الفصل الثامن: خلع المطيع وخلافة ابنه الطايع

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

خلع المطيع وخلافة ابنه الطايع

كـان بختيار قد سار إِلى الأهواز وتخلف سبكتكين التركي عنه ببغداد فأوقع بختيار بمن معه من الأتراك واحتاط على إِقطاع سبكتكين فخرج عليه سبكتكين ببغداد فيمن بقي معه من الأتراك ونهب دار بختيار ببغداد ولمـا حكـم سبكتكيـن رأى المطيـع عاجـزاً مـن المـرض وقـد ثقل لسانه وتعذرت الحركة عليه وكان المطيع يستر ذلك فلما انكشف لسبكتكين دعاه إِلى أن يخلع نفسه من الخلافة ويسلمها إِلى ولده الطايع فأجـاب إِلـى ذلـك وخلـع المطيـع للـه المفضـل نفسه في منتصف ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام‏.‏

وبويع الطايع لله وهو رابع عشرينهم واسمه عبد الكريم بن المفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بن المعتضد أحمد وكنية الطايع المذكور أبو بكر واستقر أمره‏.‏

أحوال المعز العلوي

وفي هذه السنة سارت القرامطة إِلى ديار مصر وجرى بينهم وبين المعز حروب آخرها أن القرامطة انهزمت وقتل منهم خلق كثير وأرسل المعز في أثرهم عشرة آلاف فارس فسارت القرامطة إِلى الإِحساء والقطيف ولما انهزمت القرامطة وفارقـوا الشـام أرسـل المعـز لديـن اللـه القائـد ظالـم بـن موهـوب العقيلـي إِلـى دمشـق فدخلهـا وعظـم حالـه وكثـرت جموعـه‏.‏

ثـم وقع بين أهل دمشـق والمغاربـة وعاملهـم المذكـور فتن كثيرة وأحرقوا بعض دمشق وعامت الفتن بينهم إِلى سنة أربع وستين وثلاثمائة‏.‏

حال بختيار لما جرى لبختيار وسبكتكين والأتراك ما ذكرناه انحدر سبكتكين بالأتراك إِلى واسط وأخذوا معهم الخليفة الطايع والمطيع وهو مخلوع فمات المطيع بديـر العاقـول ومـرض سبكتكيـن ومـات أيضاً وحملا إِلى بغداد وقدم الأتراك عليهم أفتكين وهو من أكابر قوادهم وساروا إِلى واسط وبها بختيار فنزلوا قريباً منه ووقع القتال بين الأتراك وبختيار قريب خمسين يوماً والظفر للأتراك ورُسُل بختيار متتابعة إِلى ابن عمه عضد الدولة بالحث والإسراع وكتب إِليه‏:‏ فإِن كنتُ مأكولاً فكن أنت آكلي وإلا فأدركنـي ولما أمزق فسـار عضـد الدولة إِليه وخرجت هذه السنة والحال على ذلك‏.‏

وفي هذه السنة انتهى تاريخ ثابت بن قره وابتدأه من خلافة المقتدر سنة خمس وتسعين ومائتين‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة

والقبض على بختيار في هذه السنـة سـار عضـد الدولـة بعساكـر فـارس لمـا أتـاه مكاتبـات بختيار كما ذكرناه فلما قارب واسط رجع أفتكين والأتراك إِلى بغداد وصار عضد الدولة مـن الجانـب الشرقـي وأمـر بختيـار أن يسيـر في الجانب الغربي إِلى نحو بغداد وخرجت الأتراك من بغداد وقاتلوا عضد الدولة فانهزمت الأتراك وقتل بينهم خلق كثير وكانت الوقعة بينهم رابع عشـر جمادى الأولى من هذه السنة وسار عضد الدولة فدخل بغداد وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة معهم فرده عضد الدولة إِلى بغداد فوصل الخليفة إِلى بغداد في الماء ثامن رجب من هذه السنة‏.‏

ولمّا استقر عضد الدولة ببغداد شغبت الجند على بختيار يطلبون أرزاقهم ولم يكن قد بقي مع بختيار شيء من الأموال فأشار عضد الدولة على بختيار أن يغلق بابه ويتبرأ من الإمرة ليصلح الحال مع الجند‏.‏

ففعل بختيار ذلك وصرف كتابه وحجابه فأشهد عضد الدولة الناس على بختيار أنه عاجز وقد استعفى من الإمرة عجزاً عنها ثم استدعى عضد الدولة بختيار وأِخوته إِليه وقبض عليهم في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة واستقر عضد الدولة ببغداد وعظم أمر الخليفة وحمل إِليه مالاً كثيراً وأمتعة‏.‏

عود بختيار إلى ملكه لما قبض بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة متولياً لها فلما بلغه قبض والده كتب إِلى ركن الدولة يشكو إليه ذلك فلما بلغ ركن الدولة ذلك عظم عليه حتى ألقى نفسه إلـى الـأرض وامتنع عن الأكل والشرب حتى مرض وأنكر على عضد الدولة أشد الإِنكار‏.‏

فأرسل عضد الدولة يسأل أباه في أن يعوض بختيار مملكة فارس فأراد ركن الدولة قتل الرسول وقال‏:‏ إِن لم يعـد بختيار إِلى مملكته وإلا سرت إِليه بنفسي وكان قد سيّر عضد الدولة أبا الفتح بن العميد إِلى والده ركن الدولة أيضاً في تلطيف الحـال فـرده ركـن الدولـة أقبـح رد فلمـا رأى عضـد الدولة اضطراب الأمور عليه بسبب غضب أبيه اضطر إلى امتثال أمره فأخرج بختيار من محبسـه وخلـع عليـه وأعـاده إِلـى ملكه وسار عضد الدولة إِلى فارس في شوال من هذه السنة‏.‏

استيلاء أفتكين على دمشق

كان أفتكين من موالي معز الدولة بن بويه وكان تركياً فلما انهزم من بختيار عند قدوم عضد الدولة حسبما ذكرناه سار إلى حمص ثـم إِلـى دمشـق وأميرهـا ريـان الخـادم مـن جهـة المعـز العلوي فاتفق أهل دمشق مع أفتكين وأخرجوا ريان الخادم وقطعوا خطبة المعز في شعبان واستولى أفتكين على دمشق فعزم المعز العلوي على المسير من مصر إِلى الشام لقتال أفتكين فاتفـق مـرت المعـز فـي تلـك الأيـام على ما نذكره وتولى ابنه العزيز فجهز القائد جوهراً إِلى الشام‏.‏

فوصـل إلـى دمشـق وحصـر أفتكيـن بهـا فأرسـل أفتكيـن إِلـى القرامطـة فسـاروا إِلـى دمشق فلما قربوا منها رحل جوهر عائداً إلى جهة مصر فسار أفتكين والقرامطة في أثره واجتمع معهم خلق عظيم فلحقوا جوهراً قرب الرملة فرأى جوهر ضعفـه عنهـم فدخـل عسقلـان فحصـروه بهـا حتى أشرف جوهر وعسكره على الهلاك من الجوع فراسل جوهر أفتكين وبـذل لـه أمـوالاً عظيمة في أن يمن عليه ويطلقه فرحل عنه أفتكين‏.‏

وسار جوهر إِلى مصر وأعلـم العزيـز بصـورة الحـال فخـرج العزيـز بنفسـه وسـار إِلـى الشـام فوصل إِلى ظاهر الرملة وسار إِليه أفتكين والقرامطة والتقوا وجرى بينهم قتال شديد وانهزم أفتكين والقرامطة وكثر فيهم القتل والأسر وجعل العزيز لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار وتم أفتكين هارباً حتى نزل ببيت مفرج بن دغفل الطائي فأمسكه مفرج بن دغفل المذكور وكان صاحب أفتكين وحضر مفرج إلى العزيز وأعلمه بأسر أفتكين وطلب منه المال فأعطاه مـا ضمنـه وأرسـل معه من أحضر أفتكين فلما حضر أفتكين ممسوكاً بين يدي العزيز أطلقه ونصب له خيمة وأطلق من كان في الأسر من أصحابه وحمل العزيز إِليه أموالاً وخلعاً ثم عاد العزيز إِلى مصر وأفتكين صحبته على أعظم ما يكون من المنزلة وبقي كذلك حتى مات أفتكين بمصر‏.‏

وفاة المعز العلوي وولاية ابنه العزيز

في هـذه السنـة توفـي المعـز لديـن اللـه أبـو تميـم معـد بـن المنصـور باللـه إِسماعيـل ابـن القائـم بأمـر اللـه أبـي القاسـم محمـد بـن المهـدي عبيـد اللـه العلـوي الحسينـي بمصـر فـي سابـع عشـر ربيـع الـأول وولد بالمهدية من إِفريقية حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة فيكون عمره خمساً وأربعين سنة وستة أشهر تقريباً وكان مغواً بالنجوم ويعمل بأقوال المنجميـن وكـان فاضـلا ولمـا مـات المعز أخفى العزيز ابنه موته وأظهره في عيد النحر من هذه السنة وبايعه الناس‏.‏

غير ذلك من الحوادث فـي أواخـر هـذه السنـة وأول التـي بعدهـا سـار أبـو القاسـم بـن الحسـن بـن علي بن أبي الحسين أمير صقلية إِلـى الغـزوة ففتـح مدينـة مسينـة ثـم عـدى إِلـى كتنـه ففتحهـا وفتـح قلعـة جلـوى وبـث سرايـاه فـي نواحي قلورية وغنم وسبى وفتح غير ذلك من تلك البلاد‏.‏

وفيها خطب للعزيز العلوي بمكة‏.‏

وفيها توفي ثابت بن سنان ابـن قـرة الصابـي صاحـب التاريـخ‏.‏

وفيهـا وقيـل بـل فـي سنـة سـت وستيـن وثلاثمائـة وقيـل فـي سنـة سـت وثلاثيـن وثلاثمائـة توفـي أبو بكر واسمه محمد بن علي بن إِسماعيل القفـال الشاشـي الفقيـه الشافعـي إِمـام عصـره لـم يكن بما وراء النهر في وقته مثله رحل إِلى العراق والشام والحجاز وأخذ الفقه عن ابن سريج وروى عن محمد بن جرير الطبري وأقرانه وروى عنه الحاكم بن منده وجماعة كثيرة وأبو بكر القفال المذكور هو والد قاسم صاحب كتاب التقريـب الـذي ينقل عنه في النهاية والوسيط والبسيط وذكره الغزالي في الباب الثاني من كتاب الرهن كنه قال أبو القاسم وهو غلط وصوابه القاسم وهذا التقريب غير التقريب الذي لسليم الـرازي فـإِن التقريـب الـذي للقاسـم بـن القفـال الشاشـي قليل الوجود بخلاف تقريب سليم الـرازي‏.‏

والشاشـي منسـوب إِلـى الشـاش وهـي مدينة وراء نهر سيحون في أرض الترك وأبو بكر محمد الشاشي المذكور غير أبي بكر محمد الشاشي صاحـب العمـدة والكتـاب المستظهـري الذي سنذكره إِن شاء الله تعالى في سنة سبـع وخمـس مائـة المتأخـر عـن الشاشـي القفـال المذكور‏.‏

ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة

 وفاة ركن الدولة

وملك عضد الدولة فـي هـذه السنـة في المحرم توفي ركن الدولة الحسن بن بويه واستخلف على مماليكه ابنه عضد الدولة وكان عمر ركن الدولة قد زاد على سبعين سنة وكانت إمارته أربعاً وأربعين سنة وأصيب به الدين والدنيا جميعاً لاستكمال خلال الخيـر فيـه وعقـد لولـده فخـر الدولـة علـى همدان وأعمال الجبل لولده مزيد الدولة على أصفهان وأعمالها وجعلهما تحت حكم أخيهما مسير عضد الدولة إِلى العراق وفيها بعد وفاة ركن الدولة سار عضد الدولة إِلى العراق فخرج بختيار إِلى قتاله فاقتتلا بالأهـواز وخامـر أكثـر جيـش بختيـار عليـه فانهـزم بختيـار إِلـى واسـط وبعـث عضـد الدولـة عسكراً فاستولوا على البصرة ثم سار بختيار إِلى بغداد وسار عضد الدولة إلى البصـرة وتلك النواحي وقرر أمورها واستمر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة‏.‏

ابتداء دولة آل سبكتكين

وفي هذه السنة ملك سبكتيكين مدينة غزنة‏.‏

وكان سبكتكين من غلمان أبي إِسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة للسامانية وكان سبكتكين مقدماً عند مولاه أبي إِسحاق لعقله وشجاعته فلما مات أبو إِسحاق ولم يكن له ولد اتفق العسكر وولوا سبكتكين عليهم لكمال صفات الخير فيه وحلفوا له وأطاعوه ثم إِن سبكتكين عظم شأنه وارتفع قدره وغزا بلـاد الهند واستولى على بُسْت وفصْدار‏.‏

غير ذلك من الحوادث فيهـا مـات منصـور بـن نـوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان صاحب خراسان وما وراء النهر في منتصف شوال في بخارى وكانت ولايته نحو خمس عشرة سنة وولـي الأمـر بعـده ابنـه نـوح بـن منصور وعمره نحو ثلاث عشرة سنة وفيها مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي قضاة الأندلس وكان إِماماً فقيهـاً خطيبـاً شاعـراً ذا ديـن متيـن وفيهـا قبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميد وزير أبيه وسمل عينه الواحدة وقطع أنفه وكان أبو الفتح ليلة قبض قد أمسى مسروراً وأحضر ندماءه وأظهر من الآلـات الذهبيـة والزجـاج المليح وأنواع الطيب ما ليس لأحد مثله وشربوا وعمل شعراً وغني له به وهو‏:‏ دعـوت المنى ودعوتُ العلى فلما أجابا دعـوتُ القَـدَح وقلت لأيام شرخ الشبابِ إِلي فهذا أوان الفرح إِذا بلـغ المـرء آماله ليس له بعدها مقترح فطاب عليه وشرب حتى سكر ونام فقبض عليه في السحر من تلك الليلة‏.‏

وفاة الحكم الأموي صاحب الأندلس

الملقب بالمستنصر فـي هـذه السنـة‏.‏

توفـي الحكم بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمـن بـن الحكـم بـن هشـام بـن عبـد الرحمـن الداخـل بـن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي صاحب الأندلس وكانت إِمارته خمسٍ عشرة سنة وخمسة أشهر وعمره ثلاثاً وستين سنة وسبعة أشهر وكان فقيهاً عالماً بالتاريخ وغيره وعهد إِلى ابنه هشام بن الحكم وعمره عشر سنين ولقبه المؤيد بالله فلما مات بايع الناس ابنه هشاماً ولما بويع المؤيد هشام بالخلافة وكـان عمـره عشـرة أعـوام فتولـى حجابته وتنفيذ أموره أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر محمد ابن الوليد بن يزيد المعافري القحطاني ويلقب أبو عامر المذكور بالمنصور واستولى على الدولة وحجب المؤكد ولم يترك أحداً يصل إِليه ولا يراه واستبد بالأمر وأصل المنصور بن أبي عامر المذكور من الجزيرة الخضراء من الأندلس من قرية مـن أعمالهـا تسمـى طـرش واشتغـل المنصور بالعلوم في قرطبة وكانت له نفس شريفة فبلغ معالي الأمور واجتمعت عنده الفضلاء وأكثر الغزو والجهاد في الفرنج حتى بلغت عدة غزواتـه نيفـاً وخمسيـن غـزوة ومـن عجائـب الاتفاقـات أن صاعد بن الحسن اللغوي أهدى إِلى المنصور المذكور أيلاً مربوطاً في رقبته بحبل وأحضر مع الأيل أبياتاً يمتدح المنصور فيها وكان المنصـور قـد أرسـل عسكـراً لغـزو الفرنـج وملكهم إِذ ذاك اسمه غرسية بن سانجة والأبيات كثيرة منها‏:‏ عبـد نشلـت بضبعـه وعرستـه في نعمة أهدى إليك بأيل سمتـه غرسية وبعثته فـي حبله ليتاح فيه تفاؤلي فلأن قبلت فتلك أسنـى نعمـة أسـدى بهـا ذو منحـة وتطول فقضـى اللـه فـي سابـق علمـه أن عسكـره أسـروا غرسيـة فـي ذلـك اليـوم الـذي أُهدي فيه الأيل بعينه وكان أسـر غرسيـة‏.‏

وهـذه الواقعـة فـي ربيـع الآخـر سنـة خمـس وثمانيـن وثلاثمائـة وبقـي المنصـور علـى منزلته حتى توفي في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

عود شريف إلى ملك حلب فيها عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة إِلى ملك حلب وسببه أنه لما جرى بين قرعويه وبيـن أبي المعالي ما قدمنا ذكره من استيلاء قرعويه على حلب ومقام أبي المعالي بحماة وصل إِلـى أبـي المعالـي وهو بحماة مارقطاش مولى أبيه من حصن برزية وخدمه وعمر له مدينة حمص بعـد ما كان قد أخربها الروم وكان لقرعويه مولى يقال له بكجور وقد جعله قرعويه نائبه فقوي بكجور واستفحل أمره وقبض على مولاه قرعويه وحبسه في قلعة حلب واستولى بكجور على حلب وكاتب أهلها أبا المعالي فسار أبو المعالي إِلى حلب وأنزل بكجور بالأمان وحلف له أنه يوليه حمص فنزل بكجور وولاه أبو المعالي حمص واستقر أبو المعالي مالكاً لحلب‏.‏

غير ذلك فـي هـذه السنـة توفـي بهستـون بـن وشمكيـر بجرجـان واستولـى على طبرستان وعلى جرجان أخره قابوس بن وشمكير بن زيار‏.‏

وفيها توفي يوسف بن الحسن الجنابي القرمطي صاحب هجر ومولده سنة ثمانين ومائتين وتولى أمر القرامطة بعده سنة نفر شركة وسموا السادة‏.‏

 استيلاء عضد الدولة على العراق

وغيره وقتل بختيار وفي هذه السنة سار عضد الدولة إِلى العراق‏.‏

وكتب إِلى بختيار يقول له اخرج عن هذه البلاد وأنا أعطيك أي بلاد اخترت غيرها‏.‏

فمال بختيار إِلى ذلك وأرسل له عضـد الدولـة خلعة فلبسها وسار بختيار إلى نحو الشام ودخل عضد الدولة بغداد واستقر فيها وقتل ابن بقية وزير بختيار وصلبه ورثاه أبر الحسن الأنباري بقصيدته المشهورة التي منها‏:‏ علـو في الحياة وفي الممات لحق أنت إِحدى المعجزات كأن الناسَ حولك حيـن قامـوا وفود نـداك أيـام الصلـات مَـدَدْتَ يديكَ نحوهم اقتفاء كمدهما إِليهم في الهباتِ ولما ضاق بطن الأرض عن أن يضـم علـاك من بعد الممات أصاروا الجـو قبـرك واستنابـوا الأكفان ثوب السافياتِ لعظمك في النفوس تبيتُ ترعى بحـراس وحفـاظ ثقـات وتشعل عندك النيران ليلا كذلـك كنـت أيام الحياةِ وسار مع بختيار حمدان بن ناصر الدولة فأطمعه حمدان في ملك الموصل وحسن له ذلك وهون عليه أمر أخيه أبي تغلب فسـار بختيـار إِلـى جهـة الموصـل فأرسـل أبـو تغلـب يقـول لبختيار‏:‏ إِن سلمت إِليّ أخي حمدان صرت معك وقاتلت عضد الدولة وأخرجته من العراق فقبض بختيار على حمدان وحبله وسلمه إِلى أخيه أبي تغلب وارتكب فيه من الغدر أمراً شنيعاً فحبسه أخوه أبو تغلب واجتمع أبو تغلب بعساكره مع بختيار وقصدا عضد الدولة فخرج عضد الدولة من بغداد نحوهما والتقوا بقصر الجص من نواحي تكريت ثامن شوال من هذه السنة فهزمهما عضد الدولة وأمسك بختيار أسيراً فقتلـه ثـم سـار عضـد الدولـة نحـو الموصل فملكها وهرب أبو تغلب إِلى نحو ميافارقين فأرسل عضد الدولة جيشاً في طلبه ومقدمهـم أبـو الوفـاء فلمـا وصلـوا إِلـى ميافارقين هرب أبو تغلب إلى بدليس وتبعه عسكر عضد الدولة فهرب إلى نحو بلاد الروم‏.‏

فلحقه العسكر وجرى بينهم قتال فانتصر أبو تغلب وهزم عسكـر عضـد الدولة ثم سار أبو تغلب إِلى حصن زياد ويعرف الآن بخرت برت ثم سار إلى آمد وأقام بها وفيها توفي ظهير الدولة بهستون ابن وشمكير وملك بعده أخوه شمس المعالي قابوس بن وشمكير‏.‏

وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة البغدادي وكان قاضي السندية وغيرها مـن أعمـال بغـداد وكـان إِحـدى عجائـب الدنيـا في سرعة البديهة بالجواب عن جميع ما يسأل عنه فـي أفصـح لفـظ وأملـح سجَع‏.‏

وكان مختصاً بصحبة الوزير المهلبي وكان رؤساء العصر يلاعبونه ويكتبون إِليه المسائل المضحكة فيكتب الجواب من غير توقف وكان الوزير المهلبي يغري به جماعة يضعون له الأسئلة الهزلية ليجيب عنها فمن ذلك ما كتب إليه به العباس بن المعلى الكاتب ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنى بنصرانية فولدت ولداً جسمه للبشر ووجهه للبقر وقد قبض عليهما فما يرى القاضي فيهما فكتب الجواب بديهاً‏:‏ هذا من أعدل الشهود على اليهود بأنهم شربوا العجل في صدورهم فخرج من أيورهم وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل ويصلـب علـى عنـق النصرانيـة السـاق مـع الرجـل ويسحبـا علـى الـأرض وينادى عليهما ظلماتٌ بعضها فوق بعض والسلام‏.‏

والسندية‏:‏ قرية على نهر عيسى بين بغداد والأنبار وينسب إِليها سندواني ليحصل الفرق بين النسبة إِليها وبين النسبة إِلى بلاد السند‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة

فيها فتح أبو الوفا مقدم عسكر عضد الدولة ميافارقين بالأمان فلما سمع أبو تغلب بفتحها سار عن آمد نحو الرحبة ثم سار عسكر عضد الدولة مع أبي الوفاء ففتحوا آمد واستولى عضد الدولة على جميع ديار بكر ثم استولى على ديار مضر - بالضاد المعجمة - والرحب ولما استولى عضد الدولة على جميع مملكة أبي تغلـب واستخلـف أبـا الوفـاء علـى الموصـل وسـار عضد الدولة ودخل بغداد‏.‏

وأما أبو تغلب فإنه سار إِلى دمشق وكان قد تغلب على دمشق قسام وهو شخص كان يثـق إِليـه أفتكيـن ويقدمـه فاستولى قسام على دمشق وكان يخطب فيها للعزيز صاحب مصر فلما وصل أبو تغلب إِلى دمشق قاتله قسام ومنعه من دخول دمشق فسار أبو تغلب إلى طبرية‏.‏

غير ذلك من الحوادث في هـذه السنـة توفـي القاضـي أبـو سعيـد الحسـن بـن عبـد اللـه السيرافـي النحـوي مصنـف شـرح كتـاب سيبويه وكان فاضلا فقيهاً مهندساً منطقياً وعمره أربع وثمانْون سنة وولي بعده أبو محمد بن معروف الحكم بالجانب الشرقي ببغداد‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة

مقتل أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان

كـان أبـو تغلـب قـد سـار عـن دمشـق إِلى طبرية كما ذكرناه ثم سار إِلى الرملة في المحرم من هذه السنة وكان بتلك الجهـة دغفـل بـن مفـرج الطائـي وقائـد مـن قـواد العزيـز اسمـه الفضـل ومعـه عسكـر قـد جهـزه العزيـز إِلـى الشـام فسـاروا لقتـال أبـي تغلـب ولم يبق مع أبي تغلب غير سبع مائة رجل من غلمانه وغلمان أبيه فولى أبو تغلب منهزماً وتبعوه فأخذوه أسيراً فقتله دغفل وبعث برأسه إِلى العزيز بمصر وكان معه أخته جميلة بنت ناصر الدولة وزوجته بنت عمه سيف الدولة فحملهما بنو عقيل إلى حلب وبها ابن سيف الدولة فترك أخته عنده وأرسل جميلة وفاة عمران بن شاهين صاحب البطيحة وأخباره وولاية ابنه الحسن بن عمران كـان عمران بن شاهين من أهل بلدة تسمى الجامدة فجنى جنايات وخاف من السلطان فهرب إِلى البطيحة وأقام بين القصب والآجام واقتصر علـى مـا يصيـده مـن السمـك وطيـور المـاء واجتمع إليه جماعة من الصيادين واللصوص فقوي بهم فلما استفحـل أمـره واشتـدت شوكتـه اتخـذ لـه معاقـل علـى التلـال التـي بالبطيحـة وغلـب علـى تلـك النواحـي واستولـى عليهـا في سنة ثمان وثلاثيـن وثلاثمائـة فـي أيـام معـز الدولـة فأرسـل إِلـى قتالـه معـز الدولـة العسكـر مـرة ثم أخرى فلم يظفر به ومات معز الدولة وعسكره محاصر عمران المذكور وتولى بختيار فأمر العسكر بالعود إِلى بغـداد فعـادوا ثـم جرى بين بختيار وبين عمران عدة حروب فلم يظفر منه بشيء وطلبه الملوك والخلفـاء وبذلـوا جهدهـم بأنـواع الحيـل فلـم يظفـروا منـه بشـيء ومات في مملكته في هذه السنة في المحرم فجأة حتف أنفه وكانت مدة ولايته من حين ابتداء أمره قريب أربعين سنة ولما مات تولـى مكانـه علـى البطيحـة ابنـه الحسـن بـن عمـران بـن شاهيـن فطمع فيه عضد الدولة وأرسل إِليه عسكراً ثم اصطلحوا على مال يحمله الحسن بن عمران إِلى عضد الدولة في كل سنة‏.‏

غير ذلك من الحوادث فـي هـذه السنـة سار عضد الدولة إِلى بلاد أخيه فخر الدولة لوحشة جرت بينهما فهرب فخر الدولة ولحق بشمس المعالي قابوس بن وشمكير فأكرمه قابوس إِلى غاية ما يكون وملك عضد الدولة بلاد أخيه فخر الدولة علي وهي همدان والري وما بينهما من البلاد ثم سار عضد الدولـة إِلـى بلـاد حسنويـه الكـردي فاستولى عليها أيضاً ولحق عضد الدولة في هذه السفرة صرع فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إِلا بعد جهد وكتم ذلك أيضَاً وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد‏.‏

وفي هذه السنة أرسل عضد الدولة جيشاً إِلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فأوقع بهم وحاصرهم فسلموا قلاعهم إِليه ونزلوا مع العسكر إِلـى الموصـل وفيهـا تـزوج الطائـع للـه ابنـة عضـد الدولـة‏.‏

وفيهـا توفـي الحسيـن بـن زكريـا اللغـوي صاحـب كتـاب المجمـل فـي اللغة وغيره‏.‏

وفيها توفي ثابت بن إِبراهيم الحرافي المتطبب الصابي وكان حاذقَاً في الطب‏.‏

ثم دخلت سنة سبعيـن وثلاثمائـة

فيهـا توفي الأحدب المزور كان يكتب على خط كل أحد فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه وكان عضد الدولة يوقع بخطه بين الملوك الذين يريد الإِيقاع بينهم بمـا يقتضيـه الحـال فـي الإفسـاد بينهـم‏.‏

وفيهـا ورد علـى عضـد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة من العنبر وزنها ستة وخمسون رطلاً بالبغدادي‏.‏

وفيهـا توفـي الأزهـري أبـو منصـور محمـد بـن أحمد بن الأزهر بن طلحة اللغوي الإمام المشهور كان فقيهاً شافعي المذهب فغلبت عليه اللغة واشتغل بها وصنف في اللغة كتاب التهذيب ويكون أكثـر مـن عشـرة مجلـدات ولـه تصنيـف فـي غريـب الألفاظ التي يستعملها الفقهاء‏.‏

وولد سنة اثنتين وثمانين ومائتين والأزهري منسوب إِلى جده الأزهر‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى وسبعيـن وثلاثمائـة

وفيهـا استولـى عضـد الدولـة علـى بلـاد جرجـان وطبرستـان وأجلـى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير ومعه فخر الدولة علي أخو عضد الدولة وكـان ذلـك بسبب أن عضد الدولة طلب من قابوس أن يسلم إليه أخاه فخر الدولة علياً فامتنع قابـوس عـن ذلـك‏.‏

وفيهـا قبـض عضـد الدولـة علـى القاضي المحسن بن علي التنوخي الحنفي وكان شديد التعصب على الشافعي يطلق لسانه فيه‏.‏

وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إِسحاق إِبراهيم الصابي وكان قد قبض عليه سنة سبع وستين بسبب أنه كان ينصح في المكاتبات لصاحبه بختيار وهذا من العجب فإنه ما ينبغي أن تجعل مناصحة الإنسان لصاحبه وعـدم مخامرته ذنباً‏.‏

وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابـن الباقلانـي إِلـى ملـك الـروم فـي جـواب رسالـة وردت عليه منه‏.‏

وفيها توفي أبو بكر أحمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل الإِسماعيلي الفقيه الشافعي الجرجاني والإمام محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي الفقيه الشافعي وكان عالماً بالحديث وغيره وروى صحيح البخاري عن الفريري‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وسيعين وثلاثمائة

في هذه السنة سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر جيشـاً مـع بكتكيـن إِلـى الشـام فوصلـوا إِلـى فلسطيـن وكـان قد استولي عليها مفرج بن الجراح وكثر جمعه فجرى بينهم قتال شديد فانهزم ابن الجراح وجماعته وكثر القتل والنهب فيهم ثم سار بكتكين إِلى دمشق فقاتله قسام المتولي عليها فغلبه بكتكين وملك دمشـق وأمسـك قسامـاً وأرسله إِلى العزيز بمصر واستقر بدمشق وزالت الفتن‏.‏

 وفاة عضد الدولة

في ثامن شوال من هذه السنة مات عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة حسن بن بويه بمعاودة الصرع مرة بعد أخرى وحمل إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدفن به وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفاً وكان عمره سبعاً وأربعين سنة وقيل إِنه لما احتضر لـم ينطـق لسانـه إِلا بتلـاوة ‏)‏مـا أغنـى عنـي ماليه هلك عني سلطانيه( وكان عاقلا فاضلا حسن السياسـة شديـد الهيبـة وهـو الـذي بنى على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم سوراً وله شعر فمنه أبيات منها بيت لم يفلح بعده والأبيات هي‏:‏

ليس شرب الراح إِلا في المطـر

**

وغناء مـن جـوار فـي السحـر

غانيات سالبات للنهى

**

ناغمـات فـي تضاعيـف الوتر

عضد الدولة وابن ركنها

**

ملك الأملاك غلابُ القدر

وكان عضد الدولة محباً للعلوم وأهلها فقصده العلماء مـن كـل بلـد وصنفـوا لـه الكتـب منهـا الإيضـاح فـي النحـو والحجـة فـي القـراءات والملكـي فـي الطـب والتاجـي فـي تاريـخ الديلـم‏.‏

وغيـر ذلـك ولما توفي عضد الدولة اجتمـع القـواد والأمـراء علـى ولـده‏.‏

كاليجـار المرزبـان فبايعـوه وولـوه الإمارة ولقبوه صمصام الدولة وكان أخوه شرف الدولة شيرزبـك بـن عضـد الدولـة بكرمـان فلما بلغه موت أبيه سار إِلى فارس وملكها وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة‏.‏

غير ذلك من الحوادث فيها قَتَل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين أخاه الحسـن بـن عمـران صاحـب البطيحـة واستولى أبو الفرج عليها‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة

وفي هذه السنة توفي مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة حسن بن بويه بالخوانيق وكان قد أقره أخوه عضد الدولة على ما كان بيده وزاد عليه مملكة أخيهمـا فخـر الدولة وكان عمر مؤيد الدولة ثلاثاً وأربعين سنة وكان أخوه فخر الدولة علي مع قابوس بن وشمكير بن زيار كما ذكرناه فلما مات مؤيد الدولة اتفق قواد عسكره على طاعة فخر الدولة وكتبوا إِليه وسار فخر الدولة علي إِليهم وعاد إِلى ملكه واستقر فيه بغير منة لأحـد ولا قتـال وذلـك في رمضان هذه السنة ووصلت إِلى فخر الدولة الخلع من الخليفة والعهد بالولاية‏.‏

ولاية بكجور دمشق

كنا قد ذكرنا أن بكجور مولى قرعويه قبض على أستاذه قرعويه وملك حلب ثم سار أبو المعالـي سعـد الدولـة بـن سيف الدولة بن حمدان فأخذ حلب من بكجور وولاه حمص إِلى هذه السنة فكاتب العزيز صاحب مصر وسأله في ولاية دمشق فأجابه العزيز إِلى مصر فسلمها إِلى بكجور في رجب واستقر بكجور في ولاية دمشق وأساء السيرة فيها‏.‏

غير ذلك من الحوادث وفيهـا اتفـق كبـراء عسكـر عمـران بـن شاهيـن فقتلـوا أبـا الفرج محمد بن عمران لسوء سيرته وأقاموا أبـا المعالـي بـن الحسـن بـن عمـران بـن شاهيـن وكـان صغيـراً فدبر أمره المظفر بن علي الحاجب وهو أكبـر قـواد جـده عمـران ثـم بعد مدة أزال المظفر الحاجب المذكور أبا المعالي وسيره هو وأمه إِلى واسط واستولى المظفر المذكور على ملك البطيحة واستقل فيها وانقـرض بيـت عمـران بـن شاهيـن‏.‏

وفيهـا فـي ذي الحجـة توفـي يوسـف بلكيـن بـن زيـري أميـر إِفريقيـة وتولـى بعـده ابنـه المنصـور ابن يوسف بن زيري وأرسل إِلى العزيز بالله هدية عظيمة قيمتها ألف ألف دينار‏.‏

ثم دخلت سنة أربـع وسبعيـن وثلاثمائـة

في هذه السنة ولى أبو طريف عليان ابن ثمال الخفاجي حمايـة الكوفـة وهـي أول إِمـارة بنـي ثمـال‏.‏

وفيهـا توفي أبو الفتح محمد بن الحسين الموصلي الحافظ المشهـور‏.‏

وفيهـا توفـي بميافارقيـن الخطيـب أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة صاحب الخطب المشهورة وكان إِماماً في علوم الأدب ووقع الإجماع على أنه ما عمل مثـل خطبـه وصـار خطيبـاً بحلـب مـدة وبهـا اجتمـع بالمتنبـي ثـم اجتمع بالمتنبي في خدمة سيف الدولة بـن حمـدان وكـان الخطيـب المذكـور رجـلا صالحاً رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقـال لـه‏:‏ مرحبـاً يـا خطيـب الخطبـاء كيـف تقـول‏:‏ كأنهـم لـم يكونـوا للعيـون قرة ولم يعدوا في الأحياء مرة‏.‏

قال الخطيب تتمة هذه الخطبة وهي المعروفة بخطبة المنام وأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفل في فيه فبقي الخطيب بعد هذه الرؤيا ثلاثة أيام لم يطعم طعاماً ولا يشتهيه ويوجـد من فيه مثل رائحة المسك‏.‏

ولم يعش بعد ذلك إِلا أياماً يسيرة وكان مولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة

وفي هذه السنة قصدت القرامطة الكوفة مع نفرين من الستة الذي سموهم السادة ففتحوها ونهبوها فجهز صمصام الدولة بـن عضـد الدولـة إِليهـم جيشاً فانهزمت القرامطة وكثر القتل فيهم وانحرفت هيبتهم وقد حكى ابن الأثير في حوادث هذه السنة والعهدة على الناقل أنه خرج في هذه السنة بعُمان طائر من البحر كبير أكبر من الفيل ووقف على تل هناك وصاح بصوت عال ولسنان فصيح قد هرب قالها ثلاث مرات ثم غاص في البحر فعل ذلك ثلاثة أيام ولم ير بعد ذلك‏.‏

ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة

ملك شرف الدولة بن عضد الدولة العراق وقبضه على أخيه صمصام الدولة

 في هذه السنة سار شرف الدولة شيرزيك بن عضد الدولة من الأهواز إلى واسط فملكها وأشار أصحاب صمصام الدولة عليه بالمسير إلـى الموصـل أو غيرهـا فأبـى صمصـام الدولـة وركب بخواصه وحضر إِلى عند أخيه شرف الدولة مستأمناً فلقيه شرف الدولة وطيب قلبه فلمـا خـرج مـن عنـده غدر به وقبض عليه وسار شرف الدولة شيرزيك حتى دخل بغداد في رمضان وأخوه صمصام الدولة معتقل معه وكانت إِمارة صمصام الدولة ببغداد ثلاث سنيـن ثم نقله إِلى فارس فاعتقله في قلعة هناك‏.‏

غير ذلك من الحوادث فـي هـذه السنـة توفـي المظفـر الحاجـب صاحـب البطيحـة وولـى بعده ابن أخته أبو الحسن علي بن نصر بعهد من المظفر ووصل إِليه التقليد من بغداد بالبطيحة ولقب مهـذب الدولـة فأحسـن السيرة وبذل الخير والإِحسان وفيها توفي ببغداد أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي صاحب الإِيضاح وقد جاوز تسعين سنة وقيل كان معتزلياً ولد في مدينة فسا واشتغل ببغداد وكان إِمام وقته في علم النحو ودار البلـاد وأقـام بحلـب عنـد سيـف الدولة بن حمدان مدة ثم انتقل إِلى بلاد فـارس وصحـب عضـد الدولـة وتقـدم عنـده ومـن تصانيفه كتاب التذكير وهو كبير وكتاب المقصور والمدود وكتاب الحجة في القراءات وكتاب العوامل المائة وكتاب المسائل الحلبيات وغير ذلك‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة

ودخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة فيها سير العزيز صاحب مصر العلوي عسكراً مع القائد منير الخادم إِلى دمشق ليعزل بكجور عنها ويتولاها فلما قرب منها خرج بكجور وقاتله عند داريا ثم انهزم بكجور ودخل البلد وطلب الأمان فأجابه منير إِلى ذلك فسار بكجور إلى الرقة فاستولى عليها واستقر منير في إِمارة دمشق وأحسـن السيـرة فـي أهلهـا‏.‏

وفـي هـذه السنـة فـي المحـرم أهـدى الصاحـب بـن عباد ديناراً وزنه ألف مثقال إِلى فخر الدولة علي بن ركن الدولة حسن وعلى الدينار مكتوب‏:‏ فإن قيل دينارٌ فقد صدق اسمه وإن قيل ألف فهو بعضُ سماته بديعٌ ولم يطبعْ على الدهرِ مثلهُ ولا ضربتَ أضرابه لسراتهَ وصار إِلى شاهان شاه انتسابُهُ على أنه مستصغرُ لعفاتهِ يخبر أن يبقى سنيناً كوزنه لتستبشـر الدنيـا بطـول حياتهِ وفـي هـذه السنـة توفـي أبـو حامـد محمـد بـن محمـد بـن أحمـد بـن إِسحـاق الحاكـم النيسابـوري صاحب التصانيف المشهورة‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة

وفيها أرسل شرف الدولة محمد الشيرازي ليسمل أخاه صمصام الدولة المرزبان فوصل إِلى القلعة التي بها صمصام الدولة محبوساً بعد موت شرف الدولة وسمل صمصام الدولة فأعماه‏.‏

 وفاة شرف الدولة

في هذه السنة في مستهل جمادى الآخرة توفي الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيك بن عضد الدولة بالاستسقاء وحمل إِلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدفن بـه وكانت إِمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة وخمسة أشهر ولما مـات استقر في الإمارة موضعه أخوه أبو نصر بهاء الدولة وقيل اسمه خاشاذ بن عضد الدولة الفتنة ببغداد وفي هذه السنة وقعت الفتنة أيضاً بين الأتراك والديلم ودام القتـال بينهـم خمسـة أيـام وبهـاء الدولة في داره يراسلهم في الصلح فلم يسمعوا ودام ذلك بينهم اثني عشر يوماً ثم صار بهاء الدولـة مـع الأتـراك فضعفـت الديلـم وأجابوا إِلى الصلح ثم من بعد ذلك أخذ أمر الأتراك في القوة وأمر الديلم في الضعف‏.‏

هرب القادر إِلى البطيحة

فـي هـذه السنـة هـرب أبـو العبـاس أحمـد بـن الأمير إِسحاق بن المقتدر إِلى البطيحة فاحتمى فيها وكـان سببهـا أن الأميـر إِسحـاق بـن المقتدر والدالقادر لما توفي جرى بين ابنه أحمد الذي تسمى فيما بعد بالقادر وبين أخت له منازعة على ضيعة وكان الطائع قد مرض وشفي فسعت بأخيها المذكور إِلى الطائع وقالت‏:‏ إِن أخي شرع في طلب الخلافة عند مرضك فتغير الطائع على أخيها أحمد وأرسل ليقبضه فهرب المذكور واستتر ثم سار إِلى البطيحة فنزل على مهذب الدولة صاحب البطيحة فأكرمه مهذب الدولة ووسع عليه وبالغ في خدمته‏.‏

عود بني حمدان إِلى الموصل

كـان ابنـا ناصر الدولة وهما أبو الطاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين في خدمة شرف الدولة بـن عضـد الدولـة ببغـداد فلمـا توفـي شـرف الدولـة وملـك أخـوه بهاء الدولة استأذناه في المسير إِلى الموصل فأذن لهما بهاء الدولة في ذلك فسار أبو طاهر وأبو عبد الله الحسين المذكوران إِلى الموصـل فقاتلهمـا العامـل الذي بها واجتمع إليهما المواصلة فاستوليا على الموصل وطردا عاملهـا والعسكـر الـذي قاتلهمـا إِلـى بغداد واستقرا في الموصل‏.‏

وفي هذه السنة توفي محمد بن أحمد ابن العباس السلمي النقاش وكان من متكلمي الأشعرية‏.‏

ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة

قتل باد صاحب ديار بكر وابتداء دولة بني مروان

فـي هـذه السنـة طمـع بـاد صاحـب ديـار بكـر في ابني ناصر الدولة وهما أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين المستوليان علي الموصل فقصدهما وجرى بينهم قتال شديد قتل فيه باد وحمـل رأسه إِليهما وكان باد المذكور خال أبي علي بن مروان فلما قتل باد سار أبو علي بن أخته إِلى حصن كيفا وكان بالحصن امرأة خال باد المذكور وأهله فقال لامرأة باد‏:‏ قد أنفذني خالي إِليك في مهم فلما صعد إِليها أعلمها بهلاك خاله وأطمعها في الترويج بها فوافقته على ملك الحصن وغيره ونزل أبو علي بن مروان وصلك بلاد خاله حصناً حصناً حتى ملك ما كـان لخالـه جميعـه وجـرى بينـه وبيـن بـي طاهر وأبي عبد الله ابني العزيز ناصر الدولة حروب ثم مضى أبو علي بن مروان إِلى مصر وتقلد من الخليفة العزيز بالله العلوي ولاية حلب وتلـك النواحي وعاد إلى مكانه من ديار بكر وأقام بتلك الديار إِلى أن اتفق بعض أهل آمـد مـع شيخهـم عبـد البـر فقتلـوا أبا علي بن مروان المذكور عند خروجه من باب البلد بالساكين وكان المتولـي لقتلـه رجـلا مـن أهـل آمـد يقـال لـه ابن دمنة فلما قُتل أبو علي بن مروان استولى عبد البر شيـخ آمـد عليها وزوج ابن دمنة بابنته فوثب ابن دمنة فقتل عبد البر أيضاً واستولى ابن دمنة على آمد واستقر فيها وكان لأبي علي ابن مروان أخ يقال له ممهد الدولة فلما قتل أبو علي سـار ممهد الدولة بن مروان إلى ميافارقين فملكها وملك غيرها من بلاد أخيه وكان في جماعة ممهد الدولة رجل اسمه شموه وهو من أكابـر العسكـر فعمـل دعـوة لممهـد الدولـة وقتلـه فيهـا واستولـى شـروه علـى غالـب بلاد بني مروان وذلك في سنة اثنتين وأربعمائة وكان لممهد الدولة أخ آخر اسمه أبو نصر أحمد وكان قد حبسه أخوه أبو علي بن مروان بسبب رؤيا رآها وهو أنه رأى أن الشمس في حجره وقد أخذها منه أخوه أبو نصر فحبسه لذلك فلما قتل ممهد الدولة أخرج أبو نصر من الحبس واستولى على أرزن وفي ذلك جميعه وأبوهم مروان باق وهو أعمى مقيم بأرزن عند قبر ولده أبي علي ولما استقر أمر أبي نصر انتقض أمر شروه وخرجـت البلـاد عـن طاعتـه واستولـى أبـو نصـر علـى سائـر بلـاد ديار بكر ودامت أيامه وحسنـت سيرتـه وبقـي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى‏.‏

ملك أبي الذواد الموصل

فـي هـذه السنـة أعنـي سنـة ثمانيـن وثلاثمائـة استولـى أبـو الـذواد محمـد بـن المسيـب بن رافع بن المقلد بـن جعفـر أميـر بنـي عقيل على الموصل وقتل أبا الطاهر ابن ناصر الدولة بن حمدان وقتل أولاده وعدة من قواده بعد قتال جرى بينهما واستقر أمر أبي الذواد بالموصل‏.‏

ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين وثلاثمائة

القبض على الطائع لله

في هذه السنة قبض بهاء الدولة بن عضد الدولة على الطائع لله عبد الكريم وكنيته أبو بكر بـن المفضـل المطيـع للـه بـن جعفـر المقتـدر بـن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بسبب طمع بهاء الدولة في مال الطائع ولما أراد بهاء الدولة ذلك أرسل إِلـى الطائـع وسألـه الـإذن ليجـدد العهـد بـه فجلس الطائع على كرسي ودخل بعض الديلم كأنه يريد تقبيل يد الخليفة فجذبه عن سريره والخليفة يقول‏:‏ إِنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ويستغيث فلا يغاث وحمل الطائع إِلى دار بهاء الدولة وأشهـد عليـه بالخلـع وكانـت خلافتـه سبع عشرة سنة وثمانية أشهر‏.‏

وأياماً ولما تولى القادر حُمل إليه الطائع فبقي عنده مكرماً إِلى أن توفي الطائع سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ليلة الفطر وكان مولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة ولم يكن للطائع في ولايته من الحكم ما يستدل به على حاله وكان في الناس الذين حضروا القبض على الطائـع الشريـف الرضـي فبـادر بالخـروج مـن دار الخلافة وقال في ذلك أبياتاً من جملتها‏:‏ أمسيت أرحم من كنت أغبطه لقـد تقـارب بيـن العـز والهون ومنظر كان بالسراء يضحكني يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني هيهـات أعثـر بالسلطان ثانية قد ضل عندي ولاج السلاطين