الفصل الثامن: خلافة القاهر بالله

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

خلافة القاهر باللّه

وهو تاسع عشرهم كان مؤنس الخادم قد أشار بإِقامة ولد المقتدر أبـي العبـاس فاعتـرض عليـه أبـو يعقـوب إِسحـاق بـن إِسماعيـل النوبختـي بـأن هـذا صبي ولا يولى إلا من يدبر نفسه ويدبرنا وكـان فـي ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه فإن القاهر قتل النوبختي المذكور فيما بعد فأحضروا القاهر بالله وهو محمد بن المعتضد وبايعوه لليلتين بقيتا من شوال هذه السنة ثم أحضر القاهر أم المقتدر وسألها عن الأموال فاعترفت بما عندها من المصاغ والثياب فقط فضربها أشد ما يكون من الضرب وكانت مريضة قد بدأ بها الاستسقاء ثـم علقهـا برجلهـا فحلفـت أنهـا مـا تملـك غيـر مـا أطلعتـه عليـه واستـوزر القاهـر أبـا علـي بن مقلة وعزل وولى وقبض على جماعة من العمال‏.‏

غير ذلك وفي هـذه السنـة‏.‏

توفـي القاضـي أبـو عمـرو محمـد بـن يوسـف وكـان فاضـلاً‏.‏

وأبـو الحسيـن ابـن صالـح الفقيه الشافعي وكان عابداً‏.‏

وأبو نعيم عبد الملك الفقيه الشافعي الجرجاني المعروف بالأشتر الأستراباذي‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين وثلاثمائة

فيها في جمادى الآخرة ماتت شعب والدة المقتدر ودفنت في تربتها بالرصافة‏.‏

وفي هذه السنة حصلت الوحشة بين مؤنس وبين القاهر وكان مؤنس قد أقام بليق حاجباً وجعل أمر دار الخلافة إِليه فضيق على القاهر ومنع دخول امرأة إِلى دار الخلافة حتى يعرف من هي فإِن القاهر قد استمال جماعة في الباطن للقبض على بليق الحاجب ومؤنس واتفق مع القاهر على ذلك طريف السبكري وهو من أكبر القواد‏.‏

القبض على مؤنس الخادم وبليق

في هذه السنة في أول شعبان قبض القاهر بالله على بليق الحاجب وابنه ومؤنس لأنهم اتفقوا على خلع القاهر وإقامة أبي أحمد بن المكتفي واتفق معهم الوزير ابن مقلة على ذلك فاستمال القاهر طريف السبكري واتفق معه ومع الساجية على قبض ابن بليق وأمكنهم في الدهاليز والممرات وحضر ابن بليق بجماعة وقصد الاجتماع بالخليفة وأظهر أنه يريد الاجتماع به بسبب القرامطة وكان قصده القبض على الخليفة ولم يعلم ابن بليق بما أعد له القاهر فلما دخل دار الخلافة قبض عليه وبلغ أباه بليق ذلك وكان منقطعاً في داره بسبب مرض حصل له فركب وحضـر إِلـى دار الخلافـة بسبب ذلك فقبض عليه أيضاً ثم أرسل القاهر يستدعي مؤنساً فامتنع عن الحضور فحلف له أنه آمن ويريد أن يعرفه ما بلغه من اتفاق بليق وابنه على خلعه فإن كان كذباً أفرج عنهما وما زال يحلف لمؤنس حتى حضر فقبض عليه أيضاً وعزل أبا علي بن مقلـة واستـوزر أبـا جعفـر محمـد بـن القاسـم بـن عبـد اللـه ثم جد في طلب أبي أحمد ابن المكتفي فظفر به فبنى عليه حائطاً فمات‏.‏

قتل مؤنس وبليق وابنه لمـا أمسـك القاهـر المذكوريـن شغـب الجند أصحاب مؤنس وكانوا غالب العسكر وثاروا بسبـب حبـس مؤنـس فطلبـوا إِطلاقه فعمد القاهر إِلى ابن بليق وذبحه ووضع رأسه في طست وكـان قـد حبسهـم متفرقيـن ثـم أحضـر الـرأس فـي الطسـت إِلـى أبيـه بليـق فأخذ أبوه يبكي ويترشف الرأس ثم قتله القاهر وجعل رأس بليق مع رأس ولده في الطست وأحضرهما إِلى مؤنس فلما رأى مؤنس الرأسين تشاهد ولعن قاتلهما فقتله أيضاً وأطلع ثلاثة رؤوسهم فطيـف بهـا فـي بغداد ونودي هذا جزاء من يخون الإمام ثم نظفت وجعلت الرؤوس في خزانة الرؤوس على جاري عادتهم ثم عزل القاهر أبا جعفر الوزير ووالي الخصيبي الوزارة ثم قبض على طريف السبكري وكان من أكبر القواد وهو الذي اتفق مع القاهر على قبض مؤنس وغيره ولولاه لم يقدر القاهر على فعل ما فعله‏.‏

ابتداء دولة بني بويه

كان بويه رجلاً متوسط الحال من الديلم وكنيته أبو شجاع ولما عظمت مملكة بني بويه اشتهر نسبهـم فقالـوا بويه بن فنا خسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزير الأصغر بن شيركنده بن شيرزير الأكبـر بـن شيـران شـاه بـن شيرفنـه بـن بستـان شـاه بـن شيرفيـروز بـن شيروزيـك بـن سبسـذا بن بهرام جور الملك ابن يزد جرد الملك وباقي النسب إِلى أزدشير بن بابك قد تقدم في أخبار ملوك الفرس الأكاسرة‏.‏

وكان لبويه المذكور ثلاثة أولاد وهم عماد الدولة أبو الحسن علي وركن الدولة الحسن ومعز الدولة أبو الحسين أحمد أولاد بويه أبي شجاع المذكور وكانوا فـي خدمـة ماكـان بـن كاكـي الديلمي ولما ملك من الديلم أسفار بن شيرويه ومرداويج على ما أشرنا إليه ملك ماكـان بـن كاكـي الديلمـي طبرستـان وكـان أولـاد بويـه الثلاثة المذكورون من جملة عسكره متقدميـن عنـده فلمـا استولى مرداويج على ماكان بيد ماكان بن كاكي من طبرستان سار ماكان عن طبرستان واستولى على الدامغان ثم انهزم ما كان بن كاكي وعاد إِلى نيسابور مهزوماً وأولاد بويه المذكورون معه لا يفارقونه فلما رأوا ضعفه وعجزه عن مقاتلة مرداويج قالوا‏:‏ نحن معنا جماعة وأنـت مضيـق والأصلـح أن نفارقـك لنخـف المؤنـة عنـك فـإذا صلـح أمـرك عدنـا إِليك فأذن لهم ففارقوه ولحقوا بمرداويج وتبعهم في ذلك جماعة من قواد ماكان فأحسن إِليهم مرداويج وقلد عماد الدولة علي بن بويه كرج ولما استقر عماد الدولة في كرج قوي وكثـر جمعه ثم أطلق مرداويج لجماعة من قواده مالاً على كرج فلما وصلوا لقبض المال أحسن إِليهم علـي بـن بويـه المذكـور واستمالهـم فمالـوا إِليه حتى أوجبوا طاعته‏.‏

وبلغ ذلك مرداويج فاستوحش من ابن بويه ثم قصد ابن بويه المذكور أصفهان وبها ابن ياقوت فاقتتلوا فانهزم ابن ياقوت واستولى ابن بويه على أصفهان وكان صحاب ابن بويه تسع مائة رجل وعسكر ابن ياقـوت عشـرة آلـاف فلمـا هزم عماد الدولة بتسع مائة عشرة آلاف عظم في عيون الناس وقويت هيبته وبقي مرداويج يراسل ابن بويه ويستدعيـه بالملاطفـة وابـن بويـه يعتـذر ولا يحضـر إِليـه وأقام ابن بويه بأصفهان شهرين وجبى أموالها وارتحل إِلى أرجان وكان قد هرب إِليها ابن ياقـوت واسمـه أبـو بكـر فانهـزم مـن بيـن يـدي ابن بويه بغير قتال فاستولى ابن بويه على أرجان في ذي الحجة سنة عشرين وثلاثمائة ثم سار ابن بويه إِلى النوبندجان واستولى عليها في ربيع الآخر من هذه السنة أعني سنة إِحدى وعشرين وثلاثمائة ثم أرسل عماد الدولة أخاه ركن الدولة إِلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فاستخرج أموالها ثم كان منهم ما سنذكره إِن شاء الله تعالى‏.‏

غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة توفـي أبـو بكـر محمـد بـن الحسيـن بـن دريد اللغوي في شعبان‏.‏

وولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين وأخذ العلم عن أبي حاتم السجستاني وأبي الفضل الرياشي وغيرهما وكان فاضلاً شاعراً نظم قصيدته المقصورة المعروفة بمقصورة ابن دريد وله تصانيف كثيرة في النحو واللغة منها كتاب الجمهرة وله كتاب الخيل‏.‏

وكان ابن دريد قد ابتلى بشرب النبيذ ومحبة سماع العيدان قـال الأزهـري‏:‏ دخلـت علـى ابن دريد فوجدتهّ سكران فلم أعد بعدها إِليه‏.‏

قال ابن شاهين‏:‏ كنا ندخل على ابن دريد فنستحي مما نرى من العيدان المعلقة والشراب المصفى وكان قد جـاوز التسعيـن‏.‏

وفيهـا توفـي أبـو هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم المعتزلي ومولده سنة سبع وأربعين ومائتين أخذ العلم عن أبيه أبي علي واجتهد حتى صار أفضل من أبيه‏.‏

قال أبو هاشـم‏:‏ كـان أبـي أكبـر منـي باثنتـي عشـرة سنة وكان موت أبي هاشم وابن دريد في يوم واحد فقال الناس‏:‏ اليوم دفن علم الكلام وعلم اللغة ودفنا بمقابر الخيزران ببغداد‏.‏

وفيها توفي محمد بن يوسف بن مطر الفربري وكان مولده سنة إِحدى وثلاثين ومائتين وهو الذي روى صحيح البخاري عنه وكان قد سمعه من البخاري عشرات ألوف وهو منسوب إِلـى فربـر - بالفاء والراء المهملة المفتوحتين ثم باء موحدة من تحتها ساكنة وبعدها راء مهملة - وفربر المذكورة قرية ببخارى كذا نقله ابن الأثير في تاريخه الكامل وقد ذكر القاضي شمس الديـن بـن خلكـان أن فربـر المذكـورة بلـدة على طرف جيحون‏.‏

وفيها توفي بمصر أبو جعفر أحمد بن محمد ابن سلامة الأزدي الطحاوي الفقيه الحنفي انتهت إِليه رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر وكان شافعي المذهب وقرأ على المزني فقال له‏:‏ والله لا جاء منك شيء‏.‏

فغضـب الطحـاوي مـن ذلـك وانتقـل واشتغـل بمذهـب أبـي حنيفـة وبـرع فيه وصنف كتباً مفيـدة منهـا أحكـام القـرآن واختلـاف العلمـاء ومعانـي الآثـار ولـه تاريـخ كبير وكانت ولادته سنة ثمان وثلاثين ومائتين‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة

في هذه السنة استولى عماد الدولة بن بويه على شيراز‏.‏

خلع القاهر بالله

وفي هذه السنـة فـي جمـادى الأولـى خلـع القاهـر بسبـب مـا ظهـر منـه مـن الغـدر بطريـف والسبكـري وغشـه فـي اليميـن بالأمـان للذين قتلهم وكان ابن مقلة مستتراً من القاهر والقاهر يجتمع بالقواد ويغريهم به وكان ابن مقلة يظهر تارة بزي عجمي وتارة بزي مكدي‏.‏

وأعطى لبعض المنجميـن مائـة دينـار ليقـول للقـواد أن عليـه قطعـاً مـن القاهـر وكذلك أعطى لبعض معبري المنامات ممن كان يعبر المنامات لسيما القائد أنه إذا قص عليه سيما مناماً يعبره بما يخوفه به مـن القاهـر ففعلـوا بذلـك فاستوحـش سيمـا مقـدم الساجيـة وغيـره مـن القاهـر واتفقوا على القبض على القاهـر فاجتمعـوا وحضـروا إِليـه وكـان القاهـر قـد بـات يشـرب أكثـر ليلتـه وهـو سكران نائم فأحدقوا بالدار فاستيقظ القاهر مخموراً وأوثقت الأبواب عليه فهرب إلى سطح حمام هناك فتبعوه وأخذوه وأتوا به إِلى الموضع الذي فيه طريف السبكري فأخرجوا طريفاً وحبسـوا القاهر موضعه ثم سملوا عيني القاهر وكانت خلافته سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام‏.‏