‏.‏

وفيها في جمادى الأولى توفي الإمام أبو العباس أحمد بن سريج الفقيه الشافعي وكان من عظماء الشافعية وأئمة المسلمين وكان يقال له الباز الأشهب وولي القضاء بشيراز وبلغت مصنفاته أربع مائة مصنف ومنه انتشر مذهب الشافعـي فـي الآفاق وكان يقال في عصره إِن الله أظهر عمر بن عبد العزيـز علـى رأس المائـة مـن الهجـرة وأحيى كل سنة وأمات كل بدعة ثم منّ الله على الناس بالشافعي على رأس المائتين‏.‏

فأظهر السنة وأخفى البدعة ومن اللّه على رأس الثلاثمائة بابن سريج فقوّى كل سنْة وضعـف كـل بدعة وكان جده سريج رجلا مشهوراً بالصلاح‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة

انقراض دولة الأدارسة العلويين

من كتاب المغرب في أخبار أهل المغرب أن دولتهم انقرضت غي هذه السنة أقول‏:‏ كنا سقنا أخبارهم إِلى محمد بن إِدريس بن إِدريس في سنة أربع عشرة ومائتين وأن محمداً المذكور لما تولى فرّق غالب بلاده على أخوته حسبما قدمنا ذكره في السنة المذكورة وأنه أعطى أخاه عمر صنهاجة وغمارة وبقي محمد هو الإمام حتى توفي ولم يقع لنا تاريخ وفاته فلما مات محمد ملك بعده ابن أخيه علي بن عمر المذكور ابن إِدريس بن إِدريس وكانت إِمامة علي المذكور مضطربة لم يتم له فيها أمر فخلع عن قرب وولي بعده ابن أخيه يحيى بن إِدريس عمران إدريس ابن إدريس وهذا يحيى هو آخر أمتهم بفاس وانقرضت دولتهم في هذه السنة أعنـي سنـة سبـع وثلاثمائـة وتغلـب عليهـم فضالـة بـن جبوس ثم ظهر من الأدارسة حسن بن محمد بن القاسم بن إِدريس بـن إِدريـس ورام رد الدولـة وقـد أخـذت فـي الاختلـال ودولـة المهـدي عبيد الله في الإقبال فملك عامين ولم يتم له مطلب وانقرضـت دولتهـم مـن جميـع المغـرب الأقصـى وحمِل غالب الأدارسة إلى المهدي المذكور وولده الأمن اختفى منهم في الجبال إِلى أن ثار بعد الأربعين والثلاثمائة إِدريس من ولد محمد بن القاسم بن إِدريس فأعاد الإمامة لهذا البيت ثم تغلب على بر العدوة عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر وخطب في تلك البلاد لبنـي أميـة ثـم رجع عبد الملك إلى الأندلس فاضطربت ببر العدوة دولته فتغلب على قاس بنو أبي العافية الزناتيون حتى ظهر يوسف بن تاشفين أمير المسلمين واستولى على تلك البلاد‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وسنة تسع وثلاثمائة

مقتل الحُسين بن منصور الحلاج كان الحسين بن منصور الحلاج الصوفي يظهر الزهد والتصوف ويظهر الكرامات ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتـاء ويمـد يـده إِلـى الهـواء ويعيدهـا مملـوءة دراهم عليها مكتوب قل هو الله أحد ويسميها دراهم القـدرة ويخبـر النـاس بمـا أكلـوه ومـا صنعـوه فـي بيوتهـم ويتكلـم بما في ضمائرهم فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول واختلف الناس فيه كاختلافهم في المسيح فمن قائل إِنه قد حلّ فيه جزء إِلهي ومن قائل إِنه ولي وما يظهـر منه كراماته ومن قائل إِنه مشعبذ ومتكهن وساحر كذاب‏.‏

وقدم من خراسان إلى العراق وسار إِلى مكة وأقام بها سنة في الحجر لا يستظل تحت سقف وكان يصوم الدهر وكان يفطـر على ماء ويأكل ثلاث عضات من قرص حَسْب ولا يتناول شيئاً آخر ثم عاد الحسين إِلى بغداد فالتمس حامد الوزير من المقتدر أن يسلم إِليه الحلاج فأمر بتسليمه إِليه وكان حامـد يخـرج الحلـاج إِلـى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة وحامد الوزير مجد في أمره ليقتله وجرى له معه ما يطول شرحه وفي الآخر إِن الوزير رأى له كتاباً حكى فيه أن الإنسان إِذا أراد الحج ولم يمكنه فرد من داره بيتاً نظيفَاً من النجاسات ولا يدخله أحد وإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعله الحجاج بمكة ثم يجمع ثلاثين يتيماً ويعمل أجود طعام يمكنه ويطعمهم في ذلك البيت ويكسوهم ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم فإِذا فعل ذلك كان كمن حج فأمر الوزير بقراءة ذلك قدام القاضي أبي عمرو فقال القاضي للحلاج‏:‏ من أين لك هذا فقال‏:‏ من كتاب الإخلاص للحسن البصري فقال له القاضي‏:‏ كذبت‏.‏

يا حلال الدم قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا فطالب الوزير القاضي أبا عمرو أن يكتب خطه بما قاله أنه حلاّل الـدم فدافعـه القاضـي ثـم ألزمـه الوزيـر فكتـب بإباحـة دم الحلـاج وكتـب بعـده من حضر المجلس فلما سمع الحلاج ذلك قال‏:‏ ما يحل لكم دمي وديني الإسلام ومذهبي السنة ولي فيها كتب موجودة فالله الله في دمي وكتب الوزير إِلى الخليفة يستأذنه في قتله وأرسل الفتاوي بذلك فأذن المقتدر في قتله فضرب ألف سوط ثم قطعت يده ثم رجله ثم قتل وأحرق بالنار ونصب رأسه ببغداد‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطا الصوفي من كبار مشايخهم وعلمائهم وإبراهيم بن هارون الحراني الطبيب‏.‏

ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة

في هذه السنة توفي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ببغداد ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين بأم طبرستان وكان حافظاً لكتاب الله عارفـاً بالقـراءات بصبراً بالمعاني وكان من المجتهدين لم يقلد أحداً وكـان فقيهـاً عالمـاً عارفـاً بأقاويـل الصحابـة والتابعين ومن بعدهم‏.‏

وله التاريخ المشهور ابتدأ فيه من أول الزمان إلى آخـر سنـة اثنتيـن وثلاثمائة وكتاب في التفسير لم يفسر مثله وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة ولما مات تعصبت عليه العامة ورموه بالرفض وما كان سببه إِلا أنه صنف كتاباً فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال‏:‏ لم يكن أحمد بن حنبل فقيهاً وإنما كان محدثاً فاشتد ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد فشنعوا عليه بما أرادوه‏.‏

وفيهـا توفـي فـي ذي الحجـة أبـو بكـر محمد بن السري بن سهل النحوي المعروف بابن السراج كان أحد الأئمة المشاهير أخذ العلم عن أبي العباس المبرد وأخذ عنه النحـو جماعـة منهـم أبـو سعيـد السيرافـي وعلـي بـن عيسـى الرمانـي وغيرهما ونقل عنه الجوهري في الصحاح في مواضع عديدة وله عدة مصنفات مشهورة‏.‏

وكان مع كمال فضائله يلثغ في الراء يجعلها غيناً فأملى كلاماً يوماً بالراء فكتبوه بالغين فقال‏:‏ لا بالغين بل بالغاء وجعل يكررها على هذه الصـورة والسـراج نسبـة إلى عمل السروج وقيل كانت وفاته في سنة خمس عشرة وثلاثمائة‏.‏

ثم دخلت سنة إِحـدى عشـرة وثلاثمائـة

وفـي هـذه السنـة كبسـت القرامطـة وكبيرهـم أبـو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجاني البصرة ليلاْ وعلوا على أسوارها وقتلوا عاملها وأقاموا بها سبعة عشـر يومـاً يقتلـون ويحملـون منهـا الأمـوال‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي أبـو محمـد أحمـد بـن محمـد بـن محمـد بـن الحسين الجُريري بضم الجيم وهو من مشاهير مشايخ الصوفية وإبراهيـم بـن السـري الزجـاج النحـوي صاحب كتاب معاني القرآن‏.‏

وفيهـا توفـي محمـد بـن زكريـا الـرازي الطبيـب المشهور وكان في شبيبته يضرب بالعود فلما التحى قال‏:‏ كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستحسن فتركه وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة وقد جاوز الأربعين سنة وطال عمره وبلغ في معرفة العلوم التي اشتغل فيها الغاية وصار إِمام وقته في علم الطب والمشار إِليه وصنف في الطب كتباً نافعة فمنها الحاوي في مقدار ثلاثين مجلداً وكتاب المنصوري وهو كتاب مختصر نافع صنفه لبعض الملوك السامانيـة ملوك ما وراء النهر‏.‏

ثم دخلت سنة اثني عشرة وثلاثمائة

في هذه السنة أخذ أبو طاهر القرمطي الحجاج وأخذ منهم أموالا عظيمة وهلك أكثرهم بالجوع والعطش‏.‏

وفـي هذه السنة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات ثم سعوا في قتله فأمر بقتله فذبح هو وولده المحسن وكان عمر ابن الفرات إِحدى وسبعين سنة وكان عمر ولده المحسن ثلاثاً وثلاثين سنة واستوزر المقتدر بعده أبا القاسم الخاقاني‏.‏

غير ذلك وفيها سار أبو طاهر القرمطي إِلـى الكوفـة ودخلهـا بالسيـف وقتـل فيهـا وحمـل منهـا شيئـاً كثيراً وأقام ستة أيام يدخل الكوفة نهاراً ويخرج منها إِلى عسكره ليلاً وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة

في هذه السنة توفي عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي وكان عمره مائة سنة وسنتين وفيها توفي علي بن محمد بن بشار الزاهد‏.‏

ثم دخلت سنة أربـع عشـرة وثلاثمائة

في هذه السنة قلد المقتدر يوسف ابن أبي الساج نواحي المشرق وأمره بالمسير إِلى واسط لمحاربة القرامطة وكان يوسف المذكور بأذربيجان فسار إِلى واسـط لمحاربـة القرامطـة‏.‏

وفـي هـذه السنـة استولـى نصـر بن أحمد الساماني على الري ومرض بها ثم سار عنها‏.‏

ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

أخبار القرامطة ومقتل ابن أبي السّاج

في هذه السنة وصلت القرامطة إِلى الكوفة فسار إِليهم يوسف بن أبي الساج من واسط بعسكر ضخم تقدير أربعيـن ألفـاً وكانـت القرامطـة ألفـاً وخمـس مائـة رجـل منهـم سبـع مائـة فارس وثمان مائة راجل فلما رآهم أبو الساج احتقرهم وقال‏:‏ صدروا الكتب إِلى الخليفـة بالفتح فهؤلاء في يدي واقتتلوا فحملت القرامطة فانهزم عسكر الخليفة وأخذ يوسف بن أبي السـاج مقـدم العسكـر أسيراً ثم قتله أبو طاهر القرمطي واستولى على الكوفة وأخذ منها شيئاً كثيـراً ثـم جهـز المقتـدر إِلـى القرامطـة مؤنسـاً الخادم في عساكر كثيرة فانهزم أكثر العسكر منهم قبل الملتقى ثم التقوا فانهزمت عساكر الخليفة ووقع الجفـل فـي بغـداد خوفـاً مـن القرامطـة ونهـب القرامطة غالب البلاد الفراتية ثم عادوا إلى هجر بالغنائم‏.‏

غير ذلك من الحوادث فـي هذه السنة ظفر عبد الرحمن الناصر بن محمد الأموي صاحب الأندلس بأهل طليطلة بعد حصارها مدة لخلافهم عليه وأخرب كثيراً من عمارتها‏.‏

ثم دخلت سنة سـت عشرة وثلاثمائة

في هذه السنة دخلت القرامطة إِلى الرحبة فنهبوا وسبوا ثم ساروا إِلى الرقة فنهبوا ربضها ثم سـاروا إِلـى سنجـار فنازلوهـا وطلـب أهلهـا الأمـان فأمنوهـم ثـم نهبـوا الجبـال وغيرهـا مـن البلـاد وعـادوا إِلـى هجـر‏.‏

وفـي هذه السنة عزل المقتدر علي بن عيسى الوزير وقبض عليه وولى الوزارة أبا علي بن مقلة‏.‏

ابتداء أمر مرداويج

وكان قد استولى على جرجان أسفار بن شيرويـه سنـة خمـس عشـرة وثلاثمائـة وكـان فـي أصحاب أسفار قائد من أكبر قواده يقال له مرداويج بن زيـار مـن الديلـم‏.‏

فخـرج مرداويـج على أسفار بعد أن بايع غالب العسكـر فـي الباطـن فهـرب أسفـار فطلبـه مرداويـج فأدركـه وقتله وابتدأ مرداويج في ملك البلاد من هـذه السنـة فملـك قزويـن ثـم ملـك الـري وهمـدان وكنكور والدينور وبروجرد وقم وقاشان وأصفهان وجرباذقان وعمل له سريراً من ذهب يجلس عليه ويقف عسكره صفوفاً بالبعد عنه ولا يخاطبه أحد إِلا الحجاب الذين قد رتبهم لذلك ثم استولى مرداويج على طبرستان‏.‏

في هذه السنة وصـل الدمستـق فـي جيـش كبيـر مـن الـروم وحصـر أخلـاط فطلبـوا الصلـح فأجابهم على أن يقلع منبر الجامـع ويعمـل موضعـه صليبـاً فأجابـوا إِلـى ذلـك وأخرجـوا المنبـر وجعلوا مكانه الصليب ورحـل إِلـى بدليـس ففعـل بهـم كذلـك والدمستـق اسـم للنائـب علـى البلـاد التـي فـي شرقـي خليـج قسطنطينيـة‏.‏

وفيهـا مـات يعقـوب بـن إسحـاق بـن إِبراهيم الإسفراييني وله مسند مخرج على صحيح مسلم‏.‏

وكنيته أبو عوانة الحافظ طاف البلاد في طلب الحديـث سمـع مسلـم بـن الحجـاج صاحـب الصحيح وغيره من أئمة الحديث‏.‏

ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

خلع المقتدر

في هذه السنة خلع المقتدر بالله من الخلافة بسبب ما أنكره الجند والقواد عليه من استيلاء النسـاء والخـدام على الأمور وكثرة ما أخذوا من الأموال والضياع وانضم إِلى ذلك وحشة مؤنس الخادم‏.‏

من المقتـدر فاجتمعـت العساكـر إِلـى مؤنـس وقصـدوا دار الخلافـة وأخرجـوا المقتـدر ووالدتـه وخالتـه وخـواص جواريـه وأولاده من دار الخلافة وحملوا إِلى دار مؤنس واعتقلوا بها وأحضروا أخاه محمد بن المعتضد وبايعوه ولقبوه القاهر باللـه بعـد أن ألزمـوا المقتـدر بـأن يشهـد عليـه بالخلـع فأشهد عليه القاضي أبا عمرو بأنه خلع نفسه ونهبت دار الخلافة واستخرجوا من قبر في تربة بنتها أم المقتدر ستمائة ألف دينار‏.‏

عودة المقتدر إلى الخلافة

فلما كان يوم الاثنين سابع عشر المحرم ثالث يوم خلـع المقتـدر بكـر النـاس إِلـى دار الخلافـة حتى امتلأت الرحاب لأنه يوم موكب ولم يحضر مؤنـس المظفـر ذلـك اليـوم وحضـرت الرجـال المصافيـة بالسلـاح يطالبـون بحق البيعة وارتفعت زعقاتهم فخرج من عند القاهر ياروك ليطيب خواطرهم فرأى في أيديهم السيـوف المسلولـة فخافهـم فرجـع وتبعـوه فقتلـوه فـي دار الخلافة وصرخوا‏:‏ يـا مقتـدر يـا منصـور وهجمـوا علـى القاهـر فهـرب واختفـى وتفـرق عنـه الناس ولم يبق بدار الخلافة أحد ثم قصد الرجالـة دار مؤنـس الخـادم وطلبـوا المقتـدر منـه فأخرجه وسلمه إِليهم فحمله الرجالة على رقابهم حتى أدخلوه إلى دار الخلافـة ثـم أرسـل المقتدر خلف أخيه القاهر بالأمان وأحضره وقال‏:‏ قد علمت أنه لا ذنب لك وقيل بين عينه وأمنه فشكر إحسانه‏.‏

ثم حبس القاهر عند والدة المقتـدر فأحسنـت إليـه ووسعـت عليـه واستقر المقتدر في الخلافة وسكنت الفتنة وكان أشار مؤنس إعادة المقتدر إِلى الخلافة وإنما خلعه موافقة للعسكر‏.‏

وفي هذه السنة وافى أبو طاهر القرمطي مكة يوم التروية وكان الحجاج قد وصلوا إِلى مكة سالمين فنهب أبو طاهر أموال الحجاج وقتلهم حتى في المسجد الحرام وداخل الكعبة وقلع الحجر الأسود من الركن ونقله إلى هجر وقتل أمير مكة ابن محلب وأصحابه وقلع باب البيت وأصعـد رجـلاً ليقلـع الميـزاب فسقـط فمـات وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قتلوا وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه‏.‏

غير ذلك من الحوادث وفي هـذه السنـة وقـع بسبـب تفسيـر قولـه تعالى)عسـى أن يبعثـك ربـك مقامـاً محمـودًا‏(‏ ‏(‏الإسـراء‏:‏ 79‏)‏ ببغـداد فتنـة عظيمـة بيـن الحنابلة وغيرهم ودخل فيها الجند والعامة واقتتلوا فقتل بينهم قتلى كثيـرة فقـال أبـو بكـر المـروزي الحنبلـي وأصحابـه‏:‏ إِن معنـى ذلـك أن اللـه تعالى يقعد النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش وقالت الطائفة الأخرى‏:‏ إِنما هي الشفاعة فاقتتلوا بسبب ذلك‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي محمـد بن جابر بن سنان الحراني الأصل البتاني الحاسب المنجم المشهور صاحـب الزيـج الصابـي واسمه يدل على إسلامه وكذلك خطبته في زيجة قال ابن خلكان‏:‏ ولم أعلـم أنـه أسلـم ولـه الأرصـاد المتقنـة وابتـدأ بالرصـد قـي سنة أربع وستين ومائتين إلى سنة ست وثلاثمائة وأثبت الكواكب الثابتة في زيجة لسنة تسع وتسعين ومائتين وزيجة نسختان‏:‏ أولى وثانية والثانية أجود والبتاني بفتح الباء الموحدة من تحتها وقيل بكسرها نسبة إلى بتان وهي ناحية من أعمال حران‏.‏

وفيها توفي نصر بن أحمد بن نصر البصري المعـروف بالخبـزأرزي الشاعر المشهور كان أديباً راوية للشعر وكان أميـاً لا يعـرف أن يتهجـا ولا يكتـب وكـان يخبـز خبز الأرز بمربد البصرة وله الأشعار الفائقة منها‏:‏ خليلي هل أبصرتما أو سمعتما بأحسن مِنْ مولى تمشى إلى عبد أتى زائري من غير وعد وقال لي أجلك عن تعليق قلبك بالوعد فما زال نجم الوصل بيني بينـه يدور بأفلاك السعادة والسعد فطوراً على تقبيل نرجس ناظر وطوراً على تقبيل تفاحة الخد

ثم دخلت سنة ثمانـي عشرة وثلاثمائة

في هذه السنة أخرجت الرجالة المصافية من بغداد فإِنهم استطالوا بالكلام والفعل من حين أعادوا المقتدر إِلى الخلافة فجرى بينهم وبين الجند وقعة وقتل بينهم قتلى فهربـت الرجالـة المصافيـة إلـى واسـط واستولـوا عليهـا فسـار إِليهـم مؤنـس الخادم وقتل منهم وشردهم‏.‏

وفيهـا وقيـل بـل فـي السنـة التـي قبلهـا توفـي أبـو بكـر الحسـن بـن علـي بـن أحمد بن بشار المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني وقد بلغ عمره مائة سنة وهو ناظـم مراثي الهر المشهورة التي منها‏:‏

وكان قلبي عليك مرتعداً

**

وأنت تنساب غير مُرتعدِ

تدخل بـرجٍ الحمـام متئـدا

**

وتبلع الفرخ غير متئدِ

صادوك غيظاً عليك وانتقمـوا

**

منك وزادوا ومن يصد يُصـدِ

ولم تزل للحمام مرتصـدا

**

حتى سقيـت الحمـام بالرصـد

يا من لذيذُ الفراخ أوقعه

**

ريحك هلا قنعت بالغددَ

لا بارك الله في الطعام إِذا

**

كـان هلـاك النفـوس فـي المعدَ

كـم دخلـت لقمـة حشا شره

**

فأخرجت روحـه مـن الجسـدَ

ما كان أغناك عن تسلقك ال

**

برج ولو كان جنة الخلدِ

 وهـي قصيـدة طويلـة مشهورة واختلف في سبب عملها فقيل‏:‏ كان له قط حقيقة وقتله الجيران فرثاه وقيل بل رثى بها ابن المعتز ولم يقدر يذكره خوفاً من المقتدر فورّى بالقط وقيل‏:‏ بل هويـت جاريـة علي بن عيسى غلاماً لأبي بكر بن العلاف المذكور ففطن بهما علي بن عيسى فقتلهما جميعاً فقال أبو بكر مولاه هذه القصيدة يرثيه وكنى عنه بالهر‏.‏

ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة

في هذه السنة أرسل المقتدر عسكراً لقتال مرداويـج فالتقوا بنواحي همدان فانهزم عسكر الخليفة واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعاً وبلغت عساكره في النهب إِلى نواحي حلوان ثم أرسل مرداويج عسكراً إِلى أصفهان فملكوها‏.‏

وفي هذه السنة في ذي الحجة تأكدت الوحشة بين مؤنس الخادم وبين المقتدر‏.‏

ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة

في هذه السنة سـار مؤنـس الخـادم إلـى الموصـل مغاضبـاً للمقتدر واستولى المقتدر على أقطاع مؤنس وماله وأملاكه وأملاك أصحابه وكتب إِلى بني حمدان أمراء الموصل بصد مؤنس عن الموصل وقتاله فجرى بين مؤنس وبينهم قتال فانتصر مؤنس واستولى على الموصل واجتمعت عليه العساكر من كل جهة وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر‏.‏

قتل المقتدر ولما اجتمعت العساكر بالموصل عند مؤنس الخادم سار بهم إِلى جهة بغداد فقدم تكريت ثم سار حتى نزل بباب الشماسية فلما رأى المقتدر ضعفه وانعزال العسكر عنه قصد الانحدار إِلى واسط ثم اتفق من بقي عنده على قتال مؤنس ومنعوه من التوجه إِلى واسط فخرج المقَتدر إِلى قتال مؤنس وهو كاره ذلك وبين يدي المقتدر الفقهاء والقراء ومعهم المصاحـف منشـورة وعليـه البـردة فوقف على تل ثم ألح عليه أصحابه بالتقدم إِلى القتال فتقدم ثم انهزمت أصحابه ولحق المقتدر قوم من المغاربة فقال لهم‏:‏ ويحكم أنا الخليفة‏.‏

فقالوا‏:‏ قد عرفناك يا سفلة أنت خليفة إِبليس فضربه واحد بسيفه فسقط إِلى الأرض وذبحوه وكان المقتدر ثقيل البدن عظيم الجثة فلما قتلوه رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه وأخذوا ما عليه حتـى سراويلـه ثـم حُفـر لـه فـي موضعـه وعفـي قبـره وحمـل رأس المقتـدر إلـى مؤنـس وهو بالراشدية لم يشهد الحرب فلما رأى رأس المقتدر لطم وبكى وكان المقتدر قد أهمل أحوال الخلافة وحكم فيها النساء والخدم وفرط في الأموال وكانت مدة خلافته أربعاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وستة عشر يوما وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة‏.‏