الفصل التاسع: ذكر الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

ذكر الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر

كان قد انضمت البحرية إلى المغيث ابن العادل ابن الكامل ونزل من الكرك وخيم بغزة وجمع الجمـوع وسار إلى مصر في دست السلطنة وخرجت عساكر مصر مع مماليك الملك المعز أيبك وأكبرهـم سيـف الديـن قطز الذي صار صاحب مصر والغتمي وبهادر والتقى الفريقان فكانت الكسرة على المغيث ومن معه فولى منهزماً إلى الكرك في أسوأ حال ونهبت أثقاله ودهليزه‏.‏

ذكر وفاة الناصر داود

وفي هذه السنة أعني سنة ست وخمسين وستمائة في ليلة السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى توفي الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب بظاهر دمشق في قرية يقال لها البويضا ومولده سنة ثلاث وستمائة فكان عمـره نحـو ثلاث وخمسين سنة وكنا قد ذكرنا أخباره في سنة خمس وخمسين وأنه توجه إلى تيه بني إسرائيـل وصـار مـع عرب تلك البلاد وبلغ المغيث صاحب الكرك وصوله إلى تلك الجهة فخشي منه وأرسل إليه فقبض عليه وحمله إلى بلد الشوبك وأمر بحفر مطمورة ليحبسه فيها وبقي الملك الناصر المذكور ممسوكاً والمطمورة تحفر قدامه ليحبس فيها فبينما هو على تلك الحال إذ ورد رسول الخليفة المستعصم يطلبه من بغداد لما قصده التتر ليقدمه على بعض العساكر لملتقى التتر فلما ورد رسول الخليفة إلى دمشق جهزوه إلى المغيـث صاحـب الكـرك ووصـل الرسول إلى موضع الملك الناصر قبل أن يتم المطمورة فأخذه وسار به إلى جهة دمشق فبلغ الرسول استيلاء التتر على بغداد وقتل الخليفة فتركه الرسول ومضى لشأنه فسار الناصر داود إلى البويضا وهي قرية شرقي دمشق وأقام بها ولحق الناس في الشام في تلك المدة طاعون مات منه الناصر داود المذكور في التاريخ المذكور وخرج الملك الناصر يوسف صاحب دمشق إلى البويضا وأظهر عليه الحزن والتأسف ونقله ودفنه بالصالحية في تربة والده المعظم وكان الناصر داود فاضلاً ناظماً ناثـراً وقـرأ العلـوم العقليـة علـى الشيـخ شمـس الديـن عبـد الحميـد الخسروشاهي تلميذ الإمام فخر الدين الرازي وللناصر داود المذكور أشعار جيدة قد تقـدم ذكر بعضها ومن شعره أيضاً‏:‏ عيون عـن السحـر المبيـن تبيـن لها عند تحريك القلوب سكون تصول ببيض وهي سود فرندها ذبول فتور والمجفون جفون وله أيضاً‏:‏ طوفي وقلبي قاتل وشهيد ودمي على خديك منه شهود أما وحبك لست أضمر سلـوة عـن صبوتـي ودع الفـؤاد يبيـد مني بطيفك بعد ما منع الكرى عـن ناظري البعد والتسهيد ومن العجائب أن قلبك لم يلـن لي والحديد ألانـه داود وممـا كتـب بـه فـي أثنـاء مكاتبتـه إلـى الشيـخ عـز الديـن عبـد العزيز بن عبد السلام وكان قد أغارت الفرنج على نابلس في أيام الملك الصالح أيوب صاحب مصر‏:‏ أيا ليت أمي أيم طـول عمرهـا فلم يقضها ربي لمولى ولا بعـل ويا ليتها لما قضاها لسيد لبيب أريب طيب الفرع والأصل قضاها من اللاتي خلقن عواقراً فما بشرت يوماً بأنثى ولا فحل ويا ليتها لما غدت بـي حامـلاً أصيبت بما احتفت عليه من الحمل ويا ليتني لما ولدت وأصبحت تشد إلي الشدقيات بالرحل لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم ولم أر في الإسلام ما فيه من خل والدة الملك المنصور صاحب حماة‏:‏ وفي هذه السنة في ذي القعدة توفيت الصاحبة غازية خاتون بنت السلطان الملـك الكامـل محمـد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بقلعة حماة رحمها الله تعالى‏.‏

وكان قدومها إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة وولد لها من الملك المظفر محمود صاحب حماة ثلاث بنين مات أحدهم صغيراً وكان اسمه عمر وبقي الملك المنصور محمد صاحب حماة وأخوه والد الملك الأفضل علي وولد لها منه ثلاث بنات أيضاً فتوفيت الكبرى منهن وكان اسمها ملكة خاتون قبل وفاة والدتها بقليـل وتوفيـت الصغـرى وهـي دنيـا خاتـون بعـد وفـاة أخيهـا الملـك المنصـور وسنذكر وفاة الباقين في مواضعها إن شاء الله تعالى‏.‏

وكانت الصاحبة غازية خاتون المذكورة من أحسن النساء سيرة وزهداً وعبادة وحفظت الملك لولدها الملك المنصور حتى كبر وسلمته إليه قبل وفاتها رحمها الله تعالى‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قصدت التتر ميافارقين بعد استيلائهم على بغداد وكان صاحب ميافارقين حينئذ الملك الكامل محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وكان قد ملكها بعد وفاة أبيه في سنة اثنتين وأربعين وستمائة فحاصره التتر وضايقوا ميافارقين مضايقة شديدة وصبر أهل ميافارقين مع الكامل محمد المذكور على الجوع الشديد ودام ذلك حتى كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها اشتد الوباء بالشام خصوصاً بدمشق حتى لم يوجد مغسل للموتى‏.‏

وفيها أرسل الملك الناصر يوسـف صاحـب دمشـق ولـده الملـك العزيـز محمـد وصحبتـه زيـن الدين محمد المعروف بالحافظي وهو من أهل قرية عقربا من بلد دمشق بتحف وتقادم إلى هولاكو ملك التتر وصانعه لعلمه بعجزه عن ملتقى التتر‏.‏

وفيها توفي الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى المهلبي كاتب إنشاء الملك الصالح أيوب ومولد البهاء زهير بوادي نخلة من مكة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وفي آخر عمـره انكشف حاله وباع موجوده وكتبه وأقام في ببيته في القاهرة حتى أدركته وفاته بسبب الوباء العام في يوم الأحد رابع ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة ست وخمسين وستمائة ودفن بالقرافة الصغرى وكان كريم الطباع غزير المـروءة فاضـلاً حسـن النظـم وشعـره مشهـور كثير فمن شعره وهو وزن مخترع لبس بخرجة العروض أبيات ومنها‏:‏ يـا مـن لعبـت بـه شمول ما ألطـف هـذه الشمائـل ها عبدك واقفاً ذليلاً بالبـاب يمد كف سائل من وصلك بالقليل يرضى والطـل مـن الحبيـب وابـل وفي هذه السنة توفي بمصر الشيخ ركن الدين عبد العظيم شيخ دار الحديث وكان من أئمة الحديث المشهورين‏.‏

وفيها توفـي الشيـخ شمـس الديـن يوسـف سبـط جمـال الديـن ابـن الجـوزي كـان مـن الوعـاظ الفضلاء ألف تاريخاً جامعاً سماه مرآة الزمان وفيها توفي سيف الدين علي بن سابق الدين قزل المعروف بابن المشد وكان أميراً مقدماً في دولة الملك الناصر يوسف صاحب الشام وله شعر حسن منه‏:‏ باكر كؤوس المدام واشرب واستجل وجه الحبيب واطرب ولا تخف للهموم داء فهي دواء له مجرب من يد ساق له رضاب كشهد لكن جناه أعـذب وفيها كان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين وبين عسكر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق ومقدمهم الأمير مجير الدين بن أبي زكري مصاف بظاهر غزة انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين المذكور وقوي أمر حرية بعد هذه الكسرة وأكثروا العبث والفساد‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة

فيها سار عز الديـن كيكـاؤوس وركـن الديـن قليـج أرسلان ابنا كيخسرو بن كيقباذ إلى خدمة هولاكو وأقاما معه مدة ثم عادا إلى بلادهما‏.‏

ذكر وفاة بدر الدين صاحب الموصل

في هذه السنة توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وكان لقب الملك الرحيم وكان عمره قد جاوز ثمانين سنة ولما مات ملك بعده الموصل ولده الملك الصالح بن لؤلؤ وملك سنجار ولده الآخر علاء الدين بن لؤلؤ وكان بدر الدين قد صانع هولاكو ودخل في طاعته وحمل إليه الأموال ووصل إلى خدمة هولاكو بعد أخذ بغداد ببلاد أذربيجان وكان صحبة لؤلؤ الشريف العلوي بن صلايا فقيل إن لؤلؤ سعى به إلى هولاكو فقتل الشريف المذكور ولما عاد لؤلؤ إلى الموصل لم يطل مقامه بها حتى مات وطالت أيام بدر الدين لؤلؤ في ملك الموصل فإنه كان القائم بأمور أستاذه أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر وقام بتدبير ولده الملك القاهر بن أرسلان شاه ولما توفي الملك القاهر بن أرسلان شاه في سنة خمس عشرة وستمائة انفرد لؤلؤ بتدبير المملكة وأقام ولـدي القاهـر الصغيريـن واحـد بعـد واحـد واستبـد بملـك الموصـل وبلادهـا ثلاثـاً وأربعيـن سنـة تقريبـاً ولـم يـزل فـي ملكـه سعيـداً لـم تطرقه آفة ولم يختل منازلة الملك الناصر يوسف صاحب الشام والكرك وفي هذه السنة لما جرى من البحرية ما ذكرناه من كسر عسكر الناصر يوسف سار الناصر المذكور من دمشق بنفسه وعساكره وسار في صحبته الملك المنصور صاحب حماة بعسكره إلى جهة الكرك وأقام على بركة زيزا محاصراً للملك المغيث صاحب الكرك بسبـب حمايتـه للبحرية ووصل إلى الملك الناصر رسل الملـك المغيـث صاحـب الكـرك والقطبيـة بنـت الملـك المفضل قطب الدين ابن الملك العادل يتضرعون إلى الملك الناصر ويطلبون رضاه عـن الملـك المغيث فلم يجب إلى ذلك إلا بشرط أن يقبض المغيث على من عنده مـن البحريـة فأجـاب المغيـث إلـى ذلـك وعلـم بالحـال ركـن الديـن بيبـرس البندقـداري فهـرب فـي جماعة من البحرية ووصل بهم إلى الملك الناصر يوسف فأحسن إليهم وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية ومن جملتهم سنقر الأشقر وسكر وبرامق وأرسلهم على الجمال إلى الملك الناصر فبعث بهم إلى حلب فاعتقلوا بها واستقر الصلح بين الملك الناصر وبين الملك المغيث صاحب الكرك وكان مدة مقام الملك الناصر بالعساكر على بركة زيزا ما يزيد على شهرين بقليل ثم عاد إلى دمشق وأعطى للملك المنصور صاحب حماة دستوراً فعاد إلى بلده‏.‏

وفي أواخر هذه السنة أعني سنة سبع وخمسين وستمائة في أوائل ذي الحجة قبض سيف الدين قطز على ولد أستاذه الملك المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك وخلعه من السلطنة وكان علم الدين الغتمي وسيف الدين بهادر وهما من كبار المعزية غائبين في رمي البندق فانتهز قطز الفرصة في غيبتهما وفعل ذلك ولما قدم الغتمي وبهادر المذكور أن قبض عليهما قطز أيضاً واستقر قطز في ملك الديار‏:‏ المصرية وتلقـب بالملـك المظفـر وكـان رسـول الملـك الناصـر يوسـف صاحـب الشام وهو كمال الدين المعروف بابن العديم قد قدم إلى مصر في أيام الملك المنصور علي بن أيبك مستنجداً على التتر واتفق خلع علي المذكور وولاية قطز بحضرة كمال الدين ابن العديم ولما استقر قطز في السلطنة أعاد جواب الملك الناصـر يوسـف أنـه ينجده ولا يقعد عن نصرته وعاد ابن العديم بذلك‏.‏

ذكر مولد الملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة

وفـي هـذه السنـة أعنـي سنـة سبع وخمسين وستمائة في الساعة العاشرة من ليلة الأحد خامس عشـر المحـرم وثانـي عشر كانون الثاني ولد محمود ابن الملك منصور محمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولقبوه الملك المظفـر بلقـب جـده وأم الملـك المظفـر محمـود المذكـور عائشـة خاتـون بنـت الملـك العزيـز محمـد صاحب حلب ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلـاح المديـن يوسـف بـن أيـوب وهنـأ الشيخ شرف الدين عبد العزيز المعروف بشيخ الشيوخ الملك المنصور صاحب حماة بقصيدة طويلة منها‏:‏ أبشر على رغم العدى والحسد بأجل مولـود وأكـرم مولـد بالنعمة الغراء بل بالدولـة الزهـراء بـل بالمفخر المتجدد وافـاك بدراً كاملاً في ليلة طلعت عليك نجومها بالأسعد ما بين محمـود المظفـر أسفـرت عنه وما بين العزيز محمد ذكر قصد هولاكو الشام وفـي هذه السنة قدم هولاكو إلى البلاد التي شرقي الفرات ونازل حران وملكها واستولى على البلاد الجزرية وأرسل ولده سموط بن هولاكو إلى الشام فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخيـر مـن ذي الحجـة مـن هـذه السنـة أعني سنة سبع وخمسين وستمائة وكان الحاكم في حلب الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين نائباً عن ابن أخيه الملك الناصر يوسف فخرج عسكر حلب لقتالهم وخرج الملك المعظم ولم يكن من رأيه الخروج إليهم وأكمن لهم التتـر فـي الباب المعروف بباب الله وتقاتلوا عند بانقوسا فاندفع التتر قدامهم حتى خرجوا عن

البلد ثم عادوا عليهم وهرب المسلمون طالبين المدينة والتتر يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد واختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين ثم رحل التتر إلى إعزاز فتسلموها بالأمان‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة

ذكر ما كان من الملك الناصر عند قصد التتر حلب

ولما بلغ الملك الناصر يوسف صاحب الشام قصد التتر حلب برز من دمشق إلى برزة في أواخـر السنة الماضية وجفل الناس من بين يدي التتر وسار من حماة إلى دمشق الملك المنصور صاحب حماة ونزل معه ببرزة وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقـداري مـن حيـن هرب من الكرك والتجأ إلى الناصر فاجتمع عند الملك الناصر عند برزة أمم عظيمـة مـن العساكر والجفال ولما دخلت هذه السنة والملك الناصر ببرزة بلغه أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به فهرب الملك الناصر من الدهليز إلى قلعة دمشق وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم فهربوا على حمية إلى جهة غزة وكذلك سار بيبرس البندقداري إلـى جهـة عزة وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر وإنما كان قصدهم أن يقبضـوا عليه ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازي ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الديـن لشهامتـه ولمـا جـرى ذلـك هـرب الملـك الظاهـر المذكـور خوفـاً مـن أخيه الملـك الناصـر وكـان الظاهـر المذكـور شقيـق الناصـر أمهمـا أم ولـد تركيـة ووصـل الملـك الظاهر غازي إلى غزة واجتمع عليه من بهـا مـن العسكـر وأقامـوه سلطانـاً ولمـا جـرى ذلـك كاتب بيبرس البندقداري الملك المظفر قظز صاحـب مصـر فبـذل لـه الأمـان ووعـده الوعـود الجميلـة ففـارق بيبـرس البندقـداري الشامييـن وسـار إلـى مصـر في جماعة من أصحابه فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قليوب وأعمالها‏.‏

ذكر استيلاء التتر على حلب وعلى الشام جميعه

ومسير الملك الناصر عن دمشق ووصول عساكره إلى مصر وانفراد الملك الناصر عنهم‏:‏ في هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة في يوم الأحد تاسع صفر كان استيلاء التتر على حلب وسببه أن هولاكو عبر الفرات بجموعه ونازل حلب وأرسل هولاكو إلى الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين نائب السلطنة بحلب يقول له‏:‏ إنكم تضعفون عن لقاء المغل ونحن قصدنا الملك الناصر والعساكر فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة وبالقلعة شحنة ونتوجه نحن إلى العسكر فإن كانت الكسرة على عسكر الإسلام كانت البلاد لنا وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشحنتين إن شئتم طردتموهما وإن شئتم قتلتموهما فلم يجب الملك المعظم إلى ذلك وقال‏:‏ ليس لكم عندنا إلا السيف وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم نتعجب من هذا الجواب وتألم لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك وأحاط التتر بحلب ثاني صفر وهجموا النواثر في غد ذلك اليوم وقتل من المسلمين جماعة كثيرة وممن قتل أسد الدين ابن الملك الزاهر بن صلاح الدين واشتدت مضايقة التتر للبلد وهجموه من عند حمام حمدان في ذيل قلعة الشريف في يوم الأحد تاسع صفر وبذلوا السيف في المسلمين وصعد إلى القلعة خلق عظيم ودام القتل والنهب من نهار الأحد المذكور إلى الجمعة رابع عشر صفر المذكور فأمر هولاكو برفع السيف ونؤدي بالأمان ولم يسلم من أهل حلب إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون ودار نجم الدين أخي مردكين وداد البازياد ودار علم الدين قيصر الموصلي والخانكاه التي فيها زين الدين الصوفي وكنيسة اليهود وذلك لفرمانات كانت بأيديهم وقيل أنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها الملك المعظم ومن التجأ إليها من العسكر واستمر الحصار عليها وكان من ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر غير ذلك من أحوال حماة وأحوال الملك الناصر بعد أخذ حلب‏:‏

كان قد تأخر بحماة الطواشي مرشد لما سار صاحب حماة إلى دمشق فلما بلغ أهل حماة فتح حلب توجه الطواشي مرشد من حماة إلى عند الملك المنصور صاحب حماة بدمشق ووصل كبراء حماة إلى حلب ومعهم مفاتيح حماة وحملوها إلى هولاكو وطلبوا منه الأمان لأهل حمـاة وشحنـه يكون عندهم فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة رجلاً أعجمياً كان يدعي أنه من ذرية خالد بن الوليـد يقـال لـه خسروشـاه فقـدم خسروشـاه إلـى حمـاة وتولاهـا وأمـن الرعيـة وكـان بقلعـة حمـاة مجاهـد الديـن قيماز أمير جندار فسلم القلعة إليه ودخل في طاعة التتر ولما بلغ الملك الناصر بدمشق أخذ حلب رحل من دمشق بمن بقي معه من العسكر إلى جهة الديار المصرية وفي صحبته الملك المنصور صاحـب حمـاة وأقـام بنابلـس أيامـاً ورحـل عنهـا وترك فيها الأمير مجير الدين بن أبي زكري والأمير علي بن شجاع ومعهما جماعة من العسكر ثم سار الملك الناصر إلى غزة فانضم إليه مماليكه الذين كانوا أرادوا قتله وكذلك اصطلح معه أخوه الملك الظاهر غازي وانضم إليه‏.‏

وبعد مسير الملك الناصر عن نابلس وصل التتر إليها وكبسوا العسكر الذين بها وقتلوا مجير الدين والأمير علي بن شجاع وكانا أميرين جليلين فاضلين وكان البحرية قد قبضـوا عليهمـا واعتقلوهمـا بالكـرك وأفـرج عنهمـا المغيـث‏.‏

لما وقع الصلح بينه وبين الناصر ولما بلغ الملك الناصر وهـو بغـزة مـا جـرى مـن كبسـة التتـر لنابلـس رحل من غزة إلى العريش وسير القاضي برهان الدين أبن الخضر رسولاً إلى الملك المظفر قطز صاحب مصر يطلب منه المعاضدة ثم سار الملك الناصـر والملـك المنصـور صاحـب حمـاة والعسكـر ووصلـوا إلـى قطيـة فجـرى بهـا فتنة بين التركماني والأكراد الشهرزوريـة ووقـع نهـب فـي الجفـال وخـاف الملـك الناصـر أن يدخـل مصـر فيقبـض عليـه فتأخر في قطية ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر وتأخر مع الملك الناصر جماعة يسيـرة منهـم أخـوه الملـك الظاهـر غـازي والملـك الصالـح بـن شيركـوه صاحـب حمص وشهاب الدين القيمري ثم سار الملك الناصر بمن تأخر معه من قطية إلى جهة تيه بني إسرائيل ولما وصلت العساكر إلى مصر التقاهم الملك المظفر قطز بالصالحية وطيب قلوبهم وأرسل إلى الملك المنصـور صاحـب حمـاة سنجقـاً والتقـاه ملتقـاً حسنـاً وطيـب قلبـه ودخل القاهرة وأما التتر فإنهم استولوا على دمشق وعلـى سائـر الشـام إلـى غـزة واستقـرت شحائنهم بهذه البلاد‏.‏

ذكر استيلاء التتر على قلعة حلب والمتجددات بالشام

أما قلعة حلب فوثب جماعة من أهلها في مدة الحصار على صفي الدين بن طرزة رئيس حلب وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز بن أحمد ابن القاضي نجم الدين بن أبي عصرون فقتلوهما لأنهم اتهموهما بمواطأة التتر واستمر الحصار على القلعة واشتدت مضايقة التتر لها نحـو شهـر ثـم سلمـت بالأمـان فـي يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول من هذه السنة ولما نزل أهلها بالأمان وكان فيها جماعة من البحرية الذين حبسهم الملك الناصر فمنهم سكز وبرامق وسنقر الأشقر فسلمهم هولاكوهم وباقي الترك إلى رجل من التتر يقال له سلطان حق وهو رجل من أكابر القبجاق هرب من التتر لما غلبت على القبجاق وقدم إلى حلب فأحسن إليه الملك الناصر فلم تطب له تلك البلاد فعاد إلى التتر وأما العوام والغرباء فنزلـوا إلـى أماكـن الحمى التي قدمنا ذكرها وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره وملكه وأن لا يعارض وجعل النائـب بحلـب عمـاد الديـن القزوينـي ووصـل إلـى هولاكـو علـى حلـب الملـك الأشـرف صاحب حمص موسى بن إبراهيم بن شيركوه وكان قد انفرد الأشرف المذكور عن المسلمين لما توجه الملك الناصر إلى جهة مصر ووصل إلى هولاكو بحلب فأكرمه هولاكو وأعاد عليه حمص وكان قد أخذها منه الملك الناصر صاحب حلب في سنة ست وأربعين وستمائة وعوضـه عنها تل باشر على ما تقدم ذكره فعادت إليه في هذه السنة واستقر ملكه بها وقدم أيضـاً إلـى هولاكـو وهو نازل إلى حلب محي الدين ابن الزكي من دمشق فأقبل عليه هولاكو خلع عليه وولاه قضاء الشام ولما عاد ابن الزكي المذكور إلى دمشق لبس خلعة هولاكـو وكانـت مذهبة وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق وقرأ عليهم تقليد هولاكو واستقر في القضاء ثم رحل هولاكو إلى حارم وطلب تسليمها فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين والي قلعة حلب فأحضره هولاكو وسلموها إليه فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم فقتل أهل حارم عن آخرهم وسبي النساء ثم حل هولاكو بعد ذلك وعاد إلى الشرق وأمر عماد الدين القزويني بالرحيل إلى بغداد فسار إليها وجعل مكانه بحلب رجلاً أعجمياً وأمر هولاكو بخراب أسورار قلعة حلب وأسوار المدينة فخربت عـن آخرهـا وأعطـى هولاكـو الأشـرف موسـى صاحـب حمص الدستور ففارقه ووصل إلى حماة ونزل في الدار المبارز وأخذ في خراب سور قلعة حماة بتقدم هولاكو إليه بذلك فخربت أسوارهـا وأحرقـت زردخانتهـا وبيعـت الكتـب التـي كانـت بـدار السلطنـة بقلعـة حماة بأبخس الأثمان وأما أسوار مدينة حماة فلم تخرب لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم بن الإفرنجية ضامن الجهة المفردة بذل لخسروشاه جملة كثيرة من المـال وقال‏.‏

الفرنج قريب منا بحصن الأكراد ومتى خربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام فيها فأخذ منه المال ولم يتعرض الخراب أسوار المدينة وكان قد أمر هولاكو والأشرف موسى صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً فلـم يخـرب منهـا إلا شيئـاً قليـلاً لأنهـا مدينتـه وأمـا دمشـق فإنهـم لما ملكوا المدينة بالأمان لم يتعرضوا إلى قتل ولا نهب وعصت قلعة دمشق عليهم فحاصرها التتر وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة وضايقوا القلعة وأقامـوا عليهـا المجانيـق ثـم تسلموهـا بالأمـان فـي منتصـف جمـادى الأولى من هذه السنة ونهبوا جميع ما فيها وجدوا في خراب أسوار القلعة وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات ثم توجهوا إلى ذكر استيلاء التتر على ميافارقين وقتل الملك الكامل صاحبها‏:‏ وفـي هـذه السنـة أعنـي سنـة ثمـان وخمسيـن وستمائـة استولـى التتر على ميافارقين وقد تقدم ذكر نزولهم عليها ومحاصرتها في سنة ست وخمسين واستمر الحصار عليهم مدة سنتين حتى فنيت أزوادهم وفني أهلها بالوباء وبالقتـل وصاحبهـا الملـك الكامـل محمـد ابـن الملـك المظفـر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب مصابراً ثابتاً وضعف من عنده عن القتال فاستولى التتر عليهما وقتلوا صاحبها الملك الكامل المذكور وحملوا رأسـه علـى رمـح وطيـف بـه فـي البلـاد ومـروا بـه علـى حلـب وحمـاة ووصلـوا بـه إلـى دمشـق في سابع عشرين جمادى الأولـى مـن هـذه السنـة أعنـي سنـة ثمـان وخمسين وستمائة وطافوا به في دمشق بالمغاني والطبول وعلق رأس المذكور في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الحسين داخل باب الفردايس وفيه يقول الشيخ شهاب الدين ابن أبي شامة أبياتاً منها‏:‏ ابن غازي غزى وجاهد قوماً أثخنـوا فـي العـراق والمشرفيـن طاهراً عالياً ومات شهيداً بعـد صبـر عليهـم عاميـن ثم واروا في مشهد الرأس ذاك الرأس واستعجبوا من الحالين‏.‏

ذكر اتصال الملك الناصر بالتتر واستيلائهم على عجلون وغيرها من قلاع الشام‏:‏

أما الملك الناصر يوسف فإنه لما انفرد عن العسكر من قطية وسار إلى تيه بني إسرائيل بقي متحيراً إلى أين يتوجه وعزم على التوجه إلى الحجاز وكان له طبر دار كردي اسمه حسين فحسـن لـه المضـي إلـى التتـر وقصـد هولاكـو فاغتـر بقولـه ونـزل ببركـة زيرا وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو وعرفه بموضع الملك الناصر فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه وأحضره إلى عجلون وكانت بعد عاصية فأمره الملك الناصر بتسليمها فسلمت إليهم فهدموها‏.‏

وكنا قد ذكرنا حصار التتر لبعلبك فتسلموها قبيل تسليم عجلون وخربوا قلعتها أيضاً وكان بالصبية صاحبها الملك السعيد ابن الملك العزيـز ابـن الملـك العـادل فسلـم الصبيـة إليهـم وصـار الملـك السعيـد المذكـور معهـم وأعلـن بالفسـق والفجـور وسفـك دماء المسلمين وأما الملك الناصر يوسف فإن كتبغا بعث به إلى هولاكو فوصل إلى دمشق ثم إلى حماة وبها الأشرف صاحب حمص فخرج إلى لقائه هو وخسروشاه النائب بحماة ثم سار إلى حلب فلمـا عاينهـا الملـك يعز علينا أن نرى ربعكم يبلى وكانت به آيات حسنكم تتلى ثم سار إلى الأردن فأقبل عليه هولاكو ووعده برده إلى مملكته وكان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر غير ذلك وفي خامس عشر شعبان من هذه السنة أخرج التتر من الاعتقال نقيب قلعة دمشق وواليها وضربوا أعناقهما بداريا واشتهر عند أهل دمشق خروج العساكر من مصر لقتال التتر فأوقعوا بالنصارى وكانوا قد استطالوا على المسلمين بدق النواقيس وإدخال الخمر إلى الجامع فنهبهم المسلمون في سابع عشرين رمضان من هذه السنة وأخربوا كنيسة مريم وكانت كنيسة عظيمة وكانـت كنيسـة مريـم فـي جانـب دمشـق الـذي فتحه خالد بن الوليد بالسيف فبقيت بيد المسلمين وكان ملاصق الجامع كنيسة وهي من الجانب الذي فتحه أبو عبيدة بالأمان فبقيت بأيـدي النصارى فلما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة خرب الكنيسة الملاصقة للجامع وأضافها إليه ولـم يعـوض النصـارى عنهـا فلمـا ولـي عمـر بـن عبـد العزيـز عوضهم بكنيسة مريم عن تلك الكنيسة فعمروها عمارة عظيمة وبقيت كذلك حتى خربها المسلمون في التاريخ المذكور‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة كانت هزيمة التتر في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان على عين جالوت وكان من حديثها أنه لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر عزم الملك المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر وسار من مصر بالعساكر الإسلامية وصحبته الملك المنصور محمد صاحب حماة وأخوه الملك الأفضـل علـي وكـان مسيره من الديار المصرية في أوائل رمضان من هذه السنة ولما بلغ كتبغا وهو نائب هولاكو على الشام ومقدم التتر مسير العساكر الإسلامية إليه صحبة الملك المظفر قطز جمع مـن فـي الشام من التتر وسار إلى لقاء المسلمين وكان الملك السعيد صاحب الصبيبة ابن الملك العزيز ابن الملك العادل بن أيوب صحبة كتبغا وتقارب الجمعان في الغرر والتقوا يوم الجمعة المذكور فانهزمت التتر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف المسلمين وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه وتعلق من سلم من التتر برؤوس الجبال وتبعتهم المسلمون فأفنوهم وهرب من سلم منهم إلـى الشـرق وجرد قطز ركن الدين بيبرس البندقداري في إثرهم فتبعتهم المسلمون إلى أطراف البلاد الشرقية وكان أيضاً في صحبة التتر الملك الأشرف موسـى صاحـب حمـص فنازلهـم وطلب الأمان من المظفـر قطـز فأمنـه ووصـل إليـه فأكرمـه وأقـره علـى مـا بيـده وهـو حمـص ومضافاتها وأما الملك السعيد صاحب الصبيبة فإنه أمسك أسيـراً وأحضـر بيـن يـدي الملـك ولما انقضى أمر المصاف أحسن المظفر قطز إلى الملك المنصور صاحب حماة وأقره على حماة وباريـن وأعـاد إليـه المعـرة وكانـت فـي أيـدي الحلبييـن مـن حيـن استولـوا عليهـا في سنة خمس وثلاثين وستمائة وأخذ سلمية معه وأعطاها أمير العرب وأتم الملك المظفر السير بالعساكر وصحبته الملك المنصور صاحب حماة حتى دخل دمشق وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام ولأنهم مـا قصـدوا إقليمـاً إلا فتحـوه ولا عسكـراً إلا هزمـره فابتهجـت الرعايـا بالنصـرة عليهـم وبقـدوم الملـك المظفـر قطـز إلـى الشـام وفـي يـوم دخولـه دمشـق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا وكان من جملتهم حسين الكردي طيردار الملك الناصر يوسف وهو الذكي أوقع الملك الناصر في أيدي التتر وفي هذه النصرة وقدوم قطز إلى الشام يقول بعض الشعراء‏:‏

هلك الكفـر فـي الشـآم

**

جميعـاً واستجد الإسلام بعدد حوضه

بالمليك المظفر الملك الأر

**

وع سيف الإسلام عند نهوضه

ملـك جاءنـا بعـزم وحزم

**

فاعتززنـا بسمره وببيضه

أوجـب اللـه شكـر ذاك علينا

**

دائمـا مثل واجبات فروضه

 ثـم أعطـى الملـك المظفـر قطـز صاحـب حمـاة الملـك المنصـور الدستـور فقـدم الملـك المنصـور قدامه مملوكه ونائبه مبارز الدين أقوش المنصور إلى حماة ثم سار الملك المنصور وأخوه الملك الأفضل ووصلا إلى حماة ولما استقر الملك المنصور بحماة قبض على جماعة كانوا مع التتر واعتقلهم وهنأ الشيخ شرف الدين شيخ الشيوخ المنصور بهذا النصـر العظيـم وبعـود المعـرة بقصيدة منها‏:‏

رعت العدى فضمنت ثل عروشها

**

ولقيتها فأخـذت تـل جيوشهـا

نازلـت أملـاك التتار فأنزلت

**

عن فحلها قسراً وعن أكديشها

فغدا لسيفك في رقاب كماتها

**

حصد المناجل في يبيس حشيشها

فقت الملوك ببذل مـا تحويـه إذ

**

ختمت خزائنها على منقوشها

ومنها‏:‏

وطويت عن مصر فسيح مراحل

**

مـا بيـن بركتهـا وبين عريشها

حتى حفظت على العباد بلادها

**

من رومها الأقصى إلى إحبوشها

فرشت حماة لوطيء نعلك خدها

**

فوطئت عين الشمس من مفروشها

وضربت سكتها التي أخلصتها

**

عما يشوب النقد من مغشوشها

وكذا المعرة إذا ملكت قيادها

**

دهشت سروراً سار في مدهوشها

لا زلت تنعش بالنـوال فقيرهـا

**

وتنال أقصى الأجر من منعوشها

وكان خسروشاه قد سافر من حماة إلى جهة الشرق لما بلغه كسرة التتر ثم جهز الملك المظفر قطز عسكراً إلى حلب لحفظها ورتب أيضاً شمس الدين أقوش البرلي العزيزي أميراً بالسواحل وغـزة ورتـب معـه جماعـة مـن العزيزيـة وكـان البرلـي المذكـور من مماليك الملك العزيز محمد صاحـب حلـب وسـار في جملة العزيزية مع ولده الملك الناصر يوسف إلى قتال المصريين وخامر البرلـي وجماعـة من العزيزية على ابن أستاذهم الملك الناصر وصاروا مع أيبك التركماني صاحب مصر ثم إنهم قصدوا اغتيال المعز أيبـك التركمانـي المذكـور وعلـم بهـم فقبـض علـى بعضهـم وهرب بعضهم وكان البرلي المذكور من جملة من سلم وهرب إلى الشام فلما وصل إلى الملك الناصر اعتقله بقلعة عجلون فلما توجه الملك الناصر بالعسكر إلى الغور مندفعاً من بين يدي التتر أخرج البرلي من حبس عجلون وطيب خاطره فلما هرب الملك الناصر من قطية دخل شمس الدين أقوش البرلي المذكور مع العساكر إلى مصر فأحسن إليه الملك المظفر قطز وولاه الآن السواحل وغزة فلما استقر بدمشق على ما ذكرناه وكان مقر البرلي لما تولى هذه الأعمال بنابلس تارة وبيت جبرين أخرى ثم إن الملك المظفر قطز فرض نيابة السلطنة بدمشـق إلـى الأميـر علـم الديـن سنجر الحلبي وهو الذي كان أتابكاً لعلي بن المعز أيبك وفوض نيابة السلطنة بحلـب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وكان المذكور قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام ودخل مع العساكر إلى مصر وصار مع المظفر قطز ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب وكان سببه أن أخاه الملك الصالح بن لؤلؤ قد صار صاحب الموصل بعد أبيه فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتر ولما استقر السعيد المذكور في نيابة حلب سار سيرة رديئة وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية‏.‏

ذكر عود الملك المظفر قطز إلى جهة الديار المصرية مقتله‏:‏

ولما قرر الملك المظفر قطز المعزي المذكور أمر الشام على ما شرحناه سار من دمشق إلى جهـة البلاد المصرية وكان قد اتفق بيبرس البندقداري الصالحي مع أنص مملوك نجم الدين الرومي الصالحي والهاروني وعلم الديـن صغـن أغلـي علـى قتـل المظفـر قطـز وسـاروا معـه يتوقعـون الفرصة فلما وصل قطز إلى القصير بطرف الرمل وبينـه وبيـن الصالحيـة مرحلـة وقـد سبـق الدهليز والعسكر إلى الصالحية فبينما قطز يسير إذ قامت أرنب بين يديه فساق عليها وساق هؤلاء المذكورون معه فلما بعدوا تقدم إليه أنص وشفع عند الملك المظفر قطز فـي إنسـان فأجابه إلى ذلك فأهوى لتقبيل يده وقبض عليها فحمل عليه بيبـرس البندقـداري الصالحـي حينئذ وضربه بالسيف واجتمعوا عليه ورموه عن فرسه ثم قتلوه بالنشاب وذلك في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة فكانت مدة ملكه أحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً وساق بيبرس وأولئك المذكورون بعد مقتله حتى وصلوا إلى الدهليز بالصالحية‏.‏

ذكر سلطنة بيبرس البندقداري المذكور

ولمـا وصـل ركـن الديـن بيبـرس المذكـور هـو والجماعة الذين قتلوا الملك المظفر قطز إلي الدهليز كما ذكرناه وكان عند الدهليز نائـب السلطنـة فـارس الديـن أقطـاي المستعـرب وهـو الـذي صـارا أتابكاً لعلي بن المعز أيبك بعد الحلبي فلما تسلطن قطز أقره على نيابة السلطنة فلما وصل بيبرس البندقداري مع الجماعة الذين قتلوا قطز إلى الدهليز سألهم أقطاي المستعرب المذكور وقـال‏:‏ من قتله منكم فقال له بيبرس أنا‏.‏

قال له أقطاي‏:‏ يا خوند اجلس في مرتبة السلطنة‏.‏

فجلـس واستدعيـت العساكـر للتحليـف فحلفـوا له في اليوم الذي قتل فيه قطز وهو سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة‏.‏

واستقـر بيبـرس في السلطنة وتلقب بالملك القاهر ركن الدين بيبرس الصالحي ثم بعد ذلك غير لقبه عن الملك القاهر وتلقب بالملك الظاهر لأنه بلغه أن القاهر لقب غير مبارك ما تلقب به أحد فطالت مدته وكان الملك الظاهر المذكور قد سأل من قطز النيابة بحلب فلم يجبه إليها ليكون ما قدره الله تعالى ولما حلف الناس للملك الظاهر المذكور بالصالحية ساق في جماعة من أصحابه وسبق العسكر إلى قلعة الجبل ففتحت له ودخلها واستقرت قدمه في المملكة وكان قد زينت مصر والقاهرة لمقدم قطز فاستمرت الزينة لسلطنة بيبرس المذكور وكان مقتل قطز وسلطنة بيبرس في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

ذكر إعادة عمارة قلعة دمشق

وفي هذه السنة في العشر الأخير من ذي القعدة شرع الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب السلطنة بدمشق في عمارة قلعة دمشق وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس وعملوا فيها حتى النساء أيضاً وكان عند الناس بذلك سرور عظيم‏.‏

ذكر سلطنة الحلبي بدمشق

كـان علـم الديـن سنجـر الحلبـي وقد استنابه الملك المظفر قطز بدمشق على ما تقدم ذكره‏.‏

فلما جرى ما ذكرناه من قتل قطز وسلطنة الملك الظاهر جمع الحلبي الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة وذلـك فـي العشـر الأول من ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة فأجابه النـاس إلـى ذلـك وحلفـوا لـه ولـم يتأخـر عنـه أحـد ولقـب نفسـه الملـك المجاهد وخطب له بالسلطنة وضربت السكة باسمه وكاتب الملك المنصور صاحب حماة في ذلك فلم يجبه وقال صاحب حماة‏:‏ أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان‏.‏

ذكر قبض عسكر حلب على الملك السعيد ابن صاحب الموصل وعود التتر إلى الشام‏:‏

وكان الملـك السعيـد قـد قـرره قطـز بحلـب وجـرد معـه جماعـة مـن العزيزيـة والناصريـة وكـان رديء السيرة وقد أبغضه العسكر وبلغ الملك السعيد المذكور مسير التتر إلى البيرة فجرد إلى جهتهم جماعة قليلة من العسكر وقدم عليهم سابق الدين أمير مجلس الناصري فأشار عليه كبراء العزيزية والناصرية بأن هذا ما هو مصلحه وأن هؤلاء قليلون فيحصل الطمع بسببهم في البلاد فلم يلتفت إلى ذلك وأصر على مسيرهم فسار سابق الدين أمير المجلس بمن معه حتى قاربـوا البيرة فوقع عليهم التتر فهرب منهم ودخل البيرة بعد أن قتل غالب من كان معه فازداد غيظ الأمراء على الملك السعيد بسبب ذلك فاجتمعوا وقبضوا عليه ونهبوا وطاقه وكان قد برز إلى الباب المعروف بباب الله ولما استولوا على خزانته لم يجدوا فيها مالاً طائلاً فهددوه بالعذاب إن لم يقر لهم بماله فنبش من تحت أشجار حائط دار ببابلي جملة من المـال قيـل كانت خمسين ألف دينار مصرية ففرقت في الأمراء وحمل الملك السعيد المذكور إلى الشغر وبكـاس معتقـلاً ثـم لما اندفع العسكر من بين يدي التتر على ما سنذكره أفرجوا عنه ولما جرى ذلك اتفقت العزيزية والناصرية وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي ثم سارت التتر إلى حلب فاندفع حسام الدين الجوكندار والعسكر الذين معه بين أيديهم إلى جهة حماة ووصل التتر إلى حلب في أواخر هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة وملكوها وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا واسمها مقر الأنبياء فسماه العامة قرنبيا ولما اجتمع المسلمون بقرنبيا بذل التتر فيهم السيف فأفنوا غالبهم وسلم القليل منهم ووصل حسام الدين الجوكندار ومن معه إلى حماة فضيفهم الملك المنصور محمد صاحب حماة وهو مستشعر خائف من غدرهم ثم رحلوا من حماة إلـى حمـص فلمـا قـارب التتـر حمـاة خـرج منهـا الملـك المنصـور صاحبهـا وصحبته أخوه الملك الأفضل علي والأمير مبارز الدين باقي العسكر واجتمعـوا بحمـص مـع باقي العساكر إلى أن خرجت هذه السنة‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وستمائة

وفي يوم الجمعة خامس المحرم عن هذه السنة كانت كسرة التتر على حمص وكان من حديثها أن التتر لما قدموا في آخر السنة الماضية إلى الشام اندفعت العزيزية والناصرية من بين أيديهم وكذلك الملك المنصور صاحب حماة ووصلوا إلى حمص واجتمع بهم الملك الأشرف صاحب حمص ووقع اتفاقهم على ملثقى التتر وسارت التتر إليهم والتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكور وكان التتر أكثر من المسلمين بكثير ففتح الله تعالى على المسلمين بالنصر وولى التتر منهزمين وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون منهم كيف شاؤوا ووصل الملك المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة وانضم من سلم من التتـر إلـى باقـي جماعتهـم وكانـوا نازليـن قـرب سلميـة واجتمعوا ونزلوا على حماة وبها صاحبها الملك المنصور وأخوه الملك الأفضل والعسكر وأقام التتـر علـى حمـاة يومـاً واحـداً ثـم رحلـوا عن حماة وأراد الملك المنصور بعد رحيل التتر المسير إلى دمشق فمنعه العامة من ذلك حتى استوثقوا منه أنه يعود إليهم عن قريب فسافر هو وأخوه الملـك الأفضل في جماعة قليلة وبقي الطواشي مرشد في باقي العسكر بحماة ووصل المنصور بمن معه إلى دمشق وكذلك توجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق وأما حسام الدين الجوكندار العزيزي فتوجه أيضاً بمن في صحبته ولم يدخل دمشق ونزل بالمرج ثم سار إلى مصر وأقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق في دورهما والحاكم بهـا يومئـذ سنجـر الحلبـي الملقـب بالسلطان الملك المجاهد وقد اضطرب أمره‏.‏

ولذلك أقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق ولم يدخلا في طاعته لضعفه وتلاشي أمره وأما التتر فساروا عن حماة إلى فامية وكان قد وصل إلى فامية سيف الدين الدنبلي الأشرفي ومعه جماعة فأقام بقلعة فامية وبقي يغير على التتر فرحلوا عن فامية وتوجهوا إلى الشرق‏.‏

ذكر القبض على سنجر الحلبي الملقب بالملك المجاهد

وفي هذه السنة جهز الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر عسكراً مع علاء الدين البندقدار وهو أستاذ الملك الظاهر لقتال علم الدين سنجر الحلبي المستولي على دمشق فوصلوا إلى دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة ولما وصل عسكر مصر إلى دمشق خرج إليهم الحلبي لقتالهم وكان صاحب حماة وصاحب حمص قيمين بدمشق لم يخرجا مع الحلبي لقتالهم ولا أطاعاه لاضطراب أمر الحلبي واقتتل معهم بظاهر دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنـة أعنـي سنـة تسـع خمسيـن وستمائة فولى الحلبي وأصحابه منهزمين ودخل إلى قلعة دمشق إلـى أن جنـه الليـل فهـرب مـن قلعـة دمشـق إلى جهة بعلبك فتبعه العسكر وقبضوا عليه وحمل إلى الديار المصرية فاعتقل ثم أطلق واستقرت دمشق في ملك الملك الظاهر بيبرس وأقيمت له الخطبة بها بغيرهـا مـن الشـام مثـل حمـاة وحلـب وحمـص وغيرهـا واستقـر أيدكيـن البندقـدار الصالحي في دمشق لتدبير أمورها ولما استقر الحال على ذلك رحل الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص وعادا إلى بلادهما واستقر بها‏.‏

ذكر خروج البرلي عن طاعة الملك الظاهر بيبرس واستيلائه على حلب‏:‏

وفـي هـذه السنـة بعـد استقرار علاء الدين أيدكين البندقدار في دمشق ورد عليه مرسوم الملك الظاهـر بيبـرس بالقبـض علـى بهـاء الديـن بغـدي الأشرفي وعلى شمس الدين أقوش البرلي وغيرهما من العزيزية والناصرية وبقي علاء الدين أيدكين متوقعاً ذلك فتوجه بغـدي إلـى عـلاء الديـن أيدكين فحال دخوله عليه قبض على بغدي المذكور فاجتمعت العزيزية والناصرية إلى أقوش البرلي وخرجوا من دمشق ليلاً على حمية ونزلوا بالمرج وكان أقوش البرلي قد ولاّه المظفر قطز غزة والسواحل على ما قدمنا ذكره فلما جهز الملك الظاهر أستاذه البندقدار إلى قتال الحلبي أرسـل إلى البرلي وأمره أن ينضم إليه فسار البرلي مع البندقدار وأقام بدمشق فلما قبض على بغـدي خـرج البرلـي إلـى المـرج وأرسـل عـلاء الديـن أيدكين البندقدار إلى البرلي يطيب قلبه ويحلف له فلم يلتفت إلى ذلك وسار البرلي إلى حمص وطلب من صاحبها الأشرف موسى أن يوافقه علـى العصيـان فلم يجبه إلى ذلك ثم توجه إلى حماة وأرسل يقول للملك المنصور صاحب حماة أنـه لـم يبـق مـن البيـت الأيوبـي غيـرك وقـم لنصيـر معك ونملكك البلاد فلم يلتفت الملك المنصور إلى ذلك ورده رداً قبيحاً فاغتاظ البرلي ونزل على حمـاة وأحـرق زرع بيـدر العشـر وسـار إلـى شيزر ثم إلى جهة حلب وكان علاء الدين أيدكين البندقدار لما استقر بدمشق قـد جهـز عسكراً صحبة فخر الدين الحمصي للكشف عن البيرة فإن التتر كانوا قد نازلوها فلما قدم البرلي إلى حلب كان بها فخر الدين الحمصي المذكور فقال له البرلي نحن في طاعة الملك الظاهر فتمضي إلى السلطان وتسأله أن يتركني ومن في صحبتي مقيمين بهذا الطرف ونكون تحت طاعته من غير أن يكلفني وطء بساطه فسار الحمصي إلـى جهـة مصـر ليـؤدي هـذه الرسالة فلما سار عن حلب تمكن البرلي واحتاط على ما في حلب من الحواصل واستبد بالأمر وجمع العرب والتركمان واستعـد لقتـال عسكـر مصـر ولمـا توجـه فخـر الديـن الحمصـي لذلك التقى في الرمل جمال الدين المحمدي الصالحي متوجهاً بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلـي وإمساكـه فأرسـل الحمصي عرف الملك الظاهر بما طلبه البرلي فأرسل الملك الظاهر ينكر علـى فخـر الديـن الحمصـي المذكـور ويأمـره بالإنضمـام إلى المحمدي والمسير إلى قتال البرلي فعاد من وقته ثم رضي الملك الظاهر عن علم الدين سنجر الحلبي وجهزه وراء المحمدي في جمع من العسكـر ثـم أردفـه بعـز الديـن الدمياطـي في جمع آخر وسار الجميع إلى جهة البرلي وساروا إلى حلب وطردوه عنها وانقضت السنة والأمر على ذلك‏.‏

ذكر مقتل الملك الناصر يوسف

وفي هذه السنة ورد الخبر بمقتل الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وعقد عزاه بجامع دمشق في سابـع جمـادى الأولـى مـن هـذه السنـة أعنـي سنـة تسـع وخمسيـن وستمائـة وصـورة الحال في قتله أنه لمـا وصـل إلـى هولاكـو على ما قدمنا ذكره وعده برده إلى ملكه وأقام عند هولاكو مدة فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره بعين جالوت وقتل كتبغا ثم كسرة عسكره على حمص ثانياً غضب من ذلك وأحضر الملك الناصر المذكور وأخاه الملك الظاهر غازي وقال له‏:‏ أنت قلت أن عسكر الشام في طاعتك فغدرت بي وقتلت المغل‏.‏

فقال الملك الناصر‏:‏ لو كنت بالشام ما ضرب أحـد فـي وجه عسكرك بالسيف ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام فاستوفي هولاكو لعنه الله ناصجاً وضربه به‏.‏

فقال الملك الناصر‏:‏ يا خوند الصنيعة فنهاه أخوه الظاهر وقال‏:‏ قد حضرت ثم رماه بفرده ثانية فقتله ثم أمر بضرب رقاب الباقين فقتلوا الظاهر أخا الملك الناصر والملك الصالح ابن صاحب حمص والجماعة الذيـن كانـوا معهـم واستبقـوا الملـك العزيز ابن الملك الناصر لأنه كان صغيراً فبقي عندهم مدة طويلة وأحسنوا إليه ثم مات وكان قد تولى الملك الناصر المذكور مملكة حلب بعد موت أبيه العزيز وعمره سبع سنين وأقامت جدتـه ضيفـة خاتـون بنـت الملـك العـادل بتدبيـر مملكته واستقل بالملك بعد وفاتها في سنة أربعين وستمائة وعمره ثلاث عشرة سنـة وزاد ملكـه علـى ملـك أبيـه وجـده فإنـه ملـك مثـل حـران والرهـا والرقـة ورأس عيـن ومـا مـع ذلـك مـن البلـاد وملـك حمص ثم ملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة وعظم شأنه وكسر عساكر مصر وخطب له بمصر وبقلعة الجبل على الوجه الذي تقدم ذكره وكان قد غلب على الديار المصرية لو لا هزيمته وقتل مدبر دولته شمس الدين لؤلؤ الأرمني ومخامرة مماليك أبيه العزيزية وكان يذبح في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس غنم وكانت سماطاته وتجمله في الغاية القصوى وكان حليماً وتجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة فإنه لما أمنت قطاع الطريق في أيام مملكته من القتل والقطع تجاوزوا الحد في الفساد بالمملكة وانقطعت الطرق في أيامه وبقي لا يقدر المسافر على السفر من دمشق إلى حماة وغيرها الا برفقة من العسكر وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه وكثرت الحرامية وكانوا يكبسون الدور ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول‏:‏ الحي خير من الميت ويطلقه فـأدى ذلـك إلـى انقطـاع الطرقـات وانتشـار الحراميـة والمفسديـن وكـان علـى ذهن الناصر المذكور شيء كثير من الأدب والشعر ويروى له أشعار كثيرة منها‏:‏ فوالله لو قطعـت قلبـي تأسفـاً وجرعتني كاسات دمعي دماً صرفا لما زادني إلا هوى ومحبة ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا وبنـى بدمشق مدرسة قريب الجامع تعرف بالناصرية ووقف عليها وقفاً جليلاً وبني بالصالحية تربة غرم عليها جملاً مستكثرة فدفن فيها كرمون وهو بعض أمراء التتر وكانت منية الملك الناصر ببلاد العجم وكان مولد الناصر المذكور في سنة سبع وعشرين وستمائة فيكون عمره اثنتين وثلاثين سنة تقريباً‏.‏

ذكر مبايعة شخص بالخلافة وإثبات نسبه

وفـي هذه السنة في رجب قدم إلى مصر جماعة من العرب ومعهم شخص أسود اللون اسمه أحمد زعموا أنه ابن الإمام الظاهر بالله محمد ابن الإمام الناصر وأنه خـرج مـن دار الخلافـة ببغداد لما ملكها التتر فعقد الملك الظاهر بيبرس مجلساً حضر فيه جماعة من الأكابر منهم الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبـد السلـام والقاضـي تـاج الديـن عبـد الوهـاب بـن خلـف المعروف بابن بنت الأعز فشهد أولئك العرب أن هذا الشخص المذكور هو ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر فيكون عم المستعصم وأقام القاضي جماعـة مـن الشهـود اجتمعـوا بأولئـك العرب وسمعوا شهاداتهم ثم شهـدوا بالنسـب بحكـم الاستفاضـة فأثبـت القاضـي تـاج الديـن نسب أحمد المذكور ولقب المستنصر بالله أبا القاسـم أحمـد ابـن الظاهـر باللـه محمـد وبايعـه الملك الظاهر والناس بالخلافة واهتم الملك الظاهر بأمره وعمل له الدهاليز والجمدارية وآلات الخلافـة واستخدم له عسكراً وغرم على تجهيزه جملاً طائلة‏.‏

قيل إن قدر ما غرمه عليه ألف ألف دينار وكانت العامة تلقب الخليفة المذكور بالزرابيني وبرز الملك الظاهر والخليفة الأسود المذكـور فـي رمضـان مـن هذه السنة وتوجها إلى دمشق وكان في كل منزلة يمضي الملك الظاهر الى دهليزه الخاص به ولما وصلا إلى دمشق نزل الملك الظاهر بالقلعة ونزل الخليفة في جبل الصالحية ونزل حول الخليفة أمراؤه وأجناده‏.‏

ثم جهز الخليفة عسكره إلى جهة بغداد طمعاً في أنه يستولي على بغداد ويجتمع عليه الناس فسار الخليفة الأسود بعسكره من دمشق وركب الملـك الظاهـر وودعـه ووصـاه بالتأنـي فـي الأمـور ثـم عـاد الملـك الظاهـر إلـى دمشـق مـن توديـع الخليفـة ثم سار إلى الديار المصرية ودخلها في سابع عشر ذي الحجة من هذه السنـة ووصلـت إليـه كتـب الخليفـة بالديـار المصريـة أنـه قـد استولى على عانة والحديثة وولى عليهما وأن كتب أهل العراق وصلت إليه يستحثونه على الوصول إليهم ثم قبل أن يصل إلى بغداد وصلت إليه التتر وقتلوا الخليفة المذكور وقتلوا غالب أصحابه ونهبوا ما كان معه وجاءت الأخبار بذلك‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة لما سار الملك الظاهر إلى الشام أمر القاضي شمس الدين ابن خلكان فسافر في صحبته من مصر إلى الشام فعزل عن قضاء دمشق نجم الدين ابن صدر الدين بن سنا الدولة وكان قطز قد عزل المحي ابن الزكي الذي ولاه هولاكو القضاء وولى ابن سنا الدولة فعزله الملك الظاهر في هذه السنة وولى القضاء شمس الدين بن خلكان‏.‏

وفيها قدم أولاد صاحب الموصل وهم الملك الصالح إسماعيل ثم أخوه الملك المجاهد إسحاق صاحب جزيرة ابن عمر ثم أخوهما الملك المظفر علي صاحب سنجار أولاد لؤلؤ فأحسن الملـك الظاهر إليهم وأعطاهم الإقطاعات الجليلة بالديار المصرية واستمروا في أرغد عيش في طول مدة الملك الظاهر‏.‏

وفيها في ربيع الآخر وردت الأخبار من ناحية عكا أن سبع جزائر في البحر خسف بها وبأهلها وبقي أهل عكا لابسين السواد وهم يبكون ويستغفرون من الذنوب بزعمهم‏.‏

وفيها جهز الملك الظاهر بيبرس بدر الدين الأيدمري فتسلم الشوبك في سلخ ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة تسع وخمسين وستمائة وأخذها من الملك المغيث صاحب الكرك‏.‏

ثم دخلت سنة ستين وستمائة

في هذه السنة في نصف رجب وردت جماعة من مماليك الخليفة المستعصم البغاددة وكانوا قد تأخروا في العراق بعد استيلاء التتر على بغداد وقتل الخليفة وكان مقدمهم يقال له شمس الدين سلار فأحسن الملك الظاهر بيبرس ملتقاهم وعين لهم الإقطاعات بالديار المصرية‏.‏

وفيها في رجب أيضاً وصل إلى خدمة الملك الظاهر بيبرس بالديار المصرية عماد الدين بن مظفر الدين صاحب صهيون رسولاً من أخيه سيف الدين صاحب صهيون وصحبته هدية جليلة فقبلها الملك الظاهر وأحسن إليه‏.‏

وفيها جهز الملك الظاهر عسكراً إلى حلب وكان مقدمهم شمس الدين سنقر الرومي فأمنت بلـاد حلـب وعـادت إلـى الصلـاح ثـم تقـدم الملـك الظاهـر بيبـرس إلى سنقر الرومي إلى صاحب حماة الملك المنصور وإلى صاحب حمص الملك الأشرف موسـى أن يسيـروا إلـى أنطاكيـة وبلادهـا للإغارة عليهـا فسـاروا إليهـا ونهبـوا بلادهـا وضايقوهـا ثـم عـادوا فتوجهـت العساكـر المصريـة صحبة سنقر الرومي إلى مصر ووصلوا إليها في تاسع عشرين رمضان من هذه السنة ومعهم ما ينوف عن ثلاثمائة أسير فقابلهم الملك الظاهر بالأحسان والإنعام‏.‏

وفيهـا لمـا ضاقـت علـى أقوش البرلي البلاد وأخذت منه حلب ولم يبق بيده غير البيرة دخل في طاعـه الملـك الظاهـر وسـار إليـه فكتب الملك الظاهر إلى النواب بالإحسان إليه وترتيب الإقامات لـه فـي الطرقـات حتـى وصل إلى الديار المصرية في ثاني ذي الحجة من هذه السنة أعنب سنة ستيـن فتلقـاه الملك الظاهر وبالغ في الإحسان إليه وأكثر له العطاء فسأله أقوش البرلي من الملك الظاهر أن يقبـل منـه البيـرة فلـم يفعـل ومـا زال يعـاوده حتـى قبلهـا وبقـي أقـوش البرلـي العزيـز المذكور مع الملك المظاهر إلى أن تغير عليه وقبضه في رجب سنة إحدى وستين وستمائة فكان آخر العهد به‏.‏

وفيها في ذي القعدة قبض الملك الظاهر على نائبه بدمشق وهو علاء الدين طيبرس الوزيري وكان قد تولى دمشق بعد مسير علاء الدين أيدكين البندقدار عنها وسبب القبض عليه أنه بلغ الملك الظاهر عنه أمور كرهها فأرسل إليه عسكراً مع عز الدين الدمياطـي وغيـره مـن الأمراء لما وصلوا إلى دمشق خرج طيبرس لتلقيهم فقبضوا عليه وقيدوه وأرسلوه إلى مصر فحبسـه الملـك الظاهـر واستمـر الحـاج طيبرس في الحبس سنة وشهراً وكانت مدة ولايته بدمشق سنة وشهراً أيضاً وكان طيبرس المذكور رديء السيرة في أهل دمشق حتى نزح عنها جماعة كثيـرة مـن ظلمـه وحكـم فـي دمشـق بعـد قبض طيبرس المذكور علاء الدين أيدغدي الحاج الركني ثم استناب الملك الظاهر على دمشق الأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي‏.‏

وفيها في يوم الخميس في أواخر ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة ستين وستمائة جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً وأحضر شخصاً كان مد قدم إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وستمائة من نسـل بنـي العبـاس يسمـى أحمـد بعـد أن أثبـت نسبـه وبايعـه بالخلافـة ولقب أحمد المذكور الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين وقد اختلف في نسبه فالذي هو مشهور بمصر عنـد نسابـة مصـر أنـه أحمـد بـن حسـن بـن أبـي بكـر ابـن الأميـر أبـي علـي القبـى ابـن الأميـر حسـن ابن الراشد ابن المسترشد ابن المستظهر وقد مر نسب المستظهر مع جملة خلفاء بني العباس وأما عنـد الشرفـاء العباسييـن السلمانييـن فـي درج نسبهـم الثابـت فقالـوا‏:‏ هـو أحمـد بـن أبـي بكـر علـي بن أبي بكر أحمد ابن الإمام المسترشد الفضل ابن المستظهر‏.‏

ولما أثبت الملك الظاهر نسب المذكور نزله في برج محترزاً عليه وأشرك له الدعاء في الخطبة لا غير ذلك‏.‏

وفيهـا جهز الملك المنصور صاحب حماة شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري رسولاً إلى الملك الظاهر ووصل شيخ الشيوخ المذكور فوجد الملك الظاهر عاتباً على صاحب حماة لاشتغاله عن مصالح المسلمين باللهو وأنكـر الملـك الظاهـر علـى الشيـخ شـرف الديـن ذلـك ثـم انصلـح خاطره وحمله ما طيب به قلب صاحبه الملك المنصور ثم عاد إلى حماة‏.‏

وفيها توفي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي الإمام في مذهب الشافعي وله مصنفات جليلة في المذهب وكانت وفاته بمصر رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي الصاحب كمال الدين عمر بن عبد العزيز المعـروف بابـن العديـم انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة وكان فاضلاً كبير القدر ألف تاريخ حلب وغيره من المصنفـات وكـان قـد قـدم إلى مصر لما جفل الناس من التتر ثم عاد بعد خراب حلب إليها فلما نظر ما فعله التتر من خراب حلب وقتل أهلها بعد تلك العمارة قال في ذلك قصيدة طويلة منها‏:‏ هو الدهر ما تبنيه كفاك يهدم وإن رمت إنصافاً لديه فتظلم أباد ملوك الفرس جمعاً وقيصراً وأصمت لدى فرسانها منه أسهم وأفنى بني أيوب مع كثر جمعهم وما منهم إلا مليك معظم وملك بني العباس زال ولم يدع لهم أثراً مـن بعدهـم وهـم هـم وعن حلب ما شئت قل من عجائب أحل بها يا صاح إن كنت تعلم ومنها‏:‏ فيا لك مـن يـوم شديـد لغامـه قد أصبحت فيه المساجد تهدم وقد درست تلك المدارس وارتمت مصاحفها فوق الثرى وهي ضخم وهي طويلة وآخرها‏:‏ ولكنما لله في ذا مشيئـة فيفعـل فينـا مـا يشـاء ويحكم

ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة

ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام

في هذه السنة في حادي عشر ربيع الآخر سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام فلاقته والدة الملك المغيث عمر صاحب الكرك بغزة وتوثقت لابنها الملك المغيـث مـن الملـك الظاهـر بالأمـان وأحسـن إليهـا ثـم توجهـت إلـى الكـرك وتوجـه صحبتهـا شـرف الدين الجاكي المهمندار يرسم حمل الإقامات إلى الطرقات برسم الملك المغيث ثم سار الملك الظاهر مـن غـزة ووصـل إلـى الطـور فـي ثانـي عشر جمادى الأولى من هذه السنة ووصل إليه على الطور ذكر حضور الملك المغيث صاحب الكرك وقتله واستيلاء الملك الظاهر بيبرس على الكرك‏:‏ وفي هذه السنة كان مقتل الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامـل محمـد ابـن الملـك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب الكرك وسببه أنه كان في قلب الملك الظاهر بيبرس منه غيظ عظيم لأمور كانت بينهما قيل إن المغيث المذكور أكره امرأة الملـك الظاهر بيبرس لما قبض المغيث على البحرية‏.‏

وأرسلهم إلى الناصر يوسف صاحب دمشق وهرب الملك الظاهر بيبرس المذكور وبقيت امرأته في الكرك والله أعلم بحقيقة ذلك وكان من حديـث مقتلـه أن الملـك الظاهـر بيبـرس مـازال يجتهـد علـى حضـور المغيـث المذكـور وحلف لوالدته على غزة كما تقدم ذكره وكان عند المغيث شخص يسمى الأمجد وكان يبعثـه فـي الرسالة إلى الملك الظاهر فكان الظاهر يبالغ في إكرامه وتقريبه فاغتر الأمجد بذلك وما زال على مخدومه الملك المغيث حتى أحضره إلى الملك الظاهر‏.‏

حكى لي شرف الدين بن مزهر وكان ابن مزهر المذكور ناظر خزانة المغيث‏.‏

قال‏:‏ لما عزم المغيث على التوجه إلى خدمة الملك الظاهر لم يكن قد بقي بخزانته شيء من المال ولا القماش وكان لوالدته حواصل بالبلاد فبعناها بأربعة وعشرين ألـف درهـم واشترينـا باثنـي عشـر ألـف درهـم خلعـاً مـن دمشـق وجعلنـا فـي صناديق الخزانة الاثني عشر الألف الأخرى ونزل المغيث من الكرك وأنا والأمجد وجماعة من أصحابه معه في خدمته‏.‏

قال‏:‏ وشرعت البريدية تصل إلى الملك المغيث في كـل يـوم بمكاتبـات الملـك الظاهـر ويرسـل صحبتهم مثل غزلان ونحوها والمغيث يخلع عليهم حتى نفد ما كان بالخزنة من الخلع ومن جملة ما كتب إليه في بعض المكاتبات المملوك ينشد في قدوم مولانا‏:‏ خليلي هل أبصرتما أو سمعتما بأكرم من مولى تمشى إلى عبـد قال‏:‏ وكان الخوف في قلب المغيث شديداً من الملك الظاهر‏.‏

قال ابن مزهر المذكور‏:‏ ففاتحني في شيء من ذلك بالليل‏.‏

فقلت له‏:‏ احلف إلي أنك لا تقول للأمجد ما أقوله لك حتى أنصحك فحلف لي‏.‏

فقلت له‏:‏ اخرج الساعة من تحت الخام واركب حجرتك النجيلة ولا يصبـح لـك الصبـاح إلا وأنت قد وصلت إلى الكرك فتعصى فيه ولا تفكر بأحد‏.‏

وقال ابن مزهر‏:‏ فغافلني وتحدث مع الأمجد في شيء من ذلك‏.‏

فقال له الأمجد‏:‏ هذا رأى ابن مزهر إياك من ذلك‏.‏

وسار المغيث حتى وصل إلى بيسان فركب الملك الظاهر بعساكره والتقاه في يوم السبـت السابع والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة فلما شاهد المغيث الملك الظاهـر ترجـل فمنعـه الملك الظاهر وأركبه وساق إلى جانبه وقد تغير وجه الملك الظاهر فلما قارب الدهليز أفـرد الملـك المغيـث عنـه وأنزلـه فـي خيمة وقبض عليه وأرسله معتقلاً إلى مصر فكان آخر العهد به‏.‏

قيل أنه حمل إلى امرأة الملك الظاهر بيبرس بقلعة الجبل فأمرت جواريها فقتلته بالقباقيب ثم قبض الملك الظاهر على جميع أصحاب المغيث ومن جملتهم ابن مزهر المذكور ثم بعد ذلك أفرج عنهم انتهى كلام ابن مزهر‏.‏

ولما التقى الملـك الظاهـر ببيـرس الملـك المغيـث المذكـور وقبـض عليـه أحضـر الفقهـاء والقضـاة وأوقفهـم علـى مكاتبـات مـن التتـر إلـى الملـك المغيـث أجوبة عن ما كتب إليهم به في أطماعهم في ملك مصر والشام وكتب بذلك مشروح وأثبت على الحكام وكان للملك المغيث المذكور ولداً يقال له الملك العزيـز أعطـاه الملـك الظاهـر إقطاعـاً بديـار مصـر وأحسـن إليـه ثـم جهـز الملـك الظاهر بدر الدين البيسري الشمسي وعز الدين أستاذ الدار إلى الكرك فتسلماها في يوم الخميـس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة أعني سنة إحدى وستين وستمائة ثم سار الملك الظاهر ووصل إلى الكرك ورتب أمورها ثم عاد إلى الديار المصرية فوصل إليها في سابع عشر رجب من هذه السنة‏.‏

ذكر الإغارة على عكا وغيرها وفي هذه السنة لما كان الملك الظاهر نازلاً على الطور أرسل عسكراً هدموا كنيسة الناصرة وهي من أكبر مواطن عبادات النصارى لأن منهـا خـرج ديـن النصرانيـة وأغـاروا علـى عكـا وبلادها فغنموا وعادوا ثم ركب الملك الظاهر بنفسه وجماعة اختارهـم وأغـار ثانيـاً علـى

عكا وبلادها وهدم برجـاً كـان خـارج البلـد وذلـك عقيـب إغـارة عسكـره وهـدم الكنيسـة الناصرة‏.‏

ذكر القبض على من يذكر وفيها بعد وصول الملك الظاهر بيبرس إلى مصر واستقراره في ملكه في رجب قبض على الرشيدي ثم قبض في ثاني يوم على الدمياطي والبرلي وقد تقدمت أخبار البرلي المذكور‏.‏

ذكر وفاة الأشرف صاحب حمص

وفـي هـذه السنـة بعـد عـود الملـك الأشرف صاحب حمص موسى ابن الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي مـن خدمـة الملـك الظاهـر بيبرس إلى حمص مرض واشتد به المرض وتوفي إلى رحمة الله تعالى وأرسل الملك الظاهر وتسلم حمص في ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة إحدى وستين وستمائة وهذا الملك الأشـرف موسـى هـو آخـر من ملك حمص من بيت شيركوه وقد تقدمت أخبار الأشرف موسى المذكور وأخذ الملك الناصر يوسف صاحب حلب منه حمص بسبب تسليمه شميميس للملك الصالح أيوب صاحب مصر وأنه يعوض عن حمص تل باشر ثم أعـاد هولاكـو عليـه حمـص فبقيت في يـده حتـى توفـي فـي أواخـر هـذه السنـة وانتقلـت حمـص إلـى مملكـة الملـك الظاهـر بيبـرس فـي ذي القعـدة حسبمـا ذكـره وكـان جملـة مـن ملـك حمـص منهـم خمسـة ملـوك أولهـم شيركـوه بن شاذي ملكه إياها نور الدين الشهيد ثم ملكها من بعده ابنه ناصر الدين محمد بن شيركوه ثم ملكهـا بعـده ابنه شيركوه بن محمد وتلقب بالملك المجاهد ثم ملكها بعده ابنه إبراهيم بن شيركوه وتلقـب بالملـك المنصـور ثـم ملكهـا بعـده ابنـه موسـى بـن إبراهيم وتلقب بالملك الأشرف حتى توفي هذه السنة وانقرض بموته ملك المذكورين‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة

في هذه السنة قبض الأشكري صاحب قسطنطينية على عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ صاحب بلد الـروم وسببـه أن عـز الديـن كيكـاؤوس المذكور كان قد وقع بينه وبين أخيه فاستظهر أخوه علية فهرب كيكاؤوس وبقي أخوه ركن الديـن قليـج أرسلان في سلطنة بلاد الروم ثم سار كيكاؤوس المذكور إلى قسطنطينية فأحسن إليه الأشكري صاحب قسطنطينية‏.‏

وإلى من معه من الأمراء واستمروا كذلك مدة فعزمت الأمراء والجماعة الذين كانوا مع عز الدين المذكور على اغتيال الأشكري وقتله والتغلب على قسطنطينية وبلغ ذلك الأشكري فقبض عليهم واعتقل عز الدين كيكاؤوس ابن كيخسرو في بعض القلاع وكحل الأمراء والجماعة الذين كانوا عزموا على ذلك فأعمى عيونهم وقد تقـدم ذكر كيكاؤوس المذكور وأخيه قليج أرسلان في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏.‏

وفيهـا فـي ثامـن رمضـان توفـي الشيـخ شـرف الديـن عبـد العزيـز بـن محمد بن عبد المحسن الأنصاري المعـروف بشيـخ الشيـوخ بحمـاة وكان مولده في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى‏.‏

وكان ديناً فاضلاً متقدماً عند الملوك وله النثر البديع والنظم الفائق وكان غزيـر العقل عارفاً بتدبير المملكة فمن حسن تدبيره‏.‏

أن الملك الأفضل علي ابن الملك المظفر محمود لما ماتت والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل رحمهما الله تعالى حصل عند الملك الأفضل المذكور استشعار من أخيه الملك المنصور محمد صاحب حماة فعزم على أن ينتزح من حماة ويفارق أخاه الملك المنصور وأذن له أخوه الملك المنصور في ذلك فاجتمع الشيخ شرف الدين المذكور بالملك الأفضل وعرفه ما تعمده من السلوك مع أخيه الملك المنصور ثم اجتمع بالملك المنصور وقبح عنده مفارقة أخيه وما برح بينهما حتى أزال ما كان في خواطرهما وصار للملـك الأفضـل فـي خاطـر أخيـه الملك المنصور من المحبة والمكانة ما يفوق الوصف وكان ذلك من بركة شرف الدين المذكور وللشيخ شرف الدين المذكور أشعار فائقة قد تقدم ذكر بعضهـا وكان مرة مع الملك الناصر يوسف صاحب الشام بعمان فعمل الشيخ شرف الدين‏.‏

أفدي حبيباً منذ واجهته عـن وجه بدر التم أغناني في وجهه خالان لولاهما ما بت مفتوناً بعمان وأنشدهما للملك الناصر فأعجبته إلى الغاية وجعل يردد إنشادهما وقال لكاتبه كمـال الديـن بن العجمي هكذا تكون الفضيلة فقال ابن العجمي أن التورية لا تخدم هنا لأن عمان مجرورة في النظم فلا تخدمه في التورية فقال الملك الناصر للشيخ شرف الدين ما قاله فقال شرف الديـن إن هـذا جائـز وهـو أن يكـون المثنـى فـي حالـة الجر على صورة الرفع واستشهد شرف الدين بقول الشاعر‏:‏ فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى مساغاً لناباه الشجـاع لصممـا واستشهد بغير ذلك فتحقق الملك الناصر فضيلته‏.‏