الفصل التاسع: ذكر أخبار ملوك اليمن ووفاة صاحبها

المختصر في أخبار البشر

(تاريخ أبي الفداء)

أبو الفداء

الملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب أبي الفداء المولود عام  672 هـ والمتوفي عام 732 هـ

ذكر أخبار ملوك اليمن ووفاة صاحبها

وفـي هذه السنة توفي صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول بقلعة تعز وقد تقدم ذكر ملكه اليمن بعد قتل أبيه في سنة ثمان وأربعين وستمائة فكانت مدة ملكه نحو سبع وأربعين سنة وخلف عدة من الأولاد الذكور فملك بعده ولـده الأكبـر الملـك الأشرف عمر بن يرسف وكان أخو عمر المذكور الملك المؤيد داود بالشحر عند موت والده لأن أباه كان قد أعطى داود المذكور الشحر وأبعده إليها فلما مات والده وملك آخره الملك الأشرف تحرك الملك المؤيد داود المذكور وسار إلى عدن واستولـى عليها فأرسل أخوه الملك الأشرف عسكراً واقتتلـوا مـع الملـك المؤيـد داود المذكـور فانتصـروا عليه وأخذوه أسيراً وأحضروه إلى الملك الأشرف فقيده واعتقله وكان عمر الملك الأشرف لما تملـك نحـو سبعيـن سنـة وأقـام فـي الملـك عشريـن شهـراً وتوفـي والملـك المؤيد داود في الاعتقال مقيداً فاتفق كبراء الدولة في ذلك الوقت وأخرجوه من الحبس وملكوا الملك المؤيد داود بن يوسف المذكور واستمر مالكاً لليمن إلى يومنا هذا وهو سنة ثمان عشرة وسبعمائة‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏

في هذه السنة أرسل الملك العادل زين الدين كتبغا وقبض على خشداشه عز الدين أيبك الخزندار وعزله عن الحصون والسواحل بالشام ثم أفرج عنه واستناب موضعه عز الدين أيبك الموصلي‏.‏

وفيها قصر النيل تقصيراً عظيماً وتبعه غلاء وأعقبه وباء وفناء عظيم‏.‏

وفيها في أوائل هذه السنة لما جلس في السلطنة زين الدين كتبغا أفرج عن مهنا بن عيسى وإخوته وأعادهم إلى منزلتهم‏.‏

ثم دخلت سنة خمـس وتسعيـن وستمائة

في هذه السنة قدم من التتر نحو عشرة آلاف إنسان وافد ين إلى الإسلام خوفاً من قازان وكان مقدمهم يقال له طرغيه من أكبر أمراء المغل كان مزوجاً ببنت منكوتمر بن هولاكو الذي انكسر جيشه على حمص ويقال لهذه الطائفة الوافدين العويراتية وكان سبب قدومهم أن مقدمهم طرغية هو الذي اتفق مع بيدو على قتل كيختو بن أبغا فلما ملك قازان قصد الإمساك على طرغيه وقتله أخذا بثأر عمه كيختو فهرب طرغيه وجماعتـه المذكـورون بسبـب ذلـك ولمـا قدمـوا إلـى الإسلـام أرسـل الملـك العـادل كتبغـا أميـراً لمقالهم وأكرمهم وأنزلهـم بالساحـل قريـب قاقـون وأدر عليهـم الـأرزاق وأحضـر كبراءهـم عنـده إلى الديار المصرية وأعطاهم الإقطاعات الجليلة وواصلهم بالخلع وقدمهم على غيرهم‏.‏

وفيها في شوال خرج الملك العادل كتبغا من الديار المصرية وسـار إلـى الشـام ووصـل إلـى دمشق وحضر إليه بدمشق الملك المظفر محمود صاحب حماة حماة ثم سار الملك العادل من دمشق إلى جهة حمص وسار على البرية متصيداً ووصل إلى حمص وقدم إلى جوسية وهي قرية على درب بعلبك من حمص وكانـت خرابـاً فاشتراهـا وعمرهـا فوصـل إليهـا ورآهـا ثـم عاد إلى دمشق وأعطى صاحب حماة الدستور فعاد إلى بلده ولما استقر العـادل بدمشـق عزل عز الدين أيبك الحموي عن نيابة السلطنة بالشام وولى موضعه سيف الدين غرلو مملوك الملك العادل كتبغا المذكور وخرجت هذه السنة والملك العادل بدمشق‏.‏

ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة

وخلعه واستيلاء لاجين على السلطنة‏:‏ لما دخلت هذه السنة سار العادل كتبغا المنصور في أوائل المحرم من دمشق بالعساكر متوجهاً إلى مصر فلما وصل إلى نهر العوجا واستقر بدهليزه وتفرقت مماليكه وغيرهم إلى خيامهم ركب حسام الدين لاجين المنصوري نائب الملك العادل كتبغا المذكور بسنجق ونقاره وانضم إلى لاجين المذكور بدر الدين البيسري وقراسنقر المنصوري وسيف الدين قبجاق المنصوري والحاج بهادر الظاهري وغيرهم من الأمراء المتفقيـن مـع حسـام الديـن لاجيـن وقصـدوا الملـك العـادل وبغتـوه عند الظهر في دهليزه بالمنزلة المذكورة فلم يلحق أن يجمع أصحابه ركب في نفر قليـل فحمـل عليـه نائبـه لاجيـن المذكـور وقتـل بكتـوت الـأزرق وبتخاص وكانا أكبر مماليك العادل فولى العادل كتبغا المذكور هارباً راجعاً إلى دمشق لأنه فيها مملوكه غرلو ووصل إلى دمشق فركب مملوكه غرلو والتقاه دخل إلى قلعة دمشق واهتم في جمع العسكر والتأهب لقتال لاجين فلم يوافقه عسكر دمشق وأرسل إلى حسام الدين لاجين يطلب منه الأمان وموضعاً يأوي إليه فأعطاه صرخد فسار العادل كتبغا المذكور إليها واستقر فيها إلى أن كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما حسام الدين لاجين فإنه لما هـزم العـادل كتبغـا علـى مـا ذكرنـاه نـزل بدهليـزه علـى نهـر العوجا واجتمع معه الأمراء الذين وافقوه على ذلك وشرطوا عليه شروطاً فالتزمها منها‏:‏ أن لا ينفرد عنهم برأي ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا فأجابهم لاجين إلى ذلك وحلف لهم عليه فعند ذلك حلفوا له وبايعوه بالسلطنة ولقـب بالملـك المنصـور حسـام الديـن لاجيـن المنصوري وذلك في شهر المحرم من هذه السنة أعني سنة ست وتسعين وستمائة ثم رحل بالعساكر إلى الديار المصرية ووصل إليها واستقر بقلعة الجبل‏.‏

ولما استقر بمصر أعطى للعادل كتبغـا صرخـد وأرسـل إلـى دمشـق سيـف الديـن قبجق المنصوري وجعله نائب السلطنة بالشام‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث وفـي هـذه السنـة

أرسـل حسـام الديـن لاجيـن الملقـب بالملـك المنصـور مولانـا السلطـان الملـك الناصر من القاعة التي كان فيها بقلعة الجبل إلى الكرك وسار معه سلار فأوصله إليها ثم عاد سلار إلى حسام الدين لاجين‏.‏

وفيها أفرج الملك المنصور لاجين عن بيبرس الجاشنكير وعن عدة أمراء كان العادل كتبغا قد قبـض عليهـم وسجنهـم فـي أيـام سلطنتـه‏.‏

وفيهـا أعطـى المنصور لاجين المذكور جماعة من مماليكه إمرة طبلخاناه مثل منكوتمر وأيد غدي شقير وبهادر المعزي وغيرهم‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وستمائة

ذكر تجريد العساكر إلى حلب ودخولهم إلى بلاد سيس

وعودهم إلى حلب ثم دخلولهم ثانياً وما فتحوه‏:‏ في هذه السنة جرد حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور جيشاً كثيفاً من الديار المصرية مع بدر الدين بكناش الفخري المعروف بأمير سلاح ومع علم الدين سنجر الـدواداري ومـع شمس الدين كريته ومع حسام الدين لاجين الرومي المعروف بالحسام أستاذ دار‏.‏

فساروا إلى الشام ورسم لاجين المذكور بمسير عساكر الشام فسار البكي الظاهري نائب السلطنة بصفد ثـم بعـد مـدة سار سيف الدين قبجق نائب للسلطنة بالشام وأقام قبجق ببعض العسكر بحمص وسـارت العساكـر إلى حلب وسار الملك المظفر محمود صاحب حماة بعسكره ووصل المذكورون إلى حلب يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وسابع نيسان ثم ساروا إلـى بلـاد سيـس فعبـر صاحـب حمـاة والـدواداري ومـن معهمـا مـن العساكر من دربندمري وعبر باقي العساكر من جهة بغراس من باب إسكندرونة واجتمعوا على نهر جيحان وشنوا الغارات على بلاد سيس في العشر الأوسط من رجب وكسبوا وغنموا وعادوا فخرجوا من دربند بغراس إلى مرج أنطاكية في الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة الموافق لرابع أيار‏.‏

وسار صاحب حماة الملك المظفر إلى جهة حماة حتى وصل إلى قصطون فورد مرسوم لاجين بعود العساكر واجتماعهم بحلب ودخلوهم إلى بلاد سيس ثانياً‏.‏

وهذه الغزوة من الغزوات التي حضرتها وشاهدتهـا مـن أولهـا إلـى آخرهـا فعدنـا إلـى حلـب ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من رجب وأقمنا ثـم رحلنـا مـن حلـب ثالـث رمضان إلى بلاد سيس ودخلنا من باب إسكندرونة نزلنا علـى حمـوص يـوم الجمعـة تاسـع رمضان من هذه السنة الموافق للعشرين مـن حزيـران وأقـام حمـوص بـدر الديـن بكنـاش أميـر سلـاح والملـك المظفـر صاحـب حمـاة ومـن انضـم إليهمـا مـن عسكـر دمشـق مثـل ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق ومضافيـه مـن عسكـر دمشـق وحاصرنـا حمـوص وضايقناهـا وأما باقي العسكر فإنهم نزلوا أسفل من حموص في الوطاة واستمر الحال على ذلك وقل الماء في حموص واشتد بهم العطش وكان قد اجتمع فيها من الأرمن عالم عظيم ليعتصموا بها وكذلك اجتمع فيهـا مـن الـدواب شـيء كثيـر فهلـك غالبهـم بالعطـش ولمـا اشتـد بهـم الحـال وهلكت النساء والأطفال أخرج أهل حموص في الخامس والعشرين من رمضان وهـو سابـع عشر يوماً من نزولنا عليها من نسائهم نحو ألف ومائتين من النساء والصبيان فتقاسمهم العسكر وغنموهم فكان قسمي جاريتين ومملوكاً وأصابنا ونحن نازلون على حموص في العشر الأوسط من شهر تموز ضباب قوي ومطر وحصل للملك المظفر وهو نازل على حموص قليل مرض ولم يكن صحبته طبيبه فاقتصر على ما كنت أصفه له وأعالجه به فشفاه الله تعالى وعاد إلى العافية وأنعم علي وأحسن إلي على جاري عادته وكانت خيمته المنصوبة على حموص خيمة ظاهرها أحمـر قـد عملهـا مـن أكسيـة مغربيـة وداخلهمـا منقـوش بالخـام الرفيـع المصبـغ وكانـت الأمراء الذين لم ينازلوا حموص وهم مقيمون في الوطاة إذا عرض لهم مـا يقتضـى المشـاورة يطلعـون إلى الجبل ويجتمعون في خيمة الملك المظفر وبين يديه يتشاورون على ما فيه المصلحة واستمر الحال على ذلك إلى أن فتح حموص وغيرها على ما سنذكره‏.‏

ذكر فتح حموص وغيرها من قلاع بلاد الأرمن

ولما كان فتوح ذلك متوقفاً على ملك دندين بن ليفون احتجنا نذكر كيفية ملكه بلاد الأرمن وتسليمـه البلـاد إلـى المسلميـن فنقـول‏:‏ إنـه تقـدم فـي سنـة أربـع وستيـن وستمائـة أسر ليفون بن هيتوم لمـا دخلـت العسكـر صحبـة الملـك المنصور صاحب حماة في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي وتقدم كيفية خلاص ليفون وما افتداه أبوه هيتوم به حتى عاد إلى أبيه صاحب سيس ثم إن ليفون المذكور ملك بعد موت أبيه هيتوم وبقي في الملك مدة ثم مات ليفون المذكور وخلف عدة من الأولاد الذكور أكبرهم هيتوم ثم تروس ثم سنباط ثم دندين ثم أوشين‏.‏

فلما مات ليفون ملك بعده ابنه الأكبر هيتوم بن ليفون بن هيتوم وبقي في الملك مدة فجمع أخوه سنباط جماعة ووثب على أخيه هيتوم المذكور وقبض عليه وسمله فعميت عين هيتوم الواحدة وسلمت له الأخرى واستمر في الحبس‏.‏

وكذلك قبض سنباط المذكور على أخيه تروس ثم قتله وخلف تروس المذكور ولداً صغيراً واستقر سنباط المذكور في الملك واتفق دخول العساكر إلى بلاد سيس ومنازلة حموص في أيام مملكة سنباط فضاقت على الأرمن البلاد بما رحبت وهلكوا من كثرة ما قتل وغنم منهم المسلمون فنسبوا ذلك إلى سوء تدبير سنباط وعدم مصانعته للمسلمين فكرهوه واتفقوا على إقامة أخيه دندين بن ليفون في المملكة والقبض على سنباط واجتمع الأرمـن علـى دنديـن فأحـس سنبـاط بذلـك فهـرب إلـى جهـة قسطنطينية وتملك دندين ويقال له كسيندين أيضاً‏.‏

فلما تملك دندين المذكور أرسل إلى العساكر المقيمة في بلاد سيس على حموص وعلى غيرها وبذل لهم الطاعة والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام وأنه نائب السلطان بهذه البلاد فطلـب منـه العسكـر أن يكـون نهـر جيحـان حـداً بيـن المسلميـن والأرمـن وأن تسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصـون والبلـاد فأجـاب دنديـن المذكـور إلـى ذلـك وسلـم جميـع البلـاد التـي جنوبي نهر جيحان المذكور إلى المسلمين فمنها‏:‏ حموص وتل حمدون وكويرا والنفير وحجـر شغلان وسرفندكار ومرعش وهذه جميعها حصون منيعة ما تـرام وكذلـك سلـم غيرهـا مـن البلـاد وكـان تسليـم حمـوص يـوم الجمعـة تاسـع عشـر شـوال من هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين وستمائة ووافق ذلك ثامن شهر آب وسلمت تل حمدون بعدهـا ثـم سلمـت باقـي الحصـون والبلاد المذكورة‏.‏

وأمر حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور باستمرار عمارة هذه البلـاد وكـان ذاك رأيـاً فاسداً على ما سيظهر من عود هذه البلاد إلى الأرمن عند دخول قازان البلاد ولما استقرت هذه البلاد للمسلمين جعل فيها حسام الدين لاجين بعض الأمراء نائباً ثم عزله وولى عليها سيف الدين أسندمر نائباً وجرد معه عسكراً وكان مقام أسندمر المذكور بتل حمدون وبعد تسليم تل حمدون رحل الملك المظفر محمود صاحب حماة عنها مستهل ذي القعدة من هذه السنة وسارت العساكر وخرجت من الدربند وسرنا جميعاً ودخلنا حلب يوم الإثنين تاسع ذي القعدة الموافق لعاشر آب عن هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين وستمائة‏.‏

فلما أقمنا بحلب ورد مرسوم حسام الدين لاجيـن الملقـب بالملـك المنصـور إلـى سيـف الديـن بلبان الطباخي بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر فعلموا بذلك وكان قبجق مقيماً بحمص مستشعراً خائفاً من لاجين المذكور فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد وكان من جملة العسكر المجردين على حلب‏.‏

وكذلك هرب بكتمر السلحدار وبورلار وعزاز ووصلوا إلى حمص واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث

في أوائل هذه السنة قبل تجريد العساكر إلى سيس قبض حسام الدين لاجين على نائبه في السلطنة شمس الدين قراسنقر واعتقله وولى نيابة السلطنـة مملوكـه منكوتمـر الحسامـي فأظهـر منكوتمر المذكور من الحماقة والكبرياء ما غير به خواطر العسكر عليه وعلى أستاذه وكذلك قبـض لاجيـن المذكـور علـى بدر الدين البيسري وعلى عز الدين أيبك الحموي وعلى الحاج بهادر أمير حاجب وغيرهم من الأمراء‏.‏

وفيها أوقع قازان ملك التتر بأتابكه نيروز وقتله لأنه نسبه إلى مكاتبة المسلمين ورتب موضع وفيها وفد سلامش وهو مقدم ثمان من المغل وكـان ببلـاد الـروم وبلغـه أن قـازان يريـد قتلـه فهرب وقدم على الملك المنصور حسام الدين لاجين فأكرمه فطلب سلامش نجدة من الملك المنصـور لاجيـن ليعـود إلـى الـروم طمعاً في اجتماع أهل الروم عليه فجرد معه من حلب عسكراً مقدمهم سيف الدين بكتمر الجلمي وساروا مع سلامش حتى تجاوزوا بلد سيس فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي وهـرب الباقـون وأمـا سلامش فهرب إلى قلعة من بلاد الروم واعتصم بها ثم أرسل إليه قازان واستنزله وحصر سلامش وقتله شر قتله‏.‏

وفيها اجتمع رأي حسام الديـن لاجيـن ونائبـه منكوتمـر علـى روك الإقطاعـات بالديـار المصريـة فريكت جميع البلاد المصرية وكتب بما استقر عليه الحال مثالات وفرقت على أربابها فقبلوها طوعاً أو كرهاً‏.‏

وفيها توفي عز الدين أيبك الموصلي نائب الفتوحات وغيرها وولى موضعه سيف الدين كرد أمير أخور‏.‏

وفيها في أواخر ذي القعدة مـن هـذه السنـة هـرب قبجـق والبكـي وبكتمـر السلحـدار ومـن انضم إليهم من حمص وساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب مع جماعة من العسكر المجردين ليقطعوا عليهم الطريق‏.‏

ففاتهم قبجـق ومـن معـه وعبـروا الفـرات واتصلوا بقازان ملك التتر فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها في أواخر ذي القعدة وصل من حسام الدين لاجين دستوراً للملك المظفر صاحب حماة بالحضور من حلب إلى حماة فسار الملك المظفر ووصل إلى حماة واستمرت العساكر مقيمين بحلب إلى أن خرجت هذه السنة‏.‏

وفي الثامن والعشرين من شوال هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين وستمائة توفي الشيخ العلامة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل قاضي القضاة الشافعي بحماة المحروسـة وكـان مولـده فـي سنة أربع وستمائة‏.‏

وكان فاضلاً إماماً مبرزاً في علوم كثيرة مثل المنطق والهندسة وأصول الدين والفقه والهيئة والتاريخ وله مصنفات حسنة منها‏:‏ مفرج الكروب في أخبار بني أيـوب ومنهـا الأنبروزيـة فـي المنطـق صنفهـا للأنبـروز ملـك الفرنـج صاحـب صقلية لما توجه القاضـي جمـال الديـن المذكـور رسولاً إليه في أيام الملك الظاهر بيبرس الصالحي واختصر الأغاني اختصاراً حسناً وله غير ذلك من المصنفات‏.‏

ولقد ترددت إليه بحماة مراراً كثيرة وكنت أعرض عليه ما أحله من أشكال كتاب إقليدس وأستفيد منه وكذلك قرأت عليه شرحه لمنظومة ابن الحاجب في العروض فإن جمال الدين صنف لهذه المنظومة شرحاً حسناً مطولاً فقرأته عليـه وصحـت أسمـاء مـن لـه ترجمة في كتاب الأغاني فرحمه الله ورضي الله عنه‏.‏

وكـان توجـه إلـى الإمبراطـور رسـولاً مـن جهة الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر والشام في سنة تسع وخمسين وستمائة ومعنى الإمبراطور بالإفرنجية ملك الأمراء ومملكته جزيرة صقلية ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية قال جمال الدين‏:‏ ووالد الإمبراطور الذي رأيتـه كـان يسمـى فردريك وكان مصافياً للسلطان الملك الكامل ثم مات فردريك المذكور في سنة ثمان وأربعين وستمائة‏.‏

وملك صقلية وغيرها من البر الطويل بعده ولـده كـرا بـن فردريـك ثبـم مـات كـرا وملك بعده أخوه منفريد بن فردريك وكل من ملك منهم يسمى إمبراطور وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج مصافياً للمسلمين ويحب العلوم‏.‏

قـال‏:‏ فلمـا وصلـت إلـى الإمبراطـور منفريـد المذكور أكرمني وأقمت عنده في مدينة من مدائن البر الطويل المتصل بالأندلس من مدائن أنبولية واجتمعت بـه مـراراً ووجدتـه متميـزاً ومحبـاً للعلـوم العقلية يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس‏.‏

قال‏:‏ وبالقرب من البلد الذي كنت فيه مدينة تسمى لوجاره أهلها كلهـم مسلمـون مـن أهـل قال‏:‏ ووجدت أكبر أصحاب الإمبراطور منفريد المذكور مسلمين ويعلن في معسكره بالـأذان والصلاة وبين البلد الذي كنت فيه وبين رومية مسيرة خمسة أيام‏.‏

قال‏:‏ وبعـد توجهـي مـن عنـد الإمبراطـور اتفـق البابـا خليفـة الفرنـج وريدافرنـس علـى قصـد الإمبراطور وقتاله وكان البابا قد حرمه كل ذلك بسبب ميل الإمبراطور المذكور إلى المسلمين وكذلك كان أخوه كرا ووالده فردريك محرمين من جهة البابا برومية لميلهم إلى الإسلام‏.‏

قال‏:‏ ولقد حكى لي لما كنت عنده أن مرتبة الإمبراطور كانت قبل فردريك لوالده ولما مات والد فردريك المذكور كان فردريك شاباً أول ما ترعرع وأنه طمع في الإمبراطورية جماعة من ملوك الفرنـج وكـل منهـم رجـا أن يفوضهـا البابـا إليـه وكـان فردريـك شابـاً ماكـراً وجنسـه مـن الألمانية فاجتمع بكل واحد من الملوك الذين قد طمعوا في أخذ الإمبراطورية بانفراده وقال له‏:‏ إني لا أصلح لهذه المرتبة وليس لي فيها غرض فإذا اجتمعنا عند البابا فقل ينبغي أن يتقلد الحديث في هذا الأمر ابن الإمبراطور المتوفي ومن رضي بتقليده الإمبراطورية فأنا راض به فإن البابا إذا تم الاختيار إلي في ذلك اخترتك ولا أختـار غيـرك وقصـدي الانتمـاء إليك‏.‏

ولمـا قـال هـذه المقالـة لكـل واحـد مـن الملـوك المذكوريـن بانفـراد وصدقـه فـي ذلـك ووثـق بـه واعتقد صدقه فلمـا اجتمعـوا عنـد البابـا بمدينـة روميـة ومعهـم فردريـك المذكـور قـال البابـا للملـوك المذكوريـن‏:‏ ما ترون في أمر هذه المرتبة ومن هو الأحق بها ووضع تاج الملك بين أيديهم فكل واحد منهم قال‏:‏ قد حكمت فردريك في ذلك فإنه ولد الإمبراطور وأحق الجماعة بأن يسمع قوله في ذلك فقام فردريك وقال‏:‏ أنا ابن الإمبراطور وأنا أحق بتاجه ومرتبته والجماعة كلهم قد رضوا بي ووضع التاج على رأسه فأبلسوا كلهم وخرج مسرعاً والتاج على رأسه وكـان قـد حصـل جماعة من أصحابه الألمانية الشجعان راكبين مستعدين وركب واجتمعت عليه أصحابه الألمانية وسار بهم على حمية إلى بلاده‏.‏

قال القاضي جمال الدين‏:‏ واستمر الإمبراطور منفريد بن فردريك المذكور في مملكته وقصده البابـا وريدافرنـس بجموعهمـا واقتتلـوا معـه وهزمـوه وقبضـوا عليـه وتقـدم البابا يذبحه فذبح منفريد المذكور وملك بلاده بعده أخو ريدافرنس وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة في غالب ظني‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة

ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين

في هذه السنة وثب على لاجين المذكور جماعة من المماليك الصبيان الذين اصطفاهم لنفسه ليلـة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر في أوائل الليل فقتلوه وهو يلعب بالشطرنج وأول من ضربه شخص منهم يقال له سيف الدين كرجي بالسيف وضربه الباقون بعده حتى قتلوا لاجيـن المذكور وطلعوا ليقتلوا مملوكه ونائبه منكوتمر فاستجار بسيف الدين طغجي الأشرفي وكان طغجي مقدم هؤلاء المماليك الذين قتلوا لاجين فأجاره طغجي وبعث بمنكوتمر المذكور إلى الجب فحبسه فيه ثم بعد استقراره في الجب توجه كرجي ومعه جماعة فأخرجوا منكوتمر وذبحوه على رأس الجب ولما أصبح الصباح عن ذلك جلس طغجي في موضع النيابة وأمر ونهى وهنالك جماعه من الأمراء أكبر منه مثل الحسام أستاذ الدار وسلار وبيبرس الجاشنكير وغيرهم فاتفقت آراؤهم على الوقيعة بطغجي وإعادة الملك إلى مولانا السلطـان الملك الناصر المقيم بالكرك واتفق بعد ذلك وصول بعض العسكر المجردين على حلب فوصل أمير سلاح وغيره وأشار الأمراء المذكورون على طغجي بالركوب وتلقى أمير سلاح فامتنع وعاودوه فأجاب وركب طغجي من قلعة الجبل وجعـل نائبـه بهـا كرجـي الـذي قتـل لاجيـن فعندما اجتمعت الأمراء بالأمير سلاح تحدثوا فيما فعله الصبيان من قتل السلطان وأنكـرت الأمراء وقوع مثل ذلك وقالوا‏:‏ إن طغجي هو الذي فعل ذلك فحطوا عليه بالسيوف وهرب منهم فأدركوه وقتلوه وقصدوا كرجي بقلعة الجبل فهرب واتبعوه فقتلوه أيضاً‏.‏

وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة وكانت مدة مملكة حسام الدين لاجين الملقب بالملـك المنصـور المذكـور سنتين وثلاثة أشهر‏.‏

مولانا السلطان الملك الناصر إلى سلطنته وفـي هذه السنة عاد مولانا السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد ابن مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون إلى مملكته‏.‏

فانه لما جرى ما ذكرناه من قتل لاجين ثـم قتـل طغجـي اتفقـت الأمـراء علـى إعادة مولانا السلطان الملك الناصر إلى مملكته فتوجه سيف الدين ابن الملك وعلم الدين الجاولي إلى الكرك وأحضراه إلى الديار المصرية فصعد إلى قلعة الجبـل واستقـر على سرير ملكه في يوم السبت رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة وهي سلطنته الثانية‏.‏

فلما استقر السلطان الملك الناصر بالقلعة اتفق معه الأمراء على أن يكون سيف الدين سلار نائـب السلطنـة ويكون بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار وأن يكون بكتمر الجوكندار أمير جانـدار‏.‏

فلمـا استقـر ذلـك فـوض نيابة السلطنة بالشام إلى جمال الدين أقوش الأفرم وأفرجوا عن شمس الدين قراسنقر من الاعتقال وكان له فيه نحو سنة وشهرين ثم بعثوا به إلى الصبيبة وكتب تقليد الملك المظفر محمود صاحب حماة ببلاده على عادته وبعث به إليه في جمادى ذكر تجريد العسكر الحموي إلى حلب وفـي هـذه السنـة فـي رمضـان الموافـق لحزيـران من شهور الروم جرد الملك المظفر عسكر حماة إلى حلب بسبب حركة التتر إلى جهة الشام فسرنا من حماة إلى المعرة وورد كتاب سيف الدين بلبان الطباخي بتراخي الأخبار فعدنا من المعرة إلى حماة فورد كتابه بطلبنا فأعادنـا الملـك المظفر من حماة في يوم وصولنا إليها وهو يوم الأربعاء سابع عشر رمضان وحزيران فسرنا ودخلنـا حلـب فـي الثانـي والعشريـن مـن رمضـان مـن هـذه السنـة ثم أرسل الملك المظفر وطلبني من نائب السلطنة بمفردي فأعطاني سيف الدين بلبان الطباخي دستوراً فسرت إلـى حمـاة إلـى خدمة ابن عمي الملك المظفر واستمر أخواي وغيرهمـا مـن الأمـراء والعسكـر مقيميـن بحلـب وأقمت أنا عند الملك المظفر بحماة‏.‏

ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماة وخروج حماة حينئذ عن البيت التقوي الأيوبي‏:‏

وفي هذه السنة أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة توفي صاحب حماة السلطان الملك المظفر تقي الدين محمود ابن السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب رحمه الله تعالى ومولده في ليلة الأحد خامس عشر المحرم سنة سبع وخمسين وستمائة فيكون عمره إحدى وأربعين سنة وعشرة أشهر وسبعة أيام وملك حماة من حين توفي والده في حادي عشر شوال سنة ثلاث وثمانين وستمائة فيكون مدة ملكه خمس عشرة سنة وشهراً ويوماً واحداً وكان مرضه حمى محرقة وكان سبب ذلك مع فراغ العمر أنه كان غاوياً برمي البندق واتفق له فيه صروعات حسنة فأراد أن يرمي النسر من طيور الواجب فقصد جبل علاروز وهو جبل مطل على قسطون وكان ذلك في شدة الحر وقتل حماراً وتركه على موضع بذلـك الجبـل وعمـل مـن أغصـان الشجر كوخاً وكان يجلس في الكوخ وأنا معه ومملوك له ومن يشاهده في رمي البندق وكـان يدخـل إلـى الكـوخ فـي السحـر ويظـل فيـه إلـى الظهـر ولا يتكلـم انتظـاراً لنزول النسر على جيفة الحمـار وكنا نشم نتن تلك الجيفة واتفق نزول النسر في تلك الحالة ولم يقدر له رمية ثم عدنا إلى حماة فابتدأ بنا المرض وبلغت الموت وفي مدة مرضي مرض الملك المظفر وعادني وهو قد ابتدأ به المرض ثم بعد بضع عشر يوماً توفي في التاريخ المذكور وأنا منقطع عنه بسبب مرضي وكذلك مرض المملوك الذي كان معنا بذلك المكان وكان عسكر حماة بحلب على ما قد ذكرنا وكان قد اتفق حضور الأمير صارم الدين أزبك المنصوري إلى حماة بسبب تشويش زوجته فلحق الملك المظفر قبل وفاته كان حاضراً وفاته وأما أخواي أسد الدين عمر وبدر الدين حسن ابنا الملك الأفضل فإنهما حضرا إلى حماة من حلب بعد وفاة الملك المظفر ولما اجتمع مذكورون اختلفوا فيمن يكون صاحب حماة ولم ينتظم في ذلك حال‏.‏

ذكر وصول قراسنقر إلى حماة الجوكندار إلى حماة نائباً بها‏:‏

ولما توفي الملك المظفر كان قراسنقر قد أخرج من السجن وأرسل إلى الصبيبة وهي مكان وخم فأرسل قراسنقر إلى الحكام بمصر يتضور من المقام بالصبيبة فاتفق عند ذلك وصول الخبر إلى مصر بموت صاحب حماة فأعطى قراسنقر نيابة السلطنة بحماة وسار من الصبيبة ووصل إلى حماة واستقر في النيابة بها في أوائل ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة ونزل بدار ملك المظفر صاحب حماة وقمنا بوظائف خدمته وأخذ من تركة صاحب حماة ومنا أشياء كثيرة حتى أجحف بنا ووصلت المناشير من مصر إلى أمراء حماة وجندها باستقرارهم على ما بأيديهم من الإقطاعات فاستمرينا على ما بأيدينا‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة أرسل سيف الدين بلبان الطباخي عسكراً إلى ماردين فنهبوا ربض ماردين حتى نهبوا الجامع وعملوا الأفعال الشنيعة وذلك كان حجة لقازان في قصد البلاد على ما سنذكره‏.‏

وفيها توفي بدر الدين بيسري في محبسه من حين حبسه لاجين‏.‏

وفيها سار مولانا السلطان الملك الناصر من الديار المصرية بعساكر مصر إلى بلاد غزة وأقام بها حتى خرجت هذه السنة واتفق قراسنقر وأخواي وأرسلوا معي قماشاً وخيلاً من خيل الملـك المظفـر صاحـب حمـاة‏.‏

وقماشـه فسـرت أنـا وصـارم الدين أزبك المنصوري الحموي وقدمت ذلك لمولانا السلطان وهو نازل بالساحل قرب عسقلان فقبلـه وتصـدق علـي بخلعـة وحياصة ذهب ورسم بزيادة إقطاعي وإقطاع أخي بدر الدين حسن فزادونا نقداً من ديوان حماة‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي شمـس الديـن كربته أحد المقدمين الذين دخلوا إلى بلاد سيس وفتحوا ما تقدم ذكره‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة

الذي كان بين المصلين والتتر وهزيمة المسلمين واستيلاء التتر على الشام‏:‏ في هذه السنة سار قازان بن أرغون بجموع عظيمة من المغل والكرج والمزندة وغيرهم وعبر الفرات ووصل بجموعه إلى حلب ثم إلى حماة ثم سار ونزل على وادي مجمع المروج وسارت العساكر الإسلامية صحبة مولانا السلطان الملك الناصر حتى وصلوا بظاهر حمص ثم ساروا إلى جهة المجمع وكان سلار والجاشنكير هما المتغلبان على المملكة فداخل الأمراء الطمع ولم يكملوا عدة جندهم فنقص العسكر كثيراً مع سوء التدبير ونحو ذلك من الأمور الفاسدة التي أوجبت هزيمة العسكر ثم ساروا والتقوا عند العصر من نهار الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة الموافق للثالث والعشرين من كانون الأول من شهور الروم بالقرب من مجمع المروج في شرقي حمص على نحو نصف مرحلة من حمص فولت ميمنة المسلمين ثم الميسرة وثبت القلب واحتاطت به التتر وجرى بينهم قتال عظيم وتأخر السلطان إلى جهة حمص حتى أدركه الليل فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصـر المحروسـة وتبعهـم التتـر واستولـوا على دمشق وساقوا في إثر الجفال إلى غزة والقدس وبلاد الكرك وكسبوا وغنموا من المسلمين الجفال شيئاً عظيمة‏.‏

وكان قبجق وبكتمر السلحدار والبكي مع قازان من حين هربوا من حمص على ما قدمنا ذكره في سنة سبع وتسعين وستمائة فلما استولى قازان على دمشق أخذ سيف الدين قبجق الأمان لأهل دمشق ولغيرهم من قازان ملك التتر واستولى قازان على مدينة دمشق وعصت عليه القلعة وأمر بحصارها فحوصرت وكان النائب بها الأمير سيف الدين أرحواش المنصوري فقام في حفظها أتم قيام وصبر على الحصار ولم يسلمها وأحرق الدور التـي حوالـي القلعـة والمـدارس فاحترقـت دار السعـادة التـي كانـت مقـر نـواب السلطنـة وكذلك احترق غيرها من الأماكن الجليلة وأما عسكر مصر فإنهم لما وصلوا إلى مصر رسم لهم بالنفقة فأنفق فيهم أموال جليلة وأصلحوا أحوالهم وجددوا عدتهم وخيولهم وأقام قازان بمرج دمشق المعروف بمرج الزنبقة ثم عاد إلى بلاده الشرقية وقرر في دمشق قبجق وجرد صحبته عدة من المغل‏.‏

فلما بلغ العساكر المصرية مسير قازان عن الشام خرجوا من مصر في العشر الأول من شهر رجب من هذه السنة وخرج السلطان إلى الصالحية ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصريـة ومسيـر سلـار وبيبـرس الجاشنكيـر بالعساكـر إلـى الشـام فسار المذكوران بالعساكر وكان قبجق وبكتمر السلحدار والألبكي قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا معهم فلما خرجت العساكر من مصر هرب قبجق ومن معه من دمشق وفارقوا التتر وساروا إلى جهة ديار مصر وبلغ ذلك التتر المجردين بدمشق فخافوا وساروا من وقتهم إلى البلاد الشرقية وخلا الشام منهم ووصل قبجق والألبكي وبكتمر السلحدار إلى الأبواب السلطانية فأحسن إليهـم سلطان ووصل سلـار وبيبـرس الجاشنكيـر إلـى دمشـق وقـررا أمـور الشـام ورتبـا فـي نيابـة السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين أقوش الأفرم على عادته ورتبا قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب بعد عزل سيف الدين بلبان الطباخي عنها وإعطائه إقطاعاً بديار صر ورتبا قطلوبك فـي نيابـة السلطنـة بالساحـل والحصـون عـوض سيـف الديـن كرد إنه استشهد في الوقعة ورتبا في نيابة السلطنة بحماة الأمير زين الدين كتبغـا المنصـوري الـذي كـان سلطانـاً ثـم خلـع وأعطـي صرخـد واستمر بصرخد حتى استولى قازان على الشام ثم سار إلى مصر والتتر بالشام ثم سـار مـع سلـار والجاشنكيـر إلى الشام فرتباه في نيابة السلطنة بحماة بعد قراسنقر فسار كتبغا المذكـور ووصـل إلـى حمـاة فـي الرابـع والعشريـن مـن شعبـان مـن هـذه السنة أعني سنة تسع وتسعين وستمائة واستقر بحماة وأقام بدار صاحب حماة الملك المظفر وسار قراسنقر إلى حلب ثم عاد سلار والجاشنكير بالعساكر إلى الديار المصرية‏.‏

في هذه السنة كان بين طقطغا بن منكوتمر وبين نغيه حروب كثيرة قتل فيها نغيه وقام مقامه ابنه جكا‏.‏

وفيهـا فـي مـدة استيـلاء التتر على الشام استولى على حماة شخص من الرجالة الذين كانوا فيها لحفظ القلعة يسمى عثمان السبيتاري وحكم في البلد والقلعة واستباح الحريم وأمـوال أهـل حماة وسفك دم جماعة منهم الفارس أرلندمشد حماة وبعض أهل الباب الغربي وكان يشارك عثمان المذكور في الحكم رفيقه إسماعيل فغدر عثمان برفيقه إسماعيل وقتله وانفرد عثمان بالحكم في حماة وقيل إنه تلقب بالملك الرحيم وبقي على تلك الحال إلى أن طلعت العساكر الإسلامية من مصر واستولوا على الشام وأرسلوا صارم الدين أزبك الحموي إلى حماة ليكون فيها إلى أن يحضر إليهـا زيـن الديـن كتبغـا المنصـوري النائـب فعصـي عثمـان المذكـور بالقلعـة المذكورة ثم فارقه أصحابه وتخلوا عنه وأمسـك عثمـان المذكـور واعتقـل وكـان المذكـور مـن جنداريـة قراسنقـر فلمـا وصل قراسنقر إلى حماة متوجها إلى حلب نزل على تل صفرون وتسلم عثمان المذكور وأطلقه فحضـر أهـل حمـاة وشكـوا مـا فعلـه فيهـم عثمـان المذكـور مـن نهـب أموالهم وهتك الحريم وسفك الدماء فتبرطل قراسنقر من عثمان المذكور ما أخذه من أموال أهل حماة واستصحب عثمان معه وأحسن إليه ومنع الناس حقهم ولم يمكن أحداً منه بعد أن حكم القاضي بسفك دم عثمان المذكـور وبقـي عثمـان عنـد قراسنقـر مكرمـاً إلـى أن هـرب قراسنقر إلى التتر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

فاختفى عثمان المذكور ولم يظهر وكان أصله من بلاد الشوبك فلما تصدق علـي السلطـان بحمـاة تتبعـت عثمـان المذكـور وطلبتـه مـن نائـب السلطنـة بالشـام وهـو المقـر السيفي تنكيز فأمسـك عثمـان المذكـور من بلاد عجلون وأرسله إلي معتقلاً إلى حماة فضربت عنقه في سوق الخيل بحضرة العسكر في يوم الاثنين رابع عشر شعبان سنة ست عشرة وسبعمائة‏.‏

وفيهـا لمـا وصـل قـازان بجمـوع المغـل إلى الشام طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون منهم وعجز المسلمون عن حفظها فتركها الذين بها من العسكر والرجالة وأخلوها فاستولى الأرمن عليها وارتجعوا حموص وتل حمدون وكوير وسرفند كار والنقير وغيرها ولم يبق مع المسلميـن مـن جميع تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والبلاد التي كانت جنوبي نهر جيحان‏.‏

وفيها أو في السنة التي قبلها لما ملك دندين بلاد الأرمن أفرج عن أخيـه هيتـوم بـن ليفـون وجعله الملك وصار دندين بين يديه وكان هيتوم قد بقي أعور من حين سمله أخوه سنباط على ما قدمنا ذكره واستمر هيتوم ودندين على ذلك مدة يسيـرة ثـم غـدر هيتـوم بدنديـن وجازاه أقبح جزاء وأراد القبض عليه فهرب دندين إلى جهة قسطنطينية واستقر هيتوم في مملكـة سيـس ولمـا استقـر هيتـوم فـي مالـك سيـر كـان لأخيـه تـروس الـذي قتله أخوه سنباط على ما ذكرناه ولد صغير فأقام هيتوم المذكور الصغير ذلك ابن تروس في الملك وجعل هيتوم نفسه أتابكاً لذلك الصغير وبقي كذلك حتى قتلهما برلغي مقدم المغل الذين ببلاد الروم علـى مـا سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة سبعمائة

ذكر مسير التتر إلى الشام ومسير السلطان والعساكر الإسلامية إلى العوجا ورجوعهم

فـي هذه السنة عادت التتر قصد الشام وعبروا الفرات في ربيع الآخر وجفلت المسلمون منهم وخلت بلاد حلب وسار قراسنقر بعسكر حلب إلى حماة وبرز زين الدين كتبغا عساكر حماة إلى ظاهر حماة في الثاني والعشرين من ربيع الآخـر مـن هـذه السنـة وسـادس كانـون الـأول وكذلك وصلت العساكر من دمشق واجتمعوا حماة وأقامت التتر ببلاد سرمين والمعرة وتيزين والعمق وغيرها ينهبون يقتلون وسار السلطان بالعساكر الإسلامية ووصل إلى العوجـا واتفـق في تلك المدة تدارك الأمطار إلى الغاية واشتدت الوحول حتى انقطعت الطرقات وتعذرت الأقوات وعجزت العساكر عن المقـام عـن تلـك الحـال فرحـل السلطـان والعساكـر وعـادوا إلـى الديار المصرية‏.‏

فوصل إليها في عاشر جمادى الأولى من هذه السنة وأما التتر فانهم أقاموا يتنقلون في بلاد حلب نحو ثلاثة أشهر ثم إن الله تعالى تدارك المسلمين بلطفه ورد التتر على أعقابهـم بقدرتـه فعـادوا إلـى بلادهـم وعبـروا الفـرات أواخـر جمـادى الآخـرة مـن هـذه السنـة الموافق لأوائل آذار من شهور الروم ورجع عسكر حلب مـع قراسنقـر إلـى حلـب وتراجعـت الجفال إلى أماكنهم‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة لما وردت الأخبار بعود التتر إلى الشام استخرج عن غالب الأغنياء بمصر والشام ثلث أموالهم لاستخدام المقاتلة‏.‏

وفيها لما خرجت العساكر من مصر توفي سيف الدين بلبان الطباخي الذي كان نائباً بحلب ودفن بأرض الرملة وورثه السلطان بالولاء‏.‏

وفيها عزل كراي المنصوري الذي كان نائباً بصفد وولى موضعه بتخاص‏.‏

وفيها عزل قطلوبك عن نيابة السلطنة بالحصون والسواحل ونقل إلى دمشق فصار من أكبر الأمراء بها وولى موضعه على الحصون والسواحل سيف الدين أسندمر الكرجي‏.‏

وفيهـا التزمـت الذمـة بلبس الغيار فلبس اليهود عمائم صفراء والنصارى عمائم زرقاء والسمرة عمائم حمراء‏.‏

وفيها وصلت رسل قازان ملك التتر وكان مضمون رسالتهم التهديد والوعيد فأعيد جوابه على مقتضى ذلك‏.‏

وفيها ولى البكئي الظاهري الذي قفز إلى التتر وعاد على ما ذكرناه نيابة السلطنة بحمص وكذلك أعطي قبجق الشوبك إقطاعاً وأرسل إليها فأقام بها‏.‏

وفيها قتل جكا بن نغيه أخاه تكا‏.‏

وفيها جرى بين جكا ونائبه طنغوز قتال فانتصر فيه طنغوز على جكا ثم انتصر جكا ثم استنجـد طنغـوز بطقطغـا فلم يكن لجكا به قبل فهرب إلى الأولاق وأمسك جكا واعتقله بقلعة طرفو ثم قتله وبعث برأسه إلى القرم وصارت مملكة نغيه لطقطغا‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة

وفـي هـذه السنـة توفـي أبـو العبـاس أحمـد الملقـب بالحاكم بأمر الله المنصوب في الخلافة وقد تقدم ذكـر ولايتـه ونسبـه فـي سنـة ستيـن وستمائـة والخلـاف في ذلك ولما توفي الحاكم المذكور قرر في الخلافة بعده ولده سليمان بن أحمد وكنيته أبو الربيع ولقب بالمستكفي بالله‏.‏

ذكر الإغارة على بلاد سيس

وفي هذه السنة جرد من مصر بدر الدين بكتاش أمير سلاح وأيبك الخزندار معهما العساكر فساروا إلى حماة وورد الأمر إلى زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة أن يسير بالعساكر إلى بلاد سيس فخرج كتبغا المذكور من حماة وخرجنا صحبته في يوم السبت الخامس والعشرين من شوال في هذه السنة الموافق للثالث والعشرين من حزيران من شهور الروم وسار العسكر صحبة زين الدين المذكور ودخلنا حلب يوم الخميس مستهـل ذي العقـدة ورحلنـا مـن حلـب ثالث ذي القعدة ودخلنا دربند بغراس سابع القعدة من الشهر المذكور وانتشرت العساكر في بلاد سيس فحرقت الزروع ونهبت ما وجدت ونزلنا على سيس وزحفنا عليها وأخذنا من سفح قلعتها شيئاً كثيـراً مـن جفـال الأرمـن وعدنـا فخرجنـا مـن الدربنـد إلـى مـرج أنطاكيـة ووصلنـا إلى حلب يوم الاثنين تاسع عشر ذي القعدة من هذه السنة وسرنا إلى حماة ودخلناها يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور الموافق للرابـع والعشريـن مـن تمـوز مـن شهـور الروم ودخل زين الدين كتبغا المذكور حماة وقد ابتدأ به المرض‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة مات قبجي بن ردنو بن دوشي خان بن جنكزخان صاحب غزنة وباميان وغيرهمـا من تلك النواحي وخلف من الأولاد بيان وكبلك وطقطمر وبغاتمر ومنغطاي وصاصـي‏.‏

فاختلفـوا بعـده واقتتلـوا ثـم انتصـر فيمـا بعـد بيـان بـن قنجـي واستقـر ملـك غزنة على ما سنذكره‏.‏

وفيهـا توفـي صاحـب مكـة الشريـف أبـو نمـي محمـد بـن أبي سعد بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعـن بـن عبـد الكريـم بـن عيسـى بـن حسيـن بـن سليمـان بـن علـي ابـن الحسيـن بـن علـي رضـي الله عنهم واختلفت أولاده وهم‏:‏ رميثة وحميضة وأبو الغيث وعطيفة‏.‏

وتغلب رميثـة وحميضـة على مكة شرفها الله تعالى ثم قبض بيبرس الجاشنكير على رميثة وحميضة في هذه السنة وكـان قـد حـج وتولـى أبـو الغيـث علـى مكة ثم بعد سنين أطلق حميضة ورميثة فغلبا على مكة وهـرب عنهـا أبو الغيث ثم اقتتل حميضة ورميثة فانتصر حميضة واستقر في مكة حرسها الله

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة