الفصل الثامن: المعتصم بالله

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

 المستعصم بالله         

ولما مات المستنصـر اتفقـت آراء أربـاب الدولـة مثـل الـدوادار والشرابـي علـى تقليـد الخلافـة ولـده عبـد اللـه ولقبـوه المستعصـم باللـه وهـو سابـع ثلاثينهـم وآخرهـم وكنيتـه أبـو أحمـد بـن المستنصر بالله منصور وكان عبد الله المستعصم ضعيف الرأي فاستبد كبراء دولته بالأمر وحسنوا له قطع الأجناد وجمع المال ومداراة التتر ففعل ذلك وقطع أكثر العساكر‏.‏

ثم دخلت سنة إحـدى وأربعيـن وستمائـة

فـي هـذه السنـة قصـدت التتـر بلاد غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الـروم فأرسـل واستنجـد بالحلبيين فأرسلوا إليه نجدة مع ناصح الدين الفارسي وجمع العساكر من كل جهة والتقى مع التتر فانهزمت عساكر الروم هزيمة قبيحة وقتل التتر وأسروا منهم خلقاً كثيراً وتحكمت التتر وأسروا منهم خلقاً كثيراً وتحكمت التتر في البلاد واستولوا أيضاً على خلاط وآمد وبلادهما وهرب غياث الدين كيخسرو إلى بعض المعاقل ثم أرسل إلى التترر وطلب الأمان ودخل في طاعتهم ثم توفي غياث الدين كيخسرو المذكور بعد ذلك في سنة أربع وخمسين وستمائة حسبما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وخلف صغيرين وهما ركن الدين وعز الدين ثم هرب عز الدين إلى قسطنطينية وبقي ركن الديـن فـي الملك تحت حكم التتر والحاكم البرواناه معين الدين سليمان والبرواناه لقبه وهو اسم الحاجب بالعجمي ثم إن‏ البرواناه قتل ركن الدين وأقام في الملك ولداً له صغيراً‏.‏

وفيها كانت المراسلة بين الصالح أيوب صاحب مصر والصالح إسماعيل صاحب دمشق في الصلح وأن يطلق الصالح إسماعيل المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح أيوب وحسام الدين بـن أبـي علـي الهذبانـي وكانـا معتقليـن عنـد الملـك الصالـح إسماعيـل فأطلـق حسـام الدين بن أبي علي وجهـزه إلـى مصـر واستمر الملك المغيث بن الصالح أيوب في الاعتقال واتفق الصالح إسماعيل مع الناصر داود صاحب الكرك واعتضد بالفرنج وسلما أيضاً إلى الفرنج عسقلاق وطبرية فعمـر الفرنج قلعتيهما وسلما أيضاً إليهم القدس بما فيه من المزارات‏.‏

قال القاضي جمال الدين بن واصل‏:‏ ومررت إذ ذاك بالقدس متوجهاً إلى مصر ورأيت القسوس وقد جعلوا على الصخرة قناني الخمر للقربان‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وستمائة

ذكر المصاف الذي كان بين عسكر مصر وعسكر الشام ومعهم الخوارزمية وبين عسكر دمشق ومعهم الفرنج وصاحب حمص‏:‏

في هذه السنة وصلت الخوارزمية إلى غزة باستدعاء الملك الصالح أيوب لنصرته على عمه الصالح إسماعيل وكان مسيرهم على حارم والروج إلى أطراف بلاد دمشق حتى وصلوا إلى غزة ووصل إليهم عدة كثيرة من العساكر المصرية مع ركن الدين بيبرس مملوك الملك الصالح أيوب وكان من أكبر مماليكه وهو الذي دخل معه الحبس لما حبس في الكرك وأرسل الملك الصالح إسماعيل عسكر دمشق مع الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص وسار صاحب حمص جريدة ودخل عكا فاستدعـى الفرنـج علـى مـا كـان قـد وقـع عليـه اتفاقهـم ووعدهم بجـزء مـن بلـاد مصـر فخرجـت الفرنـج بالفـارس والراجـل واجتمعـوا أيضـاً بصاحـب حمص وعسكر دمشق والكرك ولم يحضر الناصر داود ذلك والتقى الفريقان بظاهر غزة فولى عسكر دمشق وصاحب حمص إبراهيم والفرنـج منهزميـن وتبعهـم عسكـر مصـر والخوارزميـة فقتلوا منهم خلقاً عظيماً 7 واستولى الملك الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس ووصلت الأسرى والرؤوس إلى مصر ودقت بها البشائر عدة أيام ثـم أرسـل الملـك الصالـح صاحب مصر باقي عسكر مصر مع معين الدين ابن الشيخ واجتمع إليه من بالشام من عسكـر مصـر والخوارزميـة وساروا إلى دمشق وحاصروها وبها صاحبها الملك الصالح إسماعيل وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص وخرجت هذه السنة وهم محاصروها‏.‏

فـي هـذه السنـة توفـي جد الملك المظفر صاحب حماة تقي الدين محسن ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب يوم السبت ثامن جمادى الأولـى مـن هـذه السنـة أعنـي سنـة اثنتين وأربعين وستمائة وكانت مدة مملكته لحماة خمس عشرة سنـة وسبعـة أشهـر وعشرة أيام كان منها مريضاً بالفالج سنتين وتسعة أشهر وأياماً وكانت وفاته وهـو مفلـوج بحمـى حـادة عرضـت لـه وكـان عمره ثلاثاً وأربعين سنة لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة وكان شهماً شجاعاً فطناً ذكياً وكان يحب أهل الفضائل والعلوم واستخدم الشيخ علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف وكان مهندساً فاضلاً في العلوم الرياضية فبنى للملك المظفر المذكور أبراجاً بحماة وطاحوناً على نهر العاصي وعمـل لـه كـرة مـن الخشـب مدهونـة رسم فيها جميع الكواكب المرصودة وعملت هذه الكرة بحماة‏.‏

قال القاضي جمال الدين بن واصل‏:‏ وساعدت الشيخ علم الدين على عملها وكان الملك المظفر يحضر ونحن نرسمها ويسألنا عن مواضع دقيقة فيها‏.‏

ولما مات الملك المظفر صاحب حماة ملك بعده ولده الملك المنصور محمد ابـن الملـك المظفـر محمـود المذكور وعمره حينئذ عشر سنين وشهر واحد وثلاثة عشر يوماً والقائم بتدبير المملكة سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر ومشاركة الشيخ شرف الدين عبـد العزيـز بـن محمـد المعروف بشيخ الشيوخ والطواشي مرشد والوزير بهاء الدين بن التاج ومرجع الجميع إلى والدة الملك المنصور غازية خاتون بنت الملك الكامل‏.‏

وفيهـا بلـغ الملـك الصالـح نجـم الديـن أيـوب وفـاة ابنـه الملك المغيث فتح الدين عمر في حبس الصالح إسماعيل صاحب دمشق فاشتد حزن الصالح أيوب عليه وحنقه على الصالح إسماعيل‏.‏

وفي هذه السنة توفي الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب ميافارقين واستمر بعده في ملكه ولده الملك الكامل ناصر الدين محمد بن غازي‏.‏

وفيها سير من حماة الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن نصر الله المعروف بيته ببني المغيرك رسولاً إلى الخليفة ببغداد وصحبته تقدمة من السلطان الملك المنصور صاحب حماة‏.‏

وفيهـا توفـي القاضـي شهـاب الديـن إبراهيـم بـن عبـد اللـه بـن عبـد المنعـم بـن علي بن محمد الشافعي عـرف بابـن أبـي الـدم قاضـي حمـاة وكـان قـد توجـه في الرسلية إلى بغداد فمرض في المعرة وعاد إلى حماة مريضاً فتوفي بها وهو الذي ألف التاريخ الكبير المظفري وغيره‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة

فيها سير الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة الذي كان سامرياً وأسلم إلى العراق مستشفعاً بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه فلم يجب الخليفة إلى ذلك وكان أمين الدولة غالباً على الملك الصالح إسماعيل المذكور بحيث لا يخرج عن رأيه‏.‏

وفيها تسلم عسكر الملك الصالح أيوب ومقدمهم معين الدين ابن الشيخ دمشـق مـن الصالـح إسماعيل ابن الملك العادل وكان محصوراً معه بدمشـق إبراهيـم ابـن شيركـوه صاحـب حمـص فتسلـم دمشـق علـى أن يستقـر بيـد الصالـح إسماعيل بعلبك وبصرى والسواد ويستقر بيد صاحب حمص حمص وما هو مضاف إليها‏.‏

فأجابهما معين الدين ابن الشيخ إلى ذلك ووصل إلـى دمشق حسام الدين بن أبي علي بمن كان معه من العسكر المصري واتفق بعد تسليم دمشق أن معيـن الدين ابن الشيخ مرض وتوفي بها وبقي حسام الدين بن أبي علي نائباً بدمشق للملك الصالح أيوب‏.‏

ثم إن الخوارزمية خرجوا عن طاعة الملك الصالح أيوب فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق يحصل لهم من البلاد والإقطاعات ما يرضي خاطرهم فلما لم يحصل لهم ذلك خرجوا عن طاعة الملك الصالح أيوب وصاروا مع الملـك الصالـح إسماعيـل وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك وساروا إلى دمشق وحصروها وغلت بها الأقوات وقاسى أهلها شدة عظيمة لم يسمع بمثلها وقام حسام الدين بن أبي علي الهذباني في حفظ دمشق أتم قيام وخرجت السنة والأمر على ذلك‏.‏

وفي هذه السنة قصدت التتر بغداد وخرجت عساكر بغداد للقائهم ولم يكن للتتر بهم طاقة فولى التتر منهزمين على أعقابهم تحت الليل‏.‏

وفي هذه السنة توفيت ربيعة خاتون بنت أيوب أخت السلطان صلاح الدين بدمشق بدار العقيقي وكانت قد جاوزت ثمانين سنة وبنت مدرسة الحنابلة بجبل الصالحية‏.‏

وفيهما توفي الشيخ تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن الصلاح الفقيه المحدث‏.‏

وفيها توفي علم الدين علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي شرح قصيدة الشاطبي في القراءآت وشرح المفصل للزمخشري وسمى شرحه المفضل في شرح المفصل وله مجمـوع سمـاه كتاب سفر السعادة وسفير الإفادة ذكر فيها مسائل مشكلة في النحو وعدة من أبيات المعاني ولغة غريبة‏.‏

وفـي هـذه السنـة لمـا تسلم دمشق الملك الصالح أيوب تسلمت نواب الملك المنصور صاحب حماة سلمية وانتزعوها من صاحب حمص واستقرت سلمية في هذه السنة في ملك الملك المنصور صاحب حماة‏.‏

وفيهـا توفـي الشيـخ موفـق الدين أبو البقاء يعيش بن محمد بن علي الموصلي الأصل الحلبي المولد والمنشأ النحوي ويعرف بابن الصائغ وكان ظريفاً حسن المحاضرة شرح المفصل شرحاً مستوفـى ليـس فـي الشـروح مثله وله غير ذلك وولد في رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة بحلب وتوفي بها في التاريخ المذكور ودفن بالمقام‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة

ذكر كسرة الخوارزمية على القصب واستيلاء الصالح أيوب على بعلبك‏:‏

 كنا قد ذكرنا اتفاق الخوارزمية مـع الصالـح إسماعيـل والناصـر داود ومحاصرتهـم دمشـق وبهـا حسام الدين بن أبي علي ولما وقع ذلك اتفق الحلبيون والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص وصاروا مع الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل وقصدوا الخوارزمية فرحلت الخوارزمية عن دمشـق وسـاروا إلـى نحو الحلبيين وصاحب حمص والتقوا على القصب في هذه السنة فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة تشتت شملهم بعدها وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان وحمـل رأسه إلى حلب ومضت طائفة مـن الخوارزمييـن مـع مقدمهـم كشلوخـان الخوارزمـي فلحقـوا بالتتر وصـاروا معهـم وانقطـع منهـم جماعـة وتفرقـوا فـي الشـام وخدمـوا بـه وكفـا اللـه النـاس شرهم‏.‏

ولما وصل خبر كسرتهم إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر فرح فرحاً عظيماً ودقت البشائر بمصر وزال ما كان عنده من الغيظ على إبراهيـم صاحـب حمـص وحصـل بينهمـا التصافـي بسبـب ذلـك وأمـا الصالـح إسماعيـل فإنـه سـار إلـى الملـك الناصر يوسف صاحب حلب واستجار به وأرسل الصالح أيوب يطلبه فلم يسلمه الملك الناصر إليه ولما جرى ذلك رحل حسام الدين بن أبي علي الهذباني بمن عنده من العسكر بدمشق ونازل بعلبك وبها أولـاد الصالح إسماعيل وحاصرها وتسلمها بالأمان وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الملـك الصالـح أيوب بديـار مصـر فاعتقلـوا هنـاك وكذلـك بعـث بأميـن الدولـة وزيـر الملـك الصالـح إسماعيـل وأستاذ داره ناصر الديـن يغمـور فاعتقـلا بمصـر أيضـاً وزينـت القاهـرة ومصـر ودقـت البشائـر بهمـا لفتـح بعلبـك واتفـق فـي هـذه الأيام وفاة صاحب عجلون وهو سيف الدين بن قليج‏:‏ فتسلم الملك الصالح أيوب عجلون أيضاً ولما جرى ما ذكرناه أرسل الملك الصالح أيوب عسكراً مع الأميـر فخـر الديـن يوسـف ابـن الشيـخ وكـان فخـر الدين ابن الشيخ قد اعتقله الملك العادل أبو بكر ابن الملك الكامل ثم لما ملك الملك الصالح أيوب مصر أفرج عنه وأمره بملازمة بيته فلازمه مدة ثم قدمه في هذه السنة على العسكر وجهزه إلى حـرب الملـك الناصـر داود صاحـب الكـرك فسـار فخر الدين المذكور واستولى على جميع بلاد الملك الناصر وولي عليها وسار إلى الكرك وحاصرها وخرب ضياعها وضعف الملك الناصر ضعفاً بالغاً ولم يبق بيده غير الكرك وحدها‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة حبس الصالح أيوب مملوكه بيبرس وهو الذي كان معه لما اعتقل في الكرك وسببه أن بيبرس المذكور مال إلى الخوارزمية وإلى الناصر داود وصار معهم على أستاذه لما جرده إلى غزة كما تقدم ذكره فأرسل أستاذه الصالح أيوب واستماله فوصل إليه فاعتقله في هذه السنة وكان آخر العهد به‏.‏

وفيها أرسل الملك المنصور إبراهيم صاحـب حمـص بـن شيركـوه وطلـب دستـوراً مـن الملـك الصالـح أيوب ليصل إلى بابه وينتظم في سلك خدمته وكان قد حصل بإبراهيم المذكور السل وسـار علـى تلـك الحالـة مـن حمص متوجهاً إلى الديار المصرية ووصل إلى دمشق فقوي به المرض وتوفـي فـي دمشـق فنقـل إلـى حمـص ودفـن بهـا وملك بعده ولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم المذكور‏.‏

وفـي هـذه السنـة بعـد فتوح دمشق وبعلبك استدعى الملك الصالح أيوب خدمة حسام الدين بن أبي علي إلى مصر وأرسل موضعه نائباً بدمشق الأمير جمال الدين بن مطروح ولمـا وصـل حسام الدين بن أبي علي إلى مصر استنابه الملك الصالح بها وسار الملك الصالح أيوب إلى دمشق ثم سار منها إلى بعلبك ثم عاد إلى دمشق ووصل إلى خدمة الملك الصالح أيوب بدمشق الملك المنصور محمد صاحب حماة والملك الأشرف موسى صاحب حمص فأكرمهما وقربهما ثم أعطاهما الدستور فعادا إلى بلادهما واستمر الملك الصالح بالشام حتى خرجت هذه السنة‏.‏

وفي هذه السنة توفي عماد الدين داود بن موشك بالكرك وكان جامعاً لمكارم الأخلاق‏.‏

ثم دخلت سنة خمـس وأربعين وستمائة

وفيها عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى الديار المصرية‏.‏

وفيها فتح فخر الدين ابن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية والملك الصالح بالشام بعد محاصرتهما مـدة وكنـا قد ذكرنا تسليمهما إلى الفرنج في سنة إحدى وأربعين وستمائة فعمروهما واستمرتا بأيدي الفرنج حتى فتحتا في هذه السنة‏.‏

وفيهـا سلـم الأشـرف صاحـب حمـص شميميـس للملـك الصالح أيوب فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للملك الصالح في ملك باقي الشام‏.‏

وفيهـا توفـي الملـك العادل أبو بكر ابن السلطان الملك الكامل بالحبس وأمه الست السوداء تعرف ببنت الفقيه نصر وكان مسجوناً من حين قبض عليه ببلبيس إلى هذه الغاية فكان مدة مقامه بالسجـن نحـو ثمـان سنيـن وكـان عمـره نحـو ثلاثيـن سنـة وخلف ولداً صغيراً وهو الملك المغيث فتح الدين عمر وهو الذي ملك الكرك فيما بعد ثم قتله الملك الظاهر بيبرس على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي هذه السنة توجه الطواشي مرشد المنصوري ومجاهد الدين أمير جندار من حماه إلى حلب وأحضرا بنت الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر صاحب حلب وهي عائشة خاتون زوج الملك المنصور صاحـب حمـاة وحضـرت معهـا أمهـا فاطمـة خاتـون بنـت السلطـان الملـك الكامـل ابـن الملـك العـادل ووصلـت إلـى حمـاة في العشر الأوسط من رمضان من هذه السنة أعني سنة خمس وأربعين وستمائة ووصلت في تجمل عظيم واحتفل للقائها بحماة احتفالاً عظيماً‏.‏

وفي هذه السنة توفي علاء الدين قراسنقر الساقي العادلي أحد مماليك الملك العادل بن أيوب وصارت مماليكه بالولاء للملك الصالح أيوب ومنهم سيف الدين قلاوون الصالحي الذي صار له ملك مصر والشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيهـا توفـي عمـر بـن محمـد بـن عبـد اللـه المعـروف بالشلوبينـي بإشبيليـة كـان فاضلاً إماماً في النحو شـرح الجزولية وصنف في النحو غير ذلك وكان فيه مع هذه الفضيلة التامة بله وغفلة وكنيته أبـو علـي والشلوبينـي نسبـة إلـى شلوبيـن وهو حصن منيع من حصون الأندلس من معاملة سواحل غرناطـة علـى بحـر الـروم‏.‏

منـه عمـر الشلوبينـي المذكـور‏.‏

هـذا ما نص عليه ابن سعيد المغربي في كتابه الكبير المسمى بالمغرب في أخبار أهل المغرب في المجلدة الخامسة عشرة بعد ذكر غرناطة قال‏:‏ وقد وصف حصن شلوبين المذكور ومنه الشيخ أبو علي عمر الشلوبيني قال‏:‏ وقرأت عليه النحو وكان إمام نحاة أهل المغرب وكان في طبقة أبي علي الفارسي ومن هنا يتحقـق أن الذي نقله القاضي شمس الدين بن خلكان ومن تابعه أن الشلوبين هو الأبيض الأشقر بلغة أهل الأندلس وهم محض‏.‏

لعدم وقوفهم على كتاب المغرب في حلي أهل المغرب المذكور‏.‏

ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة

فيها أرسل الملك الناصر صاحب حلب عسكراً مع شمس الدين لؤلؤ الأرمني فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهريـن فسلـم إليهـم حمـص وتعـوض عنها بتل باشر مضافاً إلى ما بيده من تدمر والرحبة ولما بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب ذلك شق عليه وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه ثم فتح وحصل منه ناصور ووصل الملك الصالح إلى دمشق وأرسل عسكـراً إلـى حمـص مـع حسـام الديـن بـن أبـي علـى فخـر الديـن ابـن الشيـخ فنازلـوا حمـص وحصروها ونصبوا عليها منجنيقاً مغربياً يرمي بحجر زنتها مائة وأربعون رطلاً بالشامي مع عدة منجنيقات أخر وكان الشتاء والبرد قوياً واستمر عليهـا الحصـار واتفـق حينئـذ وصـول الخبـر إلـى الملـك الصالـح وهـو بدمشق بوصول الفرنج إلى جهة دمياط وكان أيضاً قد قوي مرضه ووصل أيضا نجم الدين الباذراي رسول الخليفة وسعى في الصلح بين الملك الصالح والحلبيين وأن تستقر حمص بيد الحلبيين فأجاب الملك الصالح إلى ذلك وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها‏.‏

ثـم رحـل الملـك الصالـح عن دمشق في محفة لقوة مرضه واستناب بدمشق جمال الدين بن يغمور وعزل ابن مطروح وأرسل حسام الدين بن أبي علي قدامه ليسبقه إلى مصر وينوب عنه بها‏.‏

وفيهـا فـي يـوم الخميـس السـادس والعشريـن مـن شـوال من السنة المذكورة أعني سنة ست وأربعين وستمائة توفي أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس المعروف بابن الحاجب الملقب جمـال الديـن وكـان والـده عمـر حاجبـاً للأميـر عـز الديـن بـن موسـك الصلاحـي وكان كردياً واشتغل ولده أبو عمرو المذكور في صغره بالقرآن والفقه على مذهب مالك بن أنس وبالعربية وبـرع فـي علومـه وأتقنهـا ثـم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها وأكب الخلق على الاشتغال عليه ثم عاد إلى القاهرة ثم انتقل إلى الإسكندرية فتوفي بها‏.‏

بأسنا بليدة بالصعيد وكان الشيخ أبو عمرو المذكور متفنناً في علوم شتى وكان الأغلب عليه علم العربية وأصول الفقه صنف في العربية مقدمته الكافية واختصـر كتـاب الأحكـام للآمـدي فـي أصـول الفقـه فطبـق ذكـر هذين الكتابين أعني الكافية ومختصره في أصول الفقه جميع البلاد خصوصاً بلاد العجم واكب الناس على الاشتغال بهما إلى زماننا هذا وله غيرهما عدة مصنفات‏.‏

وفيهـا أعنـي فـي سنـة سـت وأربعيـن وستمائة توفي عز الدين أيبك المعظمي في محبسه بالقاهرة وكان المذكور قد ملك صرخد في سنة ثمان وستمائة حسبما تقدم ذكره في السنة المذكورة وقال ابن خلكان‏:‏ أنه ملك صرخد في سنة إحدى عشرة وستمائة‏.‏

قال‏:‏ لأن أستاذه الملك المعظـم عيسـى ابـن الملك العادل أبي بكر بن أيوب‏.‏

حج في السنة المذكورة وأخذ صرخد من صاحبها ابن قراجا وأعطاها مملوكه أيبك المذكور والظاهر أن الأول أصح واستمرت في يـد أيبك إلى سنة أربع وأربعين وستمائة فأخذها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل من أيبك المذكور وأمسك أيبك في السنة المذكورة وحمله إلى القاهرة وحبسه في دار الطواشي صواب واستمـر معتقـلاً بهـا حتـى توفـي معتقـلاً فـي هـذه السنـة فـي أوائل جمادى الأولى ودفن خارج باب النصـر فـي تربـة شمـس الدولـة ثـم نقـل إلـى الشـام ودفـن فـي تربـة كـان قـد أنشأهـا بظاهـر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير رحمه اللـه تعالـى هكـذا نقلـت ذلـك مـن وفيات الأعيان‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة

ذكر ملك الفرنج دمياط ونزول الملك الصالح أشمون طناخ‏:‏ وفي هذه السنة سار ريد إفرنس وهو من أعظم ملوك الفرنج وريد بلغتهم هو الملك أي ملك إفرنس وإفرنس أمة عظيمة من أمم الفرنج وكان جمع ريد إفرنـس نحـو خمسيـن ألـف مقاتـل وشتى في جزيرة قبرس ثم سار ووصل في هذه السنة إلى دمياط وكان قد شحنها الملك الصالح بآلات عظيمة وذخائر وافرة وجعل فيها بني كنانة وهم مشهورون بالشجاعة وكان قد أرسـل الملـك الصالح فخر الدين ابن الشيخ بجماعة كثيرة من العسكر ليكونوا قبالة الفرنج بظاهر دمياط ولما وصلت الفرنج عبر فخر الدكن ابن الشيخ من البر الغربي إلى البر الشرقي ووصل الفرنج إلى البر الغربي لتسع بقين من صفر هذه السنة ولما جرى ذلك هربت بنو كنانة وأهل دمياط منها وأخلوا دمياط وتركوا أبوابها مفتحة فتملكها الفرنج بغير قتال واستولوا على ما بها من الذخائر والسلاحات وكان هذا من أعظم المصائب وعظم ذلك علـى الملـك الصالـح وأمر بشنق بني كنانة فشنقوا عن آخرهم‏.‏

ووصل الملك الصالح إلى المنصورة ونزل بها يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر هذه السنة وقد اشتد مرضه وهو السل والقرحة التي كانت به وقد أيس منه‏.‏

ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على الكرك

وفـي هـذه السنـة سـار الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب من الكرك إلى حلب لما ضاقت عليه الأمور مستجيراً بالملك الناصر صاحب حلـب وكان قد بقي عند الناصر داود من الجوهر مقدار كثير قال‏:‏ كان يساوى مائة ألف دينار إذا بيع بالهـوان فلمـا وصـل إلـى حلـب سيـر الجوهـر المذكـور إلـى بغـداد وأودعـه عنـد الخليفـة المستعصم ووصل إليه خط الخليفة بتسليمه فلم تقع عينه عليه بعد ذلك ولما سار الناصر داود عن الكرك استناب عليها ابنه عيسى ولقبه الملك المعظم وكان له ولدان آخران أكبر من عيسـى المذكـور همـا الأمجـد حسـن والظاهـر شـاذي فغضـب الأخـوان المذكـوران مـن تقديـم أخيهما عيسى عليهما وبعد سفر أبيهما قبضا على أخيهما عيسى وتوجه الأمجد حسن إلى الملك الصالح أيوب وهو مريض على المنصورة وبذل له تسليم الكرك على إقطاع له ولأخيه بديـار مصـر فأحسـن إليـه الصالـح أيـوب وأعطاهمـا إقطاعاً أرضاهما وأرسل إلى الكرك وتسلمهـا يـوم الاثنيـن لاثنتـي عشـرة ليلـة بقيـت مـن جمـادى الآخـرة من هذه السنة وفرح الملك الصالح بالكرك فرحاً عظيماً مع ما هو فيه من المرض لما كان في خاطره من صاحبها‏.‏

ذكر وفاة الملك الصالح أيوب

وفـي هـذه السنـة توفـي الملـك الصالـح نجـم الديـن أيـوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكـر بن أيوب في ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة مضت من شعبان هذه السنة أعني سنة سبع وأربعين وستمائة وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنيـن وثمانيـة أشهـر وعشريـن يومـاً وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة وكان مهيباً عالي الهمة عفيفاً طاهر اللسان والذيل شديد الوقار كثير الصمت وجمع من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه وسماهم البحرية وكان لا يجسر أن يخاطبه أحد إلا جواباً ولا يتكلم أحد بحضرتـه ابتـداء وكانـت القصـص توضـع بيـن يديـه مـع الخدام فيكتب بيده عليها وتخرج للموقعين وكان لا يستقل أحد من أهل دولته بأمر من الأمور إلا بعد مشاورته بالقصص وكان غاوياً بالعمارة بنى قلعة الجزيرة وبنى الصالحية وهي بلدة بالسائح وبنى لـه بهـا قصـوراً للتصيـد وبنـى قصـراً عظيمـاً بيـن مصـر والقاهـرة يسمـى وكانت أم الملك الصالح أيوب المذكور جارية سوداء تسمى ورد المنى غشيها السلطان الملك الكامـل فحملـت بالملـك الصالـح وكـان للملك الصالح ثلاثة أولاد أحدهم فتح الدين عمر توفي في حبـس الصالـح إسماعيـل وكـان قـد توفـي ولده الآخر قبله ولم يكن قد بقي له غير المعظم توران شاه بحصن كيفا ومات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد فلما توفي أحضرت شجرة الـدر وهـي جارية الملك الصالح فخر الدين ابن الشيخ والطواشي جمال الدين محسناً وعرفتهما بموت السلطان فكتموا ذلك خوفاً من الفرنج وجمعـت شجـر الـدر الأمـراء وقالـت لهم‏:‏ السلطان يأمركم أن تحلفوا له ثم من بعده لولده الملك المعظم توران شاه المقيـم بحصـن كيفـا وللأميـر فخـر الديـن ابن الشيخ بأتابكية العسكر وكتب إلى حسام الدين ابن أبي علي وهو النائب بمصر بمثل ذلك فحلفت الأمراء والأجناد والكبراء بالعسكر وبمصر وبالقاهرة على ذلك فـي العشر الأوسط من شعبان هذه السنة وكان بعد ذلك تخرج الكتب المراسم وعليها علامة الملـك الصالح وكان يكتبها خادم يقال له السهيلي فلا يشك أحد في أنه خط السلطان فأرسل فخر الدين ابن الشيخ قاصداً لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا ولما جرى ذلك شاع بين النـاس مـوت السلطـان ولكـن أربـاب الدولـة لا يجسـرون أن يتفوهـوا بذلـك وتقدم الفرنج عن دميـاط إلـى المنصـورة وجـرى بينهـم وبيـن المسلميـن فـي مستهـل رمضـان مـن هـذه السنـة وقعة عظيمة استشهد فيها جماعة من كبار المسلمين ونزلت الفرنج بحر مساح ثم قربوا من المسلمين ثم إن الفرنـج كبسـوا المسلميـن علـى المنصـورة بكرة الثلاثاء لخمس مضين من ذي القعدة وكان فخر الدين يوسف ابن الشيخ صدر الدين ابن حمويه في الحمام بالمنصورة فركب مسرعاً وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه وكان سعيداً في الدنيا ومات شهيداً‏.‏

ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج فردوهم على أعقابهم واستمرت بهم الهزيمـة وأما الملك المعظم توران شاه فإنه سار من حصن كيفا ووصل إلى دمشق في رمضان من هـذه السنـة وعّيـد بهـا عيـد الفطـر ووصل إلى المنصورة يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة سبع وأربعين وستمائة ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنج براً وبحراً ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج وأخـذوا منهـم اثنيـن وثلاثيـن مركبـاً منهـا تسـع شوانـي فضعفت الفرنج لذلك وأرسلوا يطلبون القدس وبعض الساحل وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين فلم تقع الإجابة إلى ذلك‏.‏

ذكر غير ذلك وفي هذه السنة وقع الحرب بين صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ وبين الملك الناصر صاحب حلب فأرسل إليه الملك الناصر عسكراً والتقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين فانهزمت المواصلة هزيمـة قبيحـة واستولـى الحلبيـون على أثقال لؤلؤ صاحب الموصل وخيمه وتسلم الحلبيون نصيبين وأخذوها من صاحب الموصل ثم ساروا إلى دارا فنازلوها وتسلموها وخربوها بعد حصار ثلاثة أشهر ثم تسلموا قرقيسيا وعادوا إلى حلب‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة

ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم

لما أقام الفرنج قبالة المسلمين بالمنصورة فنيت أزوادهم وانقطع عنهم المدد من دميـاط فـإن المسلمين قطعوا الطريق الواصل من دمياط إليهم فلم يبق لهم صبراً على المقام فرحلوا ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرم متوجهيـن إلـى دميـاط وركـب المسلمـون أكتافهـم ولمـا استقـر صباح الأربعاء خالطهم المسلمون وبذلوا فيهم السيف فلم يسلم منهم إلا القليل وبلغت عدة القتلـى من الفرنج ثلاثين ألفا على ما قيل وانحاز ريد إفرنس ومن معه من الملوك إلى بلد هناك وطلبـوا الأمـان فأمنهم الطواشي محسن الصالحي ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة وقيد ريد إفرنس وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان ووكل به الطواشي صبيح المعظمي ولما جرى ذلك رحل الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفار ذكر مقتل الملك المعظم وفـي هـذه السنـة يـوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب وسبب ذلك‏:‏ أن المذكور أطـرح جانـب أمـراء أبيـه ومماليكـه وكـل منهـم بلغـه عنـه مـن التهديد والوعيد ما نفر قلبه منه واعتمد على بطانته الذين وصلوا معه من حصن كيفا وكانوا أطرافاً أراذل فاجتمعـت البحريـة علـى قتلـه بعـد نزولـه بفارسكـور وهجمـوا عليـه بالسيـوف وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار سلطاناً فيما بعد على ما سنذكره إن شاء اللـه تعالـى فهـرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور على ما تقدم ذكره فأطلقوا في البرج النار فخرج الملك المعظم من البرج هارباً طالبـاً البحـر ليركـب فـي حراقتـه فحالـوا بينه وبينها بالنشاب فطرح نفسه في البحر فأدركوه وأتموا قتله في نهار الإثنين المذكور وكانت مدة إقامته في المملكة من حين وصوله إلى الديار المصرية شهرين وأياماً‏.‏

ولما جرى ذلك اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجرة الدر زوجة الملك الصالح في المملكـة وأن يكـون عـز الديـن أيبـك الجاشنكيـر الصالحـي المعـروف بالتركمانـي أتابك العسكر وحلفـوا علـى ذلـك وخطـب لشجـرة الـدر علـى المنابـر وضربـت السكـة باسمهـا وكـان نقـش السكة المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل وكانـت شجـرة الـدر قد ولدت من الملك الصالح ولداً ومات صغيراً وكان اسمه خليل فسميت والدة خليل وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع والدة خليل ولمـا استقـر ذلـك وقـع الحديـث مـع ريـد إفرنس في تسليم دمياط بالإفراج عنه فتقدم ريد إفرنس إلى من بها من نوابه في تسليمها فسلموها وصعد إليها العلم السلطاني يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر من هذه السنة أعني سنـة ثمـان وأربعيـن وستمائـة وأطلـق ريـد إفرنـس فركـب في البحر بمن سلم معه نهار السبت غد الجمعة المذكورة وأقلعوا إلى عكا ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار وفي واقعة ريد إفرنس المذكورة يقول جمال الدين يحيى بن مطروح أبياتاً منها‏:‏

قل للفرنسيس إذا جئته مقال

**

صدق عـن قـؤول نصيـح

أتيت مصراً تبتغي ملكها

**

تحسب أن الزمر يا طبـل ريـح

وكل أصحابك أوردتهم

**

بحصـن تدبيـرك بطن الضريح

خمسون ألفاً لا يرى منهـم

**

غير قتيل أو أسير جريـح

وقل لهم إن أضمروا عودة

**

لأخـذ ثـار أو لقصـد صحيـح

دار ابن لقمان على حالها

**

والقيد باقي والطواشي صبيح

 ثـم عـادت العساكـر ودخلـت القاهـرة يـوم الخميـس تاسـع صفر من الشهر المذكور وأرسل المصريون رسولاً إلى الأمراء الذين بدمشق في موافقتهم على ذلك فلم يجيبوا إليه وكان الملك السعيد ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل صاحب الصبيبة قد سلمها إلى الملك الصالح أيوب فلما جرى ذلك قصد قلعة الصبيبة فسلمت إليه وكان من الملك السعيد ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ملك الملك المغيث الكرك

كان الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب قد أرسله الملك المعظم توران شاه لما وصل إلى الديار المصرية إلى الشوبك واعتقله بها وكان النائب على الكرك والشوبـك بـدر الديـن الصوابـي الصالحـي فلمـا جرى ما ذكرناه من قتل الملك المعظم وما استقر عليه الحال بادر بدر الدين الصوابي المذكور فأفرج عن المغيث وملكه القلعتين الكرك والشوبك وقام في خدمته أتم قيام‏.‏

ذكر استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على دمشق

ولما جرى ما ذكرناه ولم يجب أمراء دمشق إلى ذلك كاتب الأمراء القيميرية الذين بها الملك الناصر يوسف صاحب حلب ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطـان الملك الناصر صلاح الدين فسار إليهم وملك دمشق ودخلها في يوم السبت لثمان مضين من ربيـع الآخـر مـن هـذه السنـة ولمـا استقـر الناصر المذكور في ملك دمشق خلع على جمال الدين بن يغمور وعلى الأمراء القيمرية به وأحسن اليهم واعتقل جماعة من الأمراء مماليك الملك الصالح وعصت عليه بعلبك وعجلون وشميميس مدة مديدة ثم سلمت جميعها إليه ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين‏.‏

ذكر سلطنة أيبك التركماني

ثم إن كبراء الدولة اتفقوا على إقامة عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي في السلطنة لأنه إذا استقر أمر المملكة في امـرأة علـى مـا هـو عليـه الحـال تفسـد الأمـور فأقامـوا أيبـك المذكـور وركب بالسناجق السلطانية وحملت الغاشية بين يديه يوم السبت آخر ربيع الآخر من هذه السنة ولقب الملك المعز وأبطلت السكة والخطبة التي كانت باسم شجرة الدر‏.‏

ذكر عقد السلطنة للملك الأشرف موسى بن يوسف صاحب اليمن المعروف باقسيس‏:‏

ابـن الملـك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ثم اجتمعت الأمراء واتفقوا على أنه لا بـد من إقامة شخص من بني أيوب في السلطنة واجتمعوا على إقامة موسى المذكور ولقبوه الملك الأشرف وأن يكون أيبك التركماني أتابكه وأجلس الأشرف موسى المذكور في دست السلطنة وحضرت الأمراء في خدمته يوم السبت لخمس مضين من جمادى الأولى من هذه السنة وكان بغزة حينئذ جماعة من عسكر مصر مقدمهـم خـاص تـرك فسـار إليهـم عسكـر دمشق فاندفعوا من غزة إلى الصالحية بالسائح واتفقـوا علـى طاعـة المغيـث صاحـب الكـرك وخطبوا له بالصالحية يوم الجمعة لأربع مضين من جمادى الآخرة من هذه السنة ولما جـرى ذلك اتفق كبراء الدولة بمصر ونادوا بالقاهرة ومصر أن البلاد للخليفة المستعصـم ثـم جـددت الأيمان للملك الأشرف موسى بالسلطنة ولأيبك التركماني بالأتابكية وفي يـوم الأحـد لخمـس مضين من رجب رحل فارس الدين أقطاي الصالحي الجمدار متوجهاً إلى جهة غـزة ومعـه تقدير ألفي فارس وكان أقطاي المذكور مقدم البحرية فلما وصل إلى غزة اندفع من كان بها من جهة الناصر بين يديه‏.‏

ذكر تخريب دمياط

وفي هذه السنة اتفق آراء أكابر الدولة وهدموا سور دمياط في العشر الأخير من شعبان هـذه السنـة لمـا حصـل للمسلميـن عليهـا مـن الشـدة مرة بعد أخرى وبنوا مدينة بالقرب منها في البر وسموها المنشية وأسوار دمياط التي هدمت من عمارة المتوكل الخليفة العباسي‏.‏

وفي هذه السنة مستهل شعبان قبض الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب علي الناصر داود الذي كان صاحب الكرك وبعث به إلى حمص فاعتقل بها وذلك لأشياء بلغت الناصر يوسف عن المذكور خاف منها‏.‏

مسير الملك الناصر يوسف إلى الديار المصرية ذكر مسير السلطان الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الديار المصرية وكسرته‏:‏

وفي هذه السنة سار الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز بعساكره من دمشق وصحبته من ملوك أهل بيته الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب والأشرف موسى صاحب حمص وهو حينئذ صاحب تل باشر والرحبة وتدمر والمعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين وأخو المعظم المذكور نصرة الدين والأمجد حسن والظاهر شاذي ابنا الناصر داود ابـن الملك المعظم عيسى ابن العادل ابن أيوب وتقي الدين عباس ابن الملك العادل بن أيوب ومقدم الجيش شمس الدين لؤلؤ الأرمني وإليه تدبير المملكة فرحلوا من دمشق يوم الأحد منتصف رمضان من هذه السنة ولما بلغ المصريين ذلك اهتموا لقتاله ودفعه وبرزوا إلى السائح وتركوا الأشـرف المسمـى بالسلطـان بقلعـة الجبـل وأفـرج أيبـك التركمانـي حينئذ عن ولدي الصالح إسماعيل وهما المنصور إبراهيم والملك السعيد عبد الملك ابنا الصالح إسماعيل وكانا معتقلين مـن حيـن استيلاء الملك الصالح أيوب على بعلبك وخلع عليهما ليتوهم الناصر يوسف صاحب دمشق من أبيهما الصالح إسماعيل والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسة في يوم الخميس عاشر ذي العقدة من هذه السنة فكانت الكسرة أولاً على عسكر مصر فخامر جماعـة مـن المماليـك التـرك العزيزيـة علـى الملـك الناصر صاحب دمشق وثبت المعز أيبك التركمانـي فـي جماعـة قليلة من البحرية فانضاف جماعة من العزيزية مماليك والد الملك الناصر إلى أيبك التركماني ولما انكسر المصريون وتبعتهم العساكر الشامية ولم يشكوا في النصر بقي الملك الناصر تحت السناجق السلطانية مع جماعة يسيرة من المتعممين لا يتحرك من موضعه فحمل المعز التركماني بمـن معـه عليـه فولـى الملـك الناصـر منهزمـاً طالبـاً جهـة الشـام ثـم حمـل أيبـك التركماني المذكور على طلب شمس الدين لؤلؤ فهزمهم وأخذ شمس الدين لؤلؤ أسيراً فضربت عنقه بين يديه وكذلك أسر الأمير ضياء الديـن القيمـري فضربـت عنقـه وأسـر يومئـذ الملـك الصالح إسماعيل والأشرف صاحب حمـص والمعظـم تـوران شـاه بـن صلـاح الديـن بـن أيـوب وأخـوه نصـرة الديـن ووصـل عسكر الملك الناصر في إثر المنهزمين إلى العباسة وضربوا بها دهليز الملك الناصر وهم لا يشكون أن الهزيمة تمت على المصريين فلما بلغهم هروب الملك الناصر اختلفت آراؤهم فمنهم من أشار بالدخول إلى القاهرة وتملكها ولو فعلوه لما كان بقي مع أيبك التركماني من يقاتلهم به وكان هرب فإن غالب المصريين المنهزمين وصلوا إلى الصعيد ومنهم من أشار بالرجوع إلى الشام وكان معهم تاج الملوك ابن المعظم وهو مجروح وكانت الواقعة يوم الخميس ووصل المنهزمون من المصريين إلى القاهرة في غد الوقعة نهار الجمعة فلم يشك أهل مصـر فـي ملـك الملـك الناصر ديار مصر وخطب له في الجمعة المذكورة بقلعة الجبل وبمصر وأما القاهرة فلم يقم فيها في ذلك النهار خطبة لأحد ثم وردت إليهم البشرى بانتصار البحريـة ودخل أيبك التركماني والبحرية إلى القاهرة يوم السبـت ثانـي عشـر ذي القعـدة ومعـه الصالـح إسماعيل تحت الاحتياط وغيره من المعتقلين فحبسوا بقلعة الجبل وعقيب ذلك أخرج أيبك التركمانـي أميـن الدولـة وزيـر الصالـح إسماعيـل وأستاذ داره يغمور وكانا معتقلين من حين استيـلاء الصالـح أيـوب علـى بعلبـك فشنقهمـا علـى بـاب قلعـة الجبـل رابع عشر ذي القعدة وفي ليلة الأحـد السابـع والعشريـن من ذي القعدة هجم جماعة على الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل بن أيوب وهو يمص قصب سكر وأخرجوه إلى ظاهر قلعة الجبل من جهة القرافة فقتلوه ودفن هناك وعمره قريب من خمسين سنة وكانت أمه رومية من خطايا الملك العادل‏.‏

وفي هذه السنة بعد هزيمة الملك الناصر صاحب الشام سار فارس الدين ذكر قتل صاحب اليمن وفي هذه السنة وثب على الملك المنصور عمر صاحب اليمن جماعة من مماليكه فقتلوه وهو عمر بن علي بن رسول وكان والده علي بن رسول أستاذ دار الملك المسعود ابن السلطان الملك الكامل فلما سار الملك المسعود قاصداً الشام ومات بمكة على ما تقدم ذكره استناب أستاذ داره علي بن رسول المذكور باليمن فاستقر نائباً بها لبني أيوب وكان لعلـي المذكـور إخوة فأحضروا إلى مصر وأخذوا رهائن خوفاً من تغلب علي بن رسول على اليمن واستمر المذكـور نائبـاً باليمـن حتـى مـات قبـل سنـة ثلاثيـن وستمائـة واستولى على اليمن بعده ولده عمر بن علي لمذكور على ما كان عليه أبوه من النيابة فأرسل من مصر أعمامه ليعزلوه ويكونوا نواباً موضعه فلما وصلوا إلى اليمن قبض عمر المذكور عليهم واعتقلهم واستقل عمر المذكور بملك اليمن يومئذ وتلقب بالملك المنصور واستكثر من المماليك الترك فقتلوه في هذه السنة أعني سنة ثمان وأربعين وستمائة‏.‏

واستقر بعده في ملك اليمن ابنه يوسف بن عمر وتلقب بالملك المظفر وصفا له ملك اليمن وطالت أيام مملكته على ما سنعلمه إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة

فيهـا توفي الصاحب محي الدين بن مطروح وكان متقدماً عند الملك الصالح أيوب كان يتولى له لما كان الصالح بالشرق ينظر الجيش ثم استعمله على دمشق ثم عزله وولى ابن يغمور وكان ابن مطروح المذكور فاضلاً في النثر والنظم فمن شعره‏:‏ عانقته فسكرت من طيب الشذا غصن رطيب بالنسيم قد اغتذا نشـوان مـا شـرب المـدام وإنما أضحـى بخمـر رضابـه متنبـذا جاء العذول يلومني من بعدمـا أخـذ الغـرام علـي فيـه مأخـذا لا أرعوي لا أنثني لا أنتهي عن حبه فليهذ فيه مـن هـذى إن عشت عشت على الغرام وإن أمت وجـداً به وصبابة يا حبذا وفيها جهز الملك الناصر يوسف صاحب الشام عسكراً إلى غزة وخرج المصريون إلى السائح وأقاموا كذلك حتى خرجت هذه السنة‏.‏

وفيها توفي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الفقيه الحنفي المقرئ المعروف بتعاسيف وكان إماماً في العلوم الرياضية اشتغل بالديار المصرية والشام ثم سار إلى الموصـل وقرأ على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس علم الموسيقى ثم عاد إلى الشام وتوفي بدمشق في شهر رجب من السنة المذكورة ومولده سنة أربع وسبعين وخمسمائة بأصفون من.

ثم دخلت سنة خمسين وستمائة

ولم يقع لنا فيها ما يصلح أن يؤرخ‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة

فيها استقر الصلح بين الملك الناصر يوسف صاحب الشام وبين البحرية بمصر على أن يكون للمصريين إلى نهر الأردن وللملك الناصر ما وراء ذلك وكان نجم الدين البادراي رسول الخليفة هو الذي حضر من جهة الخليفة وأصلح بينهم على ذلك ورجع كل منهم إلى مقره‏.‏

وفيها قطع أيبك التركماني خبر حسام الدين بن أبي علي الهذباني فطلب دستوراً فأعطيه وسار إلى الشام فاستخدمه الملك الناصر يوسف بدمشق‏.‏

ذكر أحوال الناصر صاحب الكرك

وفيهـا أفـرج الملـك الناصـر يوسـف عـن الملـك الناصـر داود ابـن المعظـم الذي كان صاحب الكرك وكان قد اعتقله بقلعة حمص وذلك بشفاعة الخليفة المستعصم فيه فأفرج عنه وأمره أن لا يسكن في بلاده فرحل الناصر داود المذكور إلى جهة بغداد فلم يمكنوه من الوصول إليها وطلب وديعته الجوهر فمنعوه إياها وكتب الملك الناصر يوسف إلـى ملـوك الأطـراف أنهـم لا يأووه ولا يميروه فبقي الناصر داود في جهات عانة والحديثة وضاقت به الأحـوال وبمـن معـه وانضـم إليه جماعة من غزيه فبقوا يرحلون وينزلون جميعاً ثم لما قوي عليهم الحر ولم يبق بالبرية عشب قصدوا أزوار الفرات يقاسون بن الليـل وهواجـر النهـار وكـان معـه أولـاده وكـان لولـده الظاهر شافي فهد فكان يتصيد في النهار ما يزيد على عشرة غزلان وكان يمضي للملك الناصر داود وأصحابه أياماً لا يطعمون غير لحوم الغزلان واتفق أن الأشرف صاحب تل باشر وتدمر والرحبة يومئذ أرسل إلى الناصر داود مركبين موسقين دقيقاً وشعيراً فأرسل صاحب دمشق وتهـدده علـى ذلـك ثـم إن ناصـر داود قصـد مكانـاً للشرابـي واستجـار بـه فرتـب لـه الشرابي شيئاً دون كفايته وأذن له في النزول بالأنبار وبينها وبين بغداد ثلاثة أيام والناصر في داود مـع ذلـك يتضـرع إلـى الخليفـة المستعصم فلا يجيب ضراعته ويطلب وديعته فلا يرد لهفته ولا يجيبه إلا بالمماطلة والمطاولة وكانت مدة مقامه متنقـلاً فـي الصحـاري مـع غزيـه قريـب ثلاثـة أشهر ثم بعد ذلك أرسل الخليفة وشفع فيه عند الملك الناصر فأذن له في العود إلى دمشق ورتب له مائة ألف درهم على بحيرة فامية وغيرها فلم يتحصل من ذلك إلا دون ثلاثين ألف درهم‏.‏

وفـي هـذه السنـة وصلـت الأخبـار من مكة بأن ناراً ظهرت من عدن وبعض جبالها بحيث كانت تظهر في الليل ويرتفع منها في النهار دخان عظيم‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وستمائة

وإنما ذكرناها في هذه السنة لأنها كالمتوسطة لمدة ملكهم وهو ما نقلناه مـن الشيـخ الفاضـل ركن الدين بن قوبع التونسي قال‏:‏ والحفصيون أولهم أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي وهنتاتة - بتائيـن مثناتيـن مـن فوقهمـا - قبيلـة مـن المصامـدة ويزعمـون أنهم قرشيون من بني عدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان أبو حفص المذكور من أكبر أصحاب ابن تومرت بعـد عبـد المؤمن وتولى عبد الواحد بن أبي حفص إفريقية نيابة عن بني عبد المؤمن في سنة ثلـاث وستمائة ومات سلخ ذي الحجة سنة ثمان عشرة وستمائة فتولى أبو العلاء من بني عبد المؤمـن ثـم توفـي فعـادت إفريقيـة إلـى ولايـة الحفصييـن وتولـى منهم عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص في سنة ثلاث وعشرين وستمائة‏.‏

ولمـا تولـى ولـى أخاه أبا زكريا يحيى قابس وأخاه أبا إبراهيم إسحاق بلاد الجريد ثم خرج على عبد الله وهو على قابس أصحابه ورجموه وطردوه وولوا موضعه أخاه أبا زكريا بن عبد الواحد سنة اثنتين وستين فنقم بنو عبد المؤمن على أبي زكريا ذلك فأسقط أبو زكريا اسم عبد المؤمن من الخطبة وبقي اسم المهدي وخلع طاعة بني عبد المؤمن وتملك إفريقية وخطب لنفسه بالأمير المرتضى واتسعت مملكته وفتح تلمسان والغرب الأوسط وبلاد الجريد والـزاب وبقي كذلك حتى توفي على بونة سنة سبع وأربعين وستمائة‏.‏

وأنشأ في تونس بنايات عظيمة شامخة وكان عالماً بالأدب وخلف أربعة بنين وهم‏:‏ أبو عبد الله محمد وأبو إسحاق إبراهيم وأبو حفص عمر وأبو بكر وكنيته أبو يحيى وخلف أخوين وهما‏:‏ أبو إبراهيم إسحاق ومحمد اللحياني ابني عبد الواحد بن أبي حفص‏.‏

وكان محمد اللحياني المذكور صالحاً منقطعاً يتبرك به ثم تولى بعده ابنه أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا ثـم سعـى عمـه أبـو إبراهيـم فـي خلعـه فخلـع وبايـع لأخيـه محمـد اللحيانـي الزاهـد على كره منه لذلك فجمع أبو عبد الله محمد المخلوع أصحابه في يوم خلعه وشد على عميه فقهرهما وقتلهما واستقر في ملكه وتلقب وخطب لنفسه بالمستنصر بالله أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد ابن الأمراء الراشدين‏.‏

وفي أيامه في سنة ثمان وستين وستمائة وصل الفرنسيس إلى إفريقية بجموع الفرنج وأشرفت إفريقية على الذهاب فقصمه الله ومات الفرنسيس وتفرقت تلك الجمـوع‏.‏

وفـي أيامـه خافـه أخـوه أبـو إسحاق إبراهيم بن أبي زكريا فهرب ثم أقام بتلمسان وبقي المستنصر المذكور كذلك حتى توفي ليلة حادي عشر ذي الحجة سنة خمس وسبعين وستمائة‏.‏

فملك ابنه يحيى بن محمد بن أبي زكريا وتلقب بالواثق بالله أمير المؤمنين وكان ضعيف الرأي فتحرك عليه عمه أبو إسحاق إبراهيم الذي هرب وأقام بتلمسان وغلب على الواثق فخلع نفسـه واستقـر أبـو إسحـاق إبراهيـم فـي المملكـة فـي ربيـع الـأول سنـة ثمـان وسبعيـن وستمائـة وخطـب لنفسه بالأمير المجاهد وترك زي الحفصيين وأقام على زي زناتة وعكف على الشرب وفرق المملكـة علـى أولـاده فوثبـت أولـاده على الواثق المخلوع وذبحوه وذبحوا معه ولديه الفضل والطيب ابن يحيى الواثق المذكور وسلم للواثق ابن صغير تلقب أبا عصيـدة لأنهـم يصنعـون للنفساء عصيدة فيها أدوية ويهدى منها للجيران وعلمت أم الصبي ذلك فلقب ولدهـا بأبـي عصيدة ثم ظهر إنسان ادعى أنه الفضل بن الواثق الذي ذبح مع ابنه واجتمعت عليه الناس وقصـد أبا إسحاق إبراهيم وقهره فهرب أبو إسحاق إلى بجاية وبها ابنه أبو فارس عبد العزيز بـن إبراهيـم فتـرك أبـو فـارس أبـاه ببجاية وسار بأخويه وجمعه إلى الداعي بتونس والتقى الجمعان فانهزم عسكر بجاية وقتل أبو فارس وثلاثة من إخوته وأنجاله أخ اسمه يحيى بن إبراهيم وعمه أبو حفص عمر بن أبي زكريا‏.‏

ولما هزم الداعي عسكر بجاية وقتل المذكورين أرسل إلى بجاية من قتل أبا إسحاق إبراهيم وجاء برأسه ثم تحدث الناس بدعوة الداعي واجتمعت العرب على عمر بن أبي زكريا بعد هروبه من المعركة وقوي أمره وقصد الداعي ثانياً بتونس وقهره واستتر الداعي في دور بعض التجار بتونس ثم أحضر واعترف بنسبه وضربت عنقه‏.‏

فكان الداعي المذكـور مـن أهـل بجاية واسمه أحمد بن مرزوق بن أبي عمار وكان أبوه يتجر إلى بلاد السودان وكان الداعي المذكور محارفاً قصيفاً وسار إلى ديار مصر ونزل بدار الحديث الكاملية ثم عاد إلى المغرب فلمـا مـر علـى طرابلس كان هناك شخص أسود يسمى نصيراً كان خصيصاً بالواثق المخلوع قد هـرب لمـا جـرى للواثـق مـا جـرى وكـان فـي أحمـد الداعـي بعـض الشبـه من الفضل بن الواثق فدبر مع نصير المذكور الأمر فشهد له أنه الفضل بن الواثق فاجتمعت عليه العرب وكان منه ما ذكرناه حتى قتل وكان الداعي يخطب له بالخليفة الإمام المنصور بالله القائم بحق الله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين أبي العباس الفضل‏.‏

ولما استقر أبو حفص عمر في المملكة وقتل الداعي تلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين وهو المستنصـر الثانـي ولمـا استقـر فـي المملكـة سـار ابـن أخيـه يحيـى ابـن إبراهيـم بـن أبـي زكريـا الـذي سلم من المعركة إلى بجاية وملكها وتلقب بالمنتخب لإحياء دين الله أمير المؤمنين واستمر المستنصر الثانـي أبـو حفـص عمـر ابـن أبـي زكريـا فـي مملكتـه حتـى توفـي وفـي أوائل المحرم سنة خمس وتسعين وستمائة ولما اشتد مرضه بايع لابن له صغير فاجتمعت الفقهاء وقالوا له‏:‏ أنت صائر إلى الله وتولية مثل هذا لا يحل فأبطل بيعته وأخرج ولد الواثق المخلوع الذي كان صغيراً وسلم من الذبـح الملقـب بأبي عصيدة وبويع صبيحة موت أبي حفص عمر الملقب بالمستنصر‏.‏

وكان اسم أبي عصيدة المذكور أبا عبد الله محمد وتلقب أبو عصيدة بالمستنصر أيضاً وهو المستنصر الثالث وتوفي في أيامه صاحب بجاية المنتخب يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا وملك بعده بجاية ابنه خالد بن يحيى وبقي أبو عصيدة لذلك حتى توفي سنة تسع وسبعمائة‏.‏

فملك بعده شخص من الحفصيين يقال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب ابن تومرت وأقام في الملك ثمانية عشر يوماً ثم وصل خالد بن المنتخب صاحب بجاية ودخل تونس وقتل أبا بكر المذكور في سنة تسع وسبعمائة‏.‏

ولما جرى ذلك كان زكريا اللحياني بمصر فسار مع عسكر السلطان الملك الناصر خلد الله ملكه إلى طرابلس الغرب وبايعه العرب وسار إلى تونس فخلع خالد بن المنتخـب وحبـس ثـم قتل قصاصاً بأبي بكر ابن عبد الرحمن المقدم الذكر واستقر اللحياني في ملك إفريقية وهو ابن يحيى زكريا بن أحمد بن محمد الزاهد اللحياني بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب ابن تومرت‏.‏

ثم تحرك على اللحياني أخو خالد وهو أبو بكر بن يحيى المنتخب فهرب اللحياني إلى ديار مصر وأقام بالإسكندرية وملك أبو بكر المذكور تونس وما معها خلا طرابلس والمهدية فإنه بعد هروب اللحياني بايع ابنه محمد بن اللحياني لنفسه واقتتل مع أبي بكر فهزمه أبو بكر واستقـر محمد بن اللحياني بالمهدية وله معها طرابلس وكان استيلاء أبي بكر وهروب اللحياني إلـى ديـار مصـر فـي سنـة تسـع وعشـرة وسبعمائـة‏.‏

وأقـام اللحيانـي فـي الإسكندرية ثم وردت عليه مكاتبـات مـن تونـس فـي ذي القعـدة سنـة إحدى وعشرين وسبعمائة إلى الإسكندرية يذكرون فيها أن أبا بكر متملك تونس المذكور قد هرب وترك البلاد وأن الناس قد اجتمعوا على طاعة اللحياني وبايعوا نائبه وهو محمد بن أبي بكر من الحفصيين وهو صهر زكريا اللحياني المذكور وهم في انتظار وصول اللحياني إلى مملكته أقول وقد بقيت مملكة إفريقية فهرب منها لضعفها بسبب استيلاء العرب عليها‏.‏

ذكر مقتل أقطاي

في هذه السنة اغتـال الملـك المعـز أيبـك التركمانـي المستولـى علـى مصـر خوشداشـه أقطـاي الجمدار وأوقف له في بعض دهاليز الدور التي بقلعة الجبل ثلاثة مماليك وهم قطز وبهادر وسنجر الغتمي فلما مر بهم فارس الدين أقطاي ضربوه بسيوفهم فقتلوه ولما علمت البحرية بذلك هربوا من ديار مصر إلى الشام وكان الفارس أقطاي يمنع أيبك من الاستقلال بالسلطنة وكان الاسم للملك الأشرف موسى بن يوسف بن يوسف ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب‏.‏

فلما قتل أقطاي استقل المعز التركماني بالسلطنة وأبطل الأشرف موسى المذكور منها بالكلية وبعـث بـه إلـى عماتـه القطبيات وموسى المذكور آخر من خطب له من بيت أيوب بالسلطنة في مصر وكان انقضاء دولتهـم مـن الديـار المصريـة فـي هـذه السنـة علـى مـا شرحنـاه ووصلـت البحرية إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام وأطمعوه في ملك مصر فرحل من دمشق بعسكـر ونـزل عمقـاً مـن الغـور وأرسل إلى غزة عسكراً فنزلوا بها وبرز المعز أيبك صاحب مصر إلى العباسة وخرجت السنة وهم على ذلك‏.‏

وفيها قدمت ملكة خاتون بنـت كيقبـاذ ملـك بلـاد الـروم إلـى زوجهـا الملـك الناصـر يوسـف صاحب الشام‏.‏

وفيها ولي الملك المنصور صاحب حماة قضاء حماة للقاضي شمس الدين إبراهيم بن هبة الله بن البارزي بعد عزل القاضي المحيي حمزة بن محمد‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة

فيها عزمت العزيزية المقيمون مع المعز أيبك على القبض عليه وعلم بذلك واستعد لهم فهربوا من مخيمهم على العباسـة علـى حميـة واحتيـط علـى وطاقاتهم جميعها‏.‏

وفي هذه السنة مشى نجم الدين الباذراي في الصلح بين المصريين والشاميين واتفق الحال أن يكون للملك الناصر الشام جميعـه إلـى العريـش ويكـون الحـد بيـن القاضـي وهـو بيـن الـورادة والعريش وبيد المعز أيبك الديار المصرية وانفصل الحال على ذلك ورجع كل إلى بلده‏.‏

وفـي هـذه السنـة أو التـي قبلهـا تـزوج المعـز أيبـك شجـرة الـدر أم خليـل التـي خطـب لهـا بالسلطنة في ديار مصر‏.‏

وفيها طلب الملك الناصر داود من الملك الناصر يوسف دستوراً إلـى العـراق بسبـب طلـب وديعته من الخليفة وهي الجوهر الذي تقدم ذكره وأن يمضي إلى الحج فأذن له الناصر يوسف فـي ذلـك فسار الناصر داود إلى كربلاء ثم مضى منها إلى الحج ولما رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم تعلق في أستار الحجرة الشريفة بحضور الناس وقال‏:‏ اشهدوا أن هذا مقامي من رسـول اللـه صلـى الله عليه وسلم داخلاً عليه مستشفعاً به إلى ابن عمه المستعصم في أن يرد علي وديعتي فأعظم الناس ذلك وجـرت عبراتهـم وارتفـع بكاؤهـم وكتـب بصـورة مـا جـرى مشروح ورفع إلى أمير الحاج كيخسرو وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة وتوجه الناصر داود مع الحاج العراقي وأقام ببغداد‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة

فيها مات كيخسرو ملك بلاد الروم وأقيم في السلطنة ولداه الصغيران عز الدين كيكاؤوس وركن الدين قليج أرسلان‏.‏

وفيها توجه كمال الدين المعروف بابن العديم رسولاً من الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الخليفة المستعصم وصحبته تقدمة جليلة وطلب خلعة من الخليفة لمخدومه ووصل مـن جهـة المعـز أيبـك صاحـب مصـر شمـس الديـن سنقـر الأقـرع وهـو مـن مماليـك المظفر غازي صاحب ميافارقين إلى بغداد بتقدمة جليلة وسعى في تعطيل خلعة الناصر يوسف صاحب دمشق فبقي الخليفة متحيراً ثم إنه أحضر سكيناً من اليسم كبيرة وقال الخليفة لوزيره‏:‏ أعط هـذه السكيـن رسـول صاحـب الشـام علامـة مني في أن له خلعة عندي في وقت آخر وأما في هذا الوقت فلا يمكني فأخذ كمال الدين ابن العديم السكين وعاد إلى الناصر يوسف بغير خلعة‏.‏

ذكر غير ذلك فيها جرى للناصر داود مع الخليفة

ما صورته أنه لما أقـام ببغـداد بعـد وصولـه مـع الحجـاج واستشفاعـه بالنبـي صلى الله عليه وسلم في رده وديعته أرسل الخليفة المستعصم من حاسب الناصر داود المذكور على ما وصله في ترداده إلى بغـداد مـن المضيـف مثـل اللحـم والخبـز والحطب والعليف والتبن وغير ذلك وثمن عليه ذلك بأغلى الأثمان وأرسل إليـه شيئـاً نـزراً وألزمه أن يكتب خطه بقبض وديعته وأنه ما بقي يستحق عند الخليفة شيئاً فكتب خطـه بذلك كرهاً وسار عن بغداد وأقام مع العرب‏.‏

ثم أرسل إليه الناصر يوسف بن العزيز بن غازي بن يوسف صاحب الشام فطيب قلبه وحلف له فقدم الناصر داود إلى دمشق ونزل بالصالحية‏.‏

وفي هذه السنة يوم الأحد ثالث شوال توفي سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر محمود صاحب حماة وكان قد زوجه المظفر المذكور بأخته وقام بتدبير مملكة حماة بعد وفاة الملك المظفر حتى توفي في التاريخ المذكور‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة

ذكر قتل المعز أيبك التركماني وفـي هذه السنة في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول قتل الملك المعز أيبك التركماني الجاشنكيـر الصالحي قتلته امرأته شجرة الدر التي كانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب وهي التـي خطـب لهـا بالسلطنة في ديار مصر وكان سبب ذلك‏:‏ أنه بلغها أن المعز أيبك المذكور قد خطـب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ويريد أن يتزوجها فقتلته في الحمام بعد عوده من لعـب الكـرة فـي النهـار المذكـور وكـان الـذي قتلـه سنجـر الجوجري مملوك الطواشي محسن والخـدام حسبمـا اتفقـت معهـم عليـه شجر الدر وأرسلت في تلك الليلة إصبع المعز أيبك وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير وطلبت منه أن يقوم بالأمر فلم يجسر على ذلك ولما ظهر الخبر أراد مماليك المعز أيبك قتل شجرة الدر فحماها المماليك الصالحية فاتفقت الكلمة على إقامة نور الدين علي ابن الملك المعز أيبك ولقبوه الملك المنصور وعمره يومئذ خمـس عشـرة سنة‏.‏

ونقلت شجرة الدر من دار السلطنة إلى البرج الأحمر وصلبوا الخدام الذين اتفقوا معها على قتل المعز أيبك وهرب سنجر الجوجري ثم ظفروا به وصلبوه واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن جنا لكونه وزير شجرة الدر وأخذ خطة بستين ألف دينار وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر من هذه السنة اتفقت مماليك المعز أيبك مثل سيف الدين قطز وسنجر الغتمي‏.‏

وبهادر وقبضوا على علم الدين سنجر الحلبي وكان قد صار أتابكاً للملك المنصور نور الدين ابن الملك علي المعز أيبك ورتبوا في أتابكية المذكور أقطاي المستعرب الصالحي‏.‏

وفي سادس عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة قتلت شجرة الدر وألقيت خـارج البـرج فحملت إلى تربة قد عملتها فدفنت فيها وكانت تركية الجنس وقيل كانت أرمنية وكانت مع الملـك الصالـح في الاعتقال بالكرك وولدت منه ولداً اسمه خليل مات صغيراً وبعد أيام من ذلك ذكر مفارقة البحرية الملك الناصر يوسف صاحب الشام ابن الملك العزيز‏:‏ في هذه السنة نقل إلى الناصر يوسف أن البحرية يريدون أن يفتكوا به فاستوحش خاطـره منهم وتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق فساروا إلى غزة وانضموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إلى غزة وبرزوا إلـى العباسـة ووصـل مـن البحريـة جماعـة مقفزيـن إلـى القاهـرة منهـم عـز الديـن الأثـرم فأكرموهم وأفرجوا عن أملاك الأثرم‏.‏

ولما فارق البحرية الناصر صاحب الشام أرسل عسكراً في إثرهم فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه ثم إن عسكر الناصر بعد الكبسة كسروا البحرية فانهزموا إلى البلقاء وإلى زعز ملتجين إلى الملك المغيث صاحب الكرك فأنفق فيهم المغيث أموالاً جليلة وأطمعوه في ملك مصر فجهزهم بما احتاجوه وسارت البحرية إلى جهة مصـر وخرجـت عساكـر مصـر لقتالهـم والتقـى المصريـون مـع البحرية وعسكر المغيث بكرة السبت منتصف ذي القعدة من هذه السنة فانهزم عسكر المغيث والبحرية وفيهم بيبرس البند قداري المسمى بعد ذلك بالملك الظاهر إلى جهة الكرك‏.‏

في هذه السنة وصل من الخليفة المستعصم الخلعة والطوق والتقليد إلى الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز‏.‏

وفيها استجار الناصر داود بنجم الدين الباذراي في أن يتوجه صحبته إلى بغداد فأخذه صحبته وتوصل الناصر يوسف صاحب دمشق إلى منعه عن ذلك فلم يتهيأ له وسار الناصر داود مع الباذراي إلى قرقيسيا فأخره الباذراي ليشاور عليه فأقام الناصر داود في قرقيسيا ينتظر الإذن بالقدوم إلى بغداد فلم يؤذن له وطال مقامه فسافر إلى البرية وقصد تيه بني إسرائيل وأقام مع عرب تلك البلاد‏.‏

وفي هذه السنة أو التي قبلها ظهرت نار بالحرة عند مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لها بالليل ضوء عظيم يظهر من مسافة بعيدة جداً ولعلها النار التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة فقال ‏(‏نار تظهر بالحجاز تضيء منها أعناق الإبل ببصـرى‏)‏ ثـم اتفـق أن الخـدام بحـرم النبـي صلـى اللـه عليه وسلم وقع منهم في بعض الليالي تفريط فاشتعلـت النـار فـي المسجـد الشريـف واحترقـت سقوفه ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم وتألم الناس لذلك‏.‏

ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة

ذكر استيلاء التتر على بغداد

في أول هذه السنة قصد هولاكو ملك التتر بغداد وملكها في العشرين من المحرم وقتل الخليفة المستعصم بالله وسبب ذلك أن وزير الخليفة مؤيد الدين ابن العلقمي كان رافضياً وكان أهل الكـرخ أيضـاً روافـض فجـرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد على جاري عادتهم فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغـداد وكـان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه يستدعيهم فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم وخرج عسكر الخليفة لقتالهم ومقدمه ركن الدين الدوادار والتقوا على مرحلتين من بغداد واقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم عسكر الخليفة ودخل بعضهـم بغداد وسار بعضهم إلى جهة الشام ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي ونزل باجو وهو مقدم كبيـر فـي الجانـب الغربـي علـى قريـة قبالـة دار الخلافـة وخـرج مؤيـد الديـن الوزير ابن العلقمي إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه وعاد إلى الخليفة المستعصم وقال إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم ويريد أن يزوج ابنته من ابنك أبي بكر وحسن له الخـروج إلـى هولاكـو فخـرج إليـه المستعصـم فـي جمـع مـن أكابـر أصحابـه فأنـزل فـي خيمـة ثـم استدعـى الوزيـر الفقهاء والأماثل فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون وكان منهم محي الدين ابن الجوزي وأولاده وكذلك بقي يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة فلما تكاملوا قتلهم التتـر عـن آخرهم ثم مدوا الجسر وعدى باجو ومن معه وبذلوا السيف في بغداد وهجموا دار الخلافة وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف ولم يسلم إلا من كان صغيراً فأخذ أسيراً ودام القتـل والنهب في بغداد نحو أربعين يوماً ثم نودي بالأمان‏.‏

وأما الخليفة فإنهم قتلوه ولم يقع الاطلاع علـى كيفيـة قتلـه فقيـل خنـق وقيـل وضـع فـي عـدل ورفسوه حتى مات وقيل غرق في دجلة والله أعلم بحقيقة ذلك‏.‏

وكان هذا المستعصم وهو عبد الله أبو أحمد بن المستنصر أبي جعفر منصور بن محمد الطاهر ابن الإمام الناصر أحمد‏.‏

وقد تقدم ذكر باقي نسبه عند ذكر وفاة الإمام الناصر‏.‏

كان ضعيف الرأي قد غلب عليه أمراء دولته لسوء تدبيره تولى الخلافة بعد مـوت أبيـه المستنصـر في سنة أربعين وستمائة وكانت مدة خلافته نحو ست عشرة سنة تقريباً وهو آخر الخلفاء العباسيين وكـان ابتـداء دولتهـم فـي سنـة اثنتيـن وثلاثيـن ومائـة وهـي السنـة التـي بويـع فيها السفاح بالخلافة وقتل فيها مروان الحمّار آخر خلفاء بني أمية وكانت مدة ملكهم خمس مائة سنة وأربعاً وعشرين سنة تقريباً وعدة خلفائهم سبعة وثلاثـون خليفـة حكـى القاضـي جمـال الديـن ابـن واصل قال‏:‏ لقد أخبرني من أثق به أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته أن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه أنه يقول‏:‏ إن الخلافة تصير إلى ولده فأمر الأموي بعلي بن عبد الله فحمل على جمل وطيف به وضرب وكـان يقـال عنـد ضربـه‏:‏ هـذا جـزاء من يفتري ويقول‏:‏ إن الخلافة تكون في ولده‏.‏

فكان علي بن عبد الله المذكور رحمه الله يقول‏:‏ أي والله لتكونن الخلافة في ولدي لا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع مصداق ذلك وهـو ورود هولاكـو وإزالتـه ملـك بنـي العباس‏.‏