الفصل التاسع: ذكر فتوح قيسارية

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

ذكر فتوح قيسارية

في هذه السنة سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية بعساكره المتوافرة إلى جهاد الفرنج بالساحل ونازل قيسارية الشام في تاسع جمادى الأولى وضايقها وفتحها بعد ستة أيام من نزوله وذلك في منتصف الشهر المذكـور وأمـر بهـا فهدمـت ثـم سـار إلـى أرسـوف ونازلهـا وفتحها في جمادى الآخرة في هذه السنة‏.‏

ذكر موت هولاكو

فـي هـذه السنـة فـي تاسـع عشـر ربيـع الآخـر مـات هولاكـو ملك التتر لعنه الله تعالى‏.‏

وهو هولاكو بن طلو بن جنكزخان وكانت وفاته بالقرب من كورة مراغـة وكانـت مـدة ملكـه البلـاد التـي سنصفهـا نحو عشر سنين وخلف خمسة عشر ولداً ذكراً ولما مات جلس في الملك بعده ولده أبغا بن هولاكو واستقرت له البلاد التي كانت بيد والده حال وفاته وهي‏:‏ إقليم خراسـان وكرسيه نيسابور وإقليم عراق العجم وهو الذي يعرف ببلاد الجبل وكرسيه أصفهان وإقليم عراق العرب وكرسيه بغداد وإقليم أذربيجان وكرسيه تبريز وإقليم خورستان وكرسيه تستر التي تسميها العامة تشتر وإقليم فارس وكرسيه شيراز وإقليـم ديـار بكـر وكرسيـه الموصـل وإقليم الروم وكرسيه قونية وغير ذلك من البلاد التي ليست في الشهرة‏.‏

مثل هذه الأقاليم العظيمة‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ في هذه السنة أو التي بعدها أمسك الملك الظاهر بيبرس زامل بن علي أميـر العـرب بمكاتبة عيسى بن مهنا في حقه‏.‏

وفيها في رمضان استولى النائب بالرحبة على قرقيسيـا وهـي حصـن الزبـاء التـي تقـدم خبرهـا مـع جذيمة الأبرش في أوائل الكتاب وفيه خلاف‏.‏

وفيهـا قبـض الملـك الظاهـر بيبـرس علـى سنقـر الرومـي‏.‏

وفيهـا توفـي قاضـي القضاة بمصر بدر الدين يوسف بن حسن علي السنجاري‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة

ذكر فتوح صفد وغيرها

في هذه السنة خرج الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصرية وسـار الشـام وجهـز عسكراً إلى ساحل طرابلس ففتحوا القليعات وحلباً وعرقاً ونزل الملك الظاهـر علـى صفـد ثامن شعبان وضايقهـا بالزحـف وآلـات الحصـار وقـدم إليـه وهـو علـى صفـد الملـك المنصـور  صاحب حماة ولاصق الجند القلعة وكثر القتل والجراح في المسلمين وفتحها في تاسع عشر شعبان المذكور بالأمان ثم قتل أهلها عن آخرهم‏.‏

ذكر دخول العساكر إلى بلاد الأرمن

وفي هذه السنة بعد فراغ الملك الظاهر من فتوح صفد سار إلى دمشق فلما دخلها واستقر فيها جرد عسكراً ضخماً وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة وأمرهم بالمسير إلى بلاد الأرمن فسارت العساكر صحبة الملك المنصور المذكور ووصلوا إلى بلاد سيس في ذي القعدة مـن هـذه السنـة وكـان صاحـب سيـس إذ ذاك هيثـوم بـن قسطنطيـن بـن باسيـل قـد حصـن الدربنـدات بالرجالـة والمناجنيـق وجعـل عسكـره مع ولديه على الدربندات لقتال العسكر الإسلامي ومنعه فداستهم العساكر الإسلامية وأفنوهم قتلاً وأسراً وقتل ابن صاحب سيس الواحد وأسر ابنه الآخر وهو ليفون بن هيثوم المذكور وانتشرت العساكر الإسلامية في بلاد سيس وفتحوا قلعة العامودين‏.‏

وقتلوا أهلها ثم عادت العساكر وقد امتلأت أيديهم من الغنائم ولمـا وصـل خبـر هـذا الفتـح العظيـم إلـى الملـك الظاهـر بيبرس رحل من دمشق ووصل إلى حماة ثم إلى فامية فالتقى عساكره وقد عادت منصورة وأمر بتسليم الأسرى وفيهم ليفون بن صاحب سيس وكان المذكور لما أسر سلمه الملك المنصـور إلـى أخيـه الملـك الأفضـل فاحتـرز عليـه وحفظـه حتى‏:‏ حضره بين يدي السلطان ثم عاد إلى الديار المصرية على طريق الكرك فتقنطر بالملك الظاهر المذكور فرسه عند بركة زيزا وانكسرت فخذه وحمل في محفة إلى قلعة الجبل‏.‏

ذكر قتل أهل قارا ونهبهم

وفي هذه السنة عند توجه الملك الظاهر من دمشق لملتقى عساكره العائدة مـن غـزوة بلـاد سيس لما نزل على قارا بين دمشق وحمص أمر بنهب أهلها وقتل كبارهم فنهبوا وقتل منهم جماعـة لأنهـم كانـوا نصـارى وكانـوا يسرقـون المسلميـن ويبيعونهـم بالخفية إلى الفرنج وأخذت صبيانهم مماليك فتربوا بين الترك في الديار المصرية فصار منهم أجناد وأمراء‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة

فيها وصل الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى خدمـة الملـك الظاهر بيبرس بالديار المصرية ثم طلب المنصور من الملك الظاهر مرسوماً بالتوجه إلى الإسكندرية ليراها ويتفرج فيها فرسم له بذلك وأمر أهل إسكندرية بإكرامـه واحترامـه وفرش الشقق بين يدي فرسه‏.‏

فتوجه الملك المنصور إلى الإسكندرية وعاد للديار المصرية مكرماً محترماً ثم خلع عليه الملك الظاهر وأحسن إليه على جاري عادته ورسم له بالدستور وفيهـا توجـه الملـك الظاهـر بيبـرس إلـى الشام فنظر في مصالح صفد ووصل إلى دمشق وأقام بها خمسة أيام وقوي الأرجاف بوصول التتر إلى الشام ثم وردت الأخبار بعودهم على عقبهـم فعاد الملك الظاهر إلى ديار مصر‏.‏

ذكر موت ملك التتر بالبلاد الشمالية

وفي هذه السنة مات بركه بن باطوخان بن دوشي خان بن جنكزخان أعظم ملـوك التتـر وكرسـي مملكتـه مدينـة صـراي وكان قد مال إلى دين الإسلام ولما مات جلس في الملك بعده ابن عمه منكوتمر بن طغان بن باطر بن دوشي خان بن جنكزخان‏.‏

ثم دخلت سنة ست وستين وستمائة

ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام وفتح أنطاكية وغيرها‏:‏

فـي هـذه السنـة فـي مستهـل جمـادى الآخرة توجه الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام وفتح يافا في العشر الأوسط من الشهر المذكور وأخذها من الفرنج ثم سـار إلـى أنطاكيـة ونازلها مستهل رمضان وزحفت العساكر الإسلامية على أنطاكية فملكوها بالسيف في يوم السبت رابع شهر رمضان من هذه السنة وقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم وغنموا منهم أمـوالاً جليلة وكانت أنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند ولـه معهـا طرابلـس وكـان مقيمـاً بطرابلـس لمـا فتحت أنطاكية وفيها في ثالث عشر رمضان استولى الملك الظاهر على بغراس وسبب ذلك أنه لما فتح أنطاكية هرب أهل بغراس منها وتركوا الحصن خالياً فأرسل من استولى عليها في التاريخ المذكور وشحنه بالرجال والعدد وصار من الحصون الإسلامية وقد تقدم ذكر فتح صلاح الدين للحصن المذكور وتخريبه ثم عمارة الفرنج له بعد صلاح الدين ثم حصار عسكر حلب له ورحيلهم عنه بعد أن أشرفوا على أخذه‏.‏

وفيها في شوال وقع الصلح بين الملك الظاهر وبين هيثوم صاحب سيس على أنه إذا أحضر صاحب سيس سنقر الأشقر من التتر وكانوا قد أخذوه من قلعة حلب لما ملكها هولاكو كما تقدم ذكره‏.‏

وسلم مع ذلك بهسنا ودربساك ومرزبان ورعبان وشيح الحديد يطلق له ابنه ليفون فدخل صاحب سيس علـى أبغـا ملـك التتـر وطلـب منـه سنقـر الأشقـر فأعطـاه إيـاه ووصل سنقر الأشقر إلى خدمة الملـك الظاهـر وكذلـك سلـم دربسـاك وغيرهـا مـن المواضـع المذكورة خلا بهسنا وأطلق الملك الظاهر ابن صاحب سيس ليفون بـن هيثـوم وتوجـه إلـى والده ثم عاد الملك الظاهر إلى الديار المصرية ووصل إليها في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وفيها اتفق معين الدين سليمان البرواناه مع التتر المقيمين معه ببلاد الروم على قتل ركن الدين قليـج أرسلـان بـن كيخسـرو بـن كيقبـاذ بـن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق سلطان الروم فخنق التتر ركن الدين المذكور بوتر وأقام البرواناه مقامه ولده غياث الدين بن ركن الدين قليج أرسلان المذكور وله من العمر ربع سنين‏.‏

ثم دخلت سنة سبـع وستين وستمائـة

وفـي هذه السنة خرج الملك الظاهر إلى الشام وخيم في خربة اللصوص وتوجه إلى مصر بالخفية ووصل إليها بغتة وأهل مصر والنائب بها لا يعلمون بذلك إلا بعد أن صار بينهم ثم عاد إلى الشام‏.‏

وفيها تسلم الملك الظاهر بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون‏.‏

وفيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى الحجاز الشريف وكان رحيله من الفوار فـي الخامـس والعشرين من شوال ووصل إلى الكرك وأقام به أياماً وتوجه من الكرك في سادس ذي العقدة إلـى الشوبـك ورحـل مـن الشوبـك فـي الحـادي عشـر مـن الشهـر المذكـور ووصـل إلـى المدينة النبوية في خامس وعشرينه ووصل إلى مكة في خامس ذي الحجة ووصل إلى الكرك في سلخ ذي الحجة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وستين وستمائة

فيها توجه الملك الظاهر بيبرس من الكرك مستهل المحرم عنـد عـوده مـن الحـج فوصـل إلـى دمشـق بغتـة وتوجـه فـي يومـه‏.‏

ووصـل إلى حماة في خامس المحرم وتوجـه مـن ساعتـه إلـى حلـب ولـم يعلـم بـه العسكـر إلا وهـو فـي الموكـب معهـم وعاد إلى دمشق في ثالث عشر المحرم المذكور ثم توجه إلى القدس ثم إلى القاهرة فوصل إليها في ثالث صفر من هذه السنة‏.‏

وفيها عاد الملك الظاهر إلى الشام وأغار على عكا وتوجه إلى دمشق ثم إلى حماة‏.‏

وفيهـا جهـز الملـك الظاهر عسكراً إلى بلاد الإسماعيلية فتسلموا مصياف في العشر الأوسط من رجب من هذه السنـة وعـاد الملـك الظاهـر مـن حمـاة إلـى جهـة دمشـق فدخلهـا فـي الثامـن والعشرين من رجب ثم عاد إلى مقر ملكه بمصر‏.‏

وفيهـا حصـل بيـن منكوتمـر بـن طغـان ملـك التتـر بالبلـاد الشماليـة وبيـن الأشكري صاحب قسطنطينية وحشة فجهز منكوتمر إلى قسطنطينية جيشاً من التتر فوصلوا إليها وعاثوا في بلادها ومرواً بالقلعة التي فيها عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو ملك بلاد الروم محبوساً كما قدمنـا ذكـره فـي سنـة اثنتيـن وستيـن وستمائـة فحملـه التتـر بأهلـه إلـى منكوتمر فأحسن منكوتمر إلى عز الدين المذكور وزوجه وأقام معه إلى أن توفي عز الدين المذكور في منة سبع وسبعين وستمائة فسار ابنه مسعود بن عز الدين المذكور إلى بلاد الروم وسار سلطان الروم على ما وفيها أعني سنـة ثمـان وستيـن وستمائـة قتـل أبـو دبـوس آخـر الملـوك مـن بنـي عبـد المؤمـن وانقرضت بموته دولتهم وقد تقدم ذكر ذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة وملكت بلادهم بعدهم بنو مرين على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في سنة اثنتين وسبعين وستمائة‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة

ذكر فتح حصن الأكراد وحصن عكار والقرين

فـي هـذه السنـة توجـه الملـك الظاهـر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام ونازل حصن الأكراد في تاسع شعبان هذه السنة وجد في حصاره واشتـد القتـال عليـه وملكـه بالأمـان فـي الرابـع والعشرين من شعبان المذكور ثم رحل إلى حصن عكار ونازله في سابع عشر رمضان من هـذه السنـة وجـد في قتاله وملكه بالأمان سلخ رمضان المذكور وعيد الملك الظاهر عليه عيد الفطر فقال محي الدين بن عبد الظاهر مهنئاً له بفتوح عكار‏:‏ يا مليك الأرض بشرا - ك فقد نلت الاراده إن عكار يقيناً هـو عكار زياده وفيها في شوال تسلم الملك الظاهر قلعة العليقة وبلادها من الإسماعيلية‏.‏

وفيها توجه الملك الظاهـر إلـى دمشـق وسـار منهـا فـي العشـر الأخيـر من شوال إلى حصن القرين ونازله في ثاني ذي القعدة وزحف عليه وتسلمه بالأمان وأمر به فهدم ثم عاد إلى مصر‏.‏

وفيهـا جهـز الملـك الظاهـر مـا يزيـد علـى عشـرة شوانـي لغـزو قبـرس فتكسـرت فـي مرسـى اليميسوس وأسر الفرنج من كان بتلك الشواني من المسلمين فاهتم السلطان بعمارة شوان آخر فعمل في المدة اليسيرة ضعف ما عدم‏.‏

وفيها توفي هيثوم بن قسطنطين صاحب سيس وملك بعده ابنه ليفون الذي أسره المسلمون حسبمـا تقـدم ذكره‏.‏

وفيها قبض الملك الظاهر على عز الدين بغان المعروف باسم الموت وعلي المحمدي وغيرهما‏.‏

وفيها توفي القاضي شمس الدين بن البارزي قاضي القضاة بحماة‏.‏

وفيها توفي الطواشي شجاع الدين مرشد الخادم المنصوري رحمه الله تعالى وكان كثيرالمعروف وتولى تدبير مملكة حماة مدة وكان يعتمد عليه الملك الظاهر ويستشيره‏.‏

ثم دخلت سنة سبعين وستمائة‏.‏

فيها توجه الملك الظاهر إلى الشام وعزل جمال الدين أقوش النجمـي عـن نيابـة السلطنة بدمشق وولى فيها علاء الدين أيدكين الفخري الأسندار في مستهل ربيع الأول ثم توجه الملك الظاهر إلى حمص ثم إلى حصن الأكراد ثم عاد إلى دمشق‏.‏

وفيها والملك الظاهر بدمشق أغارت التتر على عينتـاب وعلـى الـروج وقميطـون إلـى قـرب فامية ثم عادوا واستدعى الملك الظاهر عسكراً من مصر فوصلوا إليه صحبة بدر الديـن البيسـري فتوجـه الملـك الظاهر بهم إلى حلب ثم عاد إلى الديار المصرية فوصل إليها في الثالث والعشرين من جمادى الأولى‏.‏

وفيها في شوال عاد الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام فوصل إلى دمشق في ثالث صفر‏.‏

وفيها توفي سيف الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكبرس صاحب صهيون فسلـم ولداه سابق الدين وفخر الدين صهيون إلى الملك الظاهر وقدما إلى خدمته وأحسن إليهمـا وأعطى سابق الدين أمرة طملخاناة وفيها نازل التتر البيرة ونصبوا عليها المناجنيق وضايقوها وسار إليهم الملك الظاهر وأراد عبور سفرات إلى بر البيرة فقاتله التتر على المخاضة فاقتحم الفرات وهزم التتر فرحلوا عن البيرة وتركوا آلات الحصار بحالها فصارت للمسلمين‏.‏

ثم عاد الملك الظاهر فوصل إلى الديار المصرية في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة وفيها أفرج عن الدمياطي من الاعتقال‏.‏

وفيها تسلمت نواب الملك الظاهـر مـا تأخـر مـن حصـون الإسماعيليـة وهـي الكهـف والمينقـة وقدموس وفيها اعتقل الملك الظاهر الشيخ خضر وكان قد بلغ المذكور عند الملـك الظاهـر أرفع منزلة وانبسطت يده وأنفذ أمره في الشام مصر فاعتقله في قاعة بقلعة الجبل مكرماً حتى مات‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة

ذكر ملك يعقوب المريني مدينة سبتة وابتداء ملكهم‏:‏

وفـي هـذه السنـة ملـك يعقـوب بـن عبـد الحـق بـن محبـو بـن حمامـة المرينـي مدينـة سبتـة وبنو مرين ملوك بلـاد المغـرب بعـد بنـي عبد المؤمن وكان آخر من ملك من بني عبد المؤمن أبو دبوس وقد ذكرنا ما وقع لنا من أخبار أبي دبوس المذكور مع ما فيه من الاختلاف في سنة أربع وعشرين وستمائة وأن المذكور قتل في سنة ثمان وستين وستمائة وانقرضت حينئذ دولة بني عبد المؤمن‏.‏

وملك بعدهم بنو مرين وهذه القبيلة أعني بني مرين يقال لهم حمامة من بين قبائل العـرب بالمغـرب وكـان مقامهـم بالريـف القبلـي من إقليم تازة وأول أمرهم أنهم خرجوا عن طاعة بني عبد المؤمن المعروفين بالموحدين لما اختل أمرهم وتابعوا الغارات عليهـم حتـى ملكـوا مدينـة فـاس واقتلعوها مـن الموحديـن فـي سنـة سبـع وثلاثيـن وستمائـة واستمـرت فـاس وغيرهـا فـي أيديهـم فـي أيـام الموحديـن‏.‏

وأول مـن اشتهـر مـن بنـي مرين أبو بكر بن عبد الحق بن محبو بن حمامة المريني وبعد ملكه فاس سار إلى جهة مراكش وضايق بني عبد المؤمن وبقي كذلك حتى توفي أبو بكر المذكور في سنة ثلاث وخمسين وستمائة‏.‏

وملك بعده أخوه يعقوب بن عبد الحق بن محبو وقوى أمره وحاصر أبا دبوس في مراكش وملكها يعقوب المريني المذكور وأزال ملك بني عبد المؤمن من حينئذ واستقرت قدم يعقوب المريني المذكـور فـي الملـك وبقـي يعقـوب مستمـراً فـي الملـك حتـى ملـك سبتـة فـي هـذه السنـة ثـم توفـي ولم يقع لي تاريخ وفاته‏.‏

وملك بعده ولده يوسف ابن يعقوب بن عبد الحق بن محبو وكنية يوسف المذكور أبو يعقوب واستمـر يوسـف المذكـور فـي الملـك حتـى قتـل سنـة ست وسبعمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيهـا وصـل الملك الظاهر بعساكره إلى دمشق وفيها عاد عمر بن مخلول أحد أمراء العربان إلى الحبس بعجلون وكان من حديثه أن الملك الظاهر حبسـه بعجلـون مقيـداً فهـرب مـن الحبـس المذكور إلى بلاد التتر ثم أرسل يطلب الأمان فقال الملك الظاهر ما أؤمنـه إلا أن يعـود إلـى عجلـون وبضـع القيـد فـي رجلـه كمـا كـان فعـاد عمـر إلـى عجلـون وجعـل القيـد في رجله فعفى عنه الملك الظاهر عند ذلك‏.‏

وفيها قويت أخبار التتر لقصد الشام فجفل الناس وفيها في جمادى الأولى كانت ولادة العبد الفقير مؤلف هذا المختصر إسماعيل بن علي بن محمود ابن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بدار ابن الرنجيلي بدمشق المحروسة فان أهلنا كانوا قد جفلـوا مـن حمـاة إلـى دمشـق بسبب أخبار التتر‏.‏

وفيهـا توفـي الشيـخ جمـال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي ولـه فـي النحـو واللغـة مصنفـات كثيـرة مشهـورة وفيهـا فـي ذي القعدة توفي الأمير مبارز الدين أقوش المنصـوري مملـوك الملك المنصور صاحب حماة ونائب سلطنته وكان أميراً جليلاً عاقلاً شجاعاً وهو قبجاقي الجنس‏.‏

وفيها في يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة توفي الشيخ العلامة نصير الدين الطوسي واسمه محمد بـن محمـد بـن الحسيـن الإمـام المشهـور وكـان يخـدم صاحـب الألمـوت ثـم خـدم هولاكـو وحظـي عنـده وعمـل لهولاكـو رصـداً بمراغـة وزيجـا ولـه مصنفـات عديـدة كلهـا نفيسة منها إقليدس تضمن اختلاط الأوضاع وكذلك المجسطي وتذكرة في الهيئة لم يصنف في فنها مثلها وشـرح الإشارات وأجاب عن غالب إيرادات فخر الدين الرازي عليها وكانت ولادته في حادي عشـر جمـادى لأولـى سنـة سبـع وتسعين وخمسمائة وكانت وفاته ببغداد ودفن في مشهد موسى الجواد‏.‏

ثم دخلت سنة ثلـاث وسبعيـن وستمائة

فيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى بلاد سيس فدخلها بعساكره المتوافرة وغنموا ثم عادوا إلى دمشق حتى خرجت هذه السنة‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وستمائة

فيها نازلت التتر البيرة وكان اسم مقدمهم أقطاي وكان الملك الظاهر بدمشق فتوجه إلى جهـة البيـرة فرحـل التتـر عنهـا ولاقـى الملـك الظاهـر الخبـر برحيلهم وهو بالقطيفة فأتم السير إلى حلب ثم عاد إلى مصر‏.‏

وفيها بعد وصول الملك الظاهر إلى مصر جهز جيشاً مع أقسنقر الفارقاني ومعه عز الدين أيبك الأفرم إلى النوبة فساروا إليها ونهبوا وقتلوا وعادوا بالغنائم‏.‏

وفيهـا كـان زواج الملـك السعيـد بركـة ابـن الظاهـر بيبـرس بابنـة الأميـر سيـف الديـن قلاوون الصالحي غازية خاتون‏.‏

وفيها في أواخر السنة المذكورة عاد الملك الظاهر إلى الشام‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وسبعينوستمائة

فيها في المحرم وصل الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق وكان فد خرج من مصر في أواخر سنة أربع وسبعين وبلغه وصول الأمراء الروميين الوافدين وهم بيجار الرومي وبهادر ولده وأحمد بن بهـادر وغيرهـم فسـار الملـك الظاهـر إلـى جهـة حلب والتقاهم وأكرمهم ثم عاد إلى الديار المصرية‏.‏

ذكر دخول الملك الظاهر إلى بلاد الروم

وفي هذه السنة عاد الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام وكان خروجه من مصر في يوم الخميس لعشرين من رمضان هذه السنة ووصل إلى حلب ثم إلى النهـر الـأزرق ثـم سـار إلـى أبلستين فوصل إليها في ذي القعدة والتقى بها جمعا من التتر مقدمهم تناون وكانوا نقاوة المغل فالتقى الفريقان في أرض أبلستين يوم الجمعة عاشر ذي القعدة من هذه السنة فانهزم التتر وأخذتهم سيوف المسلمين وقتل مقدمهم تناون وغالب كبرائهم وأسر منهم جماعة كثيرة صاروا أمراء وكان من جملة المأسورين فـي هـذه الموقعـة سيـف الديـن قبجـق وسيف الدين أرسلان وسنذكر أخبارهما إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم سار الملك الظاهر بعد فراغه من هذه الوقعة إلى قيسارية واستولى عليها وكان الحاكم بالروم يومئذ معين الدين سليمان البرواناه وكان يكاتب الملك الظاهر فـي الباطـن وكـان يظـن الملك الظاهر أنه إذا وصل إلى قيسارية يصل إليه البرواناه على ما كان قـد اتفـق معـه فـي الباطن فلم يحضر البرواناه لما أراده الله من هلاكه على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وأقام الملك الظاهر على قيسارية سبعة أيام في انتظار البرواناه وخطب له على منابرها ثم رحل عن قيسارية في الثاني والعشرين من ذي القعدة وحصل للعسكر شدة عظيمة من نفاذ القوت والعلف وعدمت غالب خيولهم ووصلوا إلى عمق حارم وأقاموا به شهراً ولما بلغ أبغا بن هولاكو ساق في جموع المغل حتى وصل إلى الأبلستين وشاهد عسكره صرعى ولم يشاهد أحداً من عسكر الروم مقتولاً فاستشاط غضباً وأمر بنهب الروم وقتل من مر به من المسلمين كنهب وقتل منهم جماعة ثم سار أبغا إلى الأردو وصحبته معين الدين البرواناه فلما استقر بالأردو أمـر بقتـل البروانـاه فقتـل وقتلـوا معـه نيفـاً وثلاثيـن نفسـاً مـن مماليكـه وخواصـه واسـم البرواناه المذكور سليمان والبرواناه لقب وهـو‏.‏

الحاجـب بالعجمـي وكـان مقتلـه بالأطـاغ وكـان البرواناه حازماً بتدبير المملكة ذا مكر ودهاء‏.‏

وفـي هـذه السنة توفي الشهاب محمد بن يوسف بن زائدة التلعفري الشاعر‏.‏

وفيها مات الشيخ خضر في حبس الملك الظاهر‏.‏

وفيها عاد الملك الظاهر من عمق حارم وتوجه إلى دمشق‏.‏

ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة

فيها في خامس المحرم وصل الملك الظاهر بيبرس إلى ذكر وفاة الملك الظاهر بيبرس فيها في يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم توفي السلطان الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس الصالحي النجمي بدمشق وقت الـزوال رحمـه اللـه تعالـى عقـب وصولـه مـن بلـاد الـروم إلـى دمشق على ما تقدم ذكره وقد اختلف في سبب موته فقيل إنه انكسف القمر كسوفاً كلياً وشاع بين الناس أن ذلك سبب موت رجل جليل القدر فأراد الملك الظاهر أن يصرف التأويل إلـى غيره فاستدعى بشخص من أولاد الملوك الأيوبية يقال له الملك القاهر من ولد الملك الناصر داود بـن المعظـم عيسـى وأحضـر قمـزاً مسمومـاً وأمـر الساقـي فسقـى الملك القاهر المذكور فشـرب الملك الظاهر ناسياً بذلك النهاء على أثر شرب الملك القاهر فمات الملك القاهر عقيب ذلك وأما الملك الظاهر فحصلت له حمى محرقة وتوفي في التاريخ المذكور وكتم نائبه ومملوكه بدر الدين تتليك المعروف بالخزندار موته وصبره وتركه في قلعة دمشق إلى أن استوت تربته بدمشق قرب الجامع فدفن فيها وهي مشهورة معروفة وارتحـل بـدر الديـن تتليـك بالعساكـر ومعهـم المحفـة مظهـراً أن الملـك الظاهـر فيهـا وأنـه مريـض وسـار إلـى ديـار مصـر وكان الملك الظاهر قد حلف العسكر لولده بركة بن بيبرس ولقبه الملك السعيد وجعله لي عهده فوصل تتليك الخزندار بالخزائن والعسكر إلى الملك السعيد بقلعة جبل وعند ذلك أظهر موت الملك الظاهر وجلس ابنه الملك السعيد للعزاء استقر في السلطنة وكانت مدة مملكة الملك الظاهر نحـو سبـع عشـرة سنـة وشهريـن عشـرة أيـام لأنـه ملـك فـي سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائـة توفـي فـي السابـع والعشريـن مـن محرم من سنة ست وسبعين وستمائة وكان ملكاً جليلاً شجاعاً عاقلاً مهيباً ملك الديار المصرية والشام وأرسل جيشاً فاستولوا على النوبـة وفتـح الفتوحات الجليلة مثل صفد وحصن الأكراد وأنطاكيـة وغيرهـا علـى مـا تقـدم ذكـره‏.‏

وأصلـه مملوك قبجاقي الجنس وسمعت أنه برجعلي وكان أسمر أزرق العينين جهوري الصوت حضر هو ومملوك آخر مع تاجر إلى حماة فاستحضرهما الملك المنصور محمد ليشتريهما فلم يعجبه واحد منهما وكـان دكيـن البندقـدار الصالحـي مملـوك الملـك الصالـح أيـوب صاحـب مصـر قـد غضب عليه الملك الصالح المذكور وكان قد توجه أيدكين إلى جهة حماة فأرسل الملك الصالح وقبض على أيدكين المذكور واعتقله بقلعة حماة فتركه الملك المنصور صاحب حماة في جامع قلعة حماة واتفق ذلك عند حضور الملك الظاهر مع التاجر فلما قلبه الملك المنصور ولم يشتره أرسل أيدكين البندقدار وهو معتقل فاشتراه وبقي عنده ثم أفرج الملك الصالح عن البندقدار فسار من حماة وصحبته الملك الظاهر وبقي مع أستاذه البندقدار المذكور مدة ثم أخذه الملك الصالح من البندقدار فانتسب إلى الملك الصالح دون أستاذه وكان يخطب لـه وينقـش علـى الدراهم والدنانير بيبرس الصالحي‏.‏

وكـان استقـرار الملـك السعيد بركة ابن الملك الظاهر في مملكة مصر والشام في أوائل ربيع الأول مـن هـذه السنـة أعنـي سنة ست وسبعين وستمائة واستقر بدر الدين تتليك الخزندار في نيابة السلطنة على ما كان عليه مع والده واستمرت الأمور على أحسن نظام فلم تطل أيام تتليك الخزندار ومات بعد ذلك في مدة يسيرة قيل حتف أنفه وقيل بل سم والله أعلم وتولى نيابة السلطنة بعده شمس الدين الفارقاني ثم إن الملك السعيد خبط وأراد تقديم الأصاغر وأبعد الأمراء الأكابر وقبض على سنقر الأشقر والبيسري ثم أفرج عنهما بعد أيام يسيرة ففسدت نيات الأمراء الكبار عليه وبقي الأمر كذلك حتى خرجت هذه السنة‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وستمائة

ذكر مسير الملك السعيد بركة إلى الشام والإغارة على سيس وخلاف عسكره عليه‏:‏

في أثناء هذه السنة سار الملك السعيد بركة إلى الشام وصحبته العساكر ووصل إلى دمشق وجرد منها العسكر صحبة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي وجرد أيضاً صاحب حمـاة فساروا ودخلوا إلى بلاد سيسى وشنوا الإغارة عليها وغنموا ثم عادوا إلـى جهـة دمشـق واتفقوا على الخلاف على الملك السعيد المذكور وخلعه من السلطنة لسوء تدبيره وعبروا على دمشق ولم يدخلوها فأرسل إليهم الملك السعيد واستعطفهم ودخل عليهم بوالدته فلم يلتفتوا إلى ذلك وأتموا السير فركب الملك السعيد وساق وسبقهم إلى مصر وطلع إلى قلعة الجبل وسارت العساكر في إثره وخرجت هذه السنة والأمر كذلك‏.‏

وفيهـا توفـي عـز الديـن كيكـاؤوس بـن كيخسـرو بـن كيقبـاذ بـن كيخسـرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق عند منكوتمر ملك التتر بمدينـة صـراي وكيكـاؤوس المذكـور هـو الـذي كـان محبوسـاً بقسطنطينيـة حسبمـا تقـدم ذكـر القبض عليه في سنـة اثنيـن وستيـن وذكـر خلاصـه واتصالـه بملـك التتـر فـي سنـة ثمـان وستيـن وخلـف عـز الديـن المذكـور ولـداً اسمه مسعود وقصد منكوتمر أن يزوجه بزوجة ابنه عز الدين كيكاؤوس فهرب مسعود واتصل ببلاد الروم فحمل إلى أبغا فأحسن إليه أبغا وأعطاه سيواس وأرزن الروم وأرزنكان واستقرت هذه البلاد لمسعـود المذكـور ثـم بعـد ذلـك جعلـت سلطنـة الروم باسم مسعود المذكور وافتقـر جـداً وانكشـف حالـه وهـو آخـر مـن سمـي سلطانـاً مـن

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وستمائة

ذكر خلع الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر

فـي هـذه السنـة وصلـت العساكـر الخارجون عن طاعة بركة المذكور إلى الديار المصرية في ربيع الأول وحصروا الملك السعيد بركة بقلعة الجبل فخامر على السعيد بركة غالب من كان معه مـن الأمـراء مثـل لاجيـن الزينـي وغيـره وبقـي يهرب واحد بعد واحد من القلعة وينضم إلى العسكر المحاصر للقلعة فلما رأى الملك السعيد بركة ذلك أجابهم إلى الانخلاع من السلطنة وأن يعطى الكرك فأجابوه إلى ذلك وأنزلوه من القلعة وخلعوه في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

أعني سنة ثمان وسبعين وستمائة وسفروه من وقته إلى الكرك صحبة بيد عان الركنـي وجماعـة معـه فوصل إليها وتسلمها بما فيها من الأموال وكان شيئاً كثيراً‏.‏

إقامة سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس في المملكة وفي هذه السنة لما جرى ما ذكرناه من خلع الملك السعيد بركة وإعطائه الكرك اتفق أكابر الأمـراء الذيـن فعلوا ذلك مثل بدر الدين البيسري الشمسي وأيتمش السعدي وبكتاش الفخري أمير سلاح وغيرهم على إقامة بدر الدين سلامـش ابـن الملـك الظاهـر بيبـرس فـي المملكة ولقبوه الملك العـادل وعمـره إذ ذاك سبـع سنيـن وشهـور وخطـب لـه وضربـت السكـة باسمه وذلك في شهر ربيع الأول من هذه السنة وصار الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي أتابك العسكر ولما استقر ذلك جهز أتابك العسكر المذكور الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق جعله نائب السلطنة بالشام وكان العسكر لما خافوا السعيد بركة قد قبضوا على عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق وتولى تدبير دمشق بعد أيدمر أقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب فسار وتولاها واستمر الحال على ذلك مدة يسيرة‏.‏

ذكر سلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي

وفي هذه السنة أعني سنة ثمان وسبعين وستمائة في يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب كان جلوس السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي في السلطنة بعد خلع الصبي سلامش وعزله ولما تولى السلطان الملك المنصور أقام منار العدل وأحسن سياسة الملك وقام بتدبير المملكة أحسن قيام‏.‏

ذكر خروج سنفر الأشقر عن الطاعة وسلطنته بالشام‏:‏

وفي هذه السنة في الرابع والعشرين من ذي القعدة جلس سنقر الأشقر بدمشق في السلطنة وحلف له الأمراء والعسكر الذين عنده بدمشق وتلقب بالملك الكامل شمس الدين سنقر‏.‏

وفي هـذه السنـة توفـي الملـك السعيـد بركـة ابـن الملـك الظاهـر بيبـرس فـي الكـرك بعـد وصولـه إليهـا فـي مدة يسيرة وكان سبب موته أنه لعب بالكرة في ميدان الكرك فتقنطر به فرسه فحصل له بسبـب ذلـك حمـى شديـدة وبقـي كذلـك أياماً يسيرة وتوفي وحمل إلى دمشق ودفن بتربة أبيه ولما توفي الملك السعيد اتفق من بالكرك وأقاموا موضعه أخاه نجم الدين خضر واستقر في الكرك ولقبوه الملك المسعود‏.‏  

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وستمائة

ذكر كسرة سنقر الأشقر

فـي هـذه السنة في التاسع عشر من صفر كانت كسرة سنقر الأشقر المتولي على الشام الملقب بالملك الكامل وكان من حديث هذه الكسرة أن السلطان الملك المنصور قلاوون جهز عساكر ديار مصر مع علم الدين سنجر الحلبي الذي تقدم ذكر سلطنته بدمشق عقيب قتل قطز وكان أيضاً من مقدمي العسكر المصري المذكور بدر الديـن بكتـاش وبـدر الديـن الأيدرمـري وعز الدين الأفرم فسارت العساكر المذكورة إلى الشام وبرز سنقر الأشقر بعساكر الشام إلى ظاهر دمشق والتقى الفريقان في تاسع عشر صفر المذكور فولى الشاميـون وسنقـر الأشقـر منهزمين ونهبت العساكر المصرية أثقالهم‏.‏

وكان السلطان الملك المنصور قلاوون قد جعل مملوكه حسام الدين لاجين السلحدار نائباً بقلعة دمشق فلما هرب سنقر الأشقر أفرج عن حسام الدين لاجيـن المذكـور وكذلـك كـان سنقـر الأشقـر قد اعتقل بيبرس المعروف بالجالق لأنه لم بحلف له فأفرج عنه أيضاً وكتب الحلبي إلى السلطان الملك المنصور بالنصر استقر الأمير لاجين المنصوري المذكور نائب السلطنة بالشام وأما سنقر الأشقر فإنه هرب إلى الرحبة وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في البلاد وكان عيسى بن مهنا ملك العرب مع سنقر الأشقر وقاتل معه وكتب بذلك إلى أبغا أيضاً موافقة له ثم سار سنقر الأشقر من الرحبة إلى صهيون في جمادى الأولى من هذه السنة واستولـى عليهـا وعلـى برزنـة وبلاطنـس والشغـر وبكاس وعكار شيزر وفامية وصارت هذه الأماكن لسنقر الأشقر‏.‏

وفيها توفي أقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب وولى السلطان الملك المنصور قلاوون على حلب علم الدين سنجر الباشغردي‏.‏

وفيها قويت أخبار التتر وأنهم واصلون إلى البلاد الإسلامية بجموعهم‏.‏

وفيها جعل السلطان الملك المنصور قلاوون ولده الملك الصالح علاء الدين علي ولي عهده وسلطنته وركب بشعار السلطنة‏.‏

وفيها سار السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي من الديار المصرية ووصل إلى غزة وكان التتـر قـد وصلـوا إلـى حلـب فعاثـوا ثـم عادوا فعاد السلطان إلى مصر في جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

وفيها استأذن سيف الدين بلبان الطباخي أحد مماليك الملك المنصـور وكـان نائـب السلطنـة بحصن الأكراد في الإغارة على بلد المرقب لما اعتمده أهله من الفساد عند وصول التتر إلى حلب فأذن له السلطان في ذلك فجمع بلبان الطباخي المذكور عساكر الحصون وسار إلى المرقب فاتفق هروب المسلمين ونزل الفرنج من المرقب وقتلوا وأسروا من المسلمين جماعة‏.‏

وفيها في مستهل ذي الحجة حرج السلطان الملك المنصور قلاوون من مصر وسار عائداً إلى الشام وخرجت هذه السنة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمانيـن وستمائة

والسلطان الملك المنصور بالروحاء وأقام هناك مدة ثم سار إلى بيسـان وقبـض علـى جماعـة مـن الظاهريـة ودخـل دمشـق وأعـدم منهم جماعة مثل كوندك وأيدغمش الحلبي وبيبرس الرشيدي وأرسل عسكراً إلى شيزر وهي لسنقر الأشقر وجرى بينهم مناوشة ثم إنه ترددت الرسل بين السلطان وبين سنقر الأشقر واحتاج السلطان إلـى مصالحته لقوة أخبار التتر ووقع بينهم الصلح على أن يسلم شيزر إلى السلطان ويتسلم سنقر الأشقر الشغر وبكاس وكانتا قد ارتجعتـا سـه فتسلـم نـواب السلطـان شيـزر وتسلـم الشغـر وبكاس سنقر الأشقر وحلفا على ذلك واستقر الصلح بينهما‏.‏

وفيها أيضاً استقر الصلح بين السلطان الملك المنصور قلـاوون وبيـن الملـك خضـر ابـن الملـك الظاهر بيبرس صاحب الكرك‏.‏

ذكر الوقعة العظيمة مع التتر على حمص

في هذه السنة أعني سنة ثمانين وستمائة في شهر رجب كان المصاف العظيم بين المسلمين وبيـن التتـر بظاهر حمص فنصر الله تعالى فيه المسلمين بعد ما كانوا قد أيقنوا بالبوار وكان من حديث هذا المصاف العظيم أن أبغا بن هولاكو حشد وجمع وسار بهذه الحشود طالباً الشام ثم انفرد أبغا المذكور عنهم وغنم وسار إلى الرحبة وسير جيوشه وجموعه إلى الشام وقدم عليهم أخاه منكوتمر ابن هولاكو وسار إلى جهة حمص وسار السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي بالجيوش الإسلامية من دمشق إلى جهة حمص أيضاً وأرسل إلى سنقر يستدعيه بمن عنده من الأمراء والعسكر بحكم ما استقر بينهما من الصلح واليمين فسار سنقر الأشقر من صهيون فلما نزل السلطان بظاهر حمص وصل إليه الملك المنصور صاحب حماة بعسكره ثم وصل سنقر الأشقر وصحبته أيتمش السعدي والحاج أزدمر وعلم الدين الدويداري وجماعة من الظاهرية‏.‏

ورتب السلطان عسكره ميمنة وميسرة وكان رأس الميمنة الملك المنصور محمد صاحب حماة بعسكره ثم بدر الدين البيسري دونه ثم علاء الديـن طيبـرس الوزيـري ثـم أيبـك الأفـرم ثـم جماعة من العسكر المصري ثـم عسكـر الشـام ومقدمهـم حسـام الديـن لاجيـن نائـب السلطنـة بالشام‏.‏

وكان رأس الميسرة سنقـر الأشقـر ومـن معـه ثـم بـدر الديـن تنليـك الأيدمـري ثـم بـدر الديـن بكتاش أمير سلاح‏.‏

وكان بر الميمنة العرب وبر الميسرة التركمان‏.‏

وكان ساليش القلب حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة ومن أضيف إليه من الأمـراء والعساكـر والتقـى الفريقـان بظاهـر حمص في الساعة الرابعة من يوم الخميس رابع عشر رجب الفرد من هذه السنة أعني سنة ثمانين وستمائة وأنزل الله نصرته إلى القلب والميمنة فهزموا من كان قبالتهم من التتر وركبوا قفاهم يقتلونهم وكان منكوتمر قبالة القلب فانهزم أيضاً وأما ميسرة المسلمين فإنها انكشفت عن مواقفها وتم ببعضهم الهزيمة إلى دمشق وساق التتر في إثر المنهزمين حتى وصلوا إلى تحت حمص ووقعوا في السوقية وغلمان العسكر والعوام وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ثم علموا بنصرة المسلمين وهزيمة جيشهم فولى المذكورون أيضاً منهزمين على أعقابهم وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون‏.‏

وكانت عدة التتر ثمانين ألف فارس منهم خمسون ألفا من المغل والباقي حشود وجموع مـن أجناس مختلفة مثل الكرج والأرمن والعجم وغيرهم ولما وصل خبر هذه الكسرة إلى أبغا وهو على الرحبة يحاصرها رحل عنها على عقبه منهزماً وكتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر البلاد الاسلاميـة فزينـت لذلـك ثـم إن السلطـان الملك المنصور قلاوون أعطى الدستور للعساكر الشامية فرجع الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى بلده ورجع سنقر الأشقر وجماعته إلى صهيون وسار عسكر حلب إليها وعاد السلطان إلى دمشق والأسرى والروس بين يديه‏.‏

وفيها عاد السلطان الملك المنصور قلاوون إلى الديار المصرية مؤيداً منصوراً‏.‏

وفيها عند وصوله إلى مستقر ملكه قدمت إليه هدية من صاحب اليمن المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول وطلب أماناً من السلطان فقبل السلطان هديته وكانت من طرائف اليمن مثل العود والعنبر والصيني ورماح القنا وغيـر ذلـك وكتـب لـه السلطـان أمانـاً صدرة ‏(‏هذا أمـان اللـه تعالـى وأمـان سيدنـا محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم وأماننـا لأخينـا السلطان الملك المظفر شمس الدين يوسف بـن عمـر صاحـب اليمـن إننـا راعـون لـه ولأولـاده مسالمون من سالمهم معادون من عاداهم‏)‏ ونحو ذلك‏.‏

وكان ذلك في العشر الأول من رمضان هـذه السنـة وأرسـل السلطـان إليـه هديـة مـن أسلـاب التتـر وخيولهـم وعـادت رسله بذلك مكرمين‏.‏

وفيها مات منكوتمر بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان بجزيرة ابن عمر مكموداً عقيب كسرته على حمص وكان موته من جملة هذا الفتح العظيم‏.‏

وفيهـا توفـي عـلاء الديـن عطاء ملك بن محمد الجويني وكان صاحب الديوان ببغداد فنقب عليه أبغا نسبه إلى مواطاة المسلمين وقبض عليه وأخذ أمواله وكان صدراً كبيراً فاضلاً له شعر حسن فمنه في تركية‏:‏ أبادية الأعراب عني فإنني بحاضرة الأتراك نيطت علائقي وأهلـك يـا نجـل العيـون فإنني جننـت بهـذا الناظـر المتضايـق وكانت وفاته بعراق العجم وولي بغداد بعده ابن أخيه هارون بن محمد الجويني‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وستمائة

فيها ولي السلطان مملوكه شمس الدين قرا سنقر نيابة ذكر موت أبغا وفيها في المحرم مات أبغا بن هولاكو بن جنكزخان ملك التتر قيل إنه مات مسموماً‏.‏

وكان موته ببلاد همذان وكانت مدة ملكه نحو سبعة عشر سنة وكسوراً وخلف من الولد أرغون وكيختـو ابنـاً أبغـا ولمـا مـات أبغـا ملـك بعـده أخـوه أحمـد بـن هولاكـو واسـم أحمـد المذكـور بيكدار فلما جلس في الملك أظهر دين الإسلام وتسمى بأحمد سلطان‏.‏

وفيها وصلت رسل أحمد بن هولاكو ملك التتر المذكور إلى السلطان الملك المنصور قلاوون وكان كبير الرسل المذكورين الشيخ المتقن قطب الدين محمود الشيـرازي وكـان إذ ذاك قاضـي سيواس فاحترز عليهم السلطان ولم يمكن أحداً من الاجتماع بهـم وكـان مضمـون رسالتهـم إعلام السلطان بإسلام أحمد المذكور وطلب الصلح بين المسلمين والتتر فلم ينتظم ذلك‏.‏

ثم عادت رسله إليه بالجواب‏.‏

وفيها توفي منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خـان بـن جنكزخـان ملـك التتـر بالبلـاد الشمالية وملك بعده أخو متدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي خـان بـن جنكزخـان وجلس على كرسي التتر بصراي وقيل إن ذلك كان في سنة ثمانين‏.‏

وفيهـا عقـد الملـك الصالـح علاء الدين علي ابن السلطان الملك المنصور قلاوون على بنت سيف الدين بكيه ثم تزوج أخوه الملك الأشرف بأختها الأخرى وكان بكيه معتقلاً بالإسكندرية فلما عزم السلطان على ذلك أخرجه من الحبس وأحسن إليه وزوج ابنيه واحداً بعد الآخر ببنتي بكيه المذكور‏.‏

وفيها توفي القاضي الفاضل المحقق شمس الديـن أحمـد بـن محمـد بـن أبـي بكـر بـن خلكـان البرمكـي وكـان فاضـلاً عالمـاً تولـى القضـاء بمصـر والشـام ولـه مصنفـات جليلـة مثـل‏:‏ وفيات الأعيـان فـي التاريـخ وغيره‏.‏

وكان مولده يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر ربيع الآخر سنة ثمان وستمائة بمدينة إربل بمدرسة سلطانها مظفر الدين صاحب إربل‏.‏

نقلت ذلك من تاريخه في ترجمة زينب في آخر حرف الزاء‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة

في أوائل هذه السنة قدم الملك المنصور محمد صاحب حماة وصحبته الملك الأفضل علي إلى خدمة السلطان الملك المنصور قلاوون بالديار المصرية فبالـغ السلطـان فـي إكـرام صاحـب حمـاة والإحسـان إليـه وأنزله بالكبش وأركبه بالسناجق السلطانية والجفتا والغاشية وسأله عن حوائجه فقال الملك المنصور حاجتي أن أعفى من هذا اللقب فإنه ما بقي يصلح لي أن ألقب بالملك المنصور وقد صار هذا لقب مولانا السلطان الأعظم فأجابه السلطان بأبي ما تلقيت بهذا الاسم إلا لمحبتي فيك ولو كان لقبك غير ذلك كنت تلقبت به فشيء فعلته محبة لاسمك كيف أمكن من تغييره وطلـع السلطـان بالعسكـر المصري لحفر الخليج الذي بجهة البحيرة وسار صاحب حماة في خدمته إلى الحفير ثم أعطى بعد ذلك الدستور لصاحب حماة فعاد مكرماً مغموراً بالصدقات السلطانية‏.‏

وفيها رمى السلطان الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان بجعاً بجهة العباسة بالبندق وأرسله للملك المنصور محمـد صاحـب حمـاة فقبلـه وبالـغ فـي إظهـار السـرور والفـرح بذلـك وأرسل إليه تقدمة جليلة‏.‏

وفيها خرج أرغون بن أبغا بخراسان على عمه بيكدار المسمى بأحمد سلطان وسار إليه واقتتلا فانهزم أرغون وأخذه أحمد أسيراً وسأل الخواتيـن فـي إطلـاق أرغـون وإقـراره علـى خراسان فلم يجب إلى ذلك وكانت خواطـر المغـل قـد تغيـرت علـى أحمـد بسبـب إسلامـه وإلزامه لهم بالإسلام فاتفقوا على قتله وقصدوا أرغون بالموضع الذي هو معتقل فيه وأطلقوه وكبسوا الناق نائب أحمد فقتلوه ثم قصدوا الأردو فأحس بهم السلطان أحمد فركب وهرب فتبعـوه وقتلـوه وملكـوا أرغـون بـن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان وذلك في جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏

وفيها قتل أرغون الصبي سلطان الروم الذي أقامه البرواناه بعد قتله أباه حسبما تقدم ذكره فـي سنـة سـت وستيـن وستمائـة وكـان اسم الصبي المذكور غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قليـج أرسلـان بـن كيخسـرو بـن قليـج أرسلان وفوض اسم سلطنة الروم إلى مسعود بن عز الدين كيكاؤوس وهـذا مسعـود هـو الـذي هـرب مـن منكوتمـر ملـك التتـر بصـراي وأبـوه عـز الديـن كيكـاؤوس هو الذي جرى له مع الأشكري صاحب قسطنطينية على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وستين وستمائة واستمرت سلطنة الروم باسم مسعود المذكور إلى سنة ثمان وسبعمائة وهـو مسعـود ابـن كيكـاؤوس بـن كيخسـرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قطلومش من السلجوقية ببلاد الروم‏.‏

وافتقر مسعود المذكور وانكشف حاله جداً حتى قيل إنه تناول سماً فمات من كثرة المطالبة من أرباب الدين والتتر‏.‏

وفيها ولى أرغون سعد الدولة اليهودي وعظمه ومكنه وكان سعد الدولة المذكور في مبدأ أمره دلالاً بسوق الصناعة بالموصل فحكم في سائر البلاد التي بأيدي التتر‏.‏

وفيها قرر أرغون ولديه قازان وخربنده بخراسان وجعل أتابكهما أميـراً كبيـراً مـن أصحابـه اسمه نورود‏.‏

وفيها مات الأشكري صاحب قسطنطينية واسمـه ميخائـل وملـك بعـده ابنـه مانـدس وتلقـب وفيها كاتب الحكام بقلعة الكحنا قراسنقر نائب السلطنة بحلب وسلموا الكحنا إلى السلطان فجهز قراسنقر عسكراً فتسلموهـا وقـرر السلطـان فيهـا نوابـه وحصنهـا وصـارت مـن أعظـم الثغور الإسلامية نفعاً‏.‏

وفيهـا فـي رجب قدم السلطان إلى دمشق وكان قد سار من مصر في جمادى الآخرة‏.‏

وفيها كان السيل العظيـم بدمشـق فـي العشـر الـأول مـن شعبـان والسلطـان الملـك المنصـور قلـاوون بدمشق وأخذ ما مر به من العمارات وغيرها واقتلع الأشجار وأهلك خلقـاً كثيـراً وذهـب للعسكر النازلين على جوانب بردى من الخيل والجمال والخيم ما لا يحصى وتوجه السلطـان عقيبه إلى الديار المصرية ووصل إلى قلعة الجبل في ثامن عشر رمضان من هذه السنة‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وستمائة

فيها سار السلطان الملك المنصور قلاوون إلى دمشق وحضر الملك المنصور صاحب حماة إلى خدمته إلى دمشق ثم عاد كل منهما إلى مقر ملكه‏.‏

ذكر وفاه الملك المنصور

صاحب حماة فـي هـذه السنة في شوال توفي السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي أحمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة رحمه الله تعالى‏.‏

ابتدأ فيه المرض في أوائل شعبان بعد عوده من خدمة السلطان من دمشـق وكـان مرضـه حمـى صفراويـة داخـل العـروق ثـم صلـح مزاجـه بعـض الصلاح فأشار الأطباء بدخوله الحمام فدخلها فعاوده المرض وأحضر له الأطباء من دمشق مع من كان في خدمته منهم واشتد به ذات الجنب وعالجوه بما يصلح لذلك فلم يفد شيئاً‏.‏

وفي مدة مرضه عتق مماليكه وتاب توبة نصوحاً وكتب إلى السلطان الملك المنصور قلاوون يسألـه فـي إقرار ابنه الملك المظفر محمود في مملكته على قاعدته واشتد به مرضه حتى توفي بكرة حادي عشر شوال من هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين وستمائة‏.‏

وكانت ولادته في الساعة الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثيـن وستمائـة‏.‏

فيكـون عمـره إحـدى وخمسيـن سنـة وستـة أشهر وأربعة عشر يوماً وملك حماة يوم السبت ثامن جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وستمائة وهو اليوم الذي توفي فيه والده الملـك المظفـر محمود فيكون مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام وكان أكبر أمانيه أن يعيش إلى أن يسمع جوابه من السلطان فيما سأله من إقرار حماة على ولده الملك المظفر محمود فاتفق وفاته قبل وصول الجواب وكان قد أرسل في ذلك على البريـد مملوكـه سنقر أمير أخور فوصل بالجواب بعد موت الملـك المنصـور بستـة أيـام ونسخـة الجـواب مـن السلطان بعد البسملة‏:‏ ‏(‏المملوك قلاوون أعز الله أنصار المقام العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري الناصري ولا عدمـه الإسلـام ولا فقدتـه السيـوف والأقلـام وحمـاه مـن أذى داء وعـود عواد وإلمام آلام المملوك يجدد الخدمة التي كان يود تجديدها شفاهاً ويصف ما عنده من الألم لما ألم بمزاجه الكريم حتى أنه لم يكد يفتح بالحديث فاهاً‏.‏

ولما وقفنا على الكتاب المولوي المتضمن بمرض الجد المحروس وما انتهى إليه الحال كادت القلوب تنشق والنفوس تذوب حزناً والرجـاء مـن اللـه أن يتداركه بلطفه وأن يمن بعافيته التي رفع في مسألتها يديه وبسط كفيه وهو يرجـو مـن كـرم اللـه معاجلـة الشفـاء ومداركـة العافيـة المـوردة بعـد الكـدر مـورد الصفاء وإن اللـه يفسـح فـي أجـل المولـى ويهبـه العمـر الطويل وأما الإشارة الكريمة إلى ما ذكره من حقوق يوجبها الإقرار وعهود أنت بدورها من السرار ونحن بحمد الله فعندنا تلك العهـود ملحوظـة وتلـك المودات محفوظة فالمولى يعيش قرير العين فما تم إلا ما يسره من إقامة ولده مقامه لا يحول ولا يزول ولا يرى على ذلك ذلة ولا ذهـول ويكـون المولـى طيـب النفـس مستديـم الأنـس بصـدق العهد القديم وبكل ما يؤثر من خير مقيم ‏)‏‏.‏

ولما وصل الكتاب اجتمع لقراءته الملك الأفضل والملـك المظفـر وعلـم الديـن سنجـر المعـروف بأبي خرص وقرئ عليهم وتضاعف سرورهم بذلك وكان الملك المنصور محمد صاحب حماة المذكور ملكاً ذكياً فطناً محبوب الصورة وكان له قبول عظيم عند ملوك الترك وكان حليماً

إلى الغاية يتجاوز عما يكره ويكتمه ولا يفضح قائله من ذلك أن الملك الظاهر بيبرس قدم إلى حماة ونزل بالدار المعروفة الآن بدار المبارز فرفع إليه أهل حماة عدة قصص يشكون فيها من الملـك المنصـور فأمـر الملـك الظاهـر دواداره سيف الدين بلبان أن يجمع القصص ولا يقرأها ويضعهـا فـي منديـل ويحملها إلى الملك المنصور صاحب حماة فحملها الدوادار المذكور وأحضرها إلى الملك المنصور وقال‏:‏ إنه والله دعاء الملك المنصور لصداقة الملك الظاهر وخلع على الدوادار وأخذ القصص وقال بعـض الجماعـة‏:‏ سـوف نـرى مـن تكلـم بشـيء لا ينبغـي وتكلموا بمثل ذلك فأمر الملك المنصور بإحضار نار وحرق تلك القصص ولم يقف على شيء منها لئلا يتغير خاطره على رافعها وله مثل ذلك كثير رحمه الله تعالى‏.‏