الفصل الثامن: خلافة المستنجد

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

خلافة المستنجد

وهو ثاني ثلاثينهم ولما توفي المقتفي لأمر الله محمد بويع ابنه يوسف ولقب المستنجد بالله وأم المستنجد أم ولد تدعى طاووس ولما بويع المستنجد بالخلافة بايعه أهله وأقاربه فمنهم عمه أبو طالب ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي وكان أكبر من المستنجد ثم بايعه الوزير ابن هبيرة وقاضي القضاة وغيرهم‏.‏

ذكر وفاة صاحب غزنة

في هذه السنة في رجب توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعـود بـن محمـد بـن سبكتكين صاحب غزنة وكان عادلاً حسن السيرة وكانت ولايته في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ولما مات ملك بعده ابنه ملكشاه بن خسروشاه وقيل والده خسروشاه المذكـور توفـي فـي حبـس غياث الدين الغوري وأنه آخر ملوك بني سبكتكين حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وأربعين وخمسمائة والله أعلم بالصواب‏.‏

ذكر وفاة ملكشاه والسلجوقي‏:‏ في هذه السنة توفي السلطان ملكشـاه بـن محمـود بـن محمـد بـن ملكشـاه بـن ألـب أرسلـان ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ في هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي مقدم جيش نور الدين محمود بن زنكي‏.‏

ثم دخلت سنة سـت وخمسيـن وخمسمائـة

فـي هـذه السنـة فـي ربيـع الآخـر توفـي الملك علاء الدين الحسيـن بن الحسين الغوري ملك الغور وكان عادلاً حسن السيرة ولما مات ملك بعده ابن أخيه غياث الدين محمد وقد تقدم ذكر ذلك في سنة سبع وأربعين وخمسمائة‏.‏

ذكر نهب نيسابور وتخريبها وعمارة الشاذباخ‏:‏

فـي هـذه السنـة تقـدم المؤيـد أي بـه بإمسـاك أعيان نيسابور لأنهم كانوا رؤساء للحرامية والمفسدين وأخذ المؤيد يقتـل المفسديـن فخربـت نيسابـور وكـان مـن جملـة مـا خـرب مسجـد عقيل وكان مجمعاً لأهل العلم وكان فيه خزائن الكتب الموقوفة وخرب مـن مـدارس الحنفيـة سبع عشرة مدرسة وأحرق ونهب عدة من خزائن الكتب‏.‏

وأما الشاذباخ فإن عبد الله بن طاهـر بـن الحسيـن بناهـا لمـا كـان أميـراً علـى خراسان للمأمون وسكنها هو والجند ثم خربت بعد ذلـك ثـم جددت في أيام السلطان ألب أرسلان السلجوقي ثم تشعثت بعد ذلك فلما كان الآن وخربت نيسابور أمر المؤيد أمح أي به بإصلاح سور الشاذباخ وسكنها هو والناس فخربت نيسابور كل الخراب ولم يبق بها أحد‏.‏

في هذه السنة في رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني وزير العاضد العلوي جهزت عليه عمة العاضد من قتله وهو داخل في القصر بالسكاكين ولم يمت في تلك الساعة بل حمل إلى بيته وأرسل يعتب على العاضد‏.‏

فأرسل العاضد إلى طلائع المذكور يحلف له أنه لم يرض ولا علم بذلك وأمسك العاضد عمته وأرسلها إلى طلائع فقتلها وسأل العاضد أن يولى ابنـه رزيـك الـوزارة ولقـب العـادل ومـات طلائـع واستقـر ابنـه العـادل رزيك في الوزارة وكان للصالح طلائع شعر حسن فمنه في الفخر‏:‏ أبى الله إلا أن يدين لنا الدهـر ويخدمنا في ملكنا العز والنصر علمنا بأن المال تفنى ألوفه ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا سحاب لديه البرق والرعد والقطر ذكر ملك عيسى مكة حرسها الله تعالى‏:‏ كان أميـر مكـة قاسـم بـن أبـي فليتـة بـن قاسـم بـن أبـي هاشـم العلـوي الحسينـي فلمـا سمـع بقـرب الحـاج من مكة صادر المجاورين وأعيان مكة وأخذ أموالهم وهرب إلى البرية‏.‏

فلما وصل الحاج إلى مكة رتب أمير الحاج مكان قاسم عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم فبقي كذلك إلى شهر رمضان ثم إن قاسم بن أبي فليتة جمع العرب وقصد عمه عيسى فلما قارب مكة رحـل عنها عيسى فعاد قاسم فملكها ولم يكن معه ما يرضى به العرب فكاتبوا عمه عيسى وصاروا معه فقدم عيسى إليهم فهرب قاسم وصعد إلى جبل أبى قبيس فسقط عن فرسه فأخذه أصحاب عمه عيسى وقتلوه فغسله عمه عيسى ودفنه بالمعلى عند ابنه أبي فليتة‏.‏

واستقرت مكة لعيسى‏.‏

ذكر غير ذلك‏:‏ فـي هـذه السنـة عبـر عبـد المؤمـن بـن علـي المجـاز إلـى الأندلـس وبنى على جبل طارق من الأندلس مدينة حصينة وأقام بها عدة أشهر ثم عاد إلى مراكش‏.‏

وفيها ملك قرا أرسلان صاحب حصن كيفا قلعة شاتان وكانت لطائفـة مـن الأكـراد ولمـا ملكهـا خربهـا وأضـاف أعمالهـا إلـى حصن طالب‏.‏

ثم دخلت سنة سبـع وخمسيـن وخمسمائـة

فـي هـذه السنـة نازل نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم وهي للفرنج مدة ثم رحل عنها ولم يملكها‏.‏

وفيها سارت الكـرج فـي جمـع عظيـم ودخلـوا بلـاد الإسلـام وملكـوا مدينـة دويـن مـن أعمـال أذربيجان ونهبوهـا‏.‏

ثـم جمـع الدكـز صاحـب أذربيجـان جمعـاً عظيمـاً وغـزا الكـرج وانتصـر عليهم‏.‏

وفيها حج الناس فوقعت فتنة وقتال بين صاحب مكة وأمير الحاج فرحل الحاج ولم يقدر بعضهم على الطواف بعد الوقفة‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وكان ممن حج ولم يطـف جدتـه أم أبيـه فوصلت إلى بلادها وهي على إحرامها واستفتت الشيخ أبا القاسم بن البرزي فأفتى أنها إذا دامت على ما بقي من إحرامها إلى قابل وطافت كمل حجها الأول ثم تفدي وتحل ثم تحرم إحرامـاً ثانيـاً وتقـف بعرفـات وتكمـل مناسـك الحـج فيصيـر لهـا حجـة ثانيـة‏.‏

فبقيت على إحرامها إلى قابل وفعلت كما قال فتم حجها الأول والثاني‏.‏

وفيهـا مات الكيا الصنهاجي صاحب الألموت مقدم الإسماعلية وقام ابنه مقامه فأظهر التوبة‏.‏

وفيها في المحرم توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد المقيم ببلد الهكارية من أعمال الموصل وأصل الشيخ عدي من الشام من بلد بعلبك فانتقل إلى الموصل وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه وأحسنوا الظن به‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

ذكر وزارة شاور ثم الضرغام

ي هذه السنة في صفر وزر شاور للعاضد لدين اللـه العلـوي وكـان شـاور يخـدم الصالـح طلائع بن رزيك فولاه الصعيد وكانت ولاية الصعيد أكبـر المناصـب هـد الـوزارة ولمـا خـرج الصالح أوصى ابنه العادل أن لا يغير على شاور شيئاً لعلمه بقوة شاور فلما تولى العادل ابن الصالح الوزارة كتب إلى شاور بالعزل فجمع شاور جموعه وسار نحو العـادل إلـى القاهـرة فهرب العادل وطرد وراءه شـاور وأمسكـه وقتلـه وهـو العـادل رزيـك بـن الصالـح طلائـع بـن رزيك وانقرضت بمقتله دولة بني رزيك وفيهم يقول عمارة التميمي من أبيات طويلة‏:‏ ولت ليالي بني رزيك وانصرمت والمدح والشكر فيهم غير منصرم كـأن صالحهم يوماً وعادلهم في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم واستقر شاور في الوزارة وتلقـب بأميـر الجيـوش وأخـذ أمـوال بنـي رزيـك وودائعهـم ثـم إن الضرغام جمع جمعاً ونازع شاور في الوزارة فـي شهـر رمضـان وقـوى علـى شـاور فانهـزم شاور إلى الشام مستنجداً بنور الدين ولما تمكن ضرغام في الوزارة قتل كثيراً من الأمراء المصريين لتخلو له البلاد فضعفت الدولة لهذا لسبب حتى خرجت البلاد من أيديهم‏.‏

ذكر وفاة عبد المؤمن‏:‏ فـي هـذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة توفي عبد المؤمن بن علي صاحب بلاد المغرب وإفريقية والأندلس وكان قد سار من مراكش إلى سلا فمرض بها ومات ولما حضره الموت جمـع شيـوخ الموحديـن وقال لهم‏:‏ قد جربت ابني محمداً فلم أره يصلح لهذا الأمر وإنما يصلح له ابني يوسف فقدموه فبايعوه ودعى بأمير المؤمنين واستقرت قواعد ملكه وكانـت مـدة ولايـة عبد المؤمن ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً‏.‏

وكان حازماً سديد الرأي حسن السياسة للأمور كثير سفك الدم على الذنب الصغير وكان يعظم أمر الدين ويقويه ويلزم الناس بالصلاة بحيث أنه من رآه وقت الصلاة غير مصل قتل وجمع الناس في المغرب على مذهب مالك في الفروع وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة ملك المؤيد أي به قومس ولما ملكها أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغريل ابن ملكشاه خلعة وألوية وهدية جليلة فلبس المؤيد أي به الخلع وخطب له في بلاده‏.‏

وفي هذه السنة كبس الفرنج نور الدين محمود وهو نازل بعسكره في البقيعة تحت حصـن الأكراد فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أظلت عليهم صلبان الفرنج وقصدوا خيمة نور الدين فلسرعة ذلك ركب نور الدين فرسه وفي رجله السنجة فنزل إنسـان كـردي فقطعهـا فنجا نور الدين وقتل الكردي فأحسن نور الدين إلى مخلفيـه ووقـف عليهـم الوقـوف وسـار نور الدين إلى بحيرة حمص فنزل عليها وتلاحق به من سلم من المسلمين‏.‏

وفيها أمر الخليفة المستنجد بإخلاء بني أسد وهم أهل الحلة المزيدية فقتل منهم جماعة وهرب الباقون وتشتتوا في البلاد وذلك لفسادهم في البلاد وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى رجل يقال له ابن معروف‏.‏

وفيها توفي سديد الدولة محمد بن عبد الكريم بـن إبراهيـم المعـروف بابـن الأنبـاري كاتـب الإنشاء بدار الخلافة وكان فاضلاً أديباً وكان عمره قريب تسعين سنة‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة

في هذه السنة سير نور الدين محمود بن زنكي عسكراً مقدمهم أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى الديار المصرية ومعهـم شـاور وكـان قـد سار من مصر هارباً من ضرغام الوزير فلحق شاور بنور الدين واستنجده وبذل له ثلث أموال مصـر بعـد رزق جندهـا إن أعـاده إلـى الـوزارة فأرسـل نـور الديـن شيركـوه إلـى مصـر فوصل إليها وهزم عسكر ضرغام وقتل ضرغام عند قبر السيدة نفيسة وأعاد شاور إلـى وزارة العاضد العلوي‏.‏

وكـان مسيـر أسـد الديـن فـي جمـادى الأولـى من هذه السنة‏.‏

واستقر شاور في الوزارة وخرجت إليه الخلع في مستهل رجب من هذه السنة ثم غدر شاور بنور الدين ولم يف له بشيء مما شرط فسار أسد الدين واستولى على بلبيس والشرقية فأرسل شـاور واستنجـد بالفرنـج على إخراج أسد الدين شيركوه من البلاد فسار الفرنج واجتمع معهـم شـاور بعسكـر مصـر وعمروا شيركوه ببلبيس ودام الحصار مدة ثلـاث أشهـر وبلـغ الفرنـج حركـة نـور الديـن وأخـذه حـارم فراسلـوا شيركوه في الصلح وفتحوا له فخرج من بلبيس بمن معه من العسكر وسار بهم ووصلوا إلى الشام سالمين‏.‏

وفي هذه السنة في رمضان فتـح نـور الديـن محمـود قلعـة حـارم وأخذهـا مـن الفرنـج بعـد مصاف جرى بين نور الدين والفرنج انتصر فيه نور الدين وقتل وأسر من الفرنج عالماً كثيراً وكـان فـي جملـة الأسـرى البرنـس صاحـب أنطاكيـة والقومـص صاحـب طرابلـس وغنـم منهم المسلمون شيئاً كثيراً‏.‏

وفي هذه السنة أيضاً في ذي الحجة سار نور الدين إلى بانياس وفتحها وكان بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى هذه السنة‏.‏

فـي هـذه السنـة توفـي جمـال الديـن أبـو جعفـر محمـد بـن علي بن أبي منصور لأصفهاني وزير قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في شعبان مبوضاً عليه وكان قد قبض عليه قطب الدين في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وكان قد تعاهد جمال الدين المذكور وأسـد الديـن شيركوه أنهما من مات منهما قبل الآخر ينقله الآخر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيدفنـه فيهـا فنقله شيركوه واكترى له من يقرأ القرآن عند شيله وحطه وكان ينادي في كل بلد ينزلونه بها بالصلاة عليه ولما أرادوا الصلاة عليه بالحلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد‏:‏ سرى نعشه فوق الرقاب وطالما سرى جوده فوق الركاب ونائله يمر علـى الـوادي فتثنـي رمالـه عليـه وبالنـادي فتثني أرامله وطيـف بـه حـول الكعبـة ودفـن فـي ربـاط بالمدينـة بنـاه لنفسـه وبينـه وبيـن قبر النبي صلى الله عليه وسلم نحو خمسة عشر ذراعاً وهذا جمال الدين هو الذي جدد مسجد الخيف بمنى وبنى الحجر بجانب الكعبة وزخرف الكعبة وغرم جملة طائلة لصاحب مكة وللمقتفي حتى مكنه من ذلك وهو الذي بنى المسجد الذي على جبل عرفات وعمل الدرج إليه وعمل بعرفات مصانـع المـاء وبنـى سوراً على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وبنى على دجلة جسراً عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس فقبض قبل أن يفرغ وبنى الربط وغيرها‏.‏

وفي هذه السنة توفي نصر بن خلف ملك سجستان وعمره أكثر من مائة سنة ومدة ملكه ثمانون سنة وملك بعده ابنه أبو الفتح أحمد بن نصر‏.‏

وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي خطيب بلخ ومفتيها والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب

ثم دخلت سنة ستيـن وخمسمائـة

فـي هـذه السنـة في ربيع الأول توفي شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار بن قارن وملك بعده ابنه علاء الدين الحسن وفيها ملك المؤيد أي به مدينة هراة‏.‏

وفيهـا كان بين قليج أرسلان صاحب قونية وما جاورها من بلاد الروم وبين باغي أرسلان بن الدانشمنـد صاحـب ملطيـة ومـا يجاورهـا مـن بلاد الروم حروب شديدة انهزم فيها قليج أرسلان واتفق موت باغي أرسلان صاحب ملطية في تلك المدة وملك بعده ملطية ابن أخيه إبراهيـم بـن محمـد بن الدانشمند واستولى ذو النون بن محمد بن الدانشمند على قيساربة وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قليج أرسلـان مدينـة أنكوريـة واصطلـح المذكـورون علـى ذلـك واستقرت بينهم القواعد واتفقوا‏.‏

وفيهـا توفـي عـون الديـن الوزيـر ابن هبيرة واسمه يحيى بن محمد بن المظفر وكان موته في جمادى الأولى ومولده سنة سبعين وأربعمائة ودفن بالمدرسة التي بناها الحنابلة بباب البصرة وكان حنبلي المذهب وأنفق على المقتفي نفاقاً عظيماً حتى أن المقتفي كان يقول‏:‏ لم يتوزر لبني العباس مثله ولما مات قبض على أولاده وأهله‏.‏

وفيهـا توفـي الشيـخ الأمـام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي الفقيه الشافعي تفقه على الكيا وفيها توفي أبو الحسن هبة الله بن صاعد بن هبة الله المعروف بأمين الدولة ابن التلميذ وقد ناهـز المائـة مـن عمـره وكـان طبيـب دار الخلافـة ببغـداد ومحظيـاً عنـد المقتفـي وكان حاذقاً فاضلاً ظريف الشخص عالي الهمة مصيب الفكر شيخ النصارى وقسيسهم وكـان لـه فـي الأدب يد طولي وكان متفنناً في العلوم وكان فضلاء عصره يتعجبون كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه وغزارة علمه والله يهدي من يشاء بفضله ويضل من يريد بحكمه‏.‏

وكان أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن ملكان الحكيم المشهور صاحب كتاب المعتبر في الحكمة معاصراً لابن التلميذ المذكور وكان بينهما تنافس كما يقع كثير بين أهل كل فضيلة وصنعة وكان أبو البركات المذكور يهودياً ثم أسلم في آخر عمره وأصابه الجذام وتداوى وبرئ منه وذهب بصره وبقي أعمى وكان متكبراً وكان ابن التلميذ متواضعاً فعمل ابن التلميذ في أبي البركات المذكور‏:‏ لنا صديق يهودي حماقته إذا تكلـم تبدو فيه من فيه يتيه والكلب أعلـى منـه منزلـة كأنـه بعـد لـم يخرج من التيه ولابن التلميذ أيضاً‏:‏ يا من رماني عن قـوس فرقتـه بسهـم هجـر علـى تلافيـه وله التصانيف الحسنة منها كتاب اقرأ باذين ولـه علـى كليـات القانـون حواشـي وكتـاب اقـرأ باذيـن ابـن التلميـذ المذكور هو المعتمد عليه عند الأطباء كان شيخه في الطب أبا الحسن هبة الله بن سعيد صاحب المغني في الطب ولابن سعيد المذكور أيضاً الإقناع في الطب وهو كتاب جيد في أربعة أجزاء‏.‏

ثم دخلت سنة إحـدى وستين وخمسمائة

في هذه السنة فتح نور الدين محمود حصن المنطرة مـن الشمـام وكـان بيـد الفرنـج‏.‏

وفيهـا فـي ربيـع الآخـر توفـي الشيـخ عبـد القـادر بـن أبـي صالـح الجيلي وكنيته أبو محمد وكان مقيماً ببغداد ومولده سنة سبعين وأربعمائة‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ كان من الصلاح على حال عظيم وهو حنبلي المذهب ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة

في هذه السنة عاد أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية وجهزه نور الدين بعسكر جيد عدتهم ألفا فارس فوصل إلى ديـار مصـر واستولـى على الجيزة وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم وجمعهم وساروا في أثر شيركوه إلى جهة الصعيد والتقوا على بلد يقال له أيوان فانهزم الفرنج والمصريـون واستولـى شيركـوه علـى بلـاد الجيزة واستغلها‏.‏

ثم سار إلى الإسكندرية وملكها وجعل فيها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وعاد شيركوه إلى جهة الصعيد فاجتمع عسكر مصر والفرنج وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية مدة ثلاث أشهر فسار شيركوه إليهم فاتفقوا على الصلح على مال يحملونه إلى شيركوه ويسلم إليهم الإسكندرية ويعود إلى الشام فتسلم المصريون الإسكندرية في منتصف شوال من هذه السنة وسار شيركوه إلى الشام فوصل إلى دمشق في ثامن عشر ذي القعدة واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين على أن يكون للفرنج بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار‏.‏

وفـي هـذه السنـة فتح نور الدين صافيتا والغربية‏.‏

وفيها عصا غازي بن حسان صاحب منبج علـى نور الدين بمنبج فسير إليه نور الدين عسكراً وأخذوا منه منبج ثم أقطع نور الدين منبج قطب الدين ينال بن حسان أخا غازي المذكور فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة‏.‏

وفيها توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا وملك بعـده ولـده نـور الديـن محمـود بـن قـرا أرسلـان بـن داود‏.‏

وفيهـا توفـي عبـد الكريـم أبـو سعيـد بن محمد بـن منصـور بـن أبـو بكـر المظفـر السمعانـي المـروزي الفقيـه الشافعـي وكـان مكثـراً مـن سمـاع الحديـث سافـر فـي طلبـه إلـى مـا وراء النهر وسمع منه ما لم يسمعه غيره وله التصانيف المشهورة الحسنة منها‏:‏ ذيل تاريخ بغداد وتاريخ مدينة مرو وكتاب الأنساب في ثمان مجلدات‏.‏

وقد اختصر كتاب الأنساب المذكور الشيخ عز الدين علي بن الأثير في ثلاث مجلدات والمختصر المذكور هو الموجود في أيدي الناس والأصل قليل الوجود وله غير ذلك وقد جمع مشيخته فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي فأوقع فيه فمن جملة قولـه فيـه‏:‏ أنـه كـان يأخـذ الشيـخ ببغـداد ويعبـر بـه إلـى فـوق نهـر عيسى ويقول حدثني فلان بما وراء النهر هذا بارد جداً لأن السمعاني المذكور سافر إلى ما وراء النهر حقـاً فـأي حاجـة إلـى هذا التدليس وإنما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي وله أسوة بغيره فإن ابن الجوزي لم يبق على أحد غير الحنابلة وكانت ولادة أبي سعيد السمعاني المذكور في شعبان سنة سـت وخمسمائة وكان أبوه وجده فاضلين والسمعاني منسوب إلى سمعان وهو بطن من تميم‏.‏

ثم دخلت سنة ثلـاث وستيـن وخمسمائـة

فـي هـذه السنـة فـارق زين الدين علي كجك بن بكتكين نائـب قطـب الديـن مـودود بـن زنكـي صاحـب الموصـل خدمـه قطـب الدين واستقر بإربل وكانت في إقطاع زين الدين علي المذكور وكانـت لـه إربـل مـع غيرهـا فاقتصـر علـى إربـل وسكنها وسلم ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود وكان زين الدين علي المذكور قد عمي وطرش‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة

في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعه جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علـي بـن مالـك بـن سالـم بـن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها مالك المذكور بنو كلاب وأحضروه إلى نور الدين محمود واجتهد به على تسليمهـا فلـم يفعـل فأرسـل عسكـراً مقدمهـم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر المعروف بابن الداية وكان رضيع نور الدين وحصروا قلعة جعبر فلم يظفروا منها بشيء وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها وأخذ عنها عوضاً مدينة بأعمالها والملوحة من بلـد حلب وعشرين ألف دينار معجلة وباب بزاعة‏.‏

ذكر ملك أسد الدين شيركوه

مصر وقتل شاور ثم ملك صلاح الدين وهو ابتداء الدولة الأيوبية‏.‏

في هذه السنة أعني سنة أربع وستين وخمسمائة في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى دار مصر ومعه العساكـر النورية وسبب ذلك تمكن الفرنج من البلاد المصرية وتحكمهم على المسلمين بها حتى ملكوا بلبيس قهراً في مستهل صفر من هذه السنة ونهبوها وقتلوا أهلها وأسروهم ثم ساروا من بلبيس ونزلوا على القاهرة عاشر صفر وحاصروها فأحرق شاور مدينة مصر خوفاً من أن يملكها الفرنج وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً فأرسل العاضد الخليفة إلى نور الدين يستغيث به وأرسل في الكتب شعور النساء وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار يحملها إليهم فحمل إليهم مائة ألف دينار وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة ليقدر على جمع المال وحمله فرحلوا فجهز نور الدين العسكر مع شيركوه وأنفق فيهم المال وأعطى شيركوه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك وأرسل معه عدة أمراء منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب الملك من بيته وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه ‏)‏وعسـى أن تكرهـوا شيئـاً وهـو خيـر لكـم وعسـى أن تحبـوا شيئـاً وهـو شـر لكم( ‏(‏البقرة 216‏)‏ ولما قارب شيركوه مصر رحل الفرنج من ديار مصر على أعقابهم إلى بلادهم فكان هذا لمصر فتحاً جديداً ووصل أسد الدين شيركوه إلى القاهرة في رابع ربيع الآخر واجتمع بالعاضد وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية وأجرى عليه وعلى عسكره الإقامات الوافـرة وشرع شاور يماطل شيركوه فيما بذله لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث البلاد له ومـع ذلـك فكـان شـاور يركب كل يوم إلى أسد الدين شيركوه ويعده ويمنيه ‏)‏وما يعدهم الشيطان إلا غرورا( ‏(‏النساء 120‏)‏ ثم إن شاور عزم على أن يعمـل دعـوة لشيركـوه وأمرائـه ويقبـض عليهـم فمنعه ابنه الكامل ابن شاور من ذلك ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك عزموا على الفتك بشاور واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف وعـز الديـن جرديـك وغيرهمـا‏.‏

وعرفـوا شيركـوه بذلـك فنهاهـم عنـه واتفـق أن شـاور قصـد شيركـوه على عادته فلم يجده في المخيم وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي فلقي صلاح الدين وجرديق شاور وأعلماه برواح شيركوه إلى زيارة الشافعي فساروا جميعـاً إلـى شيركـوه فوثـب صلـاح الديـن وجرديـك ومـن معهمـا علـى شـاور وألقـوه إلى الأرض عن فرسه وأمسكوه في سابع ربيع الآخر من هذه السنة أعني سنة أربـع وستيـن وخمسمائـة فهـرب أصحابه عنه وأرسلوا أعلموا شيركوه بما فعلوه فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ذلك‏.‏

وسمع العاضد الخبر فأرسل إلى شيركوه يطلب منه إنفاذ رأس شاور فقتله وأرسل رأسه إلى العاضد دخل بعد ذلك شيركوه إلى القصر عند العاضد فخلع عليه العاضـد خلـع الـوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وسار بالخلع إلى دار الوزارة وهي التي كان فيها شاور واستقـر فـي الأمـر وكتـب لـه منشـور بالإنشاء الفاضلي أوله بعد البسملة‏:‏ من عبد الله ووليه أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل الملك المنصور سلطان الجيوش ولي الأئمة مجير الأمة أسد الدين أبي الحارث شيركوه العاضدي عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته‏.‏

سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ونسأله أن يصلـي علـى محمـد خاتـم النبييـن وسيـد المرسليـن وعلـى آلـه الطاهريـن والأئمـة المهدييـن سلـم تسليمـاً‏.‏

ثـم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه ووصايا أضربنا عنها للاختصار وكتب العاضد بخطه على طرة المنشور هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله فتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلاً لحملها فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتـك إلـى بنـوة النبـرة مدحـت الشعـراء أسـد الديـن ووصـل إليـه مـن الشـام مديـح لعماد الكاتب قصيدة أولها‏:‏ بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب كم راحة جنيت من دوحة التعب يا شيركوه بن شاذي الملك دعوة من نادي فعرف خير ابن لخيـر أب جرى الملوك وما حازوا بركضهم من المدى في العلى ما حزت بالخبب تمل من ملك مصر رتبة قصرت عنها الملوك فطالت سائر الرتب قد أمكنت أسد الدين الفريسة من فتح البلاد فبادر نحوها وثـب لقد فاز بالملـك العقيـم خليفـة له شيركوه العاضدي وزير هو الأسد الضاري الذي جل خطبه وشـاور كلـب للرجال عقور بغى وطغى حتى لقد قال صحبه علـى مثلهـا كـان اللعيـن يـدور فـلا رحـم الرحمن تربة قبره ولا زال فيها منكـر ونكيـر وأما الكامل بن شاور فلما قتل أبوه دخل القصر فكان آخر العهد به ولما لم يبق لأسد الدين شيركوه منازع أتاه أجله ‏)‏حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة( ‏(‏الأنعام‏:‏ 144‏)‏ وتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏

فكانت ولايته شهرين وخمسـة أيام وكان شيركوه وأيوب ابني شاذي من بلد دوين قال ابن الأثير‏:‏ وأصلهما من الأكراد الروادية فقصدا العراق وخدما بهروز شحنة السلجوقية ببغداد وكان أيوب أكبر من شيركوه فجعله بهروز مستحفظاً لقلعة تكريت ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة ومر على تكريت خدمه أيوب وشيركوه ثم إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت فأخرجهما بهـروز مـن تكريت فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جليلة ولما ملك عماد الدين زنكي قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظاً لها ولما حاصره عسكـر دمشـق بعـد موت زنكي سلمها أيوب إليهم على إقطاع كبير شرطوه له وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق وبقي شيركوه مع نور الدين محمـود بعـد قتـل أبيـه زنكـي وأقطعـه نـور الديـن حمـص والرحبة لما رأى من شجاعته وزاده عليهما وجعله مقـدم عسكـره فلمـا أراد نـور الديـن ملـك دمشق أمر شيركوه فكاتب أخاه أيوب فساعد أيوب نور الدين على ملك دمشق وبقيا مـع نـور الديـن إلـى أن أرسـل شيركـوه إلـى مصـر مـرة بعـد أخـرى حتـى ملكهـا وتوفـي فيهـا في هذه السنة علـى مـا ذكرنـاه ولمـا توفي شيركوه كان معه صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب ابن شاذي وكان قد سار معه على كره قال صلاح الدين‏:‏ أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شيركوه وكان قد قال شيركوه بحضرته لي‏:‏ تجهز يا يوسف للمسير فقلت‏:‏ والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها فلقد قاسيت بالإسكندرية مـا لا أنسـاه أبـداً فقـال لنـور الديـن لا بـد مـن مسيـره معـي فأمرنـي نور الدين وأنا أستقيل‏.‏

فقال نور الدين‏:‏ لا بد من مسيرك مع عمك‏.‏

فشكوت الضائقة فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أنساق إلى الموت فلما مات شيركوه طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر وولاية الوزارة العاضدية منهم عين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال المنبجي وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري وشهاب الدين محمود الحارمي وهـو خـال صلـاح الديـن فأرسـل العاضد أحضر صلاح الدين وولاه الوزارة ولقبه بالملك الناصر فلم تطعه الأمراء المذكورون وكان مع صلاح الدين الفقيه عيسى الهكاري فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين ثم قصد الحارمي وقال‏:‏ هذا ابن أختك وعزة وملكه لك فمال إليه أيضاً ثم فعل بالباقين كذلك فكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال‏:‏ أنا لا أخدم يوسف وعاد إلى نور الدين بالشام‏.‏

وثبـت قـدم صلـاح الديـن علـى أنـه نائـب لنـور الديـن وكـان نـور الديـن يكاتـب صلـاح الدين بالأمير الأسفهسلار ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عـن أن يكتـب اسمـه وكـان لا يفرده بكتاب بل إلى الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا ثـم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أباه أيوب وأهله فأرسلهم إليه نور الدين فأعطاهم صلاح الدين الإقطاعات بمصر وتمكن من البلاد وضعـف أمـر العاضـد ولمـا فـوض الأمـر إلـى صلاح الدين تاب عن شرب الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص لباس الجد ودام على ذلك إلى أن توفاه الله تعالى‏.‏

قال ابن الأثير مؤلف الكامل‏:‏ رأيت كثيراً من ابتدى بالملك ينتقل إلى غيره عقبه فإن معاوية تغلـب وملـك فانتقـل الملـك إلـى بنـي مروان ثم ملك السفاح من بني العباس فانتقل الملك إلى أخيه المنصور وعقبه ثم السامانية أول من ابتدى بالملك منهم نصر بن أحمد فانتقل الملك إلى أخيه إسماعيـل وعقبـه ثـم عماد الدولة بن بوية ملك فانتقل الملك إلى عقب أخيه ركن الدولة ثم ملك طغريل بك السلجوقي فانتقل الملك إلى عقب أخيه داود ثم شيركوه ملك فانتقل الملك إلى ابن أخيه ولما قام صلاح الدين بالملك لم يبق الملك في عقبه بل انتقل إلى أخيه العادل وعقبه ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى ذلك أولاً وأخذه الملك وعيون أهله وقلوبهم متعلقة به فيحرم عقبه ذلك‏.‏

ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة قتل مؤتمن الخلافة وكان مقدم السودان فاجتمعـت السودان وهم حفاظ القصر في عدد كثير وجرى بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعـة عظيمة بين القصرين انهزم فيها السودان وقتل منهم خلق كثير وتبعهم صلاح الدين فأجلاهم قتلاً وتهجيجاً وحكم صلاح الدين على القصر وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي وكان خصياً أبيض وبقي لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة كان بين إينانج صاحب الري وبين الدكز حرب انتصر فيها الدكز وملك الري وهرب إينانج وانحصر في بعض القلاع فأرسل الدكز ورغب غلمان إينانج في الإقطاعات إن قتلـوا إينـاج أستاذهم فقتلوه ولحقوا بالدكز فلم يف لهم وقال‏:‏ مثل هؤلاء لا ينبغي الإبقاء عليهم فهربوا إلى البلاد ولحق بعضهم وهو الذي قتل أستاذه بخوارزم شاه فصلبه لخيانته أستاذه‏.‏

وفيها توفي الشيخ أبو محمد الفارقي وكان أحد الزهاد وله كرامات كثيرة كان يتكلم علـى الخاطر وكلامه مجموع مشهور‏.‏

وفيها توفي ياروق أرسلان التركماني وكان مقدماً كبيراً وإليه تنسب الطائفة الياروقية مـن التركمـان وكـان عظيـم الخلقـة يسكـن بظاهـر حلـب وبنـى علـى شاطئ قويق هو وأتباعه عماير كثيرة وتعرف الآن بالياروقية وهي مشهورة هنا‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة

فيها سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها وشحنها صلاح الديـن بالرجـال والسلـاح والذخائـر وأخرج على ذلك أموالاً عظيمة فحصروها خمسين يوماً وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها‏.‏

قال صلاح الدين‏:‏ ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلي مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثيـاب وغيرها‏.‏

وفيها سار نور الدين وحاصر الكرك مدة ثم رحل عنه‏.‏

وفيها كانت زلزلة عظيمة خربت الشام فقام نور الدين في عمارة الأسواق وحفظ البلاد أتم قيام وكذلك خربت بلاد الفرنج فخافوا من نور الديـن واشتغـل كـل منهـم عـن قصـد الآخـر بعمارة ما خرب من بلاده‏.‏

وفيها في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل وكـان مرضه حمى حادة ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود إلى أخيه الذي هو أصغر منه وهو سيف الدين غازي بن مودود فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصراً به وتوفي قطب الدين وعمره أربعين سنة تقريباً وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً‏.‏

وكان من أحسن الملوك سيرة‏.‏

وفي هذه السنة توفي الملك طغريل بك بن قاورت بك صاحب كرمان واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه وهو الأكبر واستنجد كـل منهـم وطلـب الملـك فاتفـق فـي تلـك المـدة أن أرسلان شاه الأكبر مات فاستقر بهرام شاه في ملك كرمان‏.‏

وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية رضيع نور الدين وكانت حلب وحارم وقلعة جعبر إقطاعه فأقر نور الدين أخاه علياً بن الداية على إقطاعه‏.‏

وفيها توفي محمد بن محمد بن ظفر صاحب كتاب سلوان المطاع صنفه لبعض القواد بصقلية سنة أربع وخمسين وخمسمائة وله أيضاً كتاب نجباء الأبناء وشرح مقامـات الحريـري ومولـده بصقلية وتنقل بالبلاد وأقام بمكة شرفها الله تعالى وسكن آخر وقت مدينة حماة وتوفي بها ولم يزل يكابد الفقر حتى مات رحمه الله تعالى‏.‏