الفصل الثامن: خلافة المتقي لله

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

خلافة المتقي للّه

وهو حادي عشرينهم لما مات الراضي بقي الأمر موقوفاً انتظاراً لقدوم أبي عبد الله الكوفي كاتب بجكم من واسط وكان بجكم بها أيضاً واحتيط على دار الخلافة فورد كتاب بجكم مع أبي عبد الله الكوفي كاتب بجكم يأمر فيه أن يجتمع مع أبي القاسم سليمان بن الحسن وزير الراضي كل من تقلد الوزارة وأصحاب الدواوين والعلويون والقضـاة والعباسيـون ووجـوه البلد ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة فاجتمعوا واتفقوا على إِبراهيم بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر وبويع له بالخلافة في العشرين من ربيع الأول وعرضت عليه الألقاب فاختار المتقي لله ولما بويع له سير الخلع واللواء إِلى بجكم وهو بواسط وكان بجكم قبل استخلاف المتقي قد أرسل إِلى دار الخلافة وأخذ منهـا فرشـاً وآلـات كـان يستحسنهـا وجعـل سلامـة الطولوني حاجب المتقي وأقر سليمان بن الحسن وزير الراضي علـى وزارتـه وليـس لـه مـن الوزارة إِلا اسمها وإنما التدبير كله إِلى الكوفي كاتب بجكم‏.‏

قتل ماكان بن كاكي

كان ماكان بن كاكي قد استولى على جرجان فقصده أحد قواد السامانية بعسكر خراسان وهو أبو علي بن محمد بن مظفر بن المحتاج فهزم ماكان عن جرجان فقصد ماكان طبرستان وأقام بها‏.‏

ثم سار أبو علي بن المحتاج المذكور عن جرجان إِلى الري ليستولي عليها وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج فأرسل وشمكير يستنجد ماكان بن كاكي من طبرستان فقدم ماكـان بـن كاكيَ من طبرستان وبقي مع وشمكير وقاتلهما أبو علي بن المحتاج فجاء سهم غرب فوقع فَي رأس ماكان ونفذ من الخوذة إِلى جبينه حتى طلع من قفاه فوقع ماكان بن كاكي ميتاً وهرب وشمكير إِلى طبرستان واستولى أبو علي ابن المحتاج على الري‏.‏

قتل بجكم وفـي هـذه السنة قتل بجكم وكان بجكم قد أرسل جيشاً إِلى قتال أبي عبد الله البريدي‏.‏

ثم سار من واسط في أثرهم فأتاه الخبر بنصرة عسكره وهرب البريدي‏.‏

فقصد الرجوع إِلى واسط وبقي يتصيد في طريقه حتى بلغ نهر جور فسمـع أن هنـاك أكـراداً لهـم مـال وثـروة فشرهـت عينـه وقصدهـم فـي جماعـة قليلـة وأوقـع بهـم فهربوا من بين يدي بجكم وجاء صبي من الأكـراد مـن خلـف بجكم وطعنه برمح فيِ خاصرته ولا يعرفه فمات بجكم من تلك الطعنة‏.‏

ولما بلغ قتله المتقي استولى على دار بجكم وأخذ منها أموالاً عظيمة و أكثرها كانت مدفونة وأتى البريدي الفرج بقتل بجكم من حيث لا يحتسب‏.‏

وكانت مدة إِمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وأيامـاً‏.‏

ولمـا قتـل بجكـم سـار البريـدي إِلـى بغداد واستولى على الأمر أياماً ثم أخرجه العامة عنها لسوء سيرته ثم استولى على الأمر كورتكين مدة قليلة فسار ابن رائق من الشام إلى بغداد واستخلـف علـى الشـام أبـا الحسـن أحمد بن علي بن مقاتل ولما وصل ابن رائق إِلى بغداد جرى بينـه وبيـن كورتكين قتال آخره أن ابن رائق انتصر على كورتكين وهزمه ثم ظفر بعد ذلك ابن رائق بكورتكين وحبسه وقلد المتقي لابن رائق إِمرة الأمراء ببغداد‏.‏

غير ذلك من الحوادث فيها توفي متى بن يونس الحكيم الفيلسوف وبختيشوع بن يحيى الطبيب‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

استيلاء ابن البريدي علي بغداد

وقتل ابن رائق في هذه السنة عاد البريدي فاستولى على بغداد وهرب ابن رائق والخليفة المتقي إِلى جهة الموصل ونهب البريدي بغداد وحصل منه من الجور والظلم والعسف مـا لا زيـادة عليـه ولمـا وصل المتقـي وابـن رائـق إلـى تكريـت كاتبـا ناصـر الدولـة ابـن حمـدان يستمدانـه وقدمـا إِلـى الموصل فخرج عنها ناصر الدولة إِلى الجانب الآخر فأرسل المتقي إِليه ابنه أبا منصور وابن رائق فأكرمهما ناصر الدولة ونثر على ابن الخليفة دنانير ولما قاما لينصرفا أمر ناصر الدولـة أصحابه بقتل ابن رائق فقتلوه‏.‏

ثم سار ابن حمدان إِلى المتقي فخلع المتقي عليه وجعله أمير الأمـراء ولـك فـي مستهل شعبان من هذه السنة وخلع على أخيه أبي الحسن علي ولقبه سيف الدولة وكان قتل ابن رائق يوم الاثنين لسبع بقين من رجب من هذه السنة أعني سنة ثلاثين وثلاثمائة ولما بلغ الأخشيد صاحب مصر قتل ابن رائق سار إلى دمشق فاستولى عليها‏.‏

ثم سار المتقي وناصر الدولة إِلى بغداد فهرب عنهـا ابـن البريـدي ونهـب النـاس بعضهـم بعضـاً ببغداد وكان مقام ابن البريدي ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً ودخل المتقي إِلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة في شوال من هذه السنة‏.‏

ولما استقر ناصر الدولة ببغداد أمر بإِصلاح الدنانير وكان الدينار بعشرة دراهم فبيع الدينار بثلاثة عشر درهماً‏.‏

غير ذلك من الحوادث فيها مات أبو بكر محمد بن عبد الله المحاملي الفقيه الشافعي ومولـده سنـة خمـس وثلاثيـن ومائتيـن‏.‏

وفيهـا توفـي أبـو الحسـن علـي بـن إِسماعيـل بـن أبـي بشـر الأشعـري وكان مولده سنة ستين ومائتيـن ببغـداد ودفـن بمشرعـة الزوايـا ثـم طمس قبره خوفاً عليه لئلا تنبشه الحنابلة وتحرقه فإنهم عزموا على ذلك مراراً عديدة ويردهم السلطان عنه‏.‏

وهو من ولد أبي موسـى الأشعـري وَاشتغل بعلم الكلام على مذهب المعتزلة زماناً طويلاً‏.‏

ثم خالف المعتزلة والمشبهة فكانت مقالته أمراً متوسطاً وناظر أبا علي الجبائي في وجوب الأصلح على الله تعالى فأثبته الجبائي على قواعد مذهبه‏.‏

فقـال الأشعـري مـا تقـول فـي ثلاثـة صبيـة اختـرم اللـه أحدهـم قبـل البلوغ وبقي الاثنان فآمن أحدهما وكفر الآخر ما العلة في اخترام الصغير‏.‏

فقال الجبائي‏:‏ إِنما اخترمه لأنه علم أنه لو بلغ لكفر فكان اخترامه أصلح له‏.‏

فقال له الأشعري‏:‏ فقد أحيا أحدهما فكفر‏.‏

فقال الجبائي‏:‏ إِنما أحياه ليعرضه لأعلى المراتب أي ليبلغ ويصير أهـلاً للتكليـف لـأن الصبـي والحيوان غير مكلف فإِذا أدرك الصبي صار مكلفاً وهي أعلى المراتب لأنها المرتبة الإنسانية‏.‏

فقال الأشعري‏:‏ فلم لا أحيى الذي اخترمه ليعرضه لأعلى المراتب‏.‏

فقال الجبالًي‏:‏ وسوست‏.‏

فقال الأشعري‏:‏ ما وسوست ولكن وقف حمار الشيخ على القنطرة يعني أنه انقطع‏.‏

ثم أظهر الأشعري مذهبه وقرره فصارت مقالتـه أشهـر المقالـات حتـى طبـق الـأرض ذكرهـا ومعظم الحنابلة يحكمون بكفره ويستبيحون دمه ودم من يقول بقوله وذلك لجهلهم وكان أبو علي

ثم دخلت سنة إِحـدى وثلاثيـن وثلاثمائـة

فـي هـذه السنـة سـار ناصـر الدولـة عـن بغداد إِلى الموصل وثارت الديلم ونهبت داره وكان أخوه سيف الدولة بواسط فثارت عليه الأتـراك الذيـن معـه وكبسـوه ليلاً في شعبان فهرب سيف الدولة أبو الحسن علي إِلى جهة أخيه ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان ولحق به ثم قدم سيف الدولة إِلى بغداد وطلب من المتقي مالاً ليفرقه في العسكر ويمنع تورون والأتراك من دخول بغداد فأرسل إِليه المتقي ربع مائة ألف دينار ففرقها في أصحابه ولما وصل تورون إِلى بغداد هرب سيف الدولة عنها ودخـل تـورون بغـداد فـي الخامـس والعشريـن مـن رمضـان في هذه السنة فخلع المتقي عليه وجعله أمير الأمراء وبقيِ المتقي خائفاً من تورون‏.‏

وتورون بتاء مثناة من فوقها مضمومة وواو ساكنة وراء مهملة مضمومة وواو ثم نون هو اسم تركي مشتق من اسم الباطية لأن الباطية اسمها بالتركي تروو بتاء وراء مضمومتين وواين ساكنتين‏.‏

موت نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني وفي هذه السنة توفي أبو السعيد نصر بن أحمد الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر وكـان مرضـه السـل فبقي مريضاً ثلاثة عشر شهراً وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يوماً وكـان عمـره ثمانيـاً وثلاثيـن سنـة وكـان حليمـاً كريماً ولما مات نصر بن أحمد تولى بعده ابنه نوح بن غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أرسل ملك الروم يطلب من المتقي منديلاً زعم أن المسيح مسح به وجهـه فصـارت صـورة وجهـه فيه وأن هذا المنديل في بيعة الرها وأنه إن أرسله أطلق عدداً كثيراً من أسرى المسلمين فأحضر المتقي القضاة والفقهاء واستفتاهم في ذلك فاختلفوا‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ ادفعه إِليهم وإطلاق الأسرى أولى‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إِن هذا المنديل لم يزل في بلاد الإسلام ولم يطلبـه ملـك الـروم منهـم ففـي دفعـه إليهـم غضاضة وكان في الجماعة علي بن عيسي الوزير فقال‏:‏ إِن خلاص المسلمين من الأسر والضنك أولى من حفظ هذا المنديل فأمر الخليفة بتسليمه إليهم وأرسل من تسلم الأسرى فأطلقوا‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي محمـد بـن إِسماعيـل الفرغانـي الصوفي أستاذ أبي بكر الدقاق وهو مشهور بيـن المشايـخ‏.‏

وفيهـا مـات سنـان بـن ثابـت بـن قـرة بعلـة الـذرب وكـان حاذقـاً فـي الطـب ولـم يغن عنه شيئا عند دنو الأجل‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة

فيها سار المتقي عن بغداد خوفاً من تورون وابن شيرزاد إِلى جهة ناصر الدولة بالموصل وانحدر سيف الدولة إلى ملتقى المتقي بتكريت ثم انحدر ناصر الدولة إِلى تكريت وأصعد الخليفة إلى الموصل ثم سار الخليفة وبنو حمدان إِلى الرقة فأقاموا بها وظهر للمتقي تضجر بني حمدان منه وإيثارهم مفارقته فكتب إِلى تورون يطلب الصلح منه ليقدم إلى بغداد وخرجت السنة على ذلك‏.‏

غير ذلك من الحوادث فـي هـذه السنة خرجت طائفة من الروس في البحر وطلعوا من البحر في نهر الكر فانتهوا إِلى مدينـة برْدَعَـة فاستولـوا علـى بردعـة وقتلـوا ونهبوا ثم عادوا في المراكب إِلى بلادهم‏.‏

وفيها مات أبو طاهر القرمطي رئيس القرامطة بالجدري وفيها كان ببغداد غلاء عظيم‏.‏

وفيها استعمل ناصر الدولة بن حمدان محمد بن علي بن مقاتل على قنسرين والعواصم وحمص‏.‏

ثم استعمل بعده في السنة المذكورة ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان على ذلك‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

مسير المتقي إِلى بغداد وخلعه كان قـد كتـب المتقـي إِلـى الإخشيـد صاحـب مصـر يشكـو إِليـه حالـه ومـا هـو فيـه فسـار الإخشيد من مصر إِلى حلب ثم إِلى الرقة واجتمع بالمتقي وحمل إِليه هدايا عظيمة واجتهد بالمتقـي أن يسيـر معـه إِلـى مصـر أو الشـام ليكـون بيـن يديـه فلم يفعل ثم أشار عليه بالمقام في الرقة وخوفه من تورون فلم يفعل وكان قد أرسل المتقي إِلى تورون في الصلح كما ذكرناه فحلف تـورون للمتقي على ما أراد فانحدر المتقي لأربع بقين من المحرم إِلى بغداد وعاد الإخشيد إِلى مصـر ولمـا وصـل المتقـي إِلى هيت أقام بها وأرسل فجدد اليمين على تورون وسار تورون عن بغـداد لملتقـى الخليفة‏.‏

فالتقاه بالسندية ووكّل عليه حتى أنزله في مضربه ثم قبض تورون على المتقي وسمله وأعمى عينيه فصاح المتقي وصاح مـن عنـده مـن الحـرم والخـدم فأمـر تـورون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهن وانحدر تورون بالمتقط إلى بغـداد وهـو أعمـى وكانـت خلافـة المتقـي للـه وهـو إبراهيـم بـن جعفر المقتدر بن المعتضد ثلاث سنين وخمسة أشهر وعشرين يوماً وأمه أم ولد اسمها خلوب‏.‏