الجزء الثاني

الوشاء

أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى المعروف بالوشاء والمتوفي عام 208 هـ 823 م

الجزء الثاني

"بسم الله الرحمن الرحيم" لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الحمد لله رب العالمين وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فإنه قد ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب أشياء من عيون فنون الأدب يرغب فيها ذوو الحِجى وينتهي إليها ذوو النُّهى، وقد مضى من الجدّ عدة أبوابٍ فيها مقنَعٌ لذوي الألباب، ولا بد من خلطها بشيء من الهَزل، إذا في ذلك ترويحٌ لقلوب ذوي العقل.

وآخر ما ذكرنا في الجزء الأول ذكر الوفيات من النساء، وأنا أُتبعه في هذا الجزء بباب ذكر ذوات الغدر من الإماء ثم أصله بما يتصل، وأفصله من حيث ينفصل، إن شاء الله وبه القوة.

صفة ذم القيان ونفوذ حيلتهن في الفتيان

اعلم أنه لم يُبتلَ أحدٌ من أهل المروءات والأدب، وأهل التظرُّف والأرَب، ولا امتُحن سَراة الفتيان ببليّة هي أعظم من هوى القيان، لأن حبهن جب كذوبٌ، وعشقهن عشق مشوب، وهواهنّ منسوبٌ إلى الملل، ليس بثابتٍ ولا متّصلٍ، وإنما هو لطمعٍ وعرَضٍ، وهنّ سريعات الغرض، يُستدلّ على ذلك بأفعالهن الردية، وأخلاقهن السيئة، وأنهن لن يقصدن إلا أهل النشث، ويُصدُفن عن ذوي الحسب، وأن محبّتهن تظهر ما ظهرت علامات اليسار والمال، وتنتقل عند الإفلاس والإقلال. وليس إظهارهن للمحبة مما ينعقد عليه منهن ذوو الآداب، ولا بما ينخدع به لهن ذوو الألباب. وكل ذلك منهن غرورٌ، وخداع وزور، ولا مرجع له ولا محصول، وإنما أمرهنّ عند ذوي الجهالة مجهول. وما رأيت لكثيرٍ من الأدباء الذين سلكوا سبيل التشبيث بالنساء، رغبةً في تعشُّق الإماء، وقد أنشدني بعض الظرفاء:

 

ليس عشقُ الإماء من شكل مثلي،

 

إنما يعشق الإمـاء الـعـبـيدُ

صِلْ، إذا ما وصلتَ، حُرّة قـوم،

 

قد حماها آبـاؤهـا والـجـدود

ومن أدلّ الأشياء على خُبث سرائر الإماء أن الواحدة منهن، إذا رأت في مجلس فتىً له غنىً وكثرة مال، ويسار وحسن حال، مالت إليه لتخدعه، وأقبلت عليه لتصرعه، ومنحته نظرها، وأبدته بصرها، وغمزتْه بطَرْفها، وأشارت إليه بكفها، وغنّت على كاساته، ومالت إلى مَرضاته، وشربت من فَضلة كأسه، وأومأت إلى تقبيل رأسه، حتى تُوقِع المسكين في حبالها، وترهقه باحتيالها، وتُعلّق قلبه بحبها، وتُطعمه من قربها، وتحويه بلطف تملُّقها، وتستبيه ببديع تقنُّعها، وبالمكر والخداع، وتطلُّبها للاجتماع، وتباكيها لفرقته، وتحازنها عند روحته، ثم ترسل بالرسل، وتُعاديه بالخَتل، وتخبره عن سهرها، وتُنبئه عن فكرها، وتشكو إليه القلق وتُخبره بالأرق، وتبعث إليه بخاتمها، وفضلةٍ من شعرها، وقُلامةٍ من ظفرها، وشظيّة من مِضرابها، وقطعةٍ من مِسواكها، ولُبانٍ قد جعلته عوضاً من قُبلتها، ومُضغةٍ لتخبره عن نكهتها، وكتابٍ قد نمّقته بظَرفها، وطيّبته بكفها، وسَحته بوترٍ من عودها، ونقّطت عليه قطراتٍ من دمعها، وختمته بغاليةٍ قد عُدّل بالعنبر متنها، واستمسك تحت الخاتم عجنها، وطبعت عليه بفَصّ قد نقشت عليه مداعبتها، وتمثّلت عليه ببعض مَجانتها، وضمّنت الكتاب شكوى شوق مريضٍ، وصفة شوق ممرِّض، تسأله المؤاتاة على حبها، والإعانة على كربها، وأن يبعث يطلب زيارتها، لتقرّ بالنظر إليه عينها، وينفرج عنها حزنها، فيُطمع الغمز في قربها، ولا يشَّ في الكلام في إخلاص حبها، فيميل إليها بودّه، وتُصفيه بمكنون حبه، حتى إذا حوت عقله، وصارت شغله، واستمالت لبّه، وسلبت قلبه، واستمكنت من قربه، ووثقت بصحيح حبه، وعلمت أنه غريقٌ في بحر البلية، أخذت في طلب الهدايا السرية، وتشهّت الثياب العَدَنية، والأزر النيسابورية، والأشقاق الأنجاجية، والأردية الرشيدية، والعمائم السوسية، والشكك الإبريسمية، والخفاف الرُّنانية، والنعال الكَنباتية، والحلق المحشوية، والعصائب المرصّعة، والدَّستينجات المفصّلة، وخواتيم الياقوت المُثمِنة، وتمارضت من غير سقم، وشكت من غير ألم، وفُصدت من غير علة وداء، وتعالجت من غير حاجة منها إلى الدواء، لتجيشها هدايا ذوي الوَجد، في المرض والفصد، من القُمُص المعنبَرة، والغلائل الممسَّكة، والأردية المرشوشة، واللخالخ المعجونة، ومخانق الكافور المنظومة، ومراسل القرنفل المخمّر، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب، والعود الهندي، والنَّدّ الخَزائني، والماورد الجوري، والحُملان الحَوْلية، والجداء الرُّضَّع، والبطّ الصيني، والفراريج الكسكرية، والدجاج الفائق، والفراخ المسمَّنة، والنبانيج المنضَّدة بأنواع الرياحين والفاكهة، يتبعها صنوفٌ من الشراب المعسَّل، والدوشاب المطبوخ والمشمَّس، ونبيذ السكر والقِشمِش، ثم الدنانير الجُدد الشهرية، والدراهم المسيَّفة الداريّة، في خرائط الديباج الإبريسَمية، ومناديل الوشي الأنجمية.

فلا تزال في هدايا متواترة وألطاف متتابعة، وفي خلال ذلك العيدان العَرْعر الموزونة، والمضار بالمدهونة، والأوتار الصينية، حتى إذا نفذ اليسار، وذهب الإكثار، وأُتلف المال، وجاء الإقلال، وأحست بالإفلاس، وتفريغ الأكياس، أظهرت الملل، وأعلنت البدل، وتبرّمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وطلبت عليه العلل، وتفقدت من الزلل، وتتبّعت عليه سقطاته، وتيمّمت عثراته، وأخذت في الجَفاء والعِتاب، والقِلى، والإبعاد، وصرفت عنها هواه، ومالت إلى سواه، ونفرت بعد القرب، وأبغضته بعد الحب، فحينئذ يُدرك المغرور الندم، ويلحقه الأسف، حين لا تغني عنه الحيلة ولا يُجدي عليه اللهف، ويقع بيت ليت ولو وهيهات ولات حين مَناص، ولا يقدر على استئناف ما سلف من الأيام بعد الإشراف على ورود حياضِ الحِمام، وقد أنشدني بعض الأدباء لبعض المحدثين:

 

صحوتُ فأبصرت الغَواية من رُشدي،

 

وأيقنتُ أني كنت جُرْتُ عن القَصـدِ

فلا يعشقَنْ من كان يعـشـق قـينةً،

 

فما هو منها في سعـيدٍ ولا سـعـدِ

تودُّك مـا دامـت هـداياك جـمّةً،

 

وترفدك عِشقاً ما غَنيتَ أخـا رفـدِ

إذا ما رأت في مجلسٍ من تخـالـه

 

غنيّاً، حَبَتْـه بـالـتـحـية والـودّ

وغَنّت على أقداحه كل ما اشتـهـى،

 

وقالت لـه: مـا تـريد أنـا أفـدي

وتومي إليه اشربِ الرطلَ واسقني،

 

فقد حُزتَ قلبي واشتملتَ على وُدّي

فيمتلئ المغرور، عند مَقـالـهـا،

 

سروراً يرى أن المقال على جـدّ

فإن جاء وقت الانصراف تحازنـت

 

لفُرقته، حتى يقوم عـلـى وعْـدِ

ويغدو إليه في الفراش رسولـهـا

 

تُسائله: ما كان حالُك من بـعـدي

ويا ليت شعري كيف بتَّ فإنـنـي

 

رعيتُ نجوم الليل كفّي على خدّي

فلا يجد المغرور من دفعِ جُدْرهـا

 

سروراً بتعجيل الـزيارة مـن بُـدّ

وتُسرع في إتـيانـه لـيظـنّـهـا

 

حَبَته بتعجيل المجيء على عَـمـدِ

فإن هي جاءت عانقته، وقـبّـلـت

 

يديه، وأبدت فرحةً قلّ ما تُـجـدي

وتخدمه عمـداً، فـإن قـال: إنـه

 

ليحزُنُني أن تصنعي هكذا عنـدي

تقول له: ذا البيت بيتـي، وإنـمـا

 

أُؤمِّل أنْ يبتاعني سـيدي وحـدي

فتصبيحَ عيني بالـوِصـال قـريرةً

 

وآمنَ من سَومِ التفرّق والـبُـعـدِ

فذا دأبها، حتى يعود من الـهـوى

 

سقيمَ فـؤادٍ مـا يُعـيد ولا يُبـدي

فتُفصد لا مِنْ حاجةٍ لفِـصـادهـا،

 

ولكن لتكليف الهديّة في الفَـصـد

فمن بين خَلخالٍ يُصـاغ وخـاتـمٍ،

 

ومن دُمْلُج يُهدى على أثر العِـقـدِ

ومن ثوبٍ خزٍّ بعد وشيٍ ومُلْـحَـمٍ،

 

ومن مُصْمتٍ يُشرى على أثر البُرد

ويا لك من مِسكِ ذكيٍّ وعَـنـبـرٍ،

 

وعودٍ، وكافورٍ نقـيٍّ، ومـن نَـدّ

فذا فعلها، حتى إذا عاد مُفـلـسـاً

 

تجنّت، وأبدت جانب الهجر والصَّدّ

فقولا لمن يخوى القيان تفـهّـمـوا

 

مقالي، فإني قد نصحتُ لكم جَهدي

 وأنشدني بعض المحدثين لنفسه:

 

يا صاح إن القِيان للغَمَـر ال

 

غِرّ شباكٌ يَصدنَ بالـمَـلَـقِ

يهوين هذا، ويشتـكـين لـذا

 

وجداً ويرمقن ذاك بالـحَـدَقِ

حتى إذا ما اقتنصْن ذا حُمـقٍ،

 

مستهتراً واستمال لـلـوَمَـق

نفضْنه، واستلخْـنَ جِـلـدتـه

 

سلخاً بطيب الدلال والفَـنَـق

وصار كالآس في غَضارتـه

 

صِفراً، بلا طارفٍ من الوَرَق

ناولنه المِسحَ ثم قُـلـن لـه:

 

جئنا به في البياض كالـيَقَـقِ

وأنشدني بعض الكتّاب لفضل الشاعرة:

 

يا حَسَن الوجـه، سـيِّء الأدب،

 

شِبتَ، وأنت الغلام بالـلـعـب

يا ويك إن القيان كالـشَّـرك ال

 

منصوب بين الغُرور والعَطَب

لا يتصـدّين لـلـفـقـير، ولا

 

يَرمقن إلا معـادن الـذهـب

يلحـظـن هـذا وذا وذاك وذا،

 

لحظَ محبٍّ بطَرف مكتـسِـبِ

بينا تشكّى إليك، إذا خـرجـت

 

من زَفَرات الشكوى إلى الطَّلَب

وأنشدني أحمد بن غزال لنفسه:

 

إذا تعرّضـتَ لـلـقـيان،

 

فمثّل الفقْـرَ بـالـعِـيان

واعزم على فلسةٍ أسـافـاً،

 

امض من طعنة السـنـان

كم من تُراثٍ ومـن تـلـيدٍ

 

وطـارفٍ وادّخـار تـانِ

أتلفه مُتـلِـفٌ عـلـيهـم،

 

بالجَذر والبذل والتـوانـي

ما زال يصبو إلى خَلـوبٍ،

 

تغنى به فوق كـل غـانِ

اتخـذَتـه عـشـيق مـالٍ،

 

أضحت تهاواه بالـلـسـان

حتى إذا اختلّ ثـمّ حـسّـت

 

بفقد فِعلاتـه الـحِـسـان

غنّته صوتاً لهـا عـتـيداً،

 

مُصرِّحاً ليس بالمعـانـي

قد نَفِذ الكيسُ، فاسلُ عنـي،

 

واشتقْ، إذا اشتقتَ، بالأماني

وأنشدني أيضاً:

 

ومُسمِعةٍ غنّت، فمِلتُ بمهجتـي

 

إليها لألهو، والمُـزاج بـسـيطُ

فقالت: على اسم الله ثِقْ بمودّتي

 

وصافِ كما صافى الخليط خليط

فأعرضتُ عنها وانقبضتُ كأنمـا

 

عَلَتني لديها نَعـسةٌ وغَـطـيط

 فقالت، وقد أخجلتها لـتـغـرّنـي

 

ورقة فهمي بالـقـيان مـحـيط:

أراكَ نشيطاً للسـمـاع تـحـبـه،

 

ولستَ إلى غير السمـاع نـشـيطُ

فقلت: تُراني، ويكَ، أعشـق قـينةً

 

لها كـل يومٍ صـاحـبٌ ورَبـيطُ

إذا خرجَت من مجلسٍ، وتبـدّلـت

 

سواه بـديلاً أوّلـون نَـبـــيطُ

وإن ذُكروا قالت ومن كان حـائكٌ،

 

وأخر منكود الـمـعـاشِ يَخـيطُ

لعمركِ ما تهـوين إلا دراهـمـاً،

 

ومن دونها حَزْمٌ عـلـيّ سَـلـيطُ

وإني، ورب البيت، واللـه راحـم،

 

أفكّر فـيه هـل هـواه قـمـيط

بعيني لينجُ قبل يَنـفُـضَ ريشـه،

 

وقبل يراه الناس، وهـو سـقـيطُ

هو أنا هوىً يزوي عن المرء نِعمةً،

 

ويَترك ربَّ القوم وهو حَـطـيط

فيعشقنا من فـي يديه بـضـاعةٌ،

 

سفيفٌ، إذا بان الرجـا، وشَـريطُ

وقال أيضاً في قصيدة له:

 

حتى إذا صارت ولّت الدراهم غنّت

 

ه وقد أزمعتْ على الانـقـطـاع

أُسلُ عني، فلستُ أصلح للـضـي

 

ق، ولا يَحسُنُ الهوى بـالـجِـياعِ

عندنا يأكُلُ الـمـفـرِّط كـفّـي

 

ه ويأوي إلى أخـسّ الـبِـقـاع

وأنشد للحَكَمي في مثل ذلك:

 

قولا لمن يعشـقـه قـينةٌ

 

يستفّ حُزناً قبل إفلاسـه

فقد ثوى في كفّهـا نـيّةٌ

 

مُسرعةٌ في قَلع أضراسه

تواصلُ العاشقَ، حتـى إذا

 

ما أخذ العشق بأنفـاسـه

ولّت بغدرٍ، وقُرونُ الفتى

 

تهتزّ بالكَشْخِ على رأسـه

ومن أحسن ما قيل في ذلك قول الشاعر:

 

ما للأحبة في التـخـشُّـع عـارُ،

 

فاخشع وإن حافوا علـيك وجـاروا

سقياً ورعياً لـلـذين تـحـمّـلـوا،

 

ونأوا، وما شُـدّت لـهـم أكـوار

لكنّهم غدروا بعهدك في الـهـوى،

 

وأخو الـقَـطـيعة جـائرٌ غـدّارُ

ما إن يُلبوا إن جَفـوكَ وعـرَجـوا

 

نحو المدينة أوطـنـوا، أو سـاروا

لا بل أشدهمـا عـلـيك مـصـيبةً

 

أنْ يفعلوا بـك إذ هُـمُ حُـضّـار

لا تعتبنّ على القـيان، ولا عـلـى

 

زهو القـيان، فـإنـهـن تـجـار

قدّمْ لهنّ مَـلاهـياً ومَـضـاربـاً،

 

ومَلاوياً يحـظـى بـهـا الـزُّوّار

إن كنتَ صاحب لُـطـفةٍ وهـديةٍ،

 

فلك الهـوى مـنـهـنّ والإيثـار

أو كنت صاحب كيف أنت؟ ومرحباً!

 

فارحل فعيشُك عـنـدهـنّ بَـوار

لا بدّ مـن شـيءٍ، وإلا لـم يكـن

 

لك ثـم إقـبــالٌ، ولا إدبـــار

لو كنتَ يوسُفَ في الجمال، فـإنـه

 

ما مثـلـه فـي حُـسـنـه ديّارُ

ثم امتنعتَ من الـهـديّة أنـكـروا

 

منك الـذي لا يُنـكـر الأحـرارُ

عندي من الفـتـيات خـبُـرٌ بَـيّنٌ،

 

ومـن الـهـديّة مُـسـنَـدٌ آثـار

زار ابـنُ أحـمـر ذات يومٍ قَـينةً،

 

في فـتـيةٍ لـهـمْ نـدىً ووقـار

حتى إذا غنّـتـهـمُ وسـقـتْـهُـمُ،

 

وتجاوبت فـي كـفّـهـا الأوتـارُ

قالت لأولهـم: أمـا لـك ضـيعةٌ؟

 

فأجابها: إني فـتـىً سـمـسـارُ

قالت: فأهد لنا إزاراً مـعـلَـمـاً،

 

فأبـو فـلانٍ مـا عـلــيه إزار

ثم انثنت لسـؤال آخـر مـنـهـمُ:

 

أصدق! فقال مجيبـهـا: عـطّـارُ

قالت: فليس يهمُّـنـا مـا زرتـنـا

 

أدهاننا والـقِـسـط والأظـفـار

وإذا ابن أحمر قد أعـدّ جـوابـهـا

 

حذر السؤال كـأنـه قَـسـطـار

ثم انثنت لسـؤالـه، فـأجـابـهـا:

 

لا سوق لي، لكـنّـنـي حـفّـار

فإذا هممْتَ بحفر قبرك، فابعـثـي

 

بقُضيِّبٍ كي أعـرف الـمـقـدار

فتلجلجَتَ خجلاً، وطاطت رأسهـا،

 

وأصابها عند الجـواب حـصـار

وكذا القيان، ولا أقـول جـمـاعةً،

 

فالناس في أخـلاقـهـم أطـوار

ولابن أحمر أيضاً:  

عذّبني ذو الجلال بالـنـار،

 

إن هام قلبي بذات أُسـوارِ

ولا تعشّـقـت قـينةً أبـداً،

 

حتى تراني رهين أحجـار

كم من غنيٍّ تركْنَ ذا عَـدَمٍ

 

أورثته الذلّ بعـد إكـثـار

سلبن منه الفؤاد بالنظـر ال

 

رطب، وغنجٍ وغمزِ أبصار

وبالتشاجي أتْلَفن مهجـتـه،

 

وحُسنِ لحنٍ وقرع أوتـارِ

حتى إذا ما مضت دراهمـه

 

وصار ذا فكرةٍ وتسـهـار

ناولنه المسح ثم قُلـن لـه:

 

بيِّضه بالـنـهـر بـشّـارِ

فلا تغُـرنّـك قـينةٌ أبـداً،

 

ودعْ وِصال القيان في التار

فليس في الغدر عندهـنّ إذا

 

هوين أو شئن ذاك من عارِ

وأحسن ابنُ الجهيم حيث يقول:

فأطلق يداً في بيته بـتـفـضُّـلِ،

 

وعَدِّ عن المولى، وما شئت فافعلِ

أشِر بيدٍ واغمز بطرفٍ ولا تَخَـفْ

 

رقيباً، إذا ما كنت غير مـبـخَّـلِ

وولّ عن المصباح، والحَ، وذمّـهُ،

 

فإن خمد المصباح، فادنُ وقـبِّـلِ

وسل غير ممنوعٍ وقلْ غير مسكَتٍ،

 

ونم غير مذعورٍ وقُم غير معجَـلِ

لك البيت ما دامت هداياك جـمَّةً،

 

وكنتَ مليّاً بالشراب المـعـسَّـل

تُصان لك الأبصار عن كل نظرةٍ،

 

ويُصغى إليكم بالحديث المقـاقَـلِ

واعلم أنه لا وفاء لهن، ولا حفاظ عندهن، ولا يدُ من على ودّ، ولا يفينَ لعاشقٍ بعهد، وهواهن مشتركٌ، وحبهن مقتسَمُ. وقد أنشدني بعض الأدباء:

 

استخبرا زينبَ عن قولـهـا

 

في رجـلٍ يعـبُـدُ ربّـيْنِ

أذاك منـه حـسـنٌ جـائزٌ،

 

أم ليس يرضى اللـه دينـين

حسبك يا زينبُ من هُجـنةٍ،

 

يُستزرق الدهر على اسمين

فلا تُريدي جمـع هـذا وذا،

 

فالغمد لا يجمـع سـيفـين

وأنشدي الأمر إلـى واحـدٍ،

 

ولا تكوني ذات بـعـلـين

لا يحمل المنبـر ردفـاً، ولا

 

يصلح مِلكـاً بـين اثـنـين

وعادة السوء، إذا استحكمـت

 

على امرئٍ شرٌّ من الـدين

لستُ، وإن كان الهوى غالبي،

 

أقنعُ بالشين علـى الـشـين

يحلُبُ غيري، وأكون الـذي

 

يرضى من العَنز بقـرنـين

 وأحسن أبو ذؤيب حيث يقول:

 

تريدين كيما تجمعينـي وخـالـداً،

 

وهل يُجمع السيفان ويحك في غمد

وكنتِ كرقراق السراب، إذا جرى

 

بقومٍ، وقد بات المَطيُّ بهم تخـذي

وقال آخر:

 

ألا يا عاشق القينـات جـهـلاً،

 

أردتَ بأنْ تكون أبا البُـغـولِ

أترضى للهوى من ليس يرضى،

 

على ضيق الهوى، ألْفيْ خليلِ؟

 ولي سهوى القيان بمحمودٍ عندي، ولا عند ذوي الأدب، وأهل النُّهى والأرَب، ولا لأكثرهم ميلٌ إليه، ولا حرصٌ عليه، وإن كان قد أنشدني صديقٌ لي قوله فيهن:

 

زعموا خلّة القِـيان غُـرورُ،

 

كلُّ زعمٍ من المـقـالة زورُ

قسماً لَلْقيانُ بالعـهـد أوفـى

 

من جوارٍ تضُمّهنّ الخُـدور

إنما زخرف المفالـيس هـذا

 

حين قلّت صحاحُهمْ والكسور

أهل هذا الزمان أطرى من الآ

 

س، وكلُّ مموَّهٌ، مـسـتـورُ

واحتجّ في ذلك بأنّ هوى القيان، على ما فيهن من العيوب، أسرع إلى النفوس، وأوقع في القلوب، وأعْلَقُ بالأرواح، وأخلقُ للنجاح، وهن أقرب أملاً، وأقلّ عللاً، والظفر بهنّ أسرع من الظفر بربّات الخدور، والمحتجبات وراء الستور، وأنهن مزوراتٌ، وأولئك معدومات، وزعم من طلب القينة الجَدْوَ لمولاها من عشقها وكثرة مؤونتها عليه، وطلبها لِما لديه ومسألتها الهدايا، واللُّطَفَ، والبرّ، والتحف، إنما هو من رغبتها في هواه، وميلها إلى رضاه، ولأنها تؤثره على العالمين، وتشتهي قربه دون سائر المحبين، لأنه إذا وافى جدوها من عند عشيقها مع تتابع ألطافه، وكثرة برّه وإسلافه، رغب المولى في صفائه، وطمع في استصفائه، فأخْلاها معه الأيام الكثيرة، والليالي المتتابعة؛ فهذه جملةٌ من القيان لمن عشق، ورغبةٌ فيمن ومَقَ، وليس ذاك عندنا كذلك، وإنما هي حيلة ممن احتجّ لهنّ بالوفاء، وهم معروفاتٌ بالغدر والجفاء، ولو كان ذلك كما زعموا، لم تتغير له عند اختلاله ولا قلَتْه عند إقلاله، بل كان يكون منها عند ذلك الإسعاف على هواه، والمؤاساة في نفسها في الحياة، ولكن هو كما قال المؤمَّل بن أميل:

 

والغانيات كذاك هن غوادرٌ

 

أبداً، حبالُ وصالهنّ تُجذَّمُ

يخلبن بالنظر الفتى، ويَعِدنه

 

نيلاً، ودون عداتهنّ الأنجمُ

 وكما قال بشار بن بُرد:

 

فوالله ما أدري، وكلٌّ مصيبةٌ،

 

بأي مكيداتِ النسـاء أكـاد

غُرور مواعيدٍ كأنّ جَداءهـا

 

جَدى بارقاتٍ مُزْنُهنّ جَمـادُ

 ومع ذلك، فلا نفاق للشيوخ عندهن، ولا لذوي القبح والعُدْم مطمع لديهن، على أنهن يحتملن القبح والشيب مع اليَسار، ويكرهنهما مع الفقر والإقتار، فإذا اجتمع القبح والشيب مع الإفلاس في أي إنسان كان من الناس، فليس عندهن مطلب، ولا لديهن سببٌ، ولذلك قال العَطَوي:

 

تاهت عليّ بحُسنها وجمالـهـا

 

وتقول لي: يا شيخ أنت مخادِعُ

شيخٌ، وإفلاسٌ، وقُبحٌ ظـاهـرٌ،

 

أطمعتَ فينا؟ أخْلفَتْكَ مطامـعُ

فأجبتها: الإفلاس يُذهبه الغِنـى

 

والشيب يُذهبه الخِضاب الناصع

قالت: فقبحُ الوجه فيه حـيلةٌ؟

 

والقُبح ليس لـه دواءٌ نـافـعُ

يا صِدقها ما كان أوضح حُجّتي،

 

لو كان يَدفع قُبحَ وجهي دافـعُ

وقال بعض الأعراب:

 

طويلاتُ أعناقٍ، سِباطٌ أكـفُّـهـا،

 

رقيقاتُ أوساطٍ نِبـال الـمـآكـمِ

تأزّرْنَ رَملاً، وارتـدين بـحُـلّةٍ

 

من الروض، ريّا زهرها جِدُّ ناعمِ

وتَصرِفُ وُدّي نحوهن صـبـابةٌ،

 

ويصرِفن عنّي الوجه نحو الدراهم

ومثل ذلك ما رُوي عن نُصَيب أنه قال: لَقيتني بالطواف امرأةٌ دَحْداحة، مزّاحة، فقالت: أأنت نُصَيب؟ فقلت: نعم! قالت: ألستَ القائل:

 

إذا البيضُ لا يأتين في الحبّ رقةً،

 

يُعابُ، ولا يأخُذنَ في الودّ درهما

وإذاْ هنّ يُدنـين الـكـريم بـوُدّه

 

لهنّ، ويرفُضْن الدقيق الملَوَّمـا

قالت: لا أراك تكتب إلاّ درهمك فاغضض ببَظْر أمّك! من أين تمتشِط إحدانا إذن؟ وأنشدني بعض الأدباء:

 

وإذا قلتُ لها: جُودي لـمـن

 

قد براه الحب، قالت لي: أجلْ

أنت صرّافٌ، فـآتـيك لـه،

 

أم بكفّيك نقودٌ تُـحـتـمـلْ

قلت: ما تهوين إلا مـوسِـراً،

 

ذا هِباتٍ وعطـاءٍ وحُـلَـلْ

فأجابتني بصوت مـسـمَـعٍ:

 

كُفّ عنا! أنت، والله، مُـقِـلّ

أيها الناس! ألا أخـبـركـم؟

 

ليس للحب مع الفقر عمـلْ

 ولقد أحسن أبو الشيص حيث يقول:

 

حسَرَ المَشيبُ قِناعه عن رأسه

 

فرمينه بالصدّ والإعـراضِ

ثِنتانِ لا تصبو النساء إليهمـا:

 

حَلْيُ المشيب وحُلّةُ الإنفاضِ

فوعودهنّ، إذا وعدنك، باطلٌ،

 

وبُروقهنّ كَواذِبُ الإيمـاضِ

 وروى عمر بن شبة عن موسى بن إسماعيل المِنقري قال: كان المُخَبَّل السعدي يعشق امرأةٌ من قومه، فأتلف عليها كلّ ما يملكه، حتى صار يبيع البَعر، فأتاها يوماً، فزبرته وطردته، فانصرف وأنشأ يقول:  

إذا قلّ مالُ المرء قلّ صديقه،

 

وأومَت إليه بالعيوب الأصابعُ

وقال الأصمعي: عشق رجلٌ امرأة، وأظهرت له مثل ذلك، فبعثت إليه يوماً تستهديه مالاً، فتعذّر عليه، ووجّه بنصف ما طلبت، فغضبت وهجرته، فكتب إليه:

 

يا أيها الغضبان أن سامني

 

ما مثله ثِقلٌ على الموسِرِ

فجّدتُ بالنصف له كاملاً،

 

فقال ليس الحب للمقتِـرِ

هبني غريماً لك يا مُنيتي،

 

ما يُقبل النص من المُعسِرِ

 فكتبت إليه:

إن كنتَ في حالك ذا عُسرةٍ،

 

فدع طِلاب الشادن الأحور

ما إن منحناك الذي نلـتـه،

 

دون ذوي البهجة من معْشَرِ

إلا لتقضي حاجتي كلّـهـا

 

في حال ذي العُسرة واليُسُرِ

وقال الأخطل يصف نفورهن عن المشيب، وغدرهن بالكهول والشيب:

 

وإذا دعونك عمّهُنّ، فإنـه

 

نَسَبٌ يزيدك عندهنّ خَبالا

وإذا وعدنك نائلاً أخلفْنَـه،

 

ووجدْتَ عند عِداتهمّ مِطالا

 وقال القَطامي أيضاً:

 

وإذا دعونك عمّهنّ فلا تُجب،

 

فهناك لا يجد الصفاء مكانا

وإذا رأين من الشباب لُدونةً،

 

فعسى حبالك أن تكون مِتانا

 وقال جرير:

رأت مرّ السنين أخذن منـي،

 

كما أخذ السِّرارُ من الهـلال

فقالت: فيم أنت من التصابـي،

 

متى عهدُ التشـوُّق والـدلالِ

فما ترجو، وليس هوى الغواني

 

لأصحاب التنحنح والسُّـعـال

 وقال أيضاً:

وإذا الشيوخ تعرّضوا لمودّة،

 

قلن: التراب لكلّ شيخٍ أدْرَدا

تلقى الفتاة من الشيوخ بليّةً،

 

إن البليّة كلّ شـيخٍ أرْمـدا

 وقال امرؤ القيس:

أراهنّ لا يُحببن من قلّ مالـه،

 

ولا مَن رأين الشيب فيه وقوّسا

 وأنشدني بعض الكتّاب لأبي الشبل:

عذيري من جَواري الـح

 

يّ، إذ يرغبن عن وصلي

رأين الشـيب قـد ألـب

 

سني أبّـهةَ الـكـهـلِ

فأعرضـن، وقـد كـنّ،

 

إذا قيل: أبو الـشـبـل

تساعين، فـرقّـعـن ال

 

كُوى بالأعين الـنُّـجـلِ

 وأنشدتُ لغيره:

رأين الغواني الشيب لاح بعارضي،

 

فأعرضْن عني بالخدود النواضِـرِ

وكنّ إذا أبصرتني أو سمعـن بـي

 

سعين، فرقّعن الكُوى بالمَحاجِـرِ

 وهن على ما فيهن من سُرعة الملل، وما طُبعن عليه من البدل، متمكّناتٌ من القلوب، مُبَرَّآتٌ عند محبّتهن من العيوب.


وإن من محمود مذاهب الظرفاء الميل إلى مغازلة النساء ومداعبة القينات، وحبّ النساء عندهم من حسن الاختيار، وهو أشبه بمذاهب ذوي الأخطار، وليس هوى الغِلمان عندهم بمحمودٍ، ولا هو في سيرهم موجود، وإنما آثروا هوى النساء على الغلمان، ومدحوهن بكل لسان، لمليح براعتهنّ، وتكامُل مَلاحتهن، وعجيب شكْلهن، وبديع دلّهنّ، وفيهنّ أيضاً خِصالٌ محمودةٌ، ومَلاحة موجودة، إن عُدمت من الجمال وُجدت في العقل، وإن عُدمت من العقل وُجدت في الدلال، وروائحهن أذكى، وهواهن للقلوب أنكى، والعشق بهن أليق، وهنّ للرجال أوفق، وقد قال بعض الشعراء في ذلك وملُح:

 

أحب النساء وذكْر النـسـاء،

 

ويُعجِبُ قلبي لذيذ الـغـنـاء

وهل لَذّة العيش إلا النـسـاء،

 

وحسن الغناء، وشُربُ الطلاء

 وقال الفرزدق:

منع الحياة من الرجال وطيبها

 

حَدَقٌ يُقلّبها النساء مِـراضُ

وكأن أفئدة الرجـال إذا رأوا

 

حَدَقَ النساء لنَبلها أغـراضُ

 وقال دِعبِلُ بن علي الخُزاعي:

أَحَبُّ ذخيرةٍ، وأحبُّ عِلقٍ

 

إليّ الغانيات، وإن غنينا

وكلّ بُكاء ربعٍ، أو مَشيبٍ

 

نُبَكّيه، فهنّ به عُنـينـا

 وقال بعض الأدباء:

فلو أني رأيتُ النـاس يومـاً،

 

ووُليبتُ الحكومة والخِصامـا

لقرّت عين من يهوى الجَواري،

 

وعاقبتُ الذي يهوى الغُلامـا

سألتمَ أيُّمـا أحـلـى حـديثـاً،

 

وأطيب، حين تعشَقه التزامـا

أجاريةٌ مـنـعَّـمةٌ رَداحٌ،

 

تزيدك للغرام بها غرامـا

أو امردُ منتن الإبطين منه،

 

له رمحٌ كرمحك حين قاما

يُريدك للدراهم لا لـحـبٍّ،

 

وتلك تذوب من كلفٍ سَقاما

 وأنشدني علي بن العباس الرومي لنفسه:

نيكك الغِلمان مـا أم

 

كنك النسـوان أفْـنُ

إنما يُمشَقُ في الظـه

 

ر، إذا ما أعوز بطنُ

 وما رأينا أحداً من العرب المتقدّمين والشعراء المفضَّلين صمّدوا في أشعارهم إلى غير ذكر النساء ولا صدّروا قصائدهم إلا بالتشبيب بوصف النساء، هذا حسّان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:

 

يال قومٍ! هل يَقتل المرءَ مثلي،

 

واهنُ البطش والعِظامِ، سؤومُ

همُّها العطر والفِراش، ويعلو

 

ها لُجينٌ، ولؤلؤٌ مـنـظـوم

لو يدبّ الحوليُّ من ولـد الـذَّ

 

رّ عليها لأندبتهـا الـكُـلـوم

 وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينصب له مِنبراً في مسجده، ويدعو الناس إلى استماع شعره، وهو يشبّب في قصائده بهذا وما أشبهه من ذكر النساء، وهذا كعب بن زهير ينشد النبي، صلى الله عليه وسلم، في مسجده:

 

بانت سعاد، وقلبي اليوم مَتبولُ،

 

مُتيَّمٌ عندها لا يُفدَ مـغـلـولُ

أكرمْ بها خُلّةً لو أنها صدقـت

 

موعودها ولو أن النُّصح مقبول

 ويمدح النبي، صلى الله عليه وسلم، في قصيدته هذه، فيقول فيها:

 

إن الرسول لَنورٌ يُستضاء بـه،

 

وصارمٌ من سيوف الله مسلول

 والنبي، صلى الله عليه وسلم، يومئ إلى الناس في مسجده أن اسمعوا شعره، ولو كان ذكر النساء في الشعر منكراً، لكان النبي، صلى الله عليه وسلم، أوّل من أنكره، ولو كان ذكر غير النساء أولى بالتقدمة في الشعر من ذكرهن لكان النبي، صلى الله عليه وسلم، أول من أمر بذلك واستقبحه، ولو كان أيضاً في الشعر ذكر النساء من الرفث والفُحش والخنى لكان ما قيل في رسول الله من المديح أحقّ بأن يُسقط منه ذكر القبيح كما أُسقط ذكر الذكورة ووصفُ نعشّقهم من هذه الأشعار ومن نظائرها، من مديح ذوي الأخطار، وما وجدت ذلك في شيء من أشعار المتقدّمين وإنما عُرف الآن في شعر المُحدَثين، وأين ظَرف النساء وحسنهن من غيرهنّ، وأين ملاحة سَلامهن، وحلاوة كلامهن، ومستحسن مداعبتهن، ومحبوب معاتبتهن، ومليح مراسلتهن، لا سيما إن شُبْن هواهن بالغَيرة على محبيهن، والتدلل على متعشقيهن، وصددن من غير زلل، وهجرن من غير ملل، وهنّ والله في كل أحوالهن القاتلات بأفعالهن، وصالهن خَتلٌ، وصدُّعن قتلٌ، وهن المالكات للقلوب، السالبات للعقول، إذا خلون موحْن، وإن ظهرْن نظرن، فقتلن بلحظ عيونهن، وصرعن بكسر جفونهن، وأحيين بقولهن الكاذب، ووعدهن الخائب، فلا شيء أحسن من مطْلهن، ولا ألذ من خُلف وعدهن، وقد استحسنت الشعراء ذلك منهن، ومدحته في كثير من الأشعار فيهن.

 أخبرني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عيّاش السعدي عن أبيه عن جده قال: حدثني السائب راوية كُثيّر قال: كان كُثيّر رجلاً مذنوباً، لا يستقرُّ في مكان، فقال لي ذات يوم: اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده، فأتيناه، فاستنشد ابن أبي عتيق كُثيّراً فأنشده:

 

أبائنةٌ سُعدى؟ نعم سـتـبـين،

 

كما انبتَّ من حبل القرين قرينُ

أأن زُمّ أجمالٌ، وفارقَ جـيرةٌ،

 

وصاح غُراب البين أنت حزينُ

كأنك لم تسمعْ، ولن ترَ قبلـهـا

 

تفرُّق أُلاّفٍ لـهـن حـنـينُ

حنينٌ إلى أُلاّفهـنّ، وقـد بـدا

 

لهن من الشكّ الـغـداة يقـينُ

حتى إذا بلغ إلى قوله:

 

فأخلفن ميعادي، وخُنّ أمانتي

 

وليس لمن خان الأمانة جينُ

 قال ابن أبي عتيق: أو على الدين صُحبتهن، يا ابن أبي جُمعة، ذلك أملح لهن، وأدعى للقلوب إليهن، عبيد الله بن قيس الرًّقيّات أشعر منك حي يقول:

 

حبذا الإدلال والـغـنُـجُ،

 

والتي في طرفها دَعَـجُ

والتي إن حدّثت كذَبـت،

 

والتي في وصلها خَلَـجُ

وترى في البيت صورتها،

 

مثل ما في البيعة السُّرج

خبّروني: عل على رجلٍ

 

عاشقٍ في قبلةٍ حـرجُ

فقال: لا! إن شاء الله، وانصرف. وقال القطامي يستحسن ذلك من أفعالهن، ويصف مَلاحة اعتلالهنّ:

 

وأرى الغواني إنما هي جنّةٌ،

 

شبه الرياح نلوِّن الألـوانـا

وإذا حلفن فهن أكذب حالفٍ

 

حَلِفاً، وأملح كاذبٍ إيمـانـا

 وقد أحسن محمود الورّاق حيث يقول:

 

اصطبح كـأس شـراب،

 

واغتنبق كأس تَصابـي

واجعل الأيام قَـسـمـاً

 

بين عـتـبٍ وعِـتـاب

ووصـالٍ، اهـتـجـارٍ،

 

وبُـعـادٍ، واقـتـرابِ

واجتـنـابٍ فـي دُنـوٍّ،

 

ودنوٍّ فـي اجـتـنـاب

ورسـولٍ بـكـتــابٍ،

 

وانتـظـار لـجـوابِ

وقُنـوعٍ مـن حـبـيبٍ

 

بالمـواعـيد الـكِـذاب

ليس في الحب ولا الصب

 

وة حـظّ لـلـصـوابِ

 وقال بعض المحدثين:

 

ليس يُستحسن في حكم الهوى

 

عاشقٌ يُحسِن تأليف الحججْ

بُني الحبّ على الجَور، فلـو

 

أنصف المعشوق فيه لسَمُجْ

 وقال آخر وأحسن في قوله:

 

ألا إنني راضٍ بما حكمت جملُ،

 

وإن كان لي فيه البليّة والقتـلُ

فكرّوا عليّ العذل فيها، فإننـي

 

رأيتُ الهوى فيها يُجدّده العذلُ

وما جئتها يوماً لبذلٍ رجـوتـه

 

لديها، فأخشى أن يُعيّره البخـلُ

 ومن ذلك قول جميل بن معمر العُذري:

 

ولستُ على بذل الصفاء هويتها،

 

ولكن سبتني بالدلال مع البخل

 وقال أيضاً:

ويقلن: إنك يا بُـشَـين بـخـيلةٌ،

 

نفسي فداؤك من ضنينٍ بـاخـل

ويقلن: إنك قد رضيتَ ببـاطـلٍ

 

منها، فهل لك في اعتزال الباطل

ولَباطلٌ ممن ألـذُّ وأشـتـهـي،

 

أدنى إليّ من البغيض الـبـاذل

 ودخلتْ عزّةُ على هشام بن عبد الملك بن مروان، فقال: يا عَزّة! أتعرفين قول كُثيّر:

 

وقد زعمت أني تغيّرتُ بعدها،

 

ومن ذا الذي، يا عَزَّ، لا يتغيّرُ

تغيَّر جسمي، والخليفة كالـذي

 

عهدتِ، ولم يُخبر بسرّك مخبِرُ

 فقالت: ما أعرف هذا ولكني أعرف قوله:

 

كأني أُناجي صخرةً، حين أعرضَت،

 

من الصمّ لو يمشي بها العُصم زلّتِ

صَفوحٌ، فما تلـقـاك إلا بـخـيلةً،

 

فمن ملّ منها ذلك الوصل مـلّـتِ

 وأنشدني أحمد بن عبيد لرِفاعة الفَقْعسي:

 

ألم تعلـمـا أمْ لا، وكـل بـلـيّةٍ

 

من الدهر يفنى بؤسها ونعيمهـا

ولم تجدا بلـجـاءَ إلا بـخـيلةً،

 

وإن أيسرتْ واحتاج يوماً غريمها

 وأنشدني محمد بن يزيد لكثيّر عزّة:

 

وكم من خليلِ قال لي: هل سألتها؟

 

فقلت: نعم! ليلى أضـنّ خـلـيلِ

وأبعده نيلاً، وأسـرعـه قـلـىً،

 

وإن سُئلت نيلاً، فـشـرُّ مـنـيلِ

 وأنشدني أحمد بن يحيى لجميل بن معمر العُذري:

 

وهجرك من تيما بلاءٌ وشِقـوةٌ

 

عليك مع الشوق الذي لا يُفارق

ألا إنها ليست تجود لذي الهوى،

 

بل البخل منها شيمةٌ وخَـلائقُ

 وأنشدني ابن أبي خَيشمة لعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود:

 

وزادك إغراءً بها طول بخلهـا

 

عليك وأعرى لحم أعظُمك الهمُّ

 ومثله قول الأحوص بن محمد الأنصاري:

 

وزادني كًلَفاً بالحب أن مَنَـعـت،

 

أحبّ شيء إلى الإنسان ما مُنعـا

كم من دنيٍّ لها قد كنت أتبـعـه،

 

ولو صحا القلب عنها كان لي تبِعا

 وقال جرير يذكر طول المَطل والخُلْف:

 

وإذا وعدنك نائلاً أخلفـنـه،

 

وإذا طُلبن لوين كلّ غـريمِ

يرمين من خَلَل الستور بأعينٍ

 

فيها السقام وبرءُ كل سقـيمِ

 وقال أيضاً:

لعمْرُ الغواني ما جزين صبابـتـي

 

بهنّ، ولا يُحببن نسج الـقـصـائدِ

رأيت الغواني مولعاتٍ بذي الهوى،

 

بطول المنى، والخُلف عند المواعدِ

 وقال أيضاً:

ألم ترني بذلتُ لهنّ وُدّي،

 

وكذّبتُ الوُشاةَ، فما جَزينا

إذا ما قلت جاز لنا التقاضي

 

بخلن بعاجلٍ، ومَطلن دَينـا

وقال أيضاً:

يقلن إذا ما حـلّ دينـك عـنـدنـا،

 

وخير الذي يُقضى من الدين عاجله

لك الخير لا نقـضـيك إلا نـسـيّةً

 

من الدين، أو عَرْضاً، فهل أنت قابله

وقال أيضاً:

وإذا وعدنك نـائلاً أخـلـفـنـه،

 

وجعلن ذلك مثل برق الخُـلَّـبِ

إن الغواني قد قطعن مـودّتـي،

 

بعد الصفا، ومنعن طِيبَ المَشربِ

وقال كعب بن زهير:

كانت مواعيد عُرقوبٍ لها مثلاً،

 

وما مواعيدها إلاّ الأبـاطـيلُ

فلا يغرّنْك ما منّتْ، وما وعدتْ،

 

إن الأماني والأحلام تضـلـيلُ

وقال نُصَيب:

أللبين، يل ليلى، جِمالك ترحل،

 

ليقطع منا البينُ ما كان يوصلُ

تُعلّلنا بالوعد ليلى، وتنـثـنـي

 

بموعودها، حتى يموت المعلَّلُ

وقال كثيرٌ:

وإني لأرضى من نوالك بالذي

 

لو أبصره الواشي لقّت بلابلهْ

بلا وبأن لا أستطيع وبالمُنـى،

 

وبالوعد والتسويف قد ملّ آملهْ

وقال آخر:

يا ربّ خذ لي من الملاح فقـد

 

هجن لقلبي من الهوى خَبَـلا

من اللواتي يقلن: لنْ، ونـعـم،

 

وها، وحتى، وقد، وسوف، ولا

والذي جاء في ذلك كثيرٌ يطول شرحه ويُعيي وصفه، وقد مضى من الفصل ما فيه لذوي العقل، وقد أفردنا كتاب القيان لذمّ عُظم القيان، فأغنى ما في ذلك الكتاب عن تكثير هذا الباب، فاعرفه إن شاء الله.

بمن يحسن العشق

واعلم أن الهوى، والحب، والبخل، والعشق، والغزل يحسن بأهل النعمة واليَسار، ويُزري بأهل الإملاق والإقتار، ولسنا نقول إنه محرَّمٌ على هؤلاء لإعسارهم، ولا محلل لأولئك ليسارهم، وليس بالغنى ما يُدخل أهل الجهالة في الوصف، ولا بالفقر ما يُخرج أهل الأجب من الظرف، وقد قال بعض الشعراء:

قد يُدرك الشرف الفتى، ورداؤه

 

خَلَقٌ، وجَيبُ قميصه مرقـوعُ

وليس أسباب الهوى مبيَّنة عن اليسار، والسعة، والغَناء، والبذل، والعطاء، والنفقات الغزيرة، والصلات الكثيرة، والهبات الهنيّة، والهدايا السرية، والمختلُّ المعدِمُ، والمقلّ المعسِر لا حيلة له في ذلك، فمن تعرّض للهوى، ومال إلى الصّبى، لم يحسن ذلك به لإفلاسه، وقلّة ذات يده وإقلاله، وما هلك امروٌّ عرف قدره، وأجهل الناس من عدا طوره، وقد قال بعض السخفاء بعيب بجهله على الظرفاء: ألم يُعلم أنه لا يكون لفقيرٍ، ولا يُرفع إليه طَرفٌ، ولا يقع عليه وصفٌ، والفقير مذمومٌ بكلّ لسانٍ، والغنيّ محبَّب إلى كل إنسانٍ، وأنشد قول عُروة بن الورد:

ذريني للغنى أسعى، فإني

 

رأيتُ الناس شرُّهُمُ الفقيرُ

وأحقرهم، وأهونهم عليهم،

 

وإن أمسى له كرمٌ وخير

يباعده الدنـيُّ، وتـزدريه

 

حليلته، وينهره الصغـيرُ

وقد أخطأ العائب لهم في مقاله، وتكسع في حيرته وضلالته، لأن عُروة لم يذهب إلى ثلب الأدباء، ولا إلى تعنيف الظرفاء، وإنما عنف على طول الإهمال، وحثّ على تكسُّب الأموال، وهذا مثل قول الآخر:

لعمرك! إن المال قد يجعل الفتى

 

نسيباً، وإن الفقر بالحُرّ قد يُزري

وما رفع النفس الدنيّة كالغنـى،

 

ولا وضع النفس الكريمة كالفقر

ومثل ذلك قول الآخر:

الفقر يُزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ

 

وقد يُسَوِّد غير السيد المـالُ

وكقول الآخر:

أجلَّك قومٌ حين صرتَ إلى الغنى،

 

وكل غنيٍّ في العـيون جـلـيلُ

إذا مالت الدنيا إلى المرء حَوَلـت

 

إليه، ومال الناس حيث تـمـيلُ

فهؤلاء لو يذهبوا إلى تفنيد المتظرفين، ولا الطعن على المتفننين، وكيف، والتظرّف بهم أليق، وسمةُ الظرف عليهم أصدق.

وهذا الباب قد ذكرته على جملته في كتاب "نظام التاج في صفة الأنْوِك المرزوق والظريف المحتاج" وجعلنا جملة ما مرّ في كتابنا نَصَفة بيننا وبين من زعم أن الأمر ليس كذلك.

والذي زعم أنه لا يكون للفقير ظرفٌ قد تجاوز في الجَهالة والسُّخف؛ بلى إن الظرف بذي التقلل مليح، ولكن الهوى والعشق بهم قبيحٌ، وذلك أن الفقير إن طلب لم ينل، وإن رام بلوغاً لم يصل، وإن استوصل لم يوصل، فهو كمد القلب، عازب اللب، حزين النفس، ميت الحس، ذاهل العقل، بعيد الوصل، فتركه التعرّض لما لا يقدر على بلوغ إتمامه أولى من تلبّسه بما يزيده في اغتمامه، وقد يجوز أن يكون ظريفاً بغير عشق، كما كان عاشقاً بغير فسق، لأنه لا تُهيأ له إقامة حدود العشق والظرف بلباقته، ونظافته، وتخلّفه، وتملّقه، ومداراته، ومساعدته، ولا يتهيأ له القيام بحدود العشق إذ لا مال له فيُعينه على هواه، ولا مقدرة له فتبلغه رضاه، وإن بلي بمن يستهديه ويستكسبه ويطلب بره، ويريد فضله، وهو لا يقدر على ذلك فهي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، والحسرة التي تبقى، والكمد الذي لا يفنى. فليتحرّز الأديب من الهوى قبل وقوعه في العَطَب، وليتحفّظ منه قبل طلبه التخلّص من شَركه، فلا يقدر على الهرب، وقلّ من رأيت وقع في هوىً فنجا من غُلّه، أو أمكنه التخلّص من حبله، ولن يقدر على التخلُّص من الهوى بعد الوقوع في درك البلا، إلا مالكٌ لقلبه، مانعٌ لغربه، حازمٌ في فعله، جامع لعقله، فإن الأديب إذا كان بهذه الصفة، ورأى آيات الملل، وعلامات الذُّلّ، وأمارات الغدر، ودلالات الهجر، بادر فريسته، وتخلّص مهجته، وزجر قلبه، وصرف حبّه، ولم يُقم على طول الجفاء، ولم يُعرّض نفسه لطول البلاء، ولم يستعبدها بالتذلل، والخشوع، والتضرّع، ولكنه يصرفها صرف مقتدرٍ عيوفٍ، ويمنعها منع مالكٍ عزوفٍ. وقد شرحت لك ما قيل في المُصارمة باباً لتقف عليه، يبين لك صحةً ما فيه، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.

ما جاء في مصارمة ذوي الغدر والمبادرة عند الملل والهجر

اعلم أن صبر المحب على هجر الحبيب، وتجرّعه للغُضض والتعذيب، ومعالجة الزفير والنحيب، وتقلقل لفرق الوجيب، من الهجر الظاهر والموت الحاضر. والمبادرة بالانصراف بعد تغيُّر الأُلاّف من الحزم المكين، والرأي الرصين، وإن من أحسن ما قيل في المصارمة قول زهير ابن أبي سُلمى حيث يقول:

 

ألا يالَ قومٍ للصِّبى إذا يقودني،

 

وللوصل من أسماء إذ أنا طالبهْ

فليتك قاليني، فلا وصل بيننـا،

 

كذلك من يستغنِ يُستغنَ صاحبه

 ومما يتعلق بهذا قول المتلمّس:

 

فإن تُقبلي بالوُدّ نُقبلْ بمثله،

 

وإلا فإنا نحن أنأى وأشمسُ

 ومثله قول نافع بن خليفة:

 

بآية ما قالت: غنيت بـغـيرنـا،

 

ونحن سنغنى عنك مثلاً، ونَصدفُ

 وقال آخر:

 

فإنْ تُقبلي بالوُدّ نُقبل بمثـلـه،

 

وإن تُدبري أُدبر إلى حال باليا

ألمْ تعلمي أني قليلٌ لُبانـتـي،

 

إذا لم يكن شيءٌ لشيءٍ مؤاتيا

وقال آخر:

 

فإن تُقبلي بالودّ نُقبل بمثلـه،

 

وإن تؤذيننا بالصريمة نَصرِمِ

ومثله قول عمر بن أبي ربيعة:

 

سلامٌ عليها ما أحبت سلامـنـا،

 

فإن كرهته، فالسلام على أخرى

ومثله قول الآخر:

 

وكنتُ، إذا خليلٌ رامَ صَرمي،

 

وجدتُ لديّ منفسَخاً عريضا

وأجاد أبو ذؤيبٍ الهُذلي حيث يقول:

 

فإنْ وصلت حبل الصفاء فدُم لهـا،

 

وإن صرمَته، فانصرفْ عن تحاملِ

ومثله قول إبراهيم بن العباس:

 

بقلبي من هوى البيض انصراف،

 

وتعجبني من البيض القِصـافُ

فإن أنصـفـن فـي ودّي، وإلا

 

فليس عليّ من قلبـي خـلافُ

وقد أحسن الذي يقول:

 

كم من أخـي قـد كـنـتُ آمـلـه،

 

هبّت عليه رياح الغدر، فانتـقـضـا

أهملتُه، حين لم أملـك صـيانـتـه،

 

ثم انقبضتُ بودّي مثل ما انقـبـضـا

وقلت للنفس عُدّيه فـتـىً نـوحَـت

 

به النوى أو من القَرض الذي انقرضا

فما بكَيتُ عليه، حـين فـارقـنـي،

 

ولا وجدتُ له بين الحشا مَضـضـا

وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

 

أميطي الهوى، إن شئتِ، عنّي فانقُضي

 

عهود الهوى، واسترزقي الله في سيّرِ

فلو كنتِ لي عيناً، إذاً لـفـقـأتُـهـا،

 

ولو كنتِ لي أُذناً رميتُـك بـالـوَقْـرِ

ولو كنتِ لي كفّاً، إذاً لقطـعـتـهـا،

 

ولو كنتِ لي قلباً نزعتك من صـدري

سألتكِ هل للناقضِ الـعـهـد والـذي

 

يخونُ سوى الإعراض والصّدّ والهجر

فإن شئتِ فاقْليني، وإن شئتِ فاعرضي،

 

فوالله ما أمسيتِ منـي عـلـى أمـر

         

ولقد أحسن الخليع حين يقول:

 

هويتكمُ جَهدي وزدتُ على الـجـهـد

 

ولم أرَ فيكم من يُقيم على الـعـهـدِ

فإن أُمسِ فيكم زاهداً بـعـد رغـبةٍ،

 

فبعد اختبار كان في وصلكم زُهـدي

لعمري، لقد أغضيتُ فيكم على التـي

 

تُجرّعني المكروه من غُصص الحقدِ

تأنّيتُكم بُقيا الصـديق لـتـقـصـدوا،

 

وتأبَون إلا أن تَجوروا عن القـصـدِ

تعزّوا بيأسٍ عن هـواي، فـإنـنـي

 

إذا انصرفَت نفسي، فهيهات من ردّي

أبى القلب إلا نبوةً عن جمـيعـكـم،

 

كنَبوتكم عني ففي السُّحق والـبـعـد

أرى الغدر ضدّاً للـوفـاء، وإنـنـي

 

لأعلم أن الضدّ ينبـو عـن الـضّـدّ

إذا خُنتمُ بالغيب عهدي، فـمـا لـكـم

 

تدلّون إدلال المقيم علـى الـعـهـد

صلوا، فافعلوا فعل المدلّ بوصـلـه

 

وإلا فصُدّوا، وافعلوا فعل ذي الصـدّ

فكم من نذيرٍ كان لي قبـلُ فـيكـمُ،

 

وها أنا ذا فيكم نذيرٌ لمـن بـعـدي

فوا أسفاً من صبوةٍ ضاع شكـرهـا،

 

مضت سلفاً في غير أجرٍ ولا حَمـد

وأنشدني بعض المحدّثين:

 

هجرتُ حبيباً كنتُ أحسـب أنـنـي

 

سأقضي حياتي، قبل هِجرانه، وَجدا

وذلك أني كنتُ صـبّـاً بـحـبـه،

 

أجاوز للإفراط في حبـه الـحـدّا

فقابلني من قلّة الحفظ للـسـوفـا،

 

بأن خانني ودّي، ولم يَرعَ لي عهدا

فقلتُ لقلبي بالملامة فاصطـبـر،

 

ورُمّ سلوةً تلقَى بسلوتك الـرُّشـدا

فطاوعني قلبي، فبتُّ مـسـلَّـمـاً،

 

أفتّش عن ودّي فـلا أجـد الـوُدّا

وأنشد أبو الطيب لنفسه في مثل ذلك:

 

عتبتُ علـيكـم مـرةً بـعـد مـرةٍ،

 

وأفرطتُ في التعذال، واللوم، والزجرِ

فلما رأيتُ القول ليس بـنـافـعـي،

 

ولا النهيَ مقبولاً لـديّ، ولا أمـري

زجرتُ فؤادي زجرة عـن هـواكـمُ

 

وقلتُ له سرّاً، فأصغَى إلى سـرّي:

أفقْ كم يكون الهجر ممن تـحـبُـه،

 

وهجرُ الذي تهوى أحرُّ من الجـمـر

وصبرك لو تدري على الهجر ساعةً،

 

وقد كنتَ ترجوه أحرّ من الـجـمـرِ

تَعزَّ، فإنّ الغـدر مـنـه سـجـينةٌ،

 

ولا داء أدوى من معالـجة الـغـدر

تَعزَّ، فإن اليأس يذهـب بـالـهـوى

 

ولا شيء أشفى للفؤاد من الهـجـرِ

تَعزَّ وداوِ القلب مـنـك بـهـجـره،

 

ففي الهجر، لو يأتي، شفا غُلّةِ الصدر

فطاوعني قلبي، فبتُّ أرى الـهـوى،

 

وما كنتُ فيه كالجنون، أوِ السـحـر

وأصبح قلبي فارغـاً مـن هـواكـمُ،

 

كأنْ لم يكن عاناه في سالف الـدهـر

وأضحى، وما فيه من الحب والهـوى

 

إذا قيس، مقدار العَشـير مـن الـذَّرِّ

ولقد أحسن الذي يقول:

 

وددتُك لمّا كان ودُّك خالـصـاً،

 

وأعرضتُ لمّا صار نهباً مقسَّما

ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه،

 

على كثرة الوُرّاد، أن يتهدّمـا

وقال آخر:

 

لا أشتهي رَنْقَ الحِياض، ولا التـي

 

تُخاض ويغشاها المطرَّحة الجُربُ

ولا أشتهي إلا مشـارب أُحـرزَت

 

عن الناس، حتى ليس في مائها عَبُّ

وأنشدني أحمد بن يحيى:

 

وإني لأستحيي من الـلـه أن أرى

 

رديف وصالٍ أو عـلـيَّ رَديفُ

وأشرب رَنْقاً منكِ بـعـد مـودّةٍ،

 

وأرضى بحبلٍ منك، وهو ضعيفُ

وإني للماء المخالـط لـلـقَـذى،

 

إذا كـثُـرت وُرّاده، لـعـيوفُ

ومثله قول الآخر:  

لقد زعمـت ريّاكَ أنـك غـادرٌ،

 

وأنك للشُّرب، الغَـداة، عـيوفُ

لقد كذَبت، ما إن أعوجُ بمشـربٍ

 

أُجاجٍ، وما لي في الوِصال رديفُ

 وأخبرني أحمد بن يحيى عن الزُّبير بن بكّار قال: كان نُصيبٌ يأتي خُلّةً له بالأبواء، وكان إذا أتاها رحّبت به أمها، وأكرمته وفرشت له إلى جنب ابنتها، فجاء يوماً، وعندها فتىً أصفر كأنه مُحّةٌ، يتولّج عليهم بيتهم بغير إذنٍ، ويختلط بهم اختلاطاً يكرهه نُصَيب، فوثب إلى رحله، فشدّه على راحلته، فعلقت به الجارية وقالت: ألا تَبوء عندنا يا أبا مِحْجَن كعادتك؟ فقال:

 

أراكِ طَموحَ العين، طارفةَ الهوى

 

لهذا، وهذا منـكِ وُدٌّ مـؤالـفُ

فإن تحملي رِدفين لا أكُ منهمـا،

 

فجيئي بفـردٍ إنـنـي لا أُرادفُ

 وأنشدني إبراهيم بن محمد النحوي لنفسه:

 

يا من تـوهّـم أنـنـا نَـهـواه،

 

ونذوب شوقاً إن نـأى مَـثـواهُ

كذبتْكَ نفسك في بُـعـادكَ راحةٌ

 

إن كنتَ ممن مُهجتـي تَـسـلاهُ

لا يجمع القلب القـريح صَـبـابةً

 

وتـأذّياً مـنـه بـمـن يهـواه

لكنْ، إذا حلّ الأذى صَرَفَ الهوى،

 

فانزاح عن قلبِ المحـبّ هـواه

ومثل ذلك قول أسماء بن خارجة الفَزاري:

 

خذي العفوَ مني تستديمي مـودّتـي،

 

ولا تَنطقي في سَورتي حين أغضبُ

فإني رأيتُ الحبّ في القلـب والأذى

 

إذا اجتمعا، لم يلبثِ الحـبُّ يذهـبُ

ومثله قول الآخر:

 

وصلْتُك لما أن رأيتُـك واصـلاً،

 

وباعدتُ حبل الوَصل لما بدا لكـا

توهّمتُ منكَ الحفظَ والرعي للهَوى

 

يكون، فلمّا أن رأيتُ فِعـالـكـا

زَجَرتُ فؤادي، واجتنبتُكَ بعد مـا

 

رأيتُ، ونحّيتُ الهوى عن إنائِكـا

فإن قال قومٌ: إن في الناس عاشقاَ،

 

سلا سرعةً يوماً، فإنـي ذالـكـا

وأنشدني غيره أيضاً:

 

منحتُكُمُ صفوَ الـمـودّة والـهـوى

 

وأفْرطتُ حتى جُزتُ في ذلك الحدّا

وأعطيتكم مني القِـياد، ولـم أكُـن

 

لأعطيه من أهوى، ولو شَفَّني وجدا

فقابلتموني ضدّ ما قد منحـتُـكُـم،

 

وما كان حقّي أن أقابـلـه ضـدّا

فقد نلتُ مما كان منّي من الهـوى

 

وآليتُ ألاّ أُخلِصَ الحـبّ والـودّا

فإن شئتُمُ جُذّوا الوِصال من الهوى،

 

وإن شئتُمُ خونوا القَطيعة والعهـدا

فإنـي بـريٌّ لا ذكـرتُ مــودّةً،

 

ولا عشتُ إلا سامريّاً كـذا فَـردا

وأنشدني أيضاً لنفسه:

 

من سلا عنكَ، فاسله،

 

لك في الناس مثلـه

لا تقولنَّ: لِمْ، وكـم،

 

وعسى، أو لعـلـه

فالعسى يعقِد الهوى،

 

والتعـزّي يحـلّـه

كلُّ حبٍّ إذا انقضـى

 

بعضه، هان كُـلُّـهُ

وأنشدني أبو عبد الله بن مُسرِف لنفسه:

 

ادنُ من كلّ صاحبٍ يدنُ شِبراً

 

منك بالوصل، والوِداد ذراعا

وإذا ما نأى ذراعـاً، فـزِدْه

 

أنت بالهجر والقطيعة باعـا

ثم لا تطعننّ يومـاً عـلـيه

 

بعيوبٍ، وإن شَناك سماعـا

وهذا الباب على كثرته واتساع القول في صحّته يعزّ على الأديب فعله، ويمنعه من إتيانه شغله، لأنه لا يقدر أحد على التخلّص من الهوى بعد الوقوع في شَركه، وإشرافه على مَهول مَهْلكه، وإلا بعد همٍّ دَخيلٍ، وسُقم طويل، وفِكر قاتل، وشُغل شاغل، فتحرُّز ذوي النُّهى من الهوى بالنزوع، أولى من إعمال الحيلة في طلب التخلّص والرجوع.

واعلم أنه لا يصلح العشق إلا لأربعةٍ: لذي مُرُوةٍ ظاهرةٍ، أو ذي طاهرةٍ، أو ذي مال وساع، أو ذي أدب بارع؛ ويقبُحُ ممن سواهم لأن الفقير إذا تعدّى طوره، ورام أن يجاوز قدره، قبُح ذلك به، كما أنه يقبُح بذي الغنى ترم التعرّض لأسباب الهوى، وذلك لصغر نفسه الدنيّة، وسقوط همّته الردية، لا يمنعه من طلبه قلّة ذات يده، ولا تعذُّر الجدّ، بل فساد الطبع، وعدم الحاسّة، وموت الذات.

وبعد فإن كنا في تقدّمنا في غرض خطابنا، وفصول كتابنا، بإباحة العشق والهوى، ودعونا إليه الأدباء، وحثثنا عليه الظرفاء، وملأنا بذلك كتابنا، فإنا نُفرد للنصيحة فيه باباً يميل إليه أهل التدبير، وأهل المعرفة والتبحّر، ويرغب فيه العاقل، ويزهد فيه الجاهل، لأني أم أُخْلِه من كلامٍ منثور، وشعرٍ مشهور، فقفْ على ما أصّلتُ، يَبِن لك ما فرّعتُ، إن شاء الله.

النهي عن الهوى والتعرّض لأسباب الضنى

اعلم أنه يقبُح بالرجل الأديب، والعاقل اللبيب، أن يستخذي في هواه، ويُملِّك قلبه سواه، ويكون خادم قلبه، وأسير حبّه، لا سيما مع تغيُّر الزمان، وغدر الأحباب والخلاّن، ما يجد فيهم خليلاً صادقاً، ولا يصاحب إلا ماذقاً. ثم إن أجهل الجَهالة، وأضلَّ الضلالة، صبْرُ الفتى الأديب، على غدر الحبيب، فإنّ الصبر على الخيانة والغدر، يضع من المُرُوّة والقدْر؛ وقد قال بعض الشعراء فأحسن:

 

وإني، وإن حنّت إليكم ضمائري،

 

فما قدرُ حيٍّ أن يذلّ له قَدري

فلا ينبغي لأحد أن يذلّ لهواه، فيُشمتَ بنفسه أعداه، ولا يركُنَ إلى واحدةٍ من النساء الحرائر والإماء، فكلّهن في الغدر سواء، وما لواحدة منهن عهد ولا وفاء؛ ولقد أحسن عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر حيث يقول:

 

ألا أيّها القومُ المحـبّـون ويحـكُـم،

 

تعزّوا عن الأحباب، واحتسبوا الأجْرا

فما واحدٌ منـهـم بـوافٍ لـواحـدٍ،

 

وصاحبتي تجزي وفائي لها غَـدْرا

فلو كنتُ من صخرٍ لما كنتُ صابراً،

 

وما أنا من صخر، وما أترك الصبرا

وقد بلغنا أن ببعض بلاد الهند قوماً لا يعشقون، ويَرونه من السحر والجنون، وذلك لمن فيهم الفلسفة، ولهم الحكمة والتجربة، وزعموا أن سبب العشق سبب النوى وفيه المذلّة والعَناء، ومنه يكون السقم والضنى، وأكثر من في النساء وفاء، أسرعهنّ خيانةً وجفاء، وأعطاهن حَلْفاً وإيماناً، أسرعهن خُبثاً وسُلواناً، فيا رحمتي للأدباء، وشفقتي على الظرفاء، فما أطول بلاءهم، وأكثر شقاءهم، وأسخن عيونهم، يُبتلى العزيز منهم بالذليلة، والكثير منهم بالقليلة، والشريف بالدَّنيّة، والنبيل بالزريّة، فيطول في عشقها سهره، ويكثُرُ في أمورها فكره، وتنهلّ عليها إذا نأت دموعه، ويطول لديها إذا قرُبت خضوعه، وهي تُظهر له المحبّة، وتُبدي له الرغبة، وتحلف بالأيمان المُحرِّجات، والعُهود الموكِّدات، أنه حظّها من الآدميين، وشغلها دون سائر العالمين، وتُريه الجزَع عند الفراق، والفرح عند التلاق، فتملأ قلبه همّاً، وتورثه ضنىً وسُقماً، وهي تكاتب سواه، ولا تعبأ بهواه، لها في كل زاوية رَبيط، وفي كل محلّةٍ خليط، لم يعدُها قول الشاعر:

 

فيا من ليس يُقنعها محـبٌّ،

 

ولا ألفا نحبٍّ كـل عـامِ

أظنّكِ من بقيّة قومِ موسى،

 

فهم لا يصبرون علة طعامِ

أتيتُ فؤادها أشكـو إلـيه،

 

فلم أخلُص إليه من الزحامِ

 ولا قول الذي أنشدني قوله أيضاً:

 

الخان يعجز عن قومٍ إذا كثُروا،

 

لكنّ قلبك مثل الخان أضعافُ

في كلّ يومٍ له خمسون يعشقهم،

 

في كل شهرٍ له ألـفٌ وآلافُ

 وحكى الهيثم بن عديّ أن رجلاً من العرب هوي جاريةً، فتمسك بودّها، وركَنَ إلى محبّتها، ثم اطّلع على أنها لا تردّ يد لامِس، فقطعها، وأنشأ يقول:

 

ألا حَيِّ أطلالاً لواسـعة الـحـبْـلِ

 

ألوفٍ تُسوّي صالح القوم بـالـرَّذْلِ

فلو أن من أضحى بمنعرجِ اللِّـوى

 

إلى الرملة القُصوى بساقطة النَّعلِ

جلوساً إلى أن يَقصرَ الظّلَّ عندهـا

 

لراحوا، وكل القوم منها على وَصلِ

 ومن أكثر المحال، وأحمق المَقال، قناعة المرأة بصديقٍ، وصبرها على رفيق، أحسنُ من فيهن حالاً، وأقلهنّ أشغالاً، من لها صاحبٌ مشهورٌ، وخليل مستور، وربيطٌ تُراسله، وصديق تجامله، وإن كان ذلك لا لمالٍ، ولا لطمع وآمال، فقد كنا تقدّمنا في باب صفة القينات، وما طُبهن عليه من المكر والخيانات، أنهن يكتسبن بالهوى والعشق، ويُدارين بالتملّق والرفق، وليس بنات البيوت في الخُدور، وربّات الحِجال والقُصور، كذوات المَذْق من القينات، وكذوات التكسُّب من المتقيِّنات، فإن هؤلاء معروفات بطلب الدراهم والأموال، منسوبات إلى التكسُّب بتعشّق الرجال، لا يُقدم عليهن إلا مغرورٌ، ولا يثق بهم إلا مسحورٌ، وإنما يذهب على أهل الألباب، وأهل التظرُّف والآداب، مكر البنات المخدَّرات، والغواني المحجَّبات، اللواتي لم ترهنَّ العيون، ولم تكثر فيهن القالة والظنون، اللواتي يبذلن نفيس الأموال لمن يتعشّقْنه، وينّين من راسلنه وكاتبنه، وتزعُم أنهن وراء الحجاب، ودون الأقفال والأبواب، وأنهن لا فرج لهن إلا في المكاتبة، ولا فرح إلا في المراسلة، ولا سرور إلا في النظر من بعيد، ولا يقدرن على اللقاء إلا في الخروج في كل عيد، وأولئك اللواتي تخفُّ أمورهن، وتُعنّى سرائرهنُ، ويطمع الجاهل فيهن، ويصبو النَّزِق إليهن، ويثق بحبّهن الأحداث والأطفال، ولا يتمسّك بمودّتهن إلا الجهّال، مع أن مكرهن أخفى من الخيال، وأعظم من راسيات الجبال، تنفذ حيلهن على الرجال، ويتمكّن كيدهنّ من الأبطال، وفيما خبر الله، جل ثناؤه، في بعض القرآن، من عظيم كيدهن، ولطف حيلهن، ما يُغني عن شرح كثير من سرهن، وإن في قصة زُليخا ويوسف ما يستغني به ذوو العقل والأفهام من مكرهن القوي، وكيدهن الخفي، ولن يحترز منهن إلا المجرّب، ويتّقي منهن إلا المدرّب، فإن ذا الحِنكة، إذا كان بهن عليماً، وكان في أمورهن حكيماً، أخذ من حبّهن عفوة، وشرب من هواهن صَفوه، ولن يعلَق بهن فؤاده، ولم يملكن قياده، وذلك الحسن الحال، الرَّخيّ البال، لم تؤرّقه الغُموم، ولم تُنضجه الهموم، لا كالذي غلب عليه الشقاء، وأُتيح له البلاء، فركن إلى حبهن، ودعَته الرغبة إلى ودّهن، فتمكّن منه الهوى، وتفرّد به الضنى، وتلك لا تشعر بسهره، ولا تعبأ بفكره، وبالله أقسم صادقاً، لو حلفْتُ أنهن لا يعرفن شيئاً من الوفاء، ما حنثْتُ، ولو بحث المغرور بهن، المخدوع بحبهن، عن صحيح أخبارهن، وفحص عن مكنون أسرارهن، لوقَف على صورة غدرهن، ولَبان له جملةٌ من مكرهن، ولهنّ عليه بعد الكرامة، ولرجع على نفسه بالملامة، كما أنشدني بعض الأدباء لنفسه:

 

أوَصْلَك أرجو، بعد أن رثّ حبله،

 

لقد ضلّ سعيي، إذ رجونُ ملولا

أتوب إليك اليوم من كـل تـوبةٍ،

 

فقد هُنتَ في عيني، وكنتَ جليلا

إذا لم يجد إلفي عن الغدر مذهباً،

 

وجدتُ إلى حسن العَزاء سبـيلا

فوالله لا أرضيتُ داعيةَ الهـوى

 

إليكَ، ولا أغضبتُ فيك عَـذولا

وأنشدني أيضاً:

 

سأغدر، حتى تعجبوا من خيانتي،

 

فما ليّ ذنبٌ غير حسن وفـائي

ولولا أمورٌ عارضتَ ما سبقتني

 

إلى الغدر حقاّ، لو تُركتَ ورائي

سأُنزف دمعي حَسرةً وتنـدُّمـاً،

 

على ما مضى صَبوتي وعَنائي

وأنشدني للحسين الخليع:

 

تُراك على الأيام تنجو مسـلَّـمـاً،

 

ولستَ ترى من غـدرةٍ أبـداً بُـدّا

ألستَ الذي آليتَ بالـلـه جـاهـداً

 

يميناً، وخُنتَ الله مَوثقَـه عَـمـدا

ألا في سبيل الـلـه وُدٌّ بـذلـتُـه

 

لمن خانني وُدّي، ولم يَرْعَ لي عهدا

عدمتُك من قلـبٍ أقـام لـغـادرٍ

 

على العهد، حتى كاد يقتلني جِـدّا

ومن ذلك قول الحَكَمي:

 

ألا في سبيل الله ودٌّ بـذلـتٌـه

 

لمن لم يكن مني لمِعشاره أهلا

سوى ما إذا فكَّرتُ فيه وحدتُني

 

أفوز به أنى اكتسبتُ به عقلا

وأنشدني بعض الأدباء لنفسه:

 

توافيتَ لي، حتى حسبتُك مُغـرمـاً،

 

وأعرضتَ، حتى خلتُ نفسي مجرِما

وما لك شيءٌ منهمـا غـير أنـنـي

 

أراك ترى نقضَ المواثيق مغَنـمـا

وما كنتُ أدري كيف يصبر عاشقٌ،

 

ولا كيف يَسلى بعد أن يتـتـيّمـا

فأنقذتَني بالغدر من غمرة الهـوى،

 

وعلّمتَ قلبي الصبر، حتى تعلّمـا

ولو لم تخلّصني بغدرك لـم أجـد

 

إلى سلوةٍ، حتى القيامة، سُلَّـمـا

فلم تَرَ عيني، قبل شخصك، ظالماً،

 

تعمد أن يجبي، فأصبح منعِـمـا

فجّوزيتَ عني بالذي أنت أهـلـه،

 

فكلّ امرئٍ يُجزى بما قد تيمّـمـا

سيندم إنسانٌ لعـهـد خـلـيلـه،

 

وقلّ لمن لـم يًرْعَ أن يتـنـدّمـا

وأنشدني أيضاً:

 

يا قلب قد بان كم كلفتَ بـه،

 

فخلِّ عنك البُكاء من أثـرهْ

شغلُك بالفكر فـي تـغـيُّره

 

أعظم مما لقيتَ من حَـذَرهْ

قد يسلم العاجز الضعيف، وقد

 

تتْلَف روح القويّ من غيرهْ

وقد يفوت القريبَ مطلـبـه،

 

وقد يؤوب البعيد من سفـرهْ

فإن يُذقْكَ الوصال حسرتـه،

 

فقد جنيتَ اللذيذ من ثـمـرهْ

فارحلْ، فمن لا يحلّ مـورده

 

يُفضِ به صفوَه إلى كَـدَرِهْ

ولقد أحسن الحكَمي حيث يقول:

 

أيها المنتاب عن عُفُـرِهْ،

 

لستَ من ليلي، ولا سَمَرِهْ

لا أذود الطير عن شجـرٍ

 

قد بَلَوتُ المُرَّ من ثمـرِهْ

وأنشدني محمد بن خلف أحد الفقهاء، وأحسن في قوله:

 

إذا كنتُ لا أنفكُّ منك مـروَّعـاً

 

بغدرٍ، فإنّ الهَجرَ لـيس بـرائع

إذا خانني من كنتُ أهوى وِصالَه،

 

فلستُ بجنّات الخلود بـقـانـعِ

أبَتْ عَزَماتي أن يقود زِمامـهـا

 

إلى غادِرٍ بالعهد ذُلُّ المطامـع

فيا من به كانت حياتي حـبـيبةً

 

إليّ، ومن لولاه قلّتْ روائعـي

تَعزَّ بيأسٍ عن تذكُّر ما مضـى،

 

فلستُ لمن لم يَرْعَ عهدي بتابـعِ

وإني، وإن يَرْقَ دمعي تأسُّـفـاً

 

عليك، فما قلبي إليك بـراجـعِ

وأجود ما قيل في هذا الباب قول أبي ذؤيب الهُذَليّ:

 

فإن تُعرضي عني، وإن تتبـدّلـي

 

خليلاً، وإحداكنّ سوءٌ قُصـارهـا

فإني، إذا ما خُلَّةٌ رثَّ حبـلـهـا،

 

وجدْتُ لصُرمي، واستمرّ عِذارهُا

وحالت كحول القوس طُلّتْ وعُطّلت

 

ثلاثاً، فأعيا ردُّهـا وظُـهـارهـا

فإني قَمـينٌ أن أودّعَ عـهـدهـا

 

بحمدٍ، ولم يُرفع إلينا شَـنـارهـا

وأحسن محمد بن عبد الله بن طاهر حيث يقول:

 

ألم ترَ أن المرء تَـدوي يمـينـه

 

فيقطعها عمداً، ليسلـم سـائرُهْ

وكيف تُراه، بعد يُمناه، صانـعـاً

 

بمن ليس منه حين تَدوى سرائرهْ

فهكذا لعَمري ينبغي أن يفعل الأدباء، وبمثل هذا فليتّعِظ الظُّرفاء. وقد يجب على العاقل المتأدّب، وذي الحِنكة والتجارب، أن يجعل المرأة بمنزلة الريحانة، يتنعّم بنَضرتها، ويتمتّع بزهرتها، حتى إذا جاء أوان جَفافها، وحالت عن حالها في وقت قَطافها، نبذها من يده وألقاها، وباعدها من مجلسه وقَلاها، إذا لم يبق فيها بقيةٌ لمستمتع، ولا لذّةٌ لمتمتِّعٍ؛ ولله دَرُّ الذي يقول:

 

تمتّع بها ما ساعفَتْكَ، ولا تـكُـن

 

عليك شجاً في الحلق، حين تَبـينُ

وإن هي أعطتْكَ اللِّيانَ، فإنـهـا

 

لآخرَ من خُلاّنـهـا سـتـلـين

وإن أقسمتْ لا ينقض النأيُ عهدها

 

فليس لمخضوب البَـنـان يمـينُ

 ومثل ذلك قول النَّمِر بن تَولَب:

 

وكلّ خليلٍ علتْهُ الـرِّعـا

 

ثُ والحُبُلاتُ كذوبٌ مَلِقْ

 ومن جيّد ما قيل في هذا الباب، مما يجب قبوله على ذوي الألباب، قول الحكَم بن مَعْمَرٍ الخُضري أحدِ بني حِصن بن مُحارب:

 

وبعض الهوى داءٌ وفي اليأس راحةٌ،

 

إذا انبتّ وصلٌ أو نَبا بـكَ مـنـزلُ

وذو العقل لا يأسى على وصل خُـلّةٍ

 

إذا لم يكن يوماً علـيهـا مُـعَـوَّلُ

فلا ترضَ بالأمر الذي ليس بالرضى،

 

إذا كنتَ تعتام الأمورَ وتـفـصِـلُ

إذا المرءُ لم يحببك إلا تكـرُّهـاً،

 

فدعه، ولا يعجز عليك التـحـوُّلُ

وفي الأرض أكفاءٌ، وفيها مُراغَـمٌ

 

عريضٌ لمن خاف الهَوانَ ومَرحَلُ

وأن يقطعَ الأمرَ االذي أنت قـادرٌ

 

على جَذِّه منه، أعـفُّ وأجـمـلُ

والكلام في هذا الباب مطّرِد، والقول فيه منسَرِد، ولكن كرهتُ به إطالة الكتاب، واقتصرت على قليل من الخِطاب، وأبديتُ نصيحتي للأدباء، وأهل المعرفة والعقلاء، وأخبرت بما صحّ عندي، وبالغتَ في النصيحة جُهدي، فإن رغب فيها اغبٌ فغير مَلوم، وإن زهد فيها زاهد فغير مَذْموم. وأنا أعود إلى ذكر الظَّرف والهوى، فقد مضى من هذا الباب ما كفى.

واعلم أن للعشق سُنّةً مَقصودةً، وللظرف شرائعَ محدودة، ورأينا أربابه وأهله وطُلاّبه مُتّبعين لسُبلها، متمسّكين بحبلها، متى حالوا عنها سُمّوا بغير اسم الظرفاء عند أهل الظرف، ودُعوا إلى غير سُنّة العشّاق والأدباء، ولهم فيما استحسنوه من الزّيّ والطيب والثياب والهدايا والطعام والشراب حدٌّ محدودٌ مستحسنٌ معلومٌ، وزيُّ بين الطائفتين مقسوم، لا الرجال يتجاوزون ما حُدّ لهم إلى متظرفات النساء، ولا النساء يتجاوزن حَدّهن إلى حدّ الرجال الظرفاء، وأنا أصف لك زيَّ الفريقين من الظرفاء والمتظرفات، وأشرح لك ما عليه هؤلاء وهؤلاء من الزيّ والهيئات، إن شاء الله.

ذكر زي الظرفاء في اللباس المستحسن عند سروات الناس

اعلم أن من زيّ الرجال الظرفاء، وذوي المُروّة الأدباء، الغلائلَ الرقاق، والقُمُص السِّفاق، من جيّد ضُروب مَطارف السوسية، والكسية الفارسية، الكتّان، الناعمة النقيّة الألوان، مثل: الدَّبيقي، والجُنّابي، والمبطَّنات التاختَجِ، والخامات، ودراريع الدَّرْجَرَد والإسكندرانيّ، والمُلْحَم الخَزّي والخُراساني، ومُبطَّناتِ القوهيّ الرَّطب، وأُزُر الشَّرْب، والأردية المحشّاة العَدَنيّة، وطَيالسة المُلحَم النيسابورية، والمُصمتة الدَّبيقيّة، والجِباب النيسابورية، والمصمتة الطرازية، والوشْي السعيدية، والحزوز الكوفية، والمطارف السوسية، والأكسية الفارسية، والطيالسة التومسية االزُّرق السلولية، وكل ما أشبه ذلك وقاربه، ودنا منه وصاحبه.

وليس يُستحسن لُبسُ الثياب الشنعة الألوان، المصبوغة بالطيب والزعفران، مثل المُلحَم الأصفر، والدَّبيقي المعَنبَر، لأن ذلك من لُبس النساء، ولبس القَينات والإماء، وقد يلبسون في الفَصد، والعِلاجات، ووقت الشراب، والخَلَوات، الغلائل الممسَّكة، والقُمُص المُعنبرة، والأردية الملونة، والأُزُر المعصْفَرة، وربما استعملوها لفرشهم، لبسوها في وقت قصفهم، وتظرّفوا بها في مجالسهم، وتخفّفوا بها في منازلهم، والظهور فيها قبيحٌ بالسُّوقة والظرفاء، مستحسنٌ من أهل النعم وأبناء الخلفاء، وليس يُجيز أهل الظرف والأدب لُبس شيء من الثياب الدَّتسة مع غسيل، ولا غسيلاً مع جديد، ولا الكتّان مع المَروي، ولا البابياف مع القوهي أيضاً. وأحسن الزيِّ ما تَشاكل وانطبق، وتقارب واتفق.

زي الظراف في التكك والنعال والخِفاف

ومن زيّهم لُبس النعال الزيجية، والثِّخان الكَنْباتية، والمُشعَّرة اليمانية، والحَذْو اللطاف، والمُحتَّمة الخِفاف، ويُشرك أسودها بأحمرَ، وأصفرها بأسودَ. ويلبسون الخِفاف الهاشمية، والمكسورة الكُتّابية، زمن الأدَم الثخين، والأسود الرزين، بالجَوارب الخَزّ، والمِرعِزّي والقزّ، ويعيبون لُبس الأحمر من الخِفاف، ولُبس الدارشية الخِفاف، ويتخذون التِّكَكَ الإبريسَمية، والتِّكَك الخَزّيّة، والمطارِف القُطنية، والمنقوشة الأرمنية.

زيهم المخصوص في الخواتيم والفصوص

التختم بالعَقيق الأحمر، والفيروزَج الأخضر، والفضّة المحرَقة، والياقوت الأسمانْجوني والبَجاذي الخراساني، والمغرانيّة الحمر، والياقوتية الصُّفر، واليَمانية السود، الحسنة القُدود المِهرانية، والمضروبة المتوكلّية، ولا يتختّمون بالذهب، وليس من زيّ ذوي الأدب، وإنما هو من لُبس النساء، ولُبْس الصبيان والإماء.

زيهم في التعطر والطيب الذي من خالفه كان غير مُصيب

ومن زيّهم في التعطّر والطيب بالمِسك المَسحول بماء الورد المحلول، واستعمال العَود المُعَتبر بماء القَرَنفُل المخمَّر، والنَّدّ السلطاني، والعَنبَر البَحْراني، والعبير، والذّرائر المفتوقة بالعبائر، وسوى ذلك من الطيب لا يقرَبونه، والكافور لعلّة برده لا يستعملونه إلا من حرارة ظاهرة، أو من غالبة، أو موضوعاً على الجَمر، مخلوطاً بعبير المِسك وزَعْفران الشعر، وهو بهذه الصفة أطيب البخور، وليس البَرمكية وما أشبهها عليهم بمحظورٍ، وإنّ الجيِّد من البَرمكية ومن البَخور الذكية، وإنما يكره استعمالها المتظرّفون إذ هي مما يستعمله المتقلّلون.

وكذلك اجتنبوا ماء الخَلوق لأنه من طيب النساء، والغالية إذ هي من طيب الصبيان والإماء. ولا يستعملون شيئاً من الطيب الذَّفِر مما يبدو له لونٌ ويبقى له أثرٌ؛ وفي ذلك حديث مأثورٌ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: طيبُ الرجال ما ظهر رائحته. ومتى استعملوا شيئاً من الغالية، أو طيبِ النساء، كانت في أصول الشعر، بحيث يُشمّ ولا يُرى له أثر.

في متظرّفات النساء.. في اللباس المخالف لزيّ الظرفاء

لُبس الغَلائل الدُّخانية، والأردية الرشيدية، والشُّروب المُزَنَّرة، والأردية الطبَرية، والقصب الملوّن، والحرير المعيَّن، والمقانع النيسابورية، وأُزُر المُلْحَم الخُراسانية، والجُرُبّانات المخانِقية، والكِمام المفتوحة، والسَّراويلات البيض المذيَّلة، والمعاجِرِ السود المسَنْبَلة، ولا يَلبَسن شيئاً من التِّكَك، ولا شيئاً من المَرشوش والمطيب، ولا النقيّة الألوان، ولا من الثياب الكتّان، إلا ما كان ملوّناً في نفسه، أو مصبوغاً، من جنسه، أو مُغيَّراً بلونٍ من أجناس المُمَسَّكِ، والمُصَنْدَل وأجناس المعنبَر والمسنْبل، ليحول بالطيب عن تلك الحال، إذ لُبس البياض عندهم من زيّ الرجال، ولا يلبسن أيضاً من الثياب الأصفر والأسود والأخضر والمورَّد والأحمر، إلا ما كان الصُّفرة، والتزْريقَ، والخُضرة، والتوريد، والحمرة مثل اللاذِ، والحرير، والقزّ، والديباج، والوَشْي، والخَزّ، لأن لُبس المورَّد والأحمر والسَّنيري الأخضر، إنما هو من لُبس النساء النَّبطيّات، ولُبس الإماء المتَقيِّنات. والبياض عندهم من لُبس المهجوات، والأزرق والحداد من لُبس الأرامل والمقرَّعات. وأحسنُ الذي عندهم ما ذكرناه، وليس يتجاوز حدّ ما رسمناه.

زيهن المخالف لزي الرجال في لبس التِّكك والخِفاف والنعال

لُبس النعال الكَنْباتية المُشعَّرة، والمدهونة المخضَّرة، والخِفاف الزَّنانية، والمكسورة، والرهاوية، والتِّكك الإبريسَمية، والرجال يَشركونهن في التّكك الإبريسَمية، ولا يَشركن الرجال في التِّكَك الديباج المنسوجة، وشَرّابات الإبريسَم المفتولة، والزنانير العِراض، ولا يَذهبن في ألوانها إلى البياض، ولا ما كان كمها كثيرَ الألوان والتخطيط، ويتطيّرن من الألوان، وقد يلبسن أيضاً التِّكك الخزّيّة والمُطْرفة القُطنية.

ومن زيّهن أيضاً في الطيب الذي ليس للرجال فيه نصيب استعمال اللَّخالِخ والصّندل، والصَّيّاح والقَرَنفُل، والساهرية والأدقال، والمَعجونات، والزعفران، والخَلوق، وماء الخَلوق، والكافور، وماء الكافور، والمُثَلَّثة الخَزاشنيّة، والبرمكية السلطانية، وسائر صنوف الأدهان من البنفسج، والزنبق، والبان، إلا أنهن اجتنبن استعمال التُّرْشُتام. والرجال لا يستعملون شيئاً من ذلك، والنساء يستعملن جميع طيب الظُّرفاء، والظرفاء لا يستعملون شيئاً من طيب النساء.

ومن زيّهن المعلوم في لُبس الحَلْي المنظوم لُبس مخانق القَرَنفل المخمَّر، ومراسل الكافور والعنبر، والقلائد المفصَّلة، والمعاذات المُخرَّمة بشرّابات الذهب المشبَّكة، والإبريسَمية المسلسَلة، واتخاذ السَّبَح اللِّطاف من المخروطة الخِفاف، ومثل السَّبَج الحَلِك، والكَوهَر، والكَرك، والبُلُّور النقيُّ، وحَبُّ اللؤلؤ السَّريّ، والحبُّ الأحمر، والكارَبا الأصفرُ، وسائر صنوف الياقوت والجَوهر، وينظمن بالحبّ وصُنوف الجَوهر كرازنَهن، وينقُشن بالإبريسَم والذهب عَصائبهنّ، ويتخذن الخَواتيم المقرَّنة والمناقير المُطبَقة بفُصوص الياقوت الأحمر، والزُّمُرُّد الأخضر، والأسمانجونيّ، والأصفر، ولا يَحسُن بهن التختُّم بالمِينا والعَقيق والفضّة والحديد، والملوَّح والفِيروزَج، والبجاذيّ، والمَسانيح، وذلك من لُبس الرجال والإماء، وليس من لُبس متظرّفات النساء، ولا يتّخذن منها ما ضاق وعَسُر ما جَفا وكبُر، وقد تطيّر بعضُ الظرفاء من هديّة الخاتَم، وزعموا أنه يدعو إلى القَطيعة، وتهاداه آخرون، وأقاموه مَقام التذكِرة والوديعة؛ فأما الذين تطيّžروا منه فيُنشدون:

 

وما كان هذا الهجر من طول بغضةٍ،

 

ولكن بعض المَزح للمَرء قـاتـلُ

مَزَحتُ، لحَيني، مـرّةً بـخـواتِـمٍ،

 

لآخذةٍ، حلّـت عـلـيّ الـنَـوازلُ

فصدّت، ولم تعلـم عـلـيّ خِـيانةً،

 

وطول صُدود الخلِّ للعقل سـامـلُ

وينشدون أيضاً:

 

إني مَزَحْتُ، ولم أعلم بخاتَـمـه،

 

فكان منه ابتداءُ الهَجر والغَضَبِ

قد كنتُ ما قال أهلُ الظّرف أُنكره

 

وكان قولُهُم عندي من اللـعِـبِ

إن الخَواتيمَ فيها قطعُ مَصلـكُـمُ،

 

فقلتُ: هذا لعَمْري غايةُ الكَـذِبِ

حتى ابتُليتُ، فكان الحقّ قولهُـمُ،

 

أخذُ الخَواتيمِ فيه أكثرُ العَـطَـبِ

وأنشدني صديقٌ لي في ضدّ ذلك:

 

يقول أناسٌ في الخواتيم إنـهـا

 

تُقطِّع أسبابَ الهوىž وأقـولُ

بأنّ خَواتيم المِـلاح وَصـولةٌ،

 

وخاتَمُ من تَهوى المِلاحُ وَصولُ

 والعِلّة فيما كَرِهَه الظرفاء، وتطيّر منه الأدباء، من هديّة التِّكّة والخاتَمِ، حتى صار مستفيضاً في العالم أن هذين وحدهما من جميع اللباس إنْ يُستطرَفا فيُستلبا، ويُستحسنا فيُستَوهَبا، وأن الواحدَ إذا أهدى إلى خليله، وأرسل إلى حبيبه بخاتَمه، أو تِكّته، ففُقد ذلك من يده أو حَوزته، بعثه باعث من غَيرته على قَطيعته وهجرته، فأما من يَتَلقّى هدية إخائه بالقَبول، ويُنزلها منه بالمنزل الجليل، ويحفظّها كحفظه لبصره، ويُشفق عليها من الدهر وغيره، فهو آمنٌ من المُجانبة، مستريحٌ من المعاتبة، وقد رأيناهم ربما أهدّوا ذلك فيُهدونه على سبيل البيع، ويأخذون منهم الشيء الطفيف اليَسير، كالدرهم الصغير، والقِطعة من البَخور، فيُخرَجُ بهذا البيع عن حدّ الهديّة، ويأمنون ما فيه من مكْروه البليّة. وقد بلغني أن أبا نُواس دخل على خالد خَيْلَوَيه، فنظر في إصبعه إلى خاتَم، فقال: أرنيه، فدفعه إليه، وكان علامةً بينه وبين جاريةٍ يُحبّها، فانصرف، فاستعمل واحداً على مِثاله، ثم بعث به إليها، فأنكرتِ الفَصَّ، فبعثت به إليه، ولن تأته، فدخل على حِياله، فلما رآه مَثلَ بين يديه، وأنشأ يقول:

 

تفديك روحي، يا أبا جعفر،

 

جاريةٌ كالقمـر الأزهـرِ

تعلّقَتْني، وتعـلّـقـتُـهـا،

 

طِفلين في المَهدِ إلى المَكْبَرِ

كنتُ إليها نتهادى الـهـوى

 

بخاتَمٍ لي غير مُستـنـكَـرِ

فأنكرَتْـهُ إذ رأت فَـصَّـهُ،

 

فأدركتها غَيْرةُ المُـنـكِـرِ

قالت: لقد كان لـه خـاتَـمٌ

 

أحمرُ أهداه إلينـا سَـري

فاليوم قد عُلّقَ غيري، فقـد

 

أهدى له الخاتَمَ، لا أمتـري

آمـنـتُ بـالـلـه وآياتـه

 

إنْ أنا لم أهجُرْهُ، فليَصْبِـرِ

أو يأتِ بالحُجّة في تُهمتـي

 

إياه في خاتَمـه الأحـمـر

فاردُدْهُ تردُدْ وصلَها، إنـهـا

 

قُرّةُ عيني، يا أبا جعـفـرِ

 
فأخرجه من إصبعه فدفعه إليه. فهذا دليل على إجازة تَهادي الخواتيم، وحفظها لأربابها، وشدة الغضَب والغَيرة عند ذهابها.

فأما الطعام فعيوبه أشدّ الأشياء على الظُّرفاء ضَرراً، وهم من عيوبه أشدّ توقّياً وحذراً، لتكاثُف عيوبه، وكثرة مَعيبه، وأنا أبيّن لك زِيَّهم في ذلك، وما استحسنوه في ذلك واستعملوه، وما استقبحوه فاجتنبوه، إن شاء الله.

ذكر زي الظرفاء في الطعام الذي بانوا به عن منزلة اللّئام

اعلم أن أول ما استعملوه تصغير اللُّقَم، والتجالُل عن الشَّرَه والنهم، وأكل أوساط الرِّقاق، والبَزْماورد الدِّقاق، وليس يأكلون العَصَبة والعضلة، ولا العِرق والكُلوة، ولا الكَرِش والقِبّة، ولا الطِّحال والرئة، ولا يأكلون القَديد؛ ولا يأكلون الثريد، ولا ما في القِدر من الورق، ولا يتحسّون المرَق، ولا يتّبعون مواضع الدسم، ولا يملأون أيديهم بالزَّهَم، ولا يُجلّلون الملح، وهو عندهم من أكبر القُبح، ولا يُكوكِبون في الخلّ، ولا يُمنعون في أكل البَقل، ولا يأكلون الطَّلع لشبه رائحته برائحة الماء الدافق، ولا يُمشِّشون من العظام كراديس قصَب الساق الغليظ، وإنما مُشاشهم ما لانَ وصَغُر، لا ما غلُظ وكبُر؛ ويأخذون ما ثقُل من المُشاش على ظهر الأصابع، ويطرحونه ناحيةً من الخِوان، ولا يُزَهِّمون ما بين أيديهم من الرُّغفان، ولا يتعدّون مواضعهم، ولا يَلطعون أصابعهم، ولا يملأون باللُّقَم أفواههم، ولا يُدسّمون بكُبرها شفاههم، ولا يُقطِّرون على أكفّهم، ولا يعجلون في مضغهم، ولا يأكلون بجانبي الشِّدقين، ولا يُزاوجون بين الاثنين، ولا يُجاوزون ما بين أيديهم شيئاً من الفُتات، ولا يأكلون قِدراً بائنةً، ولا قِدراً مسخّنةً، ولا يغمسون في مرقةٍ، ولا يضعون لُقمةً، ولا يأكلون شيئاً من الكُوريج والصِّحناة، ولا الرُّبَيثاء والسُّميكات، ولا شيئاً من الكَواميخ والمالح، وأكل ذلك عندهم من الفضائح.

إلا أن القَينات المُتظرِّفات، والنساء القَصريّات، ربما تظرّفن بأكل المالح والمملوح في منازل متعشّقيهن، وبيوت مرابطيهن، فيذهبن به مذهب طَرْح المؤونات، وخفّة النفقات. ولا يأكلون الجراد والإرْبيان، لعلة شبههما بالأشياء القبيحة من الحيوان، ولا يأكلون الحبوب التي تهيّج الأرياح وتُولِّد القَرْقَرة والانتفاخ؛ ولا يأكلون في النهار أكثر من أكلةٍ، ويُكثرون القيام في مجالسهم، ولا يُكثرون من الضحك والكلام عند حضور المائدة والطعام، ولا يتخلّلون على المائدة قبل أن تَفرُغ، ولا يتحفّزون لمجيئها قبل أن تُوضع، وإذا غسلوا أيديهم لم يطلبوا الغسل قبل طلب إيتائها من الوسخ والكَدر، ولم يقصدوا التقصير الذي يبقى منه رائحة الغَمَر، وكذلك أيضاً إذا تَمَندلوا فعلوا كفعلهم إذا غسلوا.

فأما النُّفلُ فإنهم يُحضِرونه موائدهم، ويُطعِمونه ولائدهم، ولا يُكثرون من أكله، ولا يأتون على كُلّه، وإنما يعبثون منه بالشيء اليسير من النعنع، ويجتنبون من ذلك الهِندَبا والأُكشوث لبردهما، والفُجل والحُرف لنتهما، والكُرّاث والبصل لرائحتهما، والقَدّاح والحَنْدَقوقا لخشنهما، ولأنهما أيضاً يُخضّران الأسنان والعُمور، ويُحدِثان الرائحة والتغيير، ولم يقع الثوم في قِدرٍ فيذوقونه، ولا البصل فيقرَبونه، ولا يلفظون باسم الطَّرخون لابتداء اسمه، وشناعة لفظه، فيَككنون عنه، فيُضيفونه إلى النعنع، وقد سماه آخرون كافور الفؤاد، وكلّ يقصد إلى معناه.

والخسّ لا يقربونه لموضع تفقئته، والخيار لا يأكلونه لعلّة برده، والجُزر يتجلَلون عن مسّه، ولا يَرَون النظر إليه دون أكله؛ وكذلك القثّاء، والهِلْيَون؛ ولموضع النوى أيضاً رغبوا عن أكل الزيتون، ورغبوا عن أكل ما خالطه النوى من فاكهة الصيف والشتاء مثل القَسْبِ والبُسر والمُشقَّق أيضاً والتمر؛ وكذلك سائر الأرطاب والمِشمِش، والنَّبْق والعُنّاب؛ وكذلك في الخوخ، والشّاهلوج، والإجّاص، وهو عندهم من أكل العَوامّ، لا من أكل الخواصّ، ولا يَنفُقُ عندهم الرُّمّان والتين، وهذان عندهم والبطّيخ من التجين؛ خاصة إذا انشقّت الرّمّانة، وتصدّعت البطيخة، وإذا انكسرت جَوزةٌ ولوزةٌ، وتينة، وموزةٌ، ولا يدفع بعضهم إلى بعض وردةً واحدة، ولا نَبقةً واحدةً، ولا لوزة واحدة، للتسفيل، ولِما يقع فيه من التمثيل.

ولا تقول متظرّفة لأخرى هذه وردتكِ، ولوزتكِ، ونبقتُكِ، وجوزتك، ورمانتك، وتينتك، وذلك عندهم أجلّ العيوب، تشمئزّ منه القلوب، ويَجتنبونه أشدّ الاجتناب، ويكتئبون له أمرَّ اكتئابٍ.

وكذلك لا تقول واحدةٌ لأخرى: ارفعي رجلكِ، ولا ذيلك، ولا اقعُدي عليه، ولا أدخليه وأخرجيه، ولا أصعديه، ولا صُبيّه، ولا انفُخيه، ولا سيّبي، ولا سرّحي، ولا شيلي، ولا انتحي، ولا اعملي، ولا قد عملتِ، ويَجتنبون ذلك وما أشبهه من الكلام، مما كثُر استعماله في خِطاب العوامّ، ولا يَكادون يلفظون به، ولا يُطيف بألسنتهم، ولا يُجيزونه في شيء من مُخاطبتهم، ويَحذرونه، ويتوقّون منه، ويَعيبون المتكلّم به، ويُعرضون عنه.

ذكر زيهم في الشراب الذي يتخيّره ذوو الألباب

أما ما عليه الظرفاء، وأهل المروّة والأدباء، فإنهم لا يشربون من الشراب أسوده، ولا يشربون إلا أجوده، مثل المشمّس، والزّبيبي، والمعسَّل، والمطبوخ، والطلاء، والمعدَّل، ولا يقربون ما لاءمه الخثَرُ، ولا ما خالطه الكَدَر؛ ولا يشربون إلا ما صفا من الشراب، ويتجاللون عن المسحوري الدوشاب، إذ هو من شراب العامّة والرَّعاع، وشُرب السوقة والأتباع؛ ولا يتنقّلون على شرابهم بالأشياء الزَّذْلة مثل الباقلي والبلّوط، والبُسر المقلوّ، والقَريثاء، والحنطة، والغُبيراء، والشاهْبَلوط، والخُرنوب الشامي، وما أشبه من الأنفال.

وأكثر ما يتنقّل به المتظرّفون، ويعبث به المُتزيّكون، مملوح البُندق، ومقشَّر الفستق، والملح النِّفطي، والعود الهندي، والطين الخراساني، والملح الصَّنعاني، والسَّفرجل البلخي، والتفّاح الشامي، ويتّخذون من كل شيء من الآنية أسراه، ومن الزجاج أجوده وأنقاه.

وأما ما اجتنبوه من الهدايا، وتخوّفوا من هديته البَلايا، فأشياء يكثُرُ بها العَدد، ويطول بها الأمد؛ وأنا أذكر من يسيرها ما يُستدلّ به على كثيرها.

ذكر الأشياء التي يتطير الظرفاء من إهدائها ويرغبون عنها لشناعة أسمائها

فمن ذلك الأُترجّ، والسفرجل، والشقائق، والسوسن، والنَّمّام، وأطباق الخِلاف، والغَرَب، والبان. فأما الأُترجّ فإن باطنه خلاف ظاهره، وهو حسن الظاهر، حامض البطن، طيّب الرائحة، مختلف الطعم، ولذلك يقول فيه الشاعر:

أهدى له أحـبـابـه أُتـرجّةً،

 

فبكى، وأشفق من عِيافة زاجر

خاف التلوّن، إذ أتته، لأنـهـا

 

لونان باطنها خلاف الظاهـر

فَرِقَ المتيَّم من حموضة لبّهـا

 

واللون زيّنها لعين النـاظـر

وأما السفرجل فلأنّ فيه اسم السفر، وقد قال فيه الشاعر:

مُتحفي بالسفرجل،

 

لا أريد السفرجلا!

اسمه، لو عرفتَـهُ،

 

سفرٌ جَلَّ، فاعتلى!

وقال آخر:

أهدت إليه سفرجلاً، فتطيّرا

 

منه وظلّ مُتيَّماً، مستعبـرا

خاف الفِراق، لأن أول اسمه

 

سفرٌ فحقّ له بأن يتطـيّرا

وأما الشقائق، فلشطْر اسمه، ولقول الشاعر فيه:

لا تراني طَـوال ده

 

ري أهوى الشقائقـا

إن يكن يشبه الخـدو

 

د، فنصف اسمه شَقا

وقال آخر:

لا يحب الشقـائقـا

 

كل من كان عاشقا

إن نصف اسمه شقا

 

ءٌ، إذا فُهتَ ناطقا

وأما السوسن، فلأن اسمه السوء، وقال فيه الشاعر:

سُوسنةٌ أعطـيتـنـيهـا، ومـا

 

كنتِ بإعطائكها مـحـسـنـهْ

شطر اسمها سوءٌ، فإن جئت بال

 

آخر منها، فهو سـوءٌ سَـنَـهْ

وأنتِ إن هاجرتـنـي سـاعةً،

 

قلتُ: أتتُ من قبل السوسـنـهْ

وقال آخر:

يا ذا الذي أهدى لنا سوسنا،

 

وما كنتَ في أهدائه محسنا

أوله سوءٌ، فقد سـاءنـي،

 

يا ليت أني لم أر السوسنـا

وأما الياسمين فلمبدأِ اسمه تُطُيِّر منه، ولقول الشاعر:

إنـي لأذكـر بـالـريحـان رائحةً

 

منها، فَلِلْقَلب بالـريحـان إينـاسُ

وأمنح الياسمين البُغض من حـذري

 

لليأس، إذ كان في بعض اسمه ياسُ

وقال آخر:

أبصرتُه في المنـام نـاولـنـي

 

من كفّه الياسَمين والـغَـرَبـا

فكان يأسٌ في الياسمين، وفي الغ

 

رب اغترابٌ، يا شؤم ما وهبـا

وقال آخر:

أهدى حبيبي ياسميناً، فـبـي

 

من شِرّةِ الطـيرةِ وسـواسُ

أراد أن يوئِسَ من وصـلـه،

 

إذ كان في شَطر اسمه الياسُ

وأما النمّام فلشناعة اسمه، وقول الشاعر فيه:

 

حيّتُها بتحيّةٍ في مـجـلـسٍ،

 

بقضيب نمّام من الريحـانِ

فتطيّرت منه، وقالت: أقصّه!

 

لا تقربَنّ مضيِّع الكِتـمـان

وأما الآس، فقد تطيّر منه قومٌ، وزعموا أنه إياس، وتفاءل به آخرون، وزعموا أنه مؤاساةٌ وأساسٌ، قال الشاعر:

 

ما أحسن الآس في عيني وأطيبـه،

 

لولا اتصال حروف الآس بالـياسِ

ما ضرّ من كان أهدى الآس من يده

 

لو قال: ريحانةٌ، يُعنى به الآسـي

لولا الذي أتّقي من طيرتي بهمـا،

 

ما فارقا أبداً تاجاً عـلـى رأسـي

 كذلك تطيّروا من الخلاف لموضع الخُلف؛ والغَرَب للاغتراب، والبان للتبايُن. ورُوي عن كُثيّر عزّه أنه بلغه أنها عليلةٌ، وأنها تتشوّقه، فخرج يُريدها، وهي بمصر، فرأى غُراباً ساقطاً على بانةٍ ينتف ريشه، ويُطايره على رأسه، فتطيّر من ذلك، وأتى عرّافاً من نهدٍ أخبره بما رأى فآيسه من حياتها، وأخبره بوفاتها. فلما وصل إلى مصر خُبّر بموتها، فأنشأ يقول:

 

فما أعيف النهـديّ، لا درّ دَرُّه،

 

وأعلمه بالزجر، لا عَزّ ناصـره

رأيتُ غراباً ساقطاً فـوق بـانةٍ،

 

يُنتِّف أعلى ريشـه، ويُطـايره

فأما غرابٌ، فاغترابٌ من الهوى،

 

وبانٌ فبينٌ من حبيبٍ تعـاشـره

وقال أبو الشيص:

 

أشاقَك، والليل ملقي الجِـران،

 

غُرابٌ ينوح على غُضن بان؟

أحصُّ الجناح، شديد الصـياح،

 

يُبَكّي بعينين مـا تـدمـعـانِ

وفي نَعَبات الغراب اغتـرابٌ،

 

وفي البان بَيْنٌ بعيد التـدانـي

وقال بعض الأعراب:

 

وكنتُ قدِ اندملتُ فهاج شوقـي

 

بكاء حمامتـين تَـجـاوبـانِ

تجاوبتا بلـحـنٍ أعـجـمـي،

 

على غُصنين من غَرَبٍ وبانِ

فقلتُ لصاحبيّ، وكنتُ أحـرى

 

بزجر الطير: ماذا تُخـبـرانِ

فقالا: الدار جامعةٌ بسُـعـدى،

 

فقلت: بَلَ أنتما مـتـيمِّـنـانِ

وكان البان أن بانت سُلـيمـى،

 

وفي الغَرَب اغترابٌ غير وانِ

وقال نُصيب:

 

ألا راعَ قلبي من سَلامة أنْ غـدا

 

غُرابٌ على غصنٍ من البان يَنعبُ

فأزجرُ ذاك البان بيناً مُواشـكـاً،

 

وغثربة دارٍ ما تَدانى فيصـقُـبُ

 وقد استحسنوا هدايا كثيرة، وتفاءلوا فيها بقول الشاعر، وإن كان بعضها مما ذكرناه أنهم لا يتهادَونه من طريق الظرف، واجتنبوه لعلة التسفيل، وأحبوه من حُسن التفوّل، فمن ذلك الرمان، وهو مما ذكرناه أنهم لا يتهادونه لما فيه من التسفيل وما يقع فيه من التمثيل، وكذلك الشاهَلوج، والنَّبَق، والورد، والبنفسج؛ فأما الرمان فقد قال فيه الشاعر:

 

أهدت إليه بظَرفها رمّاناً،

 

تُنبيه أنّ وِصالها قد آنـا

قال الفتى لمّا رآه تَفوُّلاً،

 

وَصْلٌ يكون متمَّماً أحيانا

رمَّ يَرُمّ تشعَثي بوِصالها،

 

لقد التفوّل صادقاً قد كانا

 وأما الشاهَلُّوج، فهو مما فيه النوى، وقد تهاداه قومٌ لموضع تَفَوُّل الشاعر به إذ يقول:

 

أهدت إلـيه شـاهَـلُّـوجـا،

 

تُبيه أنْ لو جاء كان وَلـوجـا

فمضى على فأل الهدية جاسراً،

 

عَمْداً، فصار مُداخِلاً خِرّيجـا

 وأما النَّبقُ، فهو يُستقبَل، وقد قال فيه الشاعر:

 

أيا أحسننا خُـلـقـاً،

 

ومن فات الوَرى سَبقا

تفاءلْتَ بأنْ تبـقـى،

 

فأهديتَ لنا النّـبْـقـا

فأبقـاك إلـهُ الـنـا

 

س ما سرّك أن تبقى

وأشقى الله شـانـيك،

 

وحاشى لك أن تَشْقى

وأما البنفسج أيضاً، فقد قال فيه الشاعر:

 

أهدتَ إليه بنفسجاً يُسلـيه،

 

تُنبيهِ أنّ بنفسهـا تـفـديه

فارتاح بعد صَبابةٍ وكـآبةٍ،

 

ورَجا لحُسن الظنّ أن تُدنيه

وأما الخوخ، فقد أطنبوا في وصفه، وأكثروا من مدحه، وزعموا أنه أشبه شيءٍ بالخدود من التفّاح، وأقرب شبهاً بالوَجنات المِلاح، لأنه يُشاركها في البَياض والسُّمرة، والأدمة والصُّفرة، والتوريد والحمرة، والزَّغَب الليّن البَشَرة، وهو أطيب ملثَمٍ وأعذب مقبَّل، وأذكى مشمٍّ، وهو عند طائفةٍ من أهل الهوى أجلُّ مرتبةً من التُّفّاح لولا ما خالطه من النوى الذي يشمئزّ منه الظرفاء، ويَشناه الأدباء، وأنه مفقودٌ، والتفاح موجود، وأما الورد، فقد تفاءل به كثيرٌ من الظرفاء، وذكره كثير من الشعراء؛ أنشدني بعض الأدباء:

أهدى له وَرداً، فأخبـر أنـه

 

في الواردين، ولم يكن وَرّادا

فارتاح من فَرَح بطيب وفوده،

 

وعدا له وَرْدُ الحياء، فـزادا

وليس عندهم في الروض شيءٌ يشبهه، ولا في عُروض الروض ما يُدرِكه، وقد ذكرتُ ذلك في بابٍ لطيفٍ لرغبتي في اقتصاد التأليف، فقِفْ عليه، واعرِفه.

ما قيل في صفة الورد ومحلّه من قلوب ذوي الوجد

اعلم أن أهل الظرف قد أكثروا من تفصيل الورد، ومدحَته الشعراء، وقد أطنبوا فيه، وأفرطوا في نعت حُسنه، واشتهوا رائحته، حتى شبّهوه بالوَجَنات الحمر، وقايَسوه إلى الخمر، ومثّلوه بالأشياء المِلاح، كفعلهم بالتفاح، وهما عندهم في مرتبة واحدة، قال العباس بن الأحنف:

أُبغضُ الآسَ والخِلاف جميعاً،

 

لمكان الخلاف واليأس منهـا

وأحبّ التفّاح والوَرد حـتـى

 

لو وَزَنتيه بالجبال وَزَنْـهـا

أشبها ريقها ونكـهة فـيهـا،

 

فهما يُبئان بالطيب عـنـهـا

وقال آخر:

عشيّةَ حـيّانـي بـوَردٍ، كـأنـه

 

خدودٌ أضيفَت بعضهن إلى بعض

وولّى، وفعل الخمر في حركاته،

 

فِعال نسيم الريح بـالـغُـصُـنّ

وقال آخر:

يضـحـك الـوَردُ إلـــى ور

 

دٍ بـخَـــدَّيك مُـــقـــيمِ

جَمـعـا شـكـلـين وَفـقـي

 

نِ لألـحــاظ الـــنـــديمِ

غير أنّ الـمِـسـك أولـــى

 

بكِ فـي كـلّ نـــســـيمِ

سيعلم الوردُ أني غـير ذاكـره،

 

إذا الخُدود أعارت حُسنها بصري

كم بينَ وردٍ مُقيمٍ في أماكـنـه،

 

وبين وَرْدٍ قليل المَكْثِ في الشجرِ

هذا جِنيٌّ مَصونٌ في مَنـابـتـه،

 

وذاك مُمتهَنٌ في كل محتضَـرِ

وقال عبد الله بن عبد الله بن طاهر:

مرّت، وفي كفّها وردٌ، فقلتُ لها

 

حَيِّي محبَّك! قالت: عنه لي شُغُلُ

فقلت: بُخلاً، فقالت: قد وهبتُ له

 

وَرداً جَنيّاً، وذا بالكفّ يُبـتـذَلُ

إنْ كان لم يَجنه منه أنـامـلـه،

 

فقد جَنَته له الألحاظ والمُـقَـلُ

وقال آخر:

وَرْدُ خدّيك مقيمُ،

 

أبداً، ليس يَريم

أما منه في نعيمٍ،

 

ما بدا منه نعيم

وقال آخر:

تمتّعْ من الورد القليل بقاؤه،

 

فإنك لم يفجعكَ إلا فنـاؤه

وودّعه بالتقبيل والشمّ والبُكا،

 

وداعَ حبيبٍ بعد حولٍ لقاؤه

وقد تطيّر منه آخرون، وسمّوه الغدّار، وغضّوا دونه الأبصار، لقلّة لَبثه، ويسير مكثه، وسُرعة زواله، وتغيُّره، وانتقاله.
وخُبِّرت أن قَينةً أهدت إلى ربيطٍ لها غصن أسٍ، فسُرَّ به، وأنشأ يقول:

والآسُ يبقى، وإن طال الزمان به،

 

والورد يفنى، ولا يبقى على الزمن

وأهدت له ورداً تطيّر منه، وقال:

أنتِ وردٌ وبقـاءُ ال

 

ورد شهرٌ لا شُهورُ

يذهب الورد، ويَفنى،

 

وإلى الآس نصـيرُ

فكتب إليه بعض إخوانه:

سُرّ بالآس الذي أهدت له،

 

ثم لما أهدَتِ الورد جَزِعْ

ذاك أنّ الآسَ بـاقٍ دائمٌ،

 

ولأن الورد حيناً يَنقطـعْ

وقال بعض الشعراء:

وصلتْ، وكان الورد أول ما بـدا،

 

فلمّا تولّى الورد ولّت مع الـوردِ

فيا لـيت أن الـورد أسٌ فـإنـه

 

يدوم على الحالين في الحرّ والبردِ

وفضائل الورد أكثر من أن يُحصى عددها، أو يُبلَغ أمدها، وقد أفردتُ لذلك كتاباً بوّبته أبواباً، وترجمته بكتاب العِقد، وشحنتُه بفضل الورد، فأغنى ما في ذلك الكتاب عن إعادة ذكره في هذا الباب.

والتفاح أعظم عندهم قدراً، واجلّ أمراً، وأعلى درجة، وأرفع رتبة لسلامته من البياض والتوريد، وقد ذكرتُ فضائل التفاح في كتاب التفاحة في غير باب، فأغنى عن إعادته في هذا الكتاب، غير أني أذكر في كتابنا هذا جملة مما وصفتُه به الأدباء ومدحته به الشعراء، ولست أذكر في عرض هذا الكتاب شيئاً مما في ذلك الكتاب لئلا يبتلى بشي من المحن، فينسب إلى ضيق العَطَن، وبالله التوفيق.

ذكر التفاح وما كره الأدباء من أكله

اعلم أن التفاح عن ذوي الظرف والعشّاق، وذوي الاشتياق، لا يعدله شيء من الثمر، ولا النور والزَّهر. كيف وبه تهدأ أشجانهم، وبوروده تسكن أحزانهم، وعنده يضعون أسرارهم، وإليه يبدون أخبارهم، إذ كان عندهم بمنزلة الحبيب والأنيس، وبموضع الصاحب والجليس، وليس في هداياهم ما يُعادله، ولا في ألطافهم ما يُشاكله، لغلبة شَبَهه بالخدود المورَّدة، والوجنات المُضرَّجة، وهو عندهم رهينة أحبابهم، وتذكُّر أصحابهم، إلى وردته يتطرّبون، وبرؤيته يستبشرون، ولهم عند نظرهم إليه أنينٌ، وعند استنشاق رائحته حنين، حتى إن أحدهم، إذا غلب عليه القلق، وأزعجه الأرق، لم يكن له مُعوَّلٌ إلا عليه، ولا مُشتكىً إلا إليه. وأندشني بعض أهل الأدب:

لمّا نأى عن مجلسي وجهه،

 

ودارتِ الكأسُ بمجراهـا

صيّرتُهُ تفـاحةً بـينـنـا،

 

إذا ذكرناه شممـنـاهـا

واهاً لها تفاحةً أشبـهَـت

 

خديه في بهجتهـا، واهـا

وقال الحَكَمي:

تفاحةٌ جاءت، وقد عُلّـقـتْ،

 

ورُكّبَـت بـالـورد والآس

أشرب من كأسي على ريحها،

 

بالرغم من أهلي وجُلاّسـي

وقال آخر:

تفاحةٌ أُهديت، ظَرفاً، معضَّـضةً،

 

وقد جرى ماءٌ ثغري في ضواحيها

بيضاء في حمرةٍ عُلّت بـغـالـيةٍ،

 

كأنما جُنِيَت من خـدّ مُـهـديهـا

قد أتحفتني بها في النـوم جـاريةٌ،

 

رُوحي من السوء والأسقام تفديهـا

لو كنتُ ميتاً، ونادتني بنغمـتـهـا

 

لخِلتُ للصوت من لَحْدي ألبّـيهـا

وقال آخر:

حيّاه من يهوى بتفـاحةٍ،

 

قد عضّ أعلاها بأسنانه

جاد، ولم يبخل بها، بعدما

 

عذّبه دهراً بهِجـرانـه

وقال آخر:

تفاحةٌ تأكـل تـفـاحةً،

 

يا ليتني كنتُ الذي يوكَلُ

فألثم الثغر لكي أشتفـي

 

بعلّة الأكل ولا أُوكَـلُ

وقال آخر:

تفاحةٌ من عند تفـاحةٍ

 

قريبةُ العهد بكفّـيهـا

أحبِب بها تفاحةً أشبهَتْ

 

حمرتها حُمرة خدّيها

وقال آخر:

تفاحةٌ حمراءُ منـقـوشةٌ

 

ركّبتها في خُضرة الآسِ

فلم تزل في كفّ ندماننـا

 

تدور من كأسٍ إلى كأسِ

وقال آخر:

تفاحة مـن عـنـد تـفـاحةٍ

 

ضمّخها المهدي لها بالعبـيرْ

يا مُهديَ الحسرة يا قاتـلـي

 

أهديتَ لي والله قَصمَ الظهورْ

قد كنتُ في بحرين من حبّكـم

 

فصرتُ مذ أُهديتها في بُحورْ

وقال آخر:

فلو أني اشتكيتُ لأجل حُزني

 

وما ألقاه في دار الخُـلـودِ

وكان طعامنا فيهـا جَـنـيّاً

 

من التفاح والورد النضـيدِ

لقلتُ دعوا لها حِصَصي فإني

 

أشبّهها بـألـوان الـخـدودِ

وقال آخر:

حيّاه مَن يهوى بتـفـاحةٍ

 

قد جُنيَت باللحظ من خدّهِ

معضوضةٍ باللحظ محفوفةٍ

 

بعسكر الآجال من صـدّهِ

لو شمّها الخلْق لماتوا معاً

 

لعُسر ما يلقاه من جُهـدهِ

وقد مضى من هذا الباب مقنِعٌ، وهو كثير مُتّسعٌ، ولهم أشياء من زيّهم جليلةٌ، ونُتَفٌ من مناقبهم نبيلةٌ، أنا أصفها لك في موضعها، وأقطعها من مقاطعها، منها السِّواك الذي صيّروه كأحد الفُروض الواجبة والأمور الإرادية، وقد شرحتُ فيه باباً لتقف عليه، إن شاء الله.

ما جاء في السواك وما قيل في عود الأراك

اعلم أن من زيّ الظرفاء، وأهل المروّة والأدباء، وأرباب الديانة والترفُّل، استعمال السِّواك والتسوُّك، فهو أنبل النظافة، وأحسن الطهارة، وأكمل المُروّة، ويرغب فيه أهل الظرف والفُتوّة، وله خِصالٌ مستحسنةٌ، وهو أيضاً من السُّنّة.

وقد روي في الخبر المأثور عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "طهِّروا أفواهك فإنها مسالكُ التسبيح".
وعن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال: "السواك مَطْهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب".

 وحدّثنا أبي قال: حدّثنا ابن شَيبة عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمر عن عائشة قالت: "قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، السواك مَطْهرةٌ للفم مرضاةٌ للربّ".

 وعن علي بن أبي طالب، عليه السلام: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان إذا قام من الليل تسوّك.

وعن أبي المَليح عن واثِلة بن الأسقَع قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لقد أمرتُ بالسواك، حتى حسبتُ أن يكون يُكتب عليّ".

وعن ابن أبي مُليكة قال: عائشة تقول: "مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بيتي، وليلتي، ويومي، وبين سَحْري ونحري، وخلطْتُ ريقه بريقي. فقلت: يا أمّ المؤمنين، وكيف خَلَطت ريقه بريقكِ؟ قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواكٌ، فنظر إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: قد اشتهى السواك، فأخذتُ سِواكه فمضغته ثم أعطيته، فاستاك، عليه السلام، فلم يشغل النبي، صلى الله عليه وسلم، نزول الموت عن طلب السواك، إذ هو أظرف ما استُعمل، وأنبل ما استُحسن، لأنه يُبيّض الأسنان، ويُصفّي الأذهان، ويُطيّب النكهة، ويطفئ المِرّة، ويُنشّف البلغم، ويَشُدّ اللثّة، ويُقوّي العُمور، ويجلو البصر، ويُحدّ النظر، ويفتح السُّدَدَ، ويُشهّي الطعام.

وقد استعملوا أمر المَساويك الأراك وقصب السكّر، وأصول السوس، وعود المَحلَب، وعُروق الإذخِرِ، وعُقَد العاقِرْقَرحا، وكلما أغربوا في اتخاذ ذلك كان أكمل لظَرفهم، وأبلغ في معاني وصفهم.

وللمَساويك أوقاتٌ معلوماتٌ، ومواضع محدوداتٌ، لا تُستعمل في غير أوقاتها، ولا يُتجاوز بها عن ساعاتها، فجائزٌ استعمالها بالغَدَوات والعَشيّات، وأوقات الظهيرات، وقبل الغَداة، وبعد الصلاة، وعلى الريق، وعند النوم، وفي نهار الصوم.
ولا يجوز السواك عندهم في موطن شتّى، منها: الخَلاء، والحمّام، وقارعة الطريق، ومَحفِل الناس؛ ولا يَستاك أحدهم وهو قائمٌ، ولا متّكئٌ، ولا نائمٌ، ولا حيث يراه أحدٌ، ولا يَستاك ويتكلّم.

والسواك في الخَلاء والحَمّام من فِعل السِّفلة والعوامّ، وهو أيضاً يُرخي اللثّة، ويُغيّر النكهة، وليس ذلك عندهم من فِعل الأدباء، ولا من فعل ذوي المُروّة والظرفاء. وقد اتخذ أهل الظرف للمساويك طُسوتاً لِطافاً، وأباريق الشَّبَه الخِفاف، وكراسي الأبنوس المصدَّفة، والخيزران المُشبّكة، والأحقاق المخروطة، والمِسواكْدَانات المدهونة، والسَّنونات المعمولة، ووقّتوا له الأوقات المعلومة، التي جعلوها كالفرائض المكتوبة، والسُّنن المفروضة، يتأهّبون لوقته.

ولا يَستعملون رأس المسواك مدةً طويلة، وذلك عندهم من الأفعال الذليلة، ويتّخذون لها لفائف الحَزّ، وعصائب القَزّ، ليصونوها بذلك عن الدَّنس، ويوقّوها من الغُبار والنجَس، وقد تهادى أيضاً أهلُ الظرف المَساويك، وأقاموها مقام الرهينة، والتذكرة، والوَديعة، والقُبلة، كما فعلوا باللُّبان الممضوغ، والتفاح المَعضوض. وقال العبّاس بن الأحنف:

 

طال ليلي بجـانـب الـمَـيدان

 

مع جَواري المهديّ والخيزرانِ

أرسلَت باللُّبان قد مضـغَـتـه

 

بين تفّاحـتـين فـي ريحـانِ

وبمسواكها الذي اختـاره الـل

 

ه لفيها من طيّب الأغـصـانِ

فكأني وجدتُ ريحاً من الـفِـرْ

 

دوس فاحَت من ريح ذاك اللُّبانِ

وقال أيضاً:

 

ولّما وهبتُم خاتـمـاً فـرددتُـه

 

لمعرفتي أنّ الخَواتيم تقْـطَـعُ

فأهدي سِواكاً مسّ فاكِ فـإنـه

 

يُسكِّن ناراً في جَوى القلب تلذَعُ

وقال بشار بن برد العُقيلي يذكر ذلك أيضاً:

 

تسوّكتْ لي بمسواكٍ لتُعلِمـنـي

 

ما طعم فيها وما همّت بإصلاحِ

لما أتاني على المِسواك ريقتُـهـا

 

مَثلوجةً، كزُلال الماء بـالـراحِ

قبّلتُ ما مسّ فاها ثم قُلـتُ لـه:

 

يا ليتني كنتُ ذا المسواك يا صاحِ

وقال أيضاً:

 

يا أطيب الناس ريقاً غير مختَبَـرٍ

 

لولا شهادةُ أطراف المَسـاويكِ

إن الذي راحَ مَغبوطاً بنعمـتـه

 

كفٌّ تَمَسُّكِ أو كفٌّ تُعـاطـيكِ

ولو وهبتِ لنا يوماً نعـيش بـه

 

أحييتِ نفساً وكانت من مَساعيكِ

يا رحمة الله حُلّي في منازلـنـا

 

حسبي برائحة الفِردوس من فِيكِ

وقال أيضاً:

 

يطيبُ مِسواكُها من طيبِ نكهتها

 

وإن ألمَّ بجِلدٍ جِلدّهـا طـابـا

وقال آخر:

 

وبرّاقةٍ تفتـرُّ عـن مُـتـبـسَّـمٍ

 

كنور الأقاحي طيّب المُـتـذَوَّقِ

إذا مضغَت بعد امتناعٍ من الضُّحى

 

أنابيب عيدان الأراكِ المُخـلَّـقِ

سَقَتْ شُعَبَ المِسواك ماء غَمـامةٍ

 

فضيضاً بممزوج العُقار المُصفَّقِ

وقال جرير:

 

ما استوصفَ الناسُ من شيء يَرُوقُهُمُ

 

إلا أرى أُمَّ نوحٍ فوق ما وصـفـوا

كأنـهـا مُـزنةٌ غَـــرّاءُ رائحةٌ

 

أو دُرّةٌ لا يُواري لونَها الـصَّـدفُ

مكسورة الثدْي فـي لُـبٍّ يُزيِّنـهـا

 

وفي المَناصِبِ من أنيابها عَـجَـفُ

تسقي غَمام ندى المِسواكِ ريقتَـهـا

 

كما تضمّن ماءَ المُزنةِ الـرَّصَـفُ

وقال الفرزدق:

 

دَعَونَ بقُضبان الأراكِ، التي جَنى

 

لها الركب من نَعمان أيام عَرَّفوا

فمُجْنَ به عَذْبَ الرُّضاب غُروبُهُ

 

رِقاقٌ وأعلى حيث رُكِّبنَ أعجفُ

وقال ذو الرُّمّة:

 

جرى الإسْحِلُ الأحوى بطفلٍ مُطرَّفٍ

 

على الغُرّ من أنيابها، فهْيَ نُصَّـعُ

وقال آخر:

 

نَظَرَت بعَينَيْ شـادنٍ وتـبـسَّـمَـتْ

 

بظمياء عن غُـرٍّ لـهـنّ غُـروبُ

جرى الإسحِلُ الأحوى عليهنّ أو جرى

 

عليهنَّ من مـاء الأراك قَـضـيبُ

وقال جرير:

 

يجري السواك على أغرَّ كأنه

 

بَرَدٌ تحدّر من مُتون غَـمـامِ

اقرأ السلام على سُعادَ وقُل لها

 

يوماً تَرُدّ رسولنـا بـسـلامِ

وقال أيضاً:

إنّ الشقاء وإن ضَنَت بنائلـهـا

 

فرعُ البَشام الذي تجلو به البَرَدا

ما في فؤادِكَ من داءٍ يُخامِـره

 

إلا التي لو رآها راهبٌ سجَدَا

وقال جميل بن مَعْمر:

 

بثغرٍ قد سقين المِسك مـنـه

 

مَساويك البَشام ومن غُروبِ

ومن مجرى غوارب أُقحُوانٍ

 

شَتيتِ النبتِ في عامٍ خَصيبِ

وقال آخر:

 

وغادين بالقُضبان كلَّ مُـفّـلَّـجٍ

 

به الظَّلْمُ لم يُفللْ لهـنّ غُـروبُ

رُضاباً كطعم الشَّهد يجلو مُتونَـه

 

من الأيك أو غضِّ البَشام قضيبُ

أولئك لولاهنّ ما سُقتُ نِـضـوةً

 

ولا قابلتني في البلاد جَـنـوبُ

وقال أيضاً:

 

إذا الريح من نحو الشمال تنسَّمَت

 

وَجَدتُ لريّاها على كَبدي بَـرْدا

تخيّرتُ من نعمان عـودَ أراكةٍ

 

لهندٍ ولكن من يُبلِّغـه هِـنـدا

وأنشدني أبو علي الحسن بن عُليل الغنزيّ قال: أنشدني الزبير بن بكّار قال: أنشدني أبو مُسلم الكلابي لمهدي بن الملوَّح الكِلابي:

 

تَبيتُ ليلى وقد كنا نُـبَـخِّـلـهـا،

 

قالت: سقى الله ذاك المَرْبَعَ الجَدْبا

يا حبّذا راكباً كنّـا نَـهَـشّ لـه،

 

يُهدي لنا من أراكِ الموسى القُضْبا

وقال القَطامي:

 

منعَّمةٌ تَـجـلـو بـخَـوطِ أراكةٍ

 

ذرى بَرَدٍ عَذبٍ شَتيتِ المناصـبِ

كأنّ فضيضاً من غَريضِ غَمـامةٍ

 

على ظمأِ جادت به أمُّ غـالـبِ

لمُستهلِكٍ قد كاد من شِدّة الهـوى

 

يموت ومن طول العِدات الكَواذبِ

وقال بعض الأعراب، ويُروى للأُمَيلس:  

منعَّمةٌ هيفاءُ عَـجـزاءُ خَـدْلَةٌ

 

تمسُّ مَثاني شعرها قَصَباً جَزْلا

وتجلو بمِسواك الأراكِ مُفلَّـجـاً

 

عِذابَ الثنايا، لا قِصاراً ولا ثُعْلا

وقال العَطَوي:

 

عندكنّ الفؤاد والقلـب رَهْـنٌ

 

في يدي ذاتِ دُمْلُـجٍ ووِشـاحِ

وثَـنـايا رقـيقةٌ كـغــديرٍ

 

من مُدامِ وروضةٌ مـن أقـاحِ

فمساويكـهـا بـهـا كـلَّ يومٍ

 

في رياضٍ من اصطباحِ الراحِ

وقال عليّ بن الجَهم:

 

حَجّوا مواليكِ يا بُرهانُ واعتمروا

 

وقد أتتكِ الهدايا مـن مَـوالـيكِ

فأتحفيني ممـا أتـحـفـوكِ بـه

 

ولا تكن تحفتي غير المَـسـاويكِ

ولست أرضاه حتى ترسلـين بـه

 

مما جلا الثغر أو ما جال في فيكِ

ولأبي الطيّب في ذلك:

 

شهيدي على طيب اللِّثات وريقـهـا

 

أنابيبُ عيدان الأراك الـمُـفـرَّعِ

كأنّ حَباب الريق حـين تـمُـجُّـهُ

 

على شُعَبِ المِسواك غير ممـزَّعِ

رَشاشُ ذكيِّ المسك شيبَ بعَنـبـرٍ

 

أو الراح من صَفوِ العُقارِ المُشعشَعِ

وقال مروان بن أبي حَفصة:

 

شِفاءُ الصدى ماءُ المساويك والذي اج

 

تنى الريقَ من خَمْلٍ ينازلها طِفـلُ

فيا حبّـذا ذاك الـسـواك وحـبّـذا

 

به البَرَد العَذبُ الغَريضُ الذي يجلو

وأحسن محمد بن عبد الله بن طاهر حيث يقول:

 

وإذا سألتُك بعض ريقكِ قلت لـي

 

أخشى عُقوبةَ مـالـكِ الأمـلاكِ

أيجوز عنـدكِ أن يكـون مُـتَـيَّمٌ

 

يَهواكِ عنـدكِ دون عـودِ أراكِ

ماذا عليكِ، جُعلتُ قبلكِ في الثرى،

 

من أن أكون خليفةَ المِـسـواكِ

 وهذا باب تطَنَّبَ فيه الشعراء، ويتّسع لها القول في ذكره، وقد مضى من بعضه ما أغنى عن شرح كله، وأنا أصف لك جُملةً من جميل مناقبهم، وما يُؤثَر من حُسن مذاهبهم، إن شاء الله تعالى.

صفة ذوي التظرف ومباينتهم لذوي التكلّف

اعلم أن من كمال أدب الأدباء، وحُسن تظرُّف الظرفاء، صبرهم على ما تولّدت به المكارم، واجتنابهم لخسيس المآثم، وأخذهم بالشّيم السَّنيّة والأخلاق الرضيّة، وأنهم لا يُداخلون أحداً في حديثه، ولا يتطلّعون على قارٍ في كتابه، ولا يقطعون على متكلِّمٍ كلامه، ولا يستمعون على مُسِرّ سره، ولا يسألون عما وُرّي عنهم عِلمه، ولا يتكلمون فيما حُجب عنهم فهمه، يتسرّعون إلى الأمور الجليلة، ويتبطّؤون عند الأشياء الرذيلة، فهم أمراء مجالسهم، بهم يُفتح عَسِر الأغلاق، وبهم يتألّف مُتنافِر الأخلاق، تسمو إليهم الآماق، وتنثني عليهم الأعناق، ولا يطمع في عيبهم العائب، ولا يقدر على مَثالبهم الطالب، ألا ترى أنهم لا يتنخّعون، ولا يتبصّقون، ولا يتثاءبون، ولا يستنثرون، ولا يتجشّؤون، ولا ينمطّون، ولك عيبٌ عند الظرفاء، مكروه عند العلماء، وفيه حديثٌ مأثورٌ حدّثنيه عُبيد بن شريك قال: حدثنا ابن أبي مَرْيَم قال: أخبرني يحيى بن أيوب قال: أخبرني ابن عجلان عن سعيد المَقْبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الله يحبّ العُطاس، ويكره التثاؤب، وإن أحدكم إذا قال هاها، فإن ذلك الشيطان يضحك في جَوفه. والظرفاء لا يتثاءبون، ولا يتمطّون، ولا يوقّعون أكفّهم، ولا يُشبّكون أصابعهم، ولا يمدّون أرجلهم، ولا يحكّون أجسادهم، ولا يمسّون آنافهم، خاصةً إذا كان أحدهم بين يدي خليله، أو ربيطه، أو حبيبه، أو من يحتشمه، ومن يُكرمه.

ولا يدخل أحدهم الخلاء من حيث يراه أحدٌ، ولا يَبول بين يدي أحدٍ. وليس من زيّهم الإقعاء في الجِلسة، ولا السرعة في المِشية، ولا الالتفاف في طريقٍ قصدوه، ولا الرجوع في طريق سَلَكوه. ولا ينفضون الغُبار عن أرجلهم في المواضع المكنوسة، ولا يستريحون في الأماكن المرشوشة، ولا يجلسون في مجلس فينتقلون منه، ولا يقعدون بحيث يُقامون عنه، ولا يشربون ماء الأحباب، ولا الماء في دكاكين الشراب، ولا ماء المساجد والسبيل، وذلك مُشنّى عند ذوي العقول، ولا يدخلون دكّان هرّاس، ولا دكّان روّاس. ولا يجتازون بدُكّان مرّاق، ولا يأكلون شيئاً مما يُتخذ في الأسواق، ولا يأكلون على قارعة الطريق، ولا في مسجد، ولا في سوق، وفي ذلك حديثٌ مأثورٌ، وخَبرٌ مشهورٌ، حدّثنيه أحمد بن الهيثم المُعدَّل قال: حدّثني سهل بن نصر وإسحاق بن المنذر قالا: حدّثنا محمد بن الفُرات قال: حدثني سعيد بن لُقمان بن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "الأكل في السوق دَناءةٌ، والظريف لا يأخذ شَعْره في دُكّان حجّام، ولا يدخُل بغير مِئزرٍ إلى الحمّام".

وقد حدثني أحمد بن محمد بن غالب، صاحب الخليل قال: حدثني أحمد بن عبد الله بن هَشيم عن مُغيرة عن إبراهيم قال: النظر في مرآة الحجّام دناءةٌ.

وحدثنا أحمد بن محمد بن غالب قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن راشد بن سعيد عن عِكرمة عن ابن عباس قال: من قلّة مُرُوّة الرجل نظره في مرآة الحجّام، واطلاعه في بيت الحائك. وقد ينبغي للظريف أن يدخل الحمّام على خَلوةٍ، لئلا ينظر فيه إلى سَوءةٍ، ولا يمدّ عينه إلى أحد، ولا يُعلّق ثوبه على وتد، ولا يُدلّي رجله في البئر التي ينصبّ إليها الماء، فإن ذلك مما يفعله الأدنياء، ولا يَدلُك يديه بخرقةٍ، فإن ذلك مما يستعمله السخفاء، ولا يتمرّغ على حرارة أرض الحمّام، فإن ذلك مما يفعله سِفلة العوامّ، بل ينبغي له أن يَدخله مُتّزراً، ويقعد فيه معتزلاً، ولا يقعد مستوفزاً على رجله، فإن ذلك طَعْن على عقله، ولا يميل مضطجعاً، بل ينتصب متربعاً، حتى إذا نضب العرق من بدنه، وتحدّر على جسده، وكان عرقه بين الكثير والقليل، نشّفه عن بدنه بمنديلٍ، ثم دعا لرأسه بالغَسول، والأُشنان، فإن كان من أهل المُرُوّات والنعم، وأهل البُيُوتات والقدر ممن لا يُنسب في فعله إلى شيء ليس من شكله، فليبتدئ دخوله الحمّام بالإمساك عن الكلام، والتجرّع من الماء الحارّ ثلاث جُرعٍ، وليقعد للعرق فوق نِطْعِ، حتى إذا عرق بدنه، وجمع عرقه فوزنه، وهذا الفعل لا يُصلح إلا لذي نعمةٍ، أو شريفٍ، أم متأدّب فيلسوف، وأما سائر الناس من أهل الظرف، فإنهم يُنسَبون بهذا الفعل إلى السُّخف.

ولا ينبغي لظريفٍ أن يمشي بلا سراويل، ولا يتّزر بمنديلٍ، ولا يمشي محلول الإزار، ولا مسبل الإزار، ولا يماكس في الشِّرى، ولا يركب حمار الكِرى، ولا ينزل في خراب، ولا يقبض على كِتاب، ولا يُشارط صانعاً، ولا يُصاحب وضيعاً، ولا يُشاتم رفيقاً، ولا يغتاب أحداً، ولا يذكر بسوء أخاً، ولا ينُمّ بسريرةٍ، ولا يُظهر حَبيئة، ولا يخون عهداً، ولا يُخلف وعداً، ولا يُضرّب بين اثنين، ولا يُفسد بين خليلين، ولا يسعى إلى سلطانٍ، ولا يغمز بإنسان، ولا يَهتك حُرمةً، ولا يتعرّض لسرقة، ولا يتحلّى بالكذب، ولا يستهدف للريب، ولا يجاهر بالزنى، ولا ينطق بالخَنى، ولا يُفسد حُرمة الأخ الصديق، ولا حُرمة الجار اللزيق. وأجود ما في هذا المعنى قول الأحوص بن محمد الأنصاري:

 

قالت وقلتُ: تحرَّجي وصلي

 

حبل امرئٍ بوصالكم صَبِّ

صاحبْ إذاً بُعلي! فقلتُ لها:

 

الغدر مني ليس من شِعبي

ثِنتان لا أدنو لوصلـهـمـا:

 

عِرسُ الخليل وجارة الجَنبِ

أما الخليل فلستُ مُخلـفـه

 

والجارُ أوصاني به ربّـي

ومن تكامل ظَرف الظريف ظهور بزّته، وظهور طيب رائحته، ونقاء درنه، ونظافة بدنه، ولا يتّسخ له ثوبٌ، ولا يَدرَن له جيب، ولا ينفتق له ذيل، ولا يُرى في دخاريصه مَيل، ولا في سَراويله ثقب، ولا يطول له ظَفْرٌ، ولا يَكثُر له شَعر، ولا يفوح لإبطه دَفَر، ولا لبدنه غَمَر، ولا يسيل له أنف، ولا يَسود له كفّ، ولا يظهر له شُقاق، ولا يَرشَّش له بصاق، ولا يقف في مأقِه رَمَد، ولا صِوارِه زَبَد.

ومن زيّهم في مُصاحبة الأودّاء، ومعاشرة الأخلاّء، حفظ العهود، وإنجاز الوعود، والدوام على الوفاء، وقلّة الرغبة في الجفاء؛ وحسن المؤاتاة لأودّائهم، والمساعدة لأخلاّئهم، والبِشر بمن لَقوا، والتفقّد لمن فقدوا، والمساعفة بأبدانهم، والمعونة بأموالهم، وتخفيف المُؤن على إخوانهم، وكفّ الأذى عن جيرانهم، والصفح عن المسيء لهم عند إساءته، ومقابلة المحسن بإحسانه، والترحيب بالصغير، والتبجيل بالكبير.

وقد حدّثني محمد بن يونس القيسي قال: حدثنا يزيد بن بيان قال: حدثنا أبو الرجال عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ما من شابّ أكرم شيخاً عند سنّه إلا قيّض الله له من يُكرمه عند سنّه".


وقد يجب أيضاً على أهل المُرُوّة مثل الذي يجب على أهل الظرف، والفُتُوّة والأدب، لأنهما ليسا باللذاذة والقصف، ولا بالمفاخرة والحسب، وإنما هما بكمال المُرُوّة والأدب، ولن يعرف الفتى جميل مواهب الفُتُوّة، إلا بسُلوك طرائق المُرُوّة، وقد ذُكرت الفتوّة عند بعض العلماء فقال: إن الفتوة ليست بالفسق والفجور، ولكنها طعامٌ موضوعٌ، وأذىً مرفوع، ونائلٌ مبذولٌ، وبِشرٌ مقبول، وغَفافٌ معروفٌ، واجتنابٌ للقبيح، وأدبٌ ظاهرٌ، وخُلق طاهر، وتركُ مجالسة أهل الشرور، والسموُّ إلى معالي الأمور، والإحسان إلى من أساء، ومكافأة من أحسن، وقضاء حوائج الناس، فهذه جملة من زيّهم في حُسن مناقبهم، ومستحسَن جميل مذاهبهم، ولهم أيضاً رقة الطبع، والتلطّف في كل الأمور، والمداراة، والتملّق، والتأنّي، والترفّق، ومن ذلك قولهم: من حَبّ طَبّ، أي رَفِق ودارى، ومن ذلك سُمّي الطبيبُ طبيباً لترفّقه ومداراته؛ والعرب تقول: هو طَبٌّ بالأمور، أي عالمٌ رفيقٌ؛ قال عمر بن أبي ربيعة:

فأتـتْـهـا طَـبّةٌ عـالــمةٌ

 

تخلِط الجِدّ مِراراً باللـعـبْ

ترفع الصوت إذا لانت لـهـا

 

وتراخى عند سَوراتِ الغضبْ

ولهم حسن التأني فيما يُريدونه، ولطيف الحيَل فيما يحاولونه، وخفيُّ التلّطف لما يطالبونه؛ حوائجُهُم سريّةٌ، وسرائرهم مخفية، وأمورهم باطنةٌ، وحيلهم لطيفة، يُورِدون الأمور مواردها، ويُصدرونها مصادرها. ولهم فيما استحسنوا من الهدايا بينهم، والبرّ والمُلاطفة والمُكاتبة، والتُّحفة من غيرهم، ما يُستصغر؛ ومن ذلك أنهم ربما أهْدوا الأُتْرُجة الواحدة، والتفاحة الواحدة، والدَّسْتَبويَة اللطيفة، والشَّمَّامة اللطيفة، والغُصن من الريحان، والطاقة من النرجِس، والرطلَ من الشراب، والقطعة من العُود، والمَخْزَنة من الطيب، والشيء اليسير، والوَهْط الصغير، ونظير ذلك من الأشياء القليلة، الحقيرة والذليلة، التي لا قدر لها عند ذوي العقول، فيُستكثر ذلك منهم، ويُتلقّى بالقَبول، وتُستحسن هداياهم وتُستظرف، ويُفرَحُ بها وتُستظرف. ورغبة غيرهم من الناس في الأشياء الجليلة، والهدايا النبيلة، والطُّرف السريّة، والتُحف السنيّة، غير أهل الظرف، فإنهم اقتصروا على اللطف اللطيف، والبرّ الخفيف.


ومن ذلك كُتُبُهم المِلاح، وألفاظهم الصحاح، التي يستعطفون بها القلوب، ويسترون بها العيوب، ويستقيلون بها العثرات، ويستدركون بها الهفَوات، التي قد استخلصوها من بديع الحرير الصيني، ومليح المُلحَم النيسابوري، وصفيق الدَّبيقي الحَفي، ونقي التاختَج والقوهي. وتغلغلوا إلى الكتابة في ذلك بالذهب والمِسك والزعفران، والسُّكّ، واتّخذوا لها طَرائف المناديل الرِّقاق، وجِياد الزنانير الدقاق، وطيّبوها بالمِسك والذرائر، وعَنْونوها بمُتظرّفات الأمثال والنوادر، وخَتموها بالغالية المستمسِكة، وطبعوها بنُتَف الألفاظ المهلِكة؛ وقد ضُمّنَت من مَليح المُكاتبة، وطرائف المُعاتبة، وجميل المطالبة، وشكيل المداعبة، ما يُقرّبون به البعيد، ويُهوّنون بن الشديد.

وقد بيّنت ذلك أحسن البيان، وشحتُه بأخصّ المعاني، ووصفتُ ما يتوصّلون به من الوسائل، وما يُضمّنونه كتبهم من الرسائل، في كتابٍ مفرَدٍ، وكلام مجرَّدٌ، ترجمته: كتاب فرح المُهَج، وجعلتُ ما فيه ذَريعةً إلى الفَرج، فأغنى عن تطويل هذا الباب، ما مرّ في ذلك الكتاب. وأنا أصف لك أيضاً في كتابنا هذا جُملة ما استحسنوه بينهم من المُكاتبة، وما استعملوه بينهم من المعاتبة، وأقصد في ذلك إلى مُداعبة الكُتّاب، ومعاتبة الأحباب، وما تعاتبوا به من الأبيات، واختاروه من المُقطّعات، وما ذكروا على العُنوانات من الكلام، وما ضَمّنوه في كتبهم من السلام، على غير نقصٍ مني لكل ما في ذلك من الأشعار، إذ كان قصدي في كلّ أبواب الكتاب إلى الاختصار. وبالله أستعين وأستكفي، وإياه أسترشد وأستهدي.

ما اختير من ألفاظ الأدباء في المكاتبات واستُحسن من الظرفاء من مَليح المعاتبات

أخبرني الوضّاح بن ثابتٍ الكاتب قال: كنتُ عند بعض الكتّاب، إذ دخلَت عليه وصيفةٌ كأنها قمر، تتثنّى في مِشيتها كأنها جانٌّ، أو كأنها غُصن بانٍ ريّان، حتى وقفتْ بين يديه، فقالت: مولاتي تقرأ عليك السلام، وتقول لك: يا أخي! جَفَوتنا من غير استحقاق للجفاء، وملتَ إلى غير مذاهب الظرفاء، وإني لم أزل واثقةً بإخائك، راجيةً لحسن وفائك. وتحقيق ظنّ مؤمَّلِكَ، أولى بك من الوقوف على تجنّيك. فقال لها: اقرئي عليها السلام، وقولي لها: يا أختي! أنا من وُدّكِ على أحسن عهدك، ومن الأمل لكِ على أضعاف ما عندك ولقد استوحشنا من فقدِكِ، فاجعلي لنا حظّاً من أُنسك. فسألتُه عنها، فقال: جاريةُ عليّ بن الجَهم.

وأخبرني محمد بن إبراهيم الهمداني قال: أخبرني مولىً لمحمد بن عبد الله بن طاهر قال: قرأتُ رُقعةً لمولاي إلى بعض إخوانه: يا أخي مدَدْتَ يداً إلى المودّة مبتدئاً فشكرناك، وشفعتَ ذلك بشيء من الجَفاء فعذرناك، والرجوع إلى محمود الوَداد أولى بكَ من المُقام على مَكروه الصدّ.

وكتب بعض الظرفاء إلى صديق له: أيّدك الله بوفاء الأدب من النزع إلى الجَفاء، وجعل أخرَ سخطِك موصولاً بأوّل الرضاء.

وكتب بعض الأدباء إلى صديق له يستعتبه على جَفاء كان منه: ليس من تدبير من شَمَلته أُبّهة الحِكَم، وسَمَت به معالي الهِمَم، أن يعطف على عهود صديقٍ بعُقوقٍ، ولا تَضمحلّ واجبات الحقوق، ولا تُغيّره نوب أيامه عن رعاية ذِمامه، والسلام.

وكتب آخر إلى صديق له: بدأتنا بمودّةٍ عن غير خبرةٍ، وهجَرتنا من غير سببٍ يُوجِب طول الهجرة، وقد أطمعنا أوّلُك في إخائكِ، وآيسنا أخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف باليقين من الرأي عن غير سِمة الشكوك في أمرنا، فأقَمنا على ائتلافٍ، أو افترقنا على اختلافٍ، والسلام.

وكتب سعيد بن حُميد إلى بعض الكتّاب: بلغني حُسن محضرك، فغير بديعٍ من فضلك، ولا غريبٍ عندي من برّك، بل قليلٌ أتّصل بكثيرٍ، وصغيرٌ لحقَ بكبيرٍ، حتى اجتمع في قلبٍ قد وُطّن لمودّتك، وعُنُقٍ قد ذلّت لطاعتك، وليس أكبر سؤلها وأعظم أرَبِها، إلا طول عمر بقاء النعمة عليك، والسلام.

وكتب بعض الكتّاب إلى صديقٍ له: ما زال ما أحمَدُ من عواقب رأيك، وأُشبّه من وفائك، حتى وثَّق في ضميري من مودّتك، ما استنجدني لطاعتك؛ واستوى عليّ من موافقتك ما سهل عليّ سبيل عَتْبك، فما أسلك بغَلبة الهوى طريقاً إلا إلى رضاك، ولا أستعين بهواك منك عليك إلا كان عوناً عليّ لكَ، ولنعم المستعبد لي أنت على المحامد، واكتساب سنا الفوائد، ولذلك أقول:

 

عليّ رقـيبٌ مـن هـواكَ يقـودنـي

 

إليكَ على الحالات في السُّخط والرضى

وليس هـواي حـيث لا يسـتـحـقّـه

 

ولكن هواي حيث كان لـك الـهـوى

لساني رهينٌ بـالـذي أنـت فـاعـلٌ

 

ورأيي موصولٌ بما كُـنْـهُـه تـرى

وما زِلتَ لي عـونـاً بـرأيٍ مـوفَّـقٍ

 

على صلة القُربى بهدْي أُولي النُّـهـى

وكتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك: سُروري، أعارني الله حياتَك، إذا رأيتُك كوحشتي لك إذا لم أرك، وحفظي لك في مغيبك، كمودّتي لك في مشهدك، وإني لصافي الأديم غيرُ نَغلٍ ولا متغيِّرٍ، فامنحني من مودّتك، مُزنَ لذاذة مَشربك، وكن لي كأنا، فوالله ما عُجتُ عن ناحيتكَ، إلا وأنا محنيّ الضّلوع إليك، والسلام.

فكتب إليه محمد: يا أخي ما زُلتُ عن مودّتك، ولا حُلّتُ عن أخوتِك، ولا استبطأتُ نفسي لك، ولا استزدتُها في محبّتك، وإنّ شخصَك لمائلٌ نُصب طَرفي، ولقلّ ما يخلو من ذِكرك قلبي، ولله ذرُّ الذي يقول:

أما والذي لو شاء لم يَخلُـق الـنـوى

 

لئن غِبتَ عن عيني لَما غِبتَ عن قلبي

يُذكّرُنيكَ الشـوق حـتـى كـأنـنـي

 

أُناجيكَ من قُربٍ وإن لم تكن قُربـي

وكتب بعض الكتّاب إلى صديقٍ له تبيّن منه جَفوةٌ: سيدي! ألزمتني الخُضوع، وحرّمت علي الهُجوع، وأضرمتَ ناراً بين الضُّلوع، فتركتني فيك لائذاً بالعدوّ، وممنوعاً من السلوّ، منخفضاً من العُلوّ، بمنزلة من خان وُدّاً، أو نقض عهداً، أو أخلف وعداً، أو اظهر ضدّاً، أو جحَد يداً، أو كفَر عارفةً، أو غَمَط نِعمةً سالفةً. سيدي! لمّا اشتغلَت بن النفس القَلِقة، والعين الأرِقة، حُلتَ عن محمود الوفاء، وزُلتَ عن غير ذنبٍ عُقوبة المجترِم، وغير سببٍ يَقدح في مودّة العبد المهتضَم، الذي توقعه جَريرته، وتوبقه خطيئته، وتحُلّ به إساءته، وتلزمه هفواته. سيدي! أوقعني يسير جَفائك، وإعراض لَحظاتك، في بحار هُمومٍ، غريقُها غريق صبابةٍ وغُمومٍ. أخاطبك بلسانٍ يعجز عن المخاطبة، وأكاتبك بيدٍ لا تجري إلى المكاتبة، وأُناجيك بضمير الهَيبة المشاهد لك في الغيبة، مناجاة مغرمٍ وصريع تجلُّدٍ، وحليف تلدُّدٍ. سيدي! كلّ عذابٍ ووجدٍ جديدٍ، وسَقام عتيدٍ، فهو في محبّتك، والدوام على مودّتك يسيرٌ، فأما السبيل إلى وجه السرور فمتعذّرةٌ، والخلاص في طُرق السلامة إلى الراحة فمستوعرةٌ، قد غلب الظمأ، وبَعُد المورِد، وقلّ العَزاء، وفُقد الصبر، وانحلّت العزيمة، وبطّل الرأي، وثَبَتَ الهوى، فتمكّن في الحشا، فلا مَحيص لعبدك عنك، ولا بدّ له في حالة السُّخط والرضى منك. سيدي! الرجوع إلى محمود الشيمة أشبه من العَود بالفضل، والتطوّل بالوَصل أولى بالمَولى من الوقوف على الصدّ الذي يَقدح في النيّة، ويُزيل عقد الطوِيّة، وشفيعي إليك، الذي أرجو نجاح الشفاعة، خُضوعي لك، واعتصامي بك، وانحطاطي في طاعتك، ووقوفي بين يديك مُستكيناً، متحيّراً، مُعترفاً، فإن ذلك أبلغ شفيعٍ، وأنت فيما تراه في أمري أكرمُ مولىً في كل حال، فإنه يتوقّع جَواب كِتابه بما يَسكن إليه، وتتجدّد به النعمة عليه، فحقِّقْ تأميله، وأكرِم صَفَده، وأقِم أوَدَه، وعُد في جَفائه، إلى دوام صَفائه، والسلام.

ما ضمنوه كتبهم من الأشعار وتكاتب به ذوو الظرف والأخطار

أنشدني بعض الأدباء:

هذا كتابُ مـتـيَّمٍ

 

خطّت إليك أناملهْ

مزَج المِداد بدمعه

 

فبكتْ عليه عَواذلُهْ

أنت الطبيب فداوِهِ

 

يا مُبتليهِ، وقاتلُـهْ

وقال آخر:

هذا كتاب فتىً له هِـمـمً

 

عطفَت إليكَ رجاءه هِمَمُهْ

غَلَّ الزمان يَدي عَزيمتـه

 

ورمى به من حالقٍ قَدَمُهْ

أفضى إليكَ بسـرّه قـلـمٌ

 

لو كان يَعقُلُهُ بكى قَلَمُـهْ

وقال آخر:

هذا كتابي بدمعِ عيني

 

أملاه قلبي على بَناني

إلى غزالٍ كَنَيتُ عنه

 

يَجِلّ عن اسمه لساني

وقال آخر:

هذا كتاب أخي هوىً وصبابةٍ

 

لا يستطيع لِما به كِتمـانـا

لاقَ الدّواة بعَبرةٍ مسفـوحةٍ

 

كانت لمُضمَر لاعجٍ عُنوانا

قَرِحَ الفؤادُ تَعوده أشجـانـه

 

لمّا به بَخِلَ الطبيب وخانـا

وقال آخر:

هذا كـتـاب مُـتَــيَّمٍ

 

يشكو الصَّبابة في كِتابهْ

فاردد عـلـيه جـوابـه

 

كي يستريح إلى جَوابِـهْ

لو كان ينطق ذا الكـتـا

 

بُ شكا إليك عظيم ما بِهْ

وقال آخر:

هذا كتابُ فتىً شكا سَقَـمـاً

 

الِف السُّهاد فشفّه سَقَـمُـهْ

يبكي عليه جلإون مُقلـتـه

 

عدد الحروف وقد بكى قَلَمُهْ

لولا مُراقبةُ الـعـدوّ ومـن

 

أضحى من الرُّقباء يتّهمُـهْ

لبكى علانيةً وقـال لـهـم

 

بَرِح الخَفاء وباح مُكتَتَمُـهْ

وقال آخر:

هذا كتابي إليكَ أشـكـو

 

إن لم تجُدْ لي فما احتيالي

كتبتُ أشكو إليكَ ما بـي

 

ممّا أقاسي فما تُبـالـي

يا حَسَن الوجه كُن شَفيعي

 

إليكَ إنْ لم أبُح بحـالـي

ما ذكر القلبُ منك شـيئاً

 

إلا تمثّلتَ لي حِـيالـي

وقال آخر:

هذا كتابي فتىً لغَيبِكَ حافـظٍ

 

صَبٍّ بذكرك مُستهامٍ مُدنَـفِ

إنْ غبتَ آنسَ طرفه بدموعه

 

وإذا أصابك طرْفُهُ لم يَطرِفِ

وقال آخر:

هذا كتاب أهي هوىً مشتاقٍ

 

قَرِحِ الجُفون بدمعه المُهراقِ

أملى هواه على بَنان يمينـه

 

فأبان كيف مَصارع العُشّاق

وكأنه يُنبي بما في نـفـسـه

 

من طول شَوقٍ واكتئابٍ باقِ

وقال آخر:

هذا كتاب مُتـيَّمٍ مـشـتـاقٍ

 

يشكو إلى مستظـرَفٍ ذَوّاقِ

أهدى له الهجران بعد تواصُلٍ

 

وكذاك فعل الخائن المَـذّاقِ

ما هكذا فعلُ الكِرام فأجملي

 

وتحرّجي أن تَنقضي ميثاقي

وارْثي لصبٍّ هائم قد شفّـه

 

طول النحيب وشدّة الإقلاقِ

وأنشدني إبراهيم بن محمد لنفسه:

 

هذا كتاب متيَّمٍ فـي قـلـبـه

 

نارٌ تَضَرَّمُ بُـكـرةً وأصـيلا

فإذا قرأتَ كتابه فاجعـل لـه

 

بعد الصُّدود إلى الوِصال سبيلا

فلقد تركتَ فؤاده في غَـمـرةٍ

 

وتركتَ في الأحشاء منه غَليلا

ولقد تبرّم بالحياة وطُـولـهـا

 

وعسى مَداه أن يكون قـلـيلا

لا تُغرين بـه رَداهُ وحَـينَـهُ

 

حاشاك أن تُردي يَداك قَتـيلا

حاشاك من قَلَقٍ أطارَ رُقـاده

 

فأبى الرُّقادَ فما يَلَـذُّ مَـقـيلا

وأنشدني أيضاً لنفسه:

 

هذا كتابـي إلـيكَ فـاقـرأ

 

كتاب ذي صَبـوةٍ عَـمـيدِ

أقلقه شوقـه الـمُـعـنـيّ

 

وهـدَّه لـوعةُ الـصُّـدودِ

لكنّه في الـظـلام يبـكـي

 

بُكاءَ ذي الفَقدِ لـلـفـقـيدِ

إن كنتَ غضبان فارضَ عني

 

رِضى الموالي عن العبـيدِ

ولأبي الطيّب في هذا المعنى:

 

هذا كتابـي إلـيكَ فـاقـرأ

 

كتابَ من شفّه الـسَّـقـامُ

وارثِ لسُقمي وطول صبري

 

فقد وَهَت منّي الـعِـظـامُ

ولا تُرِد قتلتـي وهـجـري

 

فقتلُ حِلفِ الهـوى حَـرامُ

وقال آخر:

 

أثَرُ المَحو في سُطور كتابي

 

شاهدٌ لي بعبرةٍ وانتـحـابِ

وبكـائي يدُلّ أنـي سـقـيمٌ

 

خاضعٌ للهوى طويلُ العذابِ

أنا بين الرجاء واليأس وقفٌ

 

لستُ أدري بما يكون جوابي

فإذا اشتقتُ أن أراك أنـادي

 

فرجَ الله لي من الحُجّـابِ

وقال آخر:

 

غضِبَتْ لمَحوٍ في الكتاب كثـير

 

قالت أراد خِيانتـي وغُـروري

كتب الكتاب على خلاف ضميره

 

والمحوُ فيه لعـلّة الـتـغـييرِ

ما كان دمعي للغُرور وظنّكـم

 

كلاًّ ولا للسهو والتـقـصـير

كَتَبَتْ يميني والدموع هـواطـلٌ

 

حَذَرَ الفِراق لما يُجَنّ ضميري

فالمحوُ من قِبلِ الدموع وإنـمـا

 

تَجري دموع العاشقِ المهجورِ

وقال آخر:

 

ما زِلتُ أبكي وفي يدي قلمٌ

 

حتى استهلّت مدامع القَلَـمِ

أكتُمُ وَجدي والدمع يُظهـره

 

بواكفٍ كالجُمان منسَـجِـمِ

ما زلتُ خِلواً من الهوى فلقد

 

عذّبني من هويتُ بالسَّـقـمِ

يا سيّداً تاهَ ما يُكـلّـمـنـي

 

نِمتَ وعينُ الشجيّ لم تَنَـمِ

أنا قتيلُ الـهـوى ومـيّتُـهُ

 

لا عَذّب الله قاتلي بـدمـي

وقال آخر:

 

إني رفعتُ إليكِ قـصة عـاشـقٍ

 

ورجوتُ عدلك فانظُري في قصتي

ولقد كتبتُ ودمع عينـي سـاكـبٌ

 

فإذا قرأتِ فأحسني وتـثـبّـتـي

إن الدموع تفجّـرت فـتـحـدّرتْ

 

منها فنونٌ في صفات مـودّاتـي

لا فَرَج الله الصـبـابة والـهـوى

 

عني، ولا زالت عليكِ مضجَنّتـي

وقال آخر:

 

أما الرسول فقد مضى بكتابـي

 

يا ليتَ شِعري ما يكون جَوابي؟

وتعجّلَت روحي الظنونَ وأُشربَتْ

 

طمعَ الحريص ةخشيةَ المُرتابِ

وقال آخر:

 

أسأل الله خير هذا الكتاب

 

قد أتاني برحمةٍ وعذابِ

أشتهي فَكّهُ فأفرَقُ منـهُ

 

ففؤادي مفرَّقُ الأسبابِ

وقال آخر:

 

كتابُ صبٍّ بدمـع عـينٍ

 

يُمِلُّهُ قلـبـه الـكـئيبُ

يكتبه كفـه بـضـعـفٍ

 

وما لها في الهوى نصيبُ

وقال آخر:

 

أما الكِتاب فقد مضى وأمامـه

 

خوفَ الرقيب وسَطوةُ الحُجّابِ

طلبَ الجواب فأحسِنوا في وُدّكم

 

لا تبخلوا عني بـردّ جَـوابِ

هل تُنقذون متيَّمـاً ذا صـبـوةٍ

 

أضحى أسير تذكُّرِ وتصابي؟

جودوا عليه برحمةٍ وتعطُّـفٍ

 

فلقد أطلتُم بالصُّدود عَـذابـي

أما الكِتاب فمن كئيبٍ عاشـقٍ

 

كَلِفِ الفؤاد مواصَلُ الأوصابِ

لكنه غـادٍ إلـى ذي سَـلـوةٍ

 

متعتِّبٍ في غير كُنهِ عِـتـابِ

وقال آخر:

 

لولا الكتابُ الذي جاء الرسول به

 

من الحبيب لذاب القلب واحترقا

جاء الرسول على يأسٍ بموعـده

 

وقد قضيتَ فأحيا لي به رَمَقـا

وقال آخر:

 

صِليني بالكتاب وبالـسـلام

 

وزوري زَورةً في كل عامِ

وجودي بالكتاب وعنونـيه:

 

إلى الصبّ الكئيب المُستهامِ

من الشمس المُنيرة يوم دجنٍ

 

وبدرٍ لاح من بين الغَمـامِ

وناحلةٍ فديتُـكِ يا مُـنـايَ

 

أماناً للفؤاد من الـغـرامِ

وقال آخر:

 

كتبت إليّ يا روحي كتابـاً

 

فوافق مُنيتي وبُلوغَ سُولي

ولولا العيب هِمتُ إليك لمّا

 

تناولتُ الكتاب من الرسولِ

مخافةَ نظرةٍ من عين واشٍ

 

وتشنيعِ المَقالةِ بالخـلـيلِ

وقال آخر:

 

لم يزِدني الكتابُ إلا اشـتـياقـاً

 

واشتعالاً من الهوى في ضميري

بأبي أنتِ يا حـبـيبة قـلـبـي

 

ومُناي وغـايتـي وسُـروري

وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه:

 

كتبتَ إليّ تذكُرُ ما تُلافـي

 

من الشوق المبرِّح والفُراقِ

لعمرُك ما اتّهمتُك في ودادٍ

 

ولكن لم تُلاقِ كما أُلاقـي

فؤادي هائمٌ والعينُ تـذري

 

دموعاً تستهلُّ في المآقـي

وقد ذقتُ الفِراق وكان مُرّاً

 

كريهاً طعمه عند المَـذاقِ

على أني وإن أبديتُ صبـراً

 

على حدّ الصبابة غيرُ باقِ

وقال آخر:

 

قولا لمن كتب الكتاب بكـفّـه

 

ارحَم فديتُك ذلّتي وخُضوعي

ما زِلتُ أبكي مذ قرأتُ كِتابها

 

حتى محوتُ سُطوره بدموعي

وقال آخر:

 

الدمع يمحو ويدي تكـتُـبُ

 

عنِ الهوى وامتنعَ المَطلَبُ

أمارَ خَدَّي قمـرٍ زاهـرٍ

 

إليه من زهرته المذهَـبُ

لقد براني سَـقَـمٌ قـاتـلٌ

 

وهدّ جِسمي دَنَفٌ مُنصِبُ

وقال الحسن بن وهب:

 

يا مُنـايَ وسـروري

 

جُهدنـا غـيرُ يَسـيرِ

والذي نشكوه في الكت

 

ب قليلٌ من كـثـيرِ

لم تُطقْ ألسنُـنـا مـن

 

وصفه عُشر عَشـيرِ

فثـقـي يا بـأبـي أن

 

تِ بمكنون الضمـير

ثمّ قولي مطلعَ الجـو

 

زاء والشِّعرَى العَبور:

حفظَ اللـه فـتـىً بـا

 

ت لها خيرَ سَـمـيرِ

ولبعض المحدثين:

 

من الوَهم من آثار قبرٍ مُسَـنَّـمِ

 

وهامِ ثرى قبر القتيل المـتـيَّمِ

ومن طللٍ للشوق لم يعفه البِلـى

 

ونُؤْيِ وفاءٍ ليس بالـمـتـهـدِّمِ

إلى زينة الدنيا ومُنية أهـلـهـا

 

وأحسن من يزهو بطرفٍ وميسَمِ

وأملحِ خلقِ اللـه قـدّاً وصـورةً

 

ودَلاًّ وإدلالاً على حُبّ مُـغـرَمِ

سلامٌ على من شَفّني وأذابـنـي

 

وأسكن قلبي كُلّ وجدٍ ومـألـمِ

 ووكّلني بالنجم أرعـى أُفـولـه

 

وأندبُهُ بالدمع طَـوراً وبـالـدمِ

وأحمدُ من أبلى شبابي بحبّـكـم

 

على البؤس والسرّاء حين التننعُّمِ

وبعد فقد والله يا سولَ عبـدِهـا

 

ومَولاتَه أنضجتِ أحشاي فاعلمي

مما ضمنوه كتبهم من السلام وجعلوه تِلواً للشعر والنظام

 

علـيكِ سـلامٌ لا سـلامَ مـودِّعٍ

 

ولكن سلامٌ لم يكُن أخِرَ العـهـد

سلام مُحبٍّ خانه حُسنُ صـبـره

 

فأصبح في كَربٍ الحياة وفي جُهدِ

آخر:

عليكِ سلامُ الله ما هبّتِ الـصَّـبـا

 

وما قرقر القُمري في وَرَقِ السِّدرِ

سلام سقيمٍ مُدنَفِ القلب مُـقـرَحٍ

 

مَشومٍ عليلٍ مُشعّلِ القلب بالجمـرِ

آخر:

عليكِ سلام الله ما لاحَ كـوكـبٌ

 

بأُفقٍ لساري الليل واستوسَقَ البَدرُ

سلام غريبٍ شَفّه الوجدُ والهـوى

 

وبلّ حَشاه الهمُّ والذِّكرُ والعُسـرُ

آخر:

عليكِ سلام الله! هل أنـا مـيّتٌ

 

بداء هوائيكِ الشقيّ المقَلـقِـلِ

فعيشي بخيرٍ واسلمي ليس حبُّكُم

 

ولا الوجدُ عني ما حَيِيتُ بمُنجَلي

آخر:

عليكِ سلامُ الله أما قلوبُـنـا

 

فمرضى وأما وُدّنا فصحيحُ

نبيتُ بوُدٍّ خالصٍ وصَبـابةٍ

 

ونغدو بحُبٍّ صادقٍ ونروحُ

آخر:

عليكِ سلام الله قد شطّتِ النـوى

 

وقد كدتُ ألقى الله من كَمَدٍ جُهدا

أموتُ بوَجدٍ مُضمَرٍ وصَـبـابةٍ

 

وأزداد إن زدتم على نأيكم صدّا

آخر:

عليكِ سلام الله قد مُتُّ صَـبـوةً

 

وما لي عَزاءٌ مذ نأيتِ ولا صبرُ

أرى الصبرَ عنكم كاسمه مذ نأيتمُ

 

فقد وجَلالِ الله ضاق به الصدرُ

آخر:

عليكِ سلام الله قلـبـي مُـتَـوَّقٌ

 

وجسمي نحيلٌ والمدامع تـذرف

ومثلُ الهوى أضنى الحشا وبمثل ما

 

بُليتُ به تُنكى القلوب وتُشـعَـفُ

وقال آخر:

عليكِ سلام الله قدْرَ صَـبـابـتـي

 

إليكِ وشَوقي إنني مُدنَفُ القـلـبِ

أبيتُ حليف الهمّ والوجـدِ والأسـى

 

رهينَ يد الأحزان والشوق والكَرْبِ

آخر:

عليكِ سلام اللـه مـا حـنّ آلـفٌ

 

وما اشتاق ذو وجدِ وما طلع الفجرُ

سلامُ مَشوقٍ نحوكم مـتـطَـلِّـعٍ

 

أخي حسَراتٍ خانه فيكمُ الصبـرُ

ما كتبوه على العنوانات وسلكوا به سبيل المداعبات

 

إلى سِتّي ومالكتي وروحـي

 

من الجسد الطريح بغير روحِ

آخر:

إلى الشمس المنيرة حين تبـدو

 

غَداة الدَّجنِ من بين الـغُـيوم

من الصبّ الكئيب أخي التصابي

 

حليفِ الشوقِ محتَبَسِ الغُمـومِ

آخر:

من الدَّنِفِ الذي يُضحي حزيناً

 

وبين ضُلوعه قلبٌ مُصـابُ

إلى الخود التي أبلَت شبابـي

 

فأضحى ما يَسيغُ ليّ الشرابُ

آخر:

منّي إلى قلبي ولم أرَ كاتباً

 

يَخُطّ بأقلام إلى قلبه قَبلي

أرى كل شيءٍ بالياً متغيِّراً

 

وحبُّكِ لا يَبلى ولكنّه يُبلي

آخر:

مني إلـيكِ فـإنـي هـائمٌ دَنِـفُ

 

حِلفُ السَّقام براني الشوقُ والأسَفُ

النفْس ذاهبةٌ والعقلُ مـخـتَـلَـسٌ

 

والقلب محتَبَسٌ والروح مُختَطَـفُ

آخر:

مني إليكِ فما وَجدي بمُنصـرِمٍ

 

حتى الممات وما قلبي بمعذورِ

ولو رأيتُكِ يوماً لا نقضَى حَزّني

 

وعاد عيشي صَفواً بعد تكـديرِ

آخر:

مني إليكِ فإني هائمٌ قـلـقٌ

 

حليف همٍّ قرين العين بالسَّهَدِ

الله يعلم ما بالقلب من قَلـقٍ

 

إذا نأيتِ وما ألقاه من كَمَـدِ

وقد مضى من هذا الباب ما فيه كفايةٌ، ولو ذهبتُ إلى تطويله لم يكن لآخره نهايةٌ، وقد أحييتُ أن أختم كتابنا بأشياء يستحسنها الظرفاء، ويميل إليها الأدباء، مما يُكتب على الأقلام من النُّتَفِ ومليح المُقطّعات والظُّرف. وأنا ذاكرٌ في ذلك بعض ما استحسنتُه، ومُلَحاً مما استرققتُه، إن شاء الله، قد جمعنا في هذا الفصل أشياء من مستظرَفات الأشعار، ومُستحسَن الأخبار، ومُتنَخَّلِ الأبيات، ومنتخَبُ المقطَّعات، ونوادر الأمثال، ومُلَح الكلام الذي يجوز كتابه على الفُصوص والتفّاح، والقناني والأقداح، وفي ذيول الأقمصة والأعلام، وطُرُز الأردية والكِمام، والقَلانس، والكَرازن، والعصائب، والوقايات، وعلى المناديل والوسائد والمخادّ والمقاعد، والمَناص والحُلَل، والأسرّة والتِّكك، والرفارف ووجوه المستنظَرات، وفي المجالس والإيوانات، وصدور البيوت والقِباب، وعلى السُّتور والأبواب، والنعال السنديّة، والخِفاف الزَّنانيّة، وعلى الجِباه والطُّرر، وعلى الخدود بالغالية والعَنبر، وعلى الوَطأة والوشاح، وفي تفليج الأُترُج والتفّاح، ومما يُعْدَل به من تنضيد الورد والياسمين، ويُكتب على أواني الذهب، والفضّة، والسكاكين، وقُضبان الخيزران المدهونة، والمخادّ الصينية، والمراوح، والمَذابّ، والعيدان، والمضارب، والطبول، والمَعازف، والنايات، والأقلام، والدنانير، والدراهم، وجعلنا ذلك أبواباً مبوَّبةً، وحدوداً مبيَّنةً، لتقف على أصولها، وتتبيّن حُسن فصولها.

ما يُكتب على الفصوص

نقش بعض الظرفاء الصوفية على خاتمه:

أنا لله، وباللـه أنـا،

 

أنا، والله، مُقرٌّ بالفَنا

آخر:

قد فاز بالطاعة من نالها

 

نعّمتِ الطاعةُ عُمّالهـا

آخر:

أعددتُ لذنـبـي

 

حُسن ظني بربي

آخر:

ختمَ الله بخيرٍ عمـلـي

 

وتوفّاني على حُبّ علي

آخر:

حبُّ عليّ بن أبي طـالـبِ

 

فرضٌ على الشاهد والغائبِ

آخر:

بحُبّ أل محمدٍ

 

ألقى إله محمدِ

آخر:

أنا بالله قـانـعُ

 

إنّ ربي لَصانعُ

آخر:

أنا باللـه واثـقُ

 

إن ربي لرازقُ

آخر:

اترُكاني والمعاصي

 

وعلى الله خَلاصي

آخر:

ما علينا مـن جُـنـاح

 

في هوى البيض المِلاحِ

آخر:

أحبّ من يَهواني

 

برُغم من ينهاني

آخر:

آفة عقلي بصري

 

وله عقلي نظَري

آخر:

تحت ثيابي بدنٌ نـاحـلُ

 

وفي فؤادي شُغُلٌ شاغلُ

آخر:

أمسيتُ عبداً لك لا أجحدُ

 

أنا مُقِرٌّ، والهوى يشهدُ

آخر:

أنا مولىً لأهلِ هلْ

 

من توالاهم عَقَلْ

يعني: هل أتى على الإنسان لأنها نزلتْ في عليّ.

ومما ينقشه أهل الحزم على خواتيمهم

القناعة خيرٌ من الضّراعة. التقلّل خيرٌ من التذلّل. السلامة خيرٌ من الندامة. الأسف أهون من التكلّف. بادِر الفرصة قبل أن تكون الغُصّة. الهرب قبل الطال. الفِرار قبلَ الحِصار. الرجوع قبل الوُقوع.

وفي ضرب آخر لكل حقٍّ، حقيقة ولكلّ زمان خليفةٌ. القصد أقرب من التعسّف. الكفّ أحرى من التكلّف. الموت معتبَرٌ، والسبيل محتضَر. الحق يُنجي، والباطل يُردي. النصح ملامةٌ، والتصريح سلامةٌ. الأمل يَلوي، والشيطان يُغوي. لكل امرئ طريقةٌ، ولكل عاملٍ وثقيهٌ. بطول التجارب تكشَّفُ المآرب. طول الاعتبار من حُسن الاختيار. فوْتُ الأمل أشدّ من حضور الأجل.

ومما ينقشه أهل الهوى على خواتيمهم

من كثُرت لحظاته دامت حسراته. من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه. من قدّم هواه دام أساه. العقل عند الهوى أسيرٌ والشوق عليهما أميرٌ. إذا كثُر الجفاء قلّ الوفاء. إذا صحّ الظفَر وقعت الغِيَر. إذا صحت القلوب اغتُفرتِ الذنوب. قلّ من سَلا إلا استفزّه الهوى. من مُنِع من النظر اقتصر على الأثر. من مُنع من الوِصال قَنع بالخيال.

وفي ضرب آخر

الحين خيرٌ من البَين. القبر أفسح من الهَجر. الموت خيرٌ من الفوت. غُصَص الفراق شرٌّ من السياق. كأس الهجر أمرُّ من الصبر. طول الجفاء يُكدّر الصفاء. حُسن الوفاء رُكنُ الإخاء. آفة الحبيب نظر الرقيب. آفة الغَزَل سُرعة المَلَل. الهوى ثوب الضّنى. ذهب الفِراق بحيلة العشّاق.

وفي صرب منه آخر حَفِيَ فَلفي. ألِف فتلِف. جنّ فأنّ. حظي فَرَضي. عشقَ فزهقَ. هوي فضنيَ. صُرِم فظُلم. صدّ فجدّ. صبر فقَدَر. مُنعَ فجزِع. نال فاستطال. باح فاستراح. سَلا فقال. مَلَكَ ففتَكَ. عدَلَ فقتَلَ. عفّ فكفّ.

وكان الحسن بن وهب تعشّق جاريةً يقال لها ناعمُ، فنكس اسمها ونقش على خاتمه: مُعان، وذكر ذلك في أبياتٍ يقول فيها:

 

نَقَشتُ مُعاناً على خاتـمـي

 

لكيما أُعان على ظالمـي

كذا اسم من هام قلبـي بـه

 

وأصبحَ في حالة الـهـائمِ

نكستُ الهجاء فأعلـنـتُـهُ

 

بطَرفي ليخفى على الحازِمِ

وكان محمد بن عبد الملك الزيّات يحبّ بعض جواري القِيان، ثم تنكّر لها فكتبت على خاتم لفظاً تُعرّض له فيه بالعِتاب، فبلغه ذلك فكتب على خاتمه ضدّ ما كتبت، فبلغها، فمحت ما كان على خاتمها وكتبت ضدّ ما كتب، فبلغه ذلك فمحا ما كان على خاتمه، وكتب ضدّ ذلك في أبياتٍ يقول فيها:

 

كتبَت على فَصٍّ لخاتمها:

 

من ملّ أحبـابـه رَقـدا

فكتبتُ في فصّي ليبلُغهـا:

 

من نام لم يَشعرْ بمن سَهِدا

فمحته واكتتبت ليبلُغنـي:

 

ما نام من يهوى ولا هَجَدا

فمحوته ثم اكتتبـتُ: أنـا

 

والله أوّل مـيّت كَـمَـدا

قالت: يُعارضُني بخاتَمـه

 

والله لا كلّـمـتُـه أبـدا

ما وجد على التفاح من الألفاظ المِلاح

قرأتُ على تفاحة مكتوباً بماء الذهب:

قبل تُهدوني فخُطّـوا

 

فيّ سطراً من ذهبْ

إنني أعطف من ص

 

دَّ ليُصفي ذا كُـرَبْ

وعلى أخرى بالفضة:

ليس شـيءٌ يُتـهـادى

 

مثلَ تفاحٍ مـكـتَّـبْ

خُطّ بـالـفــضة...

 

... نحرير مـهـذَّبْ

يا مُنى قلبي مـا تـرْ

 

ثي لذي عشقٍ معذَّبْ؟

وعلى أخرى:

أنا للأحباب بالـس

 

رّ وبالوصل رسولُ

أُتهـادى فـأُرقّ ال

 

قلبَ والقلبُ مَلولُ

وعلى أخرى:

وإذا ما مرسلٌ ن

 

مّ فما أنتِ نَمومه

أنتِ رَيحانةُ قلبي

 

ثم للسرّ كَتومَـه

وعلى أخرى:

أنا شمّكة الكـري

 

..... لمجلـسـه

ورسولٌ مـبـاركٌ

 

مذهِبٌ صدّ مؤنسه

وعلى أخرى:

اشرب على حُمرة تفـاحِ

 

يا مؤنسي من بارد الراحِ

حيّاكَ معشوقٌ له زهـرةٌ

 

وقَينةٌ بالعود مِفـصـاح

وعلى أخرى:

ما تُحيا بـبـلاء ال

 

ناس مُذ كانوا بمثلي

لي طيبٌ وبـقـاءٌ

 

ومَلاحاتٌ تُسـلّـي

وعلى أخرى:

لي طَراواتٌ وريحٌ

 

ثم ماءٌ ونَضـارهْ

ليس للياقوت فضلٌ

 

كل ياقوتٍ حِجارهْ

وعلى أخرى:

جرحَ اللـهُ الـذي يج

 

رح بالسكّين لحمـي

فلّجوا حـامـضةً إن

 

ي كمثل الشهد طَعمي

وعلى الأخرى:

أنا حمراءُ دعوني

 

لمحبٍّ وحَبـيبِ

وكُلوا ذات بياضٍ

 

أكلُها غير معيبِ

وعلى الأخرى:

حيّاكِ إنسـانٌ لـه رونـقٌ

 

نُوّارةً دانـيةً تـزهَــرُ

تفاحةً حمراء مـنـقـوشةٌ

 

يخجل من حُمرتها الجَوهرُ

ما وجد على ذيول الأقمصة والأعلام وطرُز الأردية والأكمام

قال الماوردي: رأيتُ جاريةً، ونحن عند محمد بن عمرو بن مسعدة، لم أشكّ أنه عاشقٌ لها، وإليها مائلٌ، لِما رأيتُ من حركاته إذا نظرت، وسُروره إذا نطقت، وتهلُّله إذا غنّت. وكانت فوق وصف الواصف من الحُسن والجَمال، وعليها قميصٌ موشَّحٌ، ورداء معيَّنٌ، مكتوبٌ في وشاح القميص:

أغـيب عـنـكَ بـوُدٍّ لا يُغـيّرُهُ

 

نأي المحلّ ولا صَرفٌ من الزمنِ

 تعتلُّ بالشُّغل عنا ما تُكلّمـنـا

 

الشغل للقلب ليس الشغل للبدنِ

وعلى طراز الرداء:

أقلّ الناس في الدنيا سُروراً

 

محبٌّ قد نأى عنه الحبيبُ

 قال: ورأيتُ جارية لبعض الهاشميين يُقال لها عَريب، عليها قميصٌ ملحَمٌ، موشَّحٌ بالذهب، مكتوبٌ في وشاحه:

 

وإني لأهواه مسيئاً ومـحـسـنـاً

 

وأقضي على قلبي له بالذي يَقضي

فحتى متى رَوْحُ الرضى لا ينالني

 

وحتى متى أيام سُخطِكَ لا تَمضي

وعلى طراز كُمّه:

إذا صدّ من أهوى وأسلمني الغَري

 

ففُرقة من أهوى أحرُّ من الجمرِ

ورأيتُ على ماجِنَ جارية مكاتم المغنّية قميصاً في وشاحه بالذهب:

 

زَفَراتي ليس تَفنـى

 

وفؤادي بك مُضنى

أتـرضـاكَ وأُبـدي

 

لك ... سـنـــا

بأبي كم أتـمـنّـى

 

وإلى كم أتـمـنـى

بعدما أصبح قلـبـي

 

في يد الأحرار رَهنا

قال: ورأيتُ في صدر قميص جارية تَباريح الكوفية مكتوباً بالفضة والذهب سطراً وسطراً:

 

يا فتى! قلتُ إذ دعاني هواه

 

مستجيباً لصوته لـبّـيكـا

ما بكت مُقلتي لفقْـدك إلا

 

جَزَعاً أن أموت شوقاً إليكا

قال: ورأيتُ مرة أخرى عليها دُرّاعَةَ ملْحَمٍ بتَرانين إبرِيسَم ولِبنة سوسَنْجرْد وفي دور اللِّبنة مكتوبٌ:

 

يا رامياً ليس يدري ما الذي فعلا!

 

أمسك عليكَ فإنّ السهم قد قتـلا

أصبتَ أسودَ قلبي إذ رمَيتَ فـلا

 

شُلّت يمينُك أن صَيّرتني مَثـلا

وكتبت بَنان جاريةُ الخيزران على تَرانين دُرّاعةٍ لها بذهب:

 

لم تقُلْ قولاً ولكن حلـفـت

 

أنها أحسنُ عينٍ أُطرِفـت

زعمَت أني قد لاحظتُـهـا

 

أيُّ عينٍ لحَظَت فاعترفت

أظهرت حُجّة من يعشقهـا

 

واستباحَت غفلةً وانصرفَت

وعلى طراز كُمّها:

ليس بي صبرٌ ولا بي جَلَدٌ

 

قد نفى حُبُّكَ عني جَلَدي

وأخبرني بعض أصحابنا قال: أخبرني من رأى في ذيل جارية الحسَن بن قارِن منسوجاً في العَلَم:

 

أحسنُ ما قد خَلَق الل

 

ه وما لم يَخلـفُـهْ

شكوى فتاةٍ وفـتـىً

 

يعشقها وتعشـقُـهْ

نار الهـوى دانـيةٌ

 

تحرقُها وتَحـرقُـهْ

يا حبّذا الـحـبّ إذا

 

دام ودامت حُرَقُـهْ

وكتبت راهي جارية الأحدب قبل أن يشتريها إسحاق بن إبراهيم المَوصلي على وشاح قميصها:

 

إذا وجدتُ لهيب الشوق في كَبِدي

 

أقبلتُ نحو سِقاء القوم أبـتَـرِدُ

هَبني طفِئتُ ببَرد الماء ظاهـره

 

فمن لحَرٍّ على الأحشاء يتّـقـدُ

وكتبت جاريةٌ لقبيحة على رِداء لها رشيديّ:

 

أراهم يأمرون بقطـع وصـلـي

 

مُريهم في أحـبّـتـهـم بـذاكِ

فإن هُمْ طاوعوك فطـاوعـيهـم

 

وإن عاصَوكِ فاعصَيْ من عَصاكِ

وكتبت جارية أبي حرب على رداء لها ممسَّك:

 

من ألِفَ الحبَّ بكى

 

من شَفّه الشوق شَكا

من غاب عنه إلفـه

 

أو صدّ عنه هلكـا

يا مالكاً عـذّبـنـي

 

بجَوره إذ مَـلَـكـا

رِفقاً بمملوكِـكَ مـا

 

يحلّ ذا الظُّلم لكـا

 وكتب بعض الظرفاء على طرازٍ مُطْرَفٍ خَزّ:

 

وهبَتْ شمالٌ أخر اللـيل قَـرّةٌ

 

ولا ثـوب إلا بُـردهـا وردائيا

فما زال ثوبي طيّباً من ثيابـهـا

 

إلى الحَول حتى أنهج الثوب باليا

 وكتبت دبسيّة جارية زُرزور على قُباء مُعَصفَر:

 

وما البدر المنير إذا تجلّـى

 

هُدُواً حين ينزل بالعـراقِ

بأحسنَ من بُثينةَ يوم قامت

 

تهادى في معصْفرةٍ رُقاقِ

ما وجد على الكرازن والعصائب ومشادّ الطرر والذوائب

وكتبت عَلَلُ على قَلَنْسُوةٍ لها ديباجٍ، وهي جارية محمد بن المأمون:

 

ما يَمَلّ الحبيب طول التجنّي

 

لبَلائي به ولا الصدّ عنّـي

كلّ يومٍ يقول لي: لكَذبـتِ،

 

يتجنّى ولا يرى ذاك منـي

ربما جئته لأُسلفـه الـعُـذ

 

ر لبعض الذنوب قبل التجنّي

 وكتبت جارية المارِقي على قَلَنْسوةٍ لها بذهب:

 

كتب الشوق في فؤادي كِتابـاً

 

هو بالشوق والهوى مختـومُ

رحم الله معشراً فـارَقـونـي

 

لا يُطيعون في الهوى من يَلومُ

ساق طَرفي إلى فُؤادي بَلائي

 

إنّ طَرفي على فُؤادي مَشومُ

وكان على قَلَنْسُوة جارية محمد بن سعيد الفارسي مكتوباً:

 

أنا بعد القضاء سمتُ فـؤادي

 

وأصبتُ الغَداة عيني بعينـي

لم تزَل بي حوادثُ الدهر حتى

 

فرّقت بين من أحِبّ وبَينـي

وكتبت جارية الحَباب على قَلَنْسوتها:

 

الله يحفظُهُ على شَحط النوى

 

ما كان أوصلَه إلى تعذيبـهِ

وكتبت جارية ابن السُّلَمي على كَرْزنها:

 

الشمس تطلُعُ للمَغيب ولا أرى

 

شَوقي إليكَ على الزمان يَغيبُ

 وكتبَت بَنان الشاعرة على قَلَنسوةٍ لجاريتها:

 

إنْ كنتُ خُنتُ ولم أُضمر خيانتكم

 

فالله يأخذ ممن خان أو ظلـمـا

سماحةً من مُحِبٍّ خان صاحبـه

 

ما خان قطّ محبٌّ يَعرف الكَرما

والله لا نظرَتْ عيني إلـيكَ ولا

 

سالت مَساربُها شوقاً إليكَ دمـا

 وقال الجاحظ: رأيتُ نشوان جارية زلزل وعليها عِصابةٌ مكتوبٌ عليها:

 

عينٌ مُسهَّدةٌ في مائهـا غـرقَـت

 

يا ليتها ذهبت لو لم تكُن خُلـقَـت

لم تذهبِ النفسُ إلا عند لحظتـهـا

 

ولا بكت بـدمٍ إلا لـمِـا أرِقَـت

يا مقلةً سوف أبكيهـا ويا كَـبِـداً

 

بها أحاطَ الهوى والشوق فاحترقَت

 وكان على كَرزَنها:

 

الحبّ يُعرف في وجوه ذوي الهوى

 

باللحظ قبل تَصافُـح الأجـفـان

 قال: ورأيتُ على قَلَنسوة تَباريح:

 

أهلُ الهوى في الأرض تَلقاهُمُ

 

يمشـون أحـياءً كـأمـواتِ

 وكتبت شادنُ جارية خَنَث قيِّمة جواري المأمون على وِقايةٍ تجمع بها ذوائبها:

 

بيضاء تسحب من قيامٍ فَرعَها

 

وتغيب فيه وهو جَثْلٌ أسْحَمُ

فكأنّها فيه نهـارٌ مُـشـرقٌ

 

وكأنه ليلٌ عليها مُـظـلِـمُ

وقال علي بن الجَهم: حضَرتُ مجلس بعض الظرفاء فخرجتْ علينا جارية كأنها تمثال، وعليها عصابة قد أرسلت لها طرفين، على صدرها مكتوبٌ:

 

من يكُن صبّاً وفيّاً

 

فزِمامي في يديه

خُذ مليكي بعِناني

 

لا أُنازعك عليه

 قال: فوثَبت فأخذتُ بطَرفي العِصابة وقلتُ: أنا والله صبّ، وأوفى خَلْق الله لمحبٍّ! قالت: إنه لا بدّ للفرس من سوطٍ قلتُ: يا غلام! هات السوط. قالت: هيهاتِ! ذاك سَوطُ الدوابّ وسوطُ مثلي شَبيه فضةٍ، وعِلاقته ذهب.

وكان على قَلَنسوة زَينَ مغنِّية إسماعيل

 

أُقيم على الآصال منتـظـراً لـهـا

 

وقد أشرفَت من هَول ذاك على نحبي

أموتُ وأسْتحيي الـهـوى أن أذمّـه

 

وإنْ كنتُ منه في عَناء وفي كَـرْبِ

وقال الزبير بن بكّار: رأيتُ على قَلَنسوة بعض المغنّيات:

 

أدميتَ باللحظات وجنتهـا

 

فاقْتصّ ناظرها من القلبِ

وعلى عصابتها:

فإذا نظرتَ إلى محاسنهـا

 

أخرجْتَها عُطُلاً من الذنبِ

وقال الماوردي: رأيتُ جارية لبعض ولد المأمون، وعليها قَلَنسوة عليها مكتوبٌ:

 

يا تارك الجسم بلا قَـلـب

 

إنْ كان يَهواكَ فما ذنبـي؟

يا مفرَداً بالحُسن أفردتَنـي

 

منك بطول الشوق والكَرْبِ

 وعلى كَرزَن لها:

 

أنا العبد المقرّ بطـول رقٍّ

 

وليس عليك من عبدٍ خِلافُ

قال: ورأيتُ على جارية لا هي كَرزَناً مكتوباً عليه:

 

عذّبه بالهـجـر مـولاه

 

وزاده شوقاً وأضْـنـاهُ

فدمعه يجري على خدّه

 

ولم تنمْ للوَجد عـينـاهُ

قد كتب الحُبُّ على قلبه:

 

مُتْ كمَداً يرحمُك اللـهُ

 وكتبت جارية لعيسى بن جعفر بن المنصور، وكانت قيّمةً له، على كَرزَنها:

 

ليت النقابَ على القِباح مُحرَّمٌ

 

وعلى المِلاح خطيئةٌ لا تُغفرُ

وكتبت على وقايةٍ تجمع بها ضَفائرها:

جزى الله البَراقع من ثيابٍ

 

عن العينين شرّاً ما بقينـا

يُغطّين المِلاح فلا تَراهم

 

ويستُرن القِباح فيستوينـا

وكتبت عارم جارية جناح على كَرزنها، وكانت تتعشّق بعض ولد الحسن بن وهَب:

 

وإني لأخلو مذ فقـدتُـكَ دائبـاً

 

فأنقُشُ تمثالاً لوجهك في التُّربِ

فأسقيه من دمعي وأبكي تضرُّعاً

 

إليه كما يبكي العبيد إلى الربِّ

وكتبت ابنةُ الرُّصافية، وكانت تتعشّق ابن الرشيد، على كَرزَنها:

 

قالوا: عليكِ سبيلَ الصبر! قلتُ لهم:

 

هيهاتِ! إنّ سبيل الصبر قد ضاقا

ما يرجع الطرف عنه حين يُبصره

 

حتى يعودَ إليه الطَّرفُ مُشتـاقـا

قال افضل بن الربيع، قال أبي: رأيتُ على عصابة دبسيّة جارية أبي حرب:

 

محاسنُ وجهكَ تمحو الذنوبا

 

وتعمَلُ في القلب شيئاً عَجيبا

فمِنْ ثمّ تهجُرُني ظـالـمـاً

 

تجنّى وتُحصي عليّ الذنوبا

وكتبت شَمسة الطُّنبورية على عصابتها، وكانت تُغنّي الرشيد:

 

لا لصبرٍ هجرتُكم علـم الـل

 

ه ولكن لـشـدّة الاشـتـياق

رُبّ سرٍّ شاركتُ فيه ضميري

 

وطواه اللسان عند التلاقـي

وكان على قَلَنسوة شمائل جارية الماهانية:

 

ليلي بوجهك مـشـرقٌ

 

وظلامه في الليل ساري

فالناسُ في سَدَفِ الظـلا

 

م ونحن في ضوء النهارِ

وكان على كَرزن مُشتاق جارية إسحاق بن علي الهاشمي مكتوباً بالذهب سطران:

 

إن كان قلبي يهوى وصل غيركُمُ

 

إذاً فعاقبني الرحمن في بَصري

أو لم يكُن بكمُ ما عشتُ ذا كَلَفٍ

 

فأنزل الله بي يا سيّدي خَـدَري

وكان على عصابتها مكتوباً بالذهب:

 

ما كنتُ إلا حُـلُـمـاً

 

رأته عيني في الوَسَنٍ

يا سمَحَ الفـعـل ويا

 

أحسن من كل حسَنْ

ما وجد على الزنانير والتكك والمناديل

قال عليُّ بن الجَهم: رأيتُ في منطقة واجد الكوفية زُنّاراً منسوجاً مكتوباً فيه:

 

لستُ أدري أطال ليليَ أم لا

 

كيف يدري بذاك من يتقلّى؟

لو تفرّغتُ لاستطالة لـيلـي

 

وارعْي النجوم كنتُ مُخِـلاّ

ورأيتُ جارية في بيعة ماري مريم، في دار الروميّين، بمدينة السلام، كأنها فِلقةُ قمرٍ، خارجةً من الهيكل، في وسطها زُنّارٌ عليه بيتان:

 

زُنّارُها في خصرها يَطرب

 

وريحها من طيبها أطـيبُ

ووجهها أحسن من حَلْيهـا

 

ولونها من لونها أعـجـبُ

وقرأت في زُنّار وقايةٍ لبعض القصريّات:

 

أليس عجيباً أنّ بيتاً يَضمّني

 

وإياك لا نخلو ولا نتكلّـمُ

ورأيتُ جارية أُبُلِّيّة لبعض المخنَّثين، وقد علّقت طبلاً في عُنقها بزُنّارٍ عليه مكتوبٌ:

 

آوَّتاهُ من بـدنـي كـلّـه

 

فتّتَ مني مَفْصِلاً مَفْصِلا

 وعلى تِكّتها مكتوب:

 

غابوا فأضحى الجسمُ من بعدهم

 

لا تُبصر الـعـين لـه فـيّا

واخجْلتا منهم ومن قـولـهـم

 

ما ضَرّكَ البُعـدُ لـنـا شـيّا

بأيّ وجـهٍ أتـلـقّـاهـــمُ

 

إذا رأونـي بـعـدهـم حـيّا

 وكان على تِكّة هاتف جارية العاجي مكتوباً:

 

ولي عاذلٌ قد شفّ بـعَـذلـه

 

وواشٍ بنَبل الحبّ يرمي مَقاتلي

كفى حَزناً والحمد للـه أنـنـي

 

تقطّع قلبي بين واشٍ وعـاذِلِ

وكتبت خاضع المُغنّية على زُنّار كانت تشد به طُرّتها:

 

ما أتْيَهَ المعشوق في نفسه

 

وأبيّنُ الذُّلّ على العاشقِ

 وأخبرني من قرأ على طَرفَي تِكّة لقَينةٍ:

 

ما أُراني حُلّتِ التِّكَ

 

ة إلاّ لـهَـنـاتِ

وإنما خُلّي لـلـتِّ

 

كّة إنجاز العِداتِ

 وأخبرني آخر أنه قرأ على تكّةٍ لبعض المَواجن:

 

إقطع التكّة حتـى

 

تذهب التكّةُ أصلا

ثم قُل للردف أهلاً

 

بكَ يا رِدفُ وسَهلا

 وكتبت سَلْم جارية لَمَم إلى فتىً كانت تحبّه في منديل دَبيقي بالذهب:

 

هاءنذا يُسقطُني للبـلـى

 

عن فُرُشي أنفاس عُوّادي

لو يجد السِّلـكُ عـلـى دِقّةٍ

 

خَلْقاً لأضحى بعض حُسّادي

فكتب إليها في منديل آخر:

لا تسألي كيف حالي بعد فُرقتكُـم

 

ها فانظري وأجيلي طَرْف ممتحِنِ

تري بلىً لم يدع مني سوى شبـحٍ

 

لو لم أقلْ ها أنا للنـاس لـم أبِـنِ

وقرأتُ على منديلٍ لبعض الظرفاء وقد أدرج فيه كتاباً:

وإني لتَغشاني لذكـراكِ فـتـرةٌ

 

كما انتفض العُصفور بلّله القَطرُ

عجبتُ لسعي الدهر بيني وبينهـا

 

فلمّا انقضى ما بيننا سكَنَ الدهرُ

وكتب آخر على منديل:

إن بعض العِتاب يدعو إلى العَتْ

 

ب ويُودي به الحبيبُ الحبـيبـا

وإذا ما القلوب لم تُضمـر الـح

 

بّ فلن يعطفَ العِتاب القُلوبـا

وأخبرني من رأى على منديل ممسَّك لبعض الظِّراف:

أنا مبعـوثٌ إلـيكِ

 

أُنسُ مولاتي لديكِ

صَنَعتنـي بـيديهـا

 

فامسحي بي شَفَتيكِ

وكتب أخر على منديل أهداه:

أنا منديل محـبٍّ لـم يزل

 

ناشفاً بي من دموع مُقْلتيهِ

ثم أهداني إلى محـبـوبةٍ

 

تمسحُ القهوة بي من شَفَتيهِ

وقرأتُ على منديلٍ لبعض الظراف:

إن يكُن حبلُكِ من حبلي وَهى

 

وإلى شَوقي إليكِ المُنتهـى

لم يُذكّرْنيكِ شـوقٌ حـادثٌ

 

إنما يذكُرُ من كان سَـهـا

وكتبت أسماء بنت غَضيض جارية حَمدونة ابنة المَهدي على تِكّتها من الوجهين:

جِلدٌ على أعظُـمٍ دقـاقِ

 

مسكَنُ أنفاسه التـراقـي

توقَد أحشاؤه فـيُطـفـي

 

حُرقتها هاطلُ المـآقـي

لولا تَسليه بالـتـبـكّـي

 

إذاً جَنَيناه بـانـحـراقِ

يا ربِّ عجِّلْ وفاة روحي

 

قبلَ هُجومي على الفِراقِ

وكتبت على منديلها:

إليكَ أشكو ربِّ ما حلّ بـي

 

من صدّ هذا العاتب المُذنبِ

صدِّ بلا جُرمٍ ولو قال لـي

 

لا تشربِ الباردَ لم أشربِ

وكتب أخر على منديل أهداه:

أيا مَن لا أُرجي منه رِفقـاً

 

ولا من رقّهِ ما عشتُ عِتقا

لقد أنفذتُ دمْعَ العينِ حتـى

 

بَكيتُ دماً لفَقدكَ ليس يَرقا

وكتبت عِنان جارية الناطفيّ على منديل وجّهَت به إلى أبي نُواس، وكانت تحبه:

أما يُحسـنُ مَـن أحـس

 

نَ أن يغضَبَ أن يرضى

أما يَرضى بأنْ صِـرتُ

 

على الأرض لهُ أرضا

ما وجد على الستور والوسائد والبُسط والمرافق والمقاعد

قال عليّ بن الجهَم: قرأتُ على سترٍ لبعض أمّهات ولد المأمون:

هجرتني كي أُجاريكم بفِعلـكـمُ

 

لا تهجريني فإني لا أُجـاريكِ

قلبي مُحبٌّ لكم راضٍ بفِعلكُـمُ

 

أسترزق الله، قلبٌ لا يُجانـيكِ

أصبحتُ عبداً لأدنى أهلِ داركمُ

 

وكنتُ فيما مضى مولى مَواليكِ

وكتب بعض ولد المتوكّل على سِتره:

يا أيها اللائِمي فيها لأصرفـهـا

 

أكثرتَ لو كان يُغني عنكَ إكثارُ

إرجِعْ فلستَ مُطاعاً إنْ وَشَيتَ بها

 

لا القلب سالٍ ولا في حُبّها عارُ

وكتب موسى الهادي بن المهدي على سِتره:

يا أيها الزاعم الذي زعـمـا

 

أن الهوى ليس يُورثُ السَّقَما

لو أن ما بي بكَ الغَداة لَمـا

 

لُمْتَ مُحبّاً إذا شكـا ألَـمـا

وكتب بعض الظرفاء على مِخدّة له:

يا راقدَ الليلِ ممّن شفّه السَّـقَـم

 

وهدّه قَلَـقُ الأحـزان والألَـمُ

جُد بالوصال لمن أمسيتَ تملكُـهُ

 

يا أحسن الناس من قَرنٍ إلى قَدَمِ

أخبرني من قرأ على مِخدَّةٍ لبعض الظرفاء:

لم أذُقْ يا سُولَ قلبـي

 

للكَرى مُذْ غِبتَ طَعما

ترك الدمع على خـدّ

 

يَّ لمّا فاض رَسْمـا

وقرأتُ على وسادةٍ لبعض الكُتّاب:

تشكّى المحبّون الصبابة ليتـنـي

 

تحمّلتُ ما يَلقَونَ من بينهم وَحْدي

فكانت لروحي لذّةُ الحُبّ وحدّها

 

فلم يَلْقَها قبلي مُحِبٌّ ولا يَعـدي

وأخبر بعض الكُتّاب أنه قرأ على بساطٍ لبعض أهل الهوى:

أحسنُ من قهوةٍ وعـودٍ

 

توريدُ خـدّيكِ يا وحـيدُ

نأيتِ عني فذاب جِسمي

 

وهدّني الشوقُ والصُّدودُ

وطال سُقمي لبُعد حبّـي

 

وملّني الأهلَ والبَعـيدُ

 وكتب بعض الظرفاء على مُصَلاّه:

 

وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليسَ لي

 

متـأخَّـرٌ عـنـه ولا مـتـقـدَّمُ

أجدُ المـلامة فـي هـواكِ لـذيذةً

 

حُبّاً لذكركِ فليلُـمْـنـي الـلُّـوَّمُ

وأهنتني فأهَنْتُ نفـسـي عـامـداً

 

ما مَن يَهونُ عليكِ ممّـن أُكـرِمُ

أشبهتِ أعدائي فصِرتُ أُحـبّـهـم

 

إذ صار حظّي منكِ حظّي منهُـمُ

 وكتب سعيد بن قَيس على مُصَلاّه:

 

سأمنع عيني أن تَلَذَّ بنـظـرةٍ

 

وأشغلُها بالدمع عن كلّ منظَرِ

وأشكرُ قلبي فيكِ حُسنَ بَـلائه

 

أليس به ألقاكِ عند التـذكُّـرِ

 وكتب بعضهم على بساط:

 

كتمتُ حُبّهُمُ صَونـاً وتَـكـرِمَةً

 

فما درى غيرُ إضماري به وهُمُ

قومٌ بذلتُ لهم صَفوَ الوِداد فـمـا

 

جازوا عليه ولا كافَوا ولا رَحِموا

هم علّموني البُكا لا ذُقتُ فقدَهـمُ

 

يا ليتهم علّموني كيف أبـتـسِـمُ

ما وجد على المناص والحجل والأسِرّة والكِلَل

قرأتُ على كَلّةٍ معصفَرَة، لبعض الكُتّاب، بالذهب:

 

من قِصَرِ الليلِ إذا زُرتني

 

أبكي وتبكين من الطولِ

عَدوُّ عينيكِ وشانيهـمـا

 

أصبح مشغولاً بمشغولِ

 وأخبرني بعض الظرفاء أنه قرأ على منصّةٍ لبعض المُجّان:

 

تقول، وقد جرّدتُها من ثـيابـهـا:

 

ألستَ تخاف اليوم أهلكَ أو أهلي؟

فقلتُ: كِلانا خائفٌ بـمـكـانـه

 

فهل هو إلا قتلُكِ اليومِ أو قَتلـي

 وقرأتُ على كِلّة حريرٍ اسمانجوني بالذهب:

 

سهرتُ وعانقتُهـا لـيلةً

 

على مثلها يَحسُدُ الحاسدُ

كأنا جميعاً وثوبُ الدُّجى

 

علينا لمُصِرِنـا واحـدُ

 وقرأت على كِلّة لبعض الظرفاء:

 

فِبتنا على رُغم الحَسـود وبـينـنـا

 

حديثٌ كريحِ المِسك شيبَ به الخمرُ

حديثٌ لو أن المَيتَ يُوحى ببعضـه

 

لأصبح حيّاً بعدما ضمّه الـقـبـرُ

 وقرأت على وجه أريكةٍ لبعض الهاشميين:

 

جعَلتِ محلّةَ البلوى فـؤادي

 

وسلّطتِ السُّهادَ على رُقادي

دعيني لا أبوح بكلّ وَجـدي

 

أليس النار من طَرفَيْ زِنادي

وبِتِّ خلِيّةً وسلبَـتِ نـومـي

 

أما استحيا رُقادُكِ من سُهادي

 وكتب بعض الظرفاء، على حَجَلةٍ له معصفَرةٍ، بالذهب:

 

دعيني أمُتْ والشملُ لم يتشعّبِ

 

ولا تبعدي أفديكِ بالأمّ والأبِ

سقى الله ليلاً ضمّنا بهد هَجْعةٍ

 

وأدنى فؤاداً من فؤادٍ مُعذَّبِ

فبتنا جميعاً لو تُراقُ زُجـاجةٌ

 

من الراح فيما بيننا لم تَسَرَّبِ

 وأخبرني بعض الكُتّاب أنه قرأ على حَجَلةٍ مكتوباً:

 

نَشَرَت عليّ غَدائراً من شَعرها

 

حَذَرَ الفضيحة والعَدُوّ الموبِقِ

فكأنه وكأنـنـي وكـأنـهـا

 

صُبحانِ باتا تحت ليلٍ مُطبِـقِ

 ودخلتُ على بعض الكُتّاب في يومٍ شديد الحرّ، وهو على دُكّان ساجٍ مكتوبٍ في وجهه باللازَوَرْدِ:

 

حَرُّ حُبٍّ وحَرُّ هَجْرٍ وحَرّ

 

أيُّ شيءٍ يكون من ذا أمَرّ

 وعلى الجانب الآخر:

 

ثلاثة أحبابٍ: فحُبٌّ عـلاقةٌ،

 

وحُبٌّ تِمِلاقٌ، وحُبٌّ هو القتلُ

 وأخبرني بعض من قرأ حول سرير لبعض الظرفاء:

 

ومجدولةٍ أما مجالُ وِشاحـهـا

 

فغُصنٌ وأما رِدفها فـكـثـيبُ

لها القمر الساري شَقيقٌ وإنهـا

 

تطلَّعُ أحـيانـاً لـه فـيغـيبُ

أقول لها والليل مُرخٍ سُـدولَـهُ

 

علينا: بكِ العيشُ الخَسيس يطيبُ

فقالت: نعم إنْ لم يكُن لكَ غَيرُنا

 

ببغدادَ من أهل القُصور حَبـيبُ

وكتب بعض الظرفاء على سرير له آبَنوسٍ بعاجٍ:

إنّ طيف الخيال أرّق عينـي

 

ما لعيني وما لطيفِ الخيالِ؟

جمع الله بين كـلّ مُـحـبٍّ

 

قد جَفاه الحبيبُ بعدَ الوِصالِ

وكتب على منصّته بالذهب:

ينام المُسعَدون ومن يلـومُ

 

وتوقظُني وتوقظُها الهُمومُ

صحيحٌ بالنهار لِمَن يَراني

 

وليلي لا أنـامُ ولا أُنـيمُ

ما يكتب على المجالس والأبواب ووجوه المستنظرات وصدور القِباب

قال علي بن الجهم: رأيتُ في صدر قبّةٍ مكتوباً بألوان فُصوصٍ منضَّدةٍ:

 

لا تُطمعِ النفسَ في السُّلوّ إذا

 

أحببتَ حتى تُذيبها كَـمَـدا

من لم يَذُق لوعة الصُّدود ولم

 

يصبرْ على الذُّلّ والشَّقا أبدا

فذاكَ مستظرفُ الفؤاد يرى

 

في كلّ يومٍ أحبابـه جُـدُدا

وأخبرني أبو جعفر القارئ قال: أخبرني بعض شيوخنا أنه قرأ في صدر مجلسٍ لأمير المؤمنين المأمون:

 

صِلْ مَن هَويتَ ودَع مقالةَ حاسـدِ

 

ليس الحسود على الهوى بمُساعِدِ

لم يَخلُقِ الرحمن أحسنَ مَنـظـراً

 

من عاشقينِ على فِـراشٍ واحِـدِ

متعانقين عليهمـا أُزُرُ الـهـوى

 

متوسِّدين بمِعصَـمٍ وبـسـاعِـدِ

يا مَن يلومُ على الهوى أهل الهوى

 

هل تستطيعُ صَلاحَ قلبٍ فاسِـدِ

وقرأتُ على وجه مُستنظَرٍ لبعض الكُتّاب:

 

هَبَتْ شمالٌ فقلتُ: من بلدٍ

 

أنتَ به؛ طابَ ذلك البلدُ

وقبّل الريح من صَبابتـه

 

هل قبّل الريحَ قبله أحَدُ

وأخبرني أحمد بن الحُسين بن المُنجِّم المقرئ أنه قرأ على مُستنظَرٍ لبعض الكتّاب:

 

لي إلى الريح حاجةٌ لو قضتْها

 

كنتُ للريح ما حَييتُ غُلامـا

حَجَبوها عنِ الـرياح لأنـي

 

قلتُ: يا ريحُ بلّغيها السلامـا

لو رَضوا بالحِجاب هانَ ولكن

 

منعوها يوم الرياح الكلامـا

أخبرني عبد الحميد المَلَطي أنه قرأ على باب مجلسٍ بمَلَطْيَةَ:

 

لا يمنعنّك خفضَ العيش في دَعَةٍ

 

نزوعُ نفسٍ إلى أهل وأوطـانِ

تلقَى بكلّ بلادٍ إن حَلَلتَ بـهـا

 

أهلاً بأهلٍ وجيراناً بـجـيرانِ

وفي صدر المجلس أيضاً مكتوبٌ:

 

إذا كنتَ في أرضٍ غريباً فرَجّهـا

 

ولا تكترث فيها نزوعاً إلى الوَطَنْ

فما هي إلا بلـدةٌ مـثـلُ بـلـدةٍ

 

وخيرُهما ما كان عوناً على الزَّمَنْ

وقرأت على باب دارٍ خَدْشاً في الجصّ بعُودٍ:

 

هلاّ رجمتُم موقفي بفنائكـم

 

متعرِّضاً لنسيمكم أتنشَّـقُ

مُتّلدِّداً أبكي لِما قد حلّ بـي

 

مثلَ الغريق بما يرى يتعلّقُ

وأخبرني صديقٌ لي أنه قرأ على باب دار بالحجاز:

 

يا دارُ! إنّ غزالاً فيكِ عذّبـنـي

 

لله درُّكِ مـا تـحـوين يا دارُ

الدارُ تملِكُني ويحي وصاحبهـا

 

قلبي، مليكان: ربُّ الدار والدارُ

يا دارُ لولا غَزالٌ فيكِ عُلّقَنـي

 

ما كان لي فيكِ إقبالٌ وإدبـارُ

وأخبرني من قرأ على باب دارٍ بإصطَخْرَ منقوشاً بحجر:

 

أرى الدارَ من بعد الحبيب ولا أرى

 

حبيبي مع الباقين في عَرْصةِ الدارِ

فيا عجباً إذ فارقَ الـجـارُ جـاره

 

أليس شديداً فُرقةُ الجار للـجـارِ

مكتوباً على النعال والخِفاف

ما وجد للمتظرفات والظراف مكتوباً على النعال والخِفاف قال الماوردي: كتبَت جاريةٌ للمارقي على نعلها بالذهب:

 

لم ألقَ ذا شَجَنٍ يبوح بحبـه

 

إلاّ حسبتُكَ ذلك المحبـوبـا

حذَراً عليكَ وإنني بك واثـقٌ

 

أنْ لا ينال سوايَ منكَ نصيبا

وكان على نعل جارية سعيد الفارسي:

 

لا تأنفنّ من الخُضوع

 

لمن تُـحـبّ ودارِهِ

إخضع له فلطالمـا

 

مُلّكتَ حـلّ إزارهِ

وكتبت ملك جارية ابن عاصمٍ على خُفّ لها رهاوي بذهب:

 

وإني لإشفاقي عليكَ وصَبْوتي

 

إليكَ كأني في المنام أراكـا

تُحدّثني نفسي إذا غِبتَ ساعةً،

 

بأنّ لقاء الموتِ دون لِقاكـا

وكتبت متيَّم المغنّية على نعلها:

أقسمَت مقلته لا تنـثـنـي

 

عن فؤادي أو تراه قِطعـا

فلقد برّت فهل من مطمعٍ

 

أن ترى ما قطّعتْ مجتمِعا

وأهدى سعيد بن حُميد نعلاً إلى صديقٍ له وكتبَ عليها:

نعلٌ بعثتُ بها لتلبـسـهـا

 

قَدَمٌ بها تسعى إلى المجدِ

لو كان يصلُحُ أن أُشرّكَها

 

خدّي جعلتُ شِراكها خدّي

وكتبت جارية علي بن عيسى بن يزْداد كاتب إسحاق بن إبراهيم على خُفّها:

تؤلمه الألحاظ لـمّـا بـدا

 

محتجِباً عن لحَظات العِبادْ

منزلـه نـاءٍ ولـكـنّـه

 

يسكُنُ منّي في سَواد الفؤادْ

وأهدى بعض الكتّاب نعلاً وكتب على شِراكها:

لي فؤادٌ شَفّه الحز

 

ن وأضناه الصُّدودُ

وهـوايَ كـلّ يومٍ

 

هو يَنمـي ويَزيدُ

وكتب بعض الظرفاء على خُفّ له محالسي بالذهب:

لولا شقاوةُ جدّي ما عرفتُـكُـمُ

 

إن الشقيّ الذي يَشقى بمن عرفا

طافَ الهوى بعِباد الله كـلّـهِـمُ

 

حتى إذا مرّ بي من بينهم وَقَفـا

وأخبرني من رأى نعلاً من فضّة أُهديت لبعض الظرفاء عليها مكتوب:

بأبي أنت سيّدي ومُـنـايَ

 

جعلَ الله والـديّ فِـداكـا

لكَ خدّي من الثرى لكَ نعلاً

 

قُدّ للنعل من فؤادي شِراكا

وقرأتُ على نعلٍ سِنديٍّ مدهون:

جعلتُ خـدّيَّ لـه أرضـاً

 

فقلتُ: طأ من فوقها وارْضا

فقال: لا! قلتُ: بلى سـيّدي

 

صبراً على الحُبّ وإنْ مضّا

ما يكتب بالحناء في الوطأة والوشاح وعلى الأقدام والراح

كتبت ذُوَيْت جارية حَمدونة على وطأتها اليمنى:

إعلمي يا أحبّ منـي إلـيّا

 

أنّ شوقي إليكِ يقضي عليّا

وعلى اليسرى:

إنْ قضى الله لي رُجوعاً إليكُم

 

لم أعُد للفِراق ما دُمتُ حـيّا

وكتبت لُبنى جارية عبّاس النديم على راحتها بسُكّ وعنبر في اليمنى:

قالوا: تمنَّ وقل! فقلتُ لهم:

 

يا ليتها حظّي من الدنـيا

وعلى اليُسرى:

لا أبتغي سُقيا السحاب لهـا

 

في عَبرتي خَلَفٌ من السُّقيا

وكتبت جارية السَّعدية على راحتها اليمنى بالحنّاء:

رفعَت للوداع كفّاً خَضيباً

 

فنقبّلتُها بدمعٍ خَضـيبِ

وعلى اليسرى:

وأشارت إليّ غَمزاً بحُـقٍّ

 

نعتُه مثل فعلِهِ في القُلوبِ

وكتبت جارية ابن الساحر على وطأتها اليمنى:

وما أنا عن بقلبي براضٍ لأنه

 

أشاطَ دَمي مما أتى مُتطوِّعا

وعلى اليسرى:

تمنّى رجالٌ ما أحبوا وإنمـا

 

تمنّيتُ أنْ أشكو إليها وتَسمعا

قالَ المارديّ: رأيتُ على راحة قائد جاريةٍ لبعض جَواري المأمون اليُمنى بالحنّاء:

فَدَيتُكَ قد جُبِلْتُ على هَواكا

 

فقلبي ما يُنازعني سِواكا

وعلى اليسرى:

أُحبّكَ لا ببعضي بل بكُلّـي

 

وإن لم يبقَ حُبُّكَ من جَراكا

وقرأتُ في كفّي جاريةٍ بالنقش:

إذا قيل ما تشكو أشار إلى الحَشا

 

فأوّلُ ما تشكو وآخره الهَجـرُ

فيا ليت قلبي صار صخراً كقَلبه

 

ولم يُبله الشوقُ المُبرِّحُ والفِكرُ

وأخبرني من رأى جاريةً لبعض آل طاهر قد كتبت في وشاحها وقدميها:

عزموا المُقامةَ أم تُراهم أزومعوا

 

يا طول وجدي إن هُمُ لم يَربَعوا

ومُراعةِ اللُّبَّين تحـسـبُ أنـنـا

 

شمسٌ على غُصُـنٍ ويطـلُـعُ

كتبت إليّ على شَقائق خـدّهـا

 

سَطراً من العَبَرات: ماذا تصنعُ

فأجبتُها بلسان صِـدقٍ نـاطـقٍ:

 

ما في الحياة من التفرُّق مَطمَعُ

وكتبت الماهانيّة على كفّ جاريتها شَماريخَ بالحنّاء:

أبى الحبُّ إلا أن أكون معـذَّبـاً

 

ونيرانه في الصدرِ إلا تَلَهُّـبـا

فوا كَبِداً حتى متى أنـا واقـفٌ

 

بباب الهوى ألقى الهَوان وأنْصَبا

ما يكتب على الجبين والخد ويُطرف به ذوو الصبابة والوجد

قرأتُ على جَبين جاريةٍ لنخّاسٍ بالغالية، وقد أخرجها العَرْض:

 

وشادنٍ أحسنِ خَلقِ الـلـه

 

في كفّه سيفُ رسول اللـهِ

قد كتب الحُسنُ على وجهه

 

سطرين بالعنبر باسم اللـهِ

على يَدَيْ رِضوانَ منسوجةٌ

 

صنعةُ حُسنٍ في طراز اللهِ

أنا غريقٌ في بحار الهـوى

 

شبهُ قتيلٍ في سبيل الـلـهِ

وأخبرني من رأى على جبين جارية نخّاسٍ مكتوباً في سطرين:

 

إذا حُجبت لم يكفكَ البدرُ فَقدَهـا

 

وتكفيك فقْد البدرِ إن حُجب البدرُ

وحسبُكَ من خمرٍ تفوتُكَ ريقُهـا

 

ووالله ما من ريقِها حَسبُكَ الخمرُ

وقال عليّ بن الجَهم: رأيتُ على خدّ جاريةٍ لفاطمة بنتِ محمد بن عِمران الكاتب مكتوباً بالمِسك:

 

رضيتُ على رُغمي بحبّكِ فاعدلي

 

ولا تُسرفي إذْ صار في يدكِ الحُكْمُ

متى يَظفر المظلوم منكِ بـحـقّـهِ

 

إذا كنت قاضيه وأنتِ له خَـصْـمُ

قال المازني: كان على جبين جارية شَريط مكتوبٌ بالغالية:

 

صَرَمتْني ثمّ لا كلّمـتـنـي أبـداً

 

إن كنتُ خُنتكَ في حالٍ من الحالِ

ولا هَمَمْتُ ولا نفْسي تحدّثـنـي

 

قلبي بذاك ولا يجري على بـالِ

وقال الجاحظ: كتب مؤلَّف جارية الصخري على جبينها:

 

ومحسودةٍ بالحُسن كالبدر وجههـا

 

وألحاظُ عينيها تَجور وتَـظـلـمُ

ملكتُ عليها طاعةَ الشوقِ والهوى

 

وعلّمتُها ما لم تكُن منه تـعـلَـمُ

قال: وقرأتُ على جبين قَينةٍ بالعسكر، مكتوباً بغالية وعنبر:

 

يا قمراً لاحَ في الظلامْ

 

عليكَ من مُقلتي السلامْ

وكتبت ظَلومُ على جَبينها بالمِسْكِ:

 

العينُ نفقدُ من تهوى وتُبصـره

 

وناظرُ القلب لا يَخلو من النَّظَرِ

وظَلوم هذه كان يحبّها العبّاس بن الأحنف وفيها يقول:

 

إنّ بالكَرخِ منـزلاً لـغـزالٍ

 

بين قَصر الأمير والخيزرانِ

والهوى قائدي أليه، وشوقـي

 

ليس بالشوق والهوى لي يدانِ

لستُ أنساكِ يا ظَلومُ وعهد ال

 

له حتى أُلَفَّ في أكفـانـي

فثِقي بي فأنتِ أعرفُ منـي

 

بحِفاظي في السرّ والإعلانِ

ما يفلج به التفاح والأترج والدستبويات.. ويعدل به تنضيد الورد والياسمين والخِيريّات

أخبرني بعض شيوخنا من الكتّاب بالعسكر قال: قرأتُ على طَبَقين أهداهما بعض الفُرس إلى بعض الكتّاب قد نُضّد بأنواعٍ من السُّوسَن والياسَمين والشَّقائقِ والرياحينِ على أحدهما مكتوب:

 

شادنٌ راح نحو سرحة ماءٍ

 

مسرعاً وجْنتاه كالتـفـاحِ

وَرَدَ الماءَ ثم راح وقدْ أصْ

 

درَهُ الماء في غِلالة راحِ

وعلى الآخر:

 

رقّ حتى حَسِيتُه وَرَقَ الور

 

د نديّاً يرفّ بين الـرياضِ

وَرَدَ الماء ثم راح وقـد ألْ

 

بسَه الماءُ حُمرةً في بَياضِ

قال: ورأيتُ بين يدَي بعض الكُتّاب طبَقَ وَردٍ أحمر مكتوبٍ فيه بالأبيض:

 

لم يضحَكِ الوردُ إلاّ حين يُعـجـيه

 

زهْرُ الربيع وصوت الطائر الغَرِدِ

بدا فأبدت لنا الدنيا محـاسـنـهـا

 

وراحتِ الراحُ في أثوابها الجُـدُدِ

وأخبرني من رأى طبَقَ ريحانٍ مكتوب في دوره بياسمين ونسرين:

 

فما ريحانٍ بمسكٍ وعنـبـرٍ

 

بِنَدٍّ وكافورٍ بـدُهـنةِ بـانِ

بأطيبَ ريّا من حبيبي لو أنني

 

وجدتُ حبيبي خالياً بمكـان

وقرأتُ في تَفليج أُترُجّةٍ أُهديَت لبعض الظرفاء:

 

هيَ في العالمِ كالشـم

 

س أضاءت في البِلادِ

وهْيَ في كلّ كمـالٍ

 

قد علَت فوق العِبـادِ

وأخبرني من قرأ في تًفليج تفاحة:

 

أنا إلى العاشقِ منسوبـهْ

 

أُهدى لمحبوبٍ ومَحبوبَهْ

وعلى تُفّاحةٍ أخرى مفلجة:

 

خطّت يميني فوق تفاحةٍ:

 

أقلقني هَجرُكَ يا قاتلي

وحضرتْ هديةٌ لبعض متظرّفات القِيان إلى بعض ظرفاء الكُتّاب وفيها تفاحةٌ في تفليجها مكتوبٌ:

 

ليس تُفّاحةٌ بأطيبَ طِيباً

 

من حبيبٍ مُعانقٍ لحبيبِ

 وأُترُجّةٌ في تَفليجها مكتوبٌ:

أهدى هلالٌ لكل يومٍ

 

إذا بدا الثغرُ بابتسامْ

وطبق خِيريّاتٍ مكتوبٌ في تَعديله:

يا طِيبَ رائحةٍ فاحت لبُستـانِ

 

من بين وَردٍ ونسرينٍ ورَيحانِ

وياسَمينٍ ذكيٍّ زادني طَـربـاً

 

حتى تكشّف عني كل أحزاني

ما يكتب على القناني والكاسات والأقداح والأرطال والجامات

قرأتُ على كأسٍ لبعض الظرفاء:

إذا فكّرتُ خاطبني مـثـالُ

 

وإن أغفَيتُ نَبَهنـي خَـيالُ

ولي حالٌ إذا ما الكأس طابت

 

لشاربها وللنَّـدمـان حـالُ

وقرأت على كأسٍ لبعض الكُتّاب:

اشربْ على ذِكرهم إذ حيل دونهُمُ

 

عَيناك منهم على بالٍ إذا شربوا

تدعو المُنى قُربهم والدار نازحةٌ

 

حتى يُناجيَهمْ قلبي وما قـرُبـوا

وعلى كأسٍ:

إذا لم يَمزُجِ الندمان كأسـي

 

جعلتُ مِزاجها ماء الجُفونِ

وإن ضحكوا بكيْتُ وإن تغنّوا

 

أجبتُهُمُ بألـوان الـحَـنـينِ

وكتب عُبيدٌ الماجن على كأسه:

اشربْ هنيئاً لا تخَفْ طائفـاً

 

قد آمن الطُّوّافَ أهلُ الطَّرَبْ

وكتب بعض الكُتّاب على قَدَحٍ له:

وما لبسَ العُشّاق ثوباً من الهوى

 

ولا أخلقوا إلاّ بقيّة ما أُبـلـي

ولا شربوا كأساً من الحبّ حُلوةً

 

ولا مُرّةً إلاّ وشُربُهُمُ فَضلـي

وبعثت نشوان الكرّاعة إلى عليّ بن عيسى بن عبد الله الهاشمي برطلٍ عليه مكتوبٌ:

يا باعث السُّكر من طرفٍ يُقلّبه

 

هاروتُ لا تسقني خمراً بكأسينِ

ويا محَرِّكَ عينيه ليقـتـلـنـي

 

إني أخاف عليكَ العين من عيني

وأخبرني من قرأ على قِنّينة بين يدي أبي دُلَف العِجْليّ:

وقهوةٍ كوكبـهـا يَزهَـرُ

 

يفوح منها المِسكُ والعنبرُ

يسقيكَها من كفّـه أحـورُ

 

كأنها من خدّه تُعـصـرُ

وكتب آخر على طاس:

لا تحسبني أن طول الدهر غيّرني

 

بلْ زادني كلفاً يا أملحَ الـنـاسِ

لم يَجرِ ذِكرُكِ في لهوٍ ولا طَرَبٍ

 

إلا مزَجْتُ بدمعي عنده كاسـي

كم عاذِلٍ قد لحاني فيكِ قلتُ لـه

 

شلّت يمينُك هل بالحب من باسِ

وأخبرني يحيى بن محمد المُسلمي أنه قرأ على كأسٍ لقَينة:

إشربِ الكأس على صَرف الزمنْ

 

قلّ مـا دام سـرورٌ أو حَـزَنْ

إنما كان لـمـثـلـي سَـكَـنٌ

 

من جميع الخلقِ طُرّاً فظَـعـنْ

وقرأت على قدَح:

إشربْ وسقِّ حبيبكَ الراحا

 

وبُحْ من الوجد بالذي باحا

وعلى آخر:

إشربْ وسقِّ الحبيب يا ساقـي

 

وسقِّني فضلَ كأسه البـاقـي

وسقّني فضل ما تخلّف في الكأ

 

س بعمدٍ بـغـير إشـفـاقِ

وعلى آخر:

فديتُ من لم يزلْ على طَرَبٍ

 

يُدير بيني وبينه الـكـاسـا

ألثمـنـي خـدّه وقـال: ألا

 

دونكَ ما قد منعتُه النـاسـا

وكتبت بنت المَهدي على قدح بالذهب:

إشربْ على وجه الغَزال

 

الأغْيد الحَسَـن الـدلال

إشرب عليه وقُـلْ لـه:

 

يا غُلّ ألباب الـرجـالِ

وكتب بعض الظرفاء على قنّينة:

فقلتُ لها: وقد أبديتُ سُكـري:

 

ألا رُدّي فؤاد المُـسـتـهـامِ

فقالت: مَنْ؟ فقلت: أنا! فقالت:

 

متى ألقيتَ نفسك في الزحـام

وقرأت على قنّينة مدهونة مكتوب عليها بالذهب:

أحسنُ من موقفٍ على طَلَلِ

 

كأسُ عُقار تجري على ثَمِلِ

يُديرها أهـيفٌ بـه حَـوَرٌ

 

معتدِل الخَلْق راجحُ الكفَـلِ

إذا تمشّى بها مُـصـفَّـقةً

 

رأيتَ فيها تَلَهُّبَ الشُّـعَـلِ

وعلى جامٍ:

إشربْ هنيئاً في أتمّ النـعـيمْ

 

طاب لك العيش بطيب النديمْ

وعلى آخر:

وكؤوسٍ كأنهنّ نُـجـومٌ

 

طالعاتٌ، بروجُها أيدينا

طالعاتٌ مع السّقاة علينا

 

فإذا ما غَرَبْنَ يَغرُبْنَ فينا

ما يكتب على أواني الفضة والذهب ومدهون الصيني المُذهّب

قال العباس بن الفضل بن الربيع: حدثني أبي قال: رأيتُ على صينيّةٍ بين يَدَي المأمون مكتوباً فيها:

لا شيء أملحُ من أيّام مجلسنـا

 

إذ نجعلُ الرُّسل فيما بيننا الحَدَقا

وإذا جوانحنا تُبـدي سـرائرنـا

 

وشكلُنا في الهوى تَلقاه متّفقـا

ليتَ الوُشاة بنا والعاشقين لـنـا

 

في لُجّةِ البحر ماتوا كلُّهُم غَرَقا

أو ليت من ذمّنا أو عابَ مجلسنا

 

شُبّت عليه ضِرام النار فاحترقا

وأخبرني بعض الكُتّاب أنه قرأ على صينية بين يَدَي الحسن بن وهْب مفصَّلةٍ بالفصوص بألوان شتّى:

من كان لا يزعمُني عاشقـاً

 

أحضرتُهُ أوضحَ بُـرهـانِ

إني على رَطْلين أُسقاهـمـا

 

أروحُ في أثواب سَـكـرانِ

وكنتُ لا أسكرُ من تـسـعةٍ

 

يتْبَعُهـا رَطْـلٌ ورَطْـلانِ

فصار لي من غَمَرات الهوى

 

والسُّكر سُكرانِ عَجـيبـانِ

والشعر للحسن بن وَهْب.

وكتب بعض الظرفاء على صينيّة له صينيّ:

حُثَّ الندامى بعاجل النُّخَب

 

وحُثّ كأسَ الندمان يا بأبي

إنْ لم تُدِرْها والكأسُ مُترعةٌ

 

حتى تُميتَ الهُموم لمْ تَطِبِ

وكتب آخر على صينية له:

قد قُلتُ لما صبا بيَ اللعـب

 

وباكرتْني الشَّمول والطربُ

وكتب آخر على قضيب مدهون:

أصبحتُ يُشْبِهُني القضيبُ

 

وأنتَ يُشْبِهُكَ القضـيبُ

غُصـنـــان إلاّ أنّ ذا

 

بالٍ وذا غُصنٍ رَطـيبُ

وقرأت على مِذبّةٍ لبعض الكتّاب:

تعلّمتُ أنواع الرضى خوفَ سُخطه

 

وعلّمه حُبّي له كـيف يغـضـبُ

ولي ألفُ وجهٍ قد عرفتُ طريقَـهُ

 

ولكنْ بلا قلبٍ إلـى أين أذهـبُ؟

وعلى أخرى:

دلّ البكاء على عينـي فـأرّقـهـا

 

ظبيٌ يُطيل البكا من ظلّه فَـرَقـا

لو مسّ غُصناً من الأغصان مُنجرِداً

 

لاخْضرّ في كفّه واستشعر الوَرَقا

وأخبرني أبو جعفر القارئ قال: أخبرني من قرأ على مِروحةٍ بيتين للقَطامي:

قد يُدرك المُتأنّي بعض حاجتـه

 

وقد يكون مع المستعجِلِ الزَّلَلُ

وربّما فات بعضَ القوم أمرهُـمُ

 

مع التأنّي وكان الحَزْم لو عَجِلوا

قال: فحضرني بيتان، فكتبتُ على الجانب الآخر:

لا ذا ولا ذاك فـــي الإفـــراط أحـــمــــــدُهُ

 

وأحـمـدُ الأمـر مـا فـي الـفِـعــلِ يَعـــتـــدِلُ

إفراطُ ذا في التأنّي فوتُ حاجته

  وليس يَعدمُ عَثراً دونها العَجَلُ

وقرأتُ على مِروحة لبعض الظرفاء:

مُحتمِلٌ، حسبك لي، ساعةً

 

ذاكَ إذا أجهدكَ الـحَـرُّ

غيرُكَ مني طالبٌ مثل ما

 

تطلُبُهُ يا أيهـا الـحُـرُّ

وكتب بعض الأدباء على مِروحة:

إنّ روحَ الحياة في

 

حركات المَراوحِ

كم بَنانٍ لـطـيفةٍ

 

من ظِباءٍ سَوانـحِ

حرّكتْها فنفّسـت

 

عن خدودٍ رواشِحِ

وقرأت على قوس جَلاهِق مكتوباً بالذهب:

بينما الطيرُ في الهوى يتكفّـى

 

إذ سقيناهُ جُرعةَ الموت صِرفا

ونزعْنا من القـرين قـرينـاً

 

وجعلنا هناك بالإلـفِ إلـفـا

وكتبتُ على قوسٍ أهديتُها بعض إخواني:

لمّا رأيتُ الطير عالي المُرتقى

 

هيّأتُ قوساً يا لها وبُـنـدُقـا

ثم غَدَونا إذ غَدَونـا حَـلَـقـاً

 

فلم يَحُمْ حتى هوى ممـزَّقـا

ما يكتب على العيدان والمضارب.. والسرنايات والطبول والمعازف والدفوف والنايات

كتبت قصعة المغنّية على عودها:

ما طاب حُبٌّ إنـسـان يَلـذّ بـه

 

حتى يكون به في الناس مُشتهَرا

فاخلعْ عِذارك فيما تستـلـذّ بـه

 

واجسُر فإن أخا اللذات من جَسَرا

وكتب مُخارق على عوده:

كم ليلةٍ نادمنـي ذِكـرُهُ

 

يُسعدني المِثْلَث والـزِّيرُ

حتى إذا الليل جلا نفسَـه

 

على الدُّجى وابتسم النورُ

 أصبحتُ مَستوراً لجيرانـه

 

والوصْل بالهِجران مَستورُ

وكتب بعض المغنّين على عوده:

 

سقوني وقالوا: لا تُغنّ، ولو سَقوا

 

جِبال حُنينٍ ما سَقوني لغـنّـتِ

تجنّت عليّ الخَود ذنباً عَلِمـتُـه

 

فيا ويلتي منها ومما تـجـنّـتِ

وأهدى بعض الكُتّاب إلى قَينةٍ كان يَهواها عوداً، وكتب عليه:

 

من ذا يبلِّغُ نحلةً عن عبـدهـا

 

أني إليكِ وإن بعُدْتُ قـريبُ

تستنطِقين بحُسن صوتك أعجماً

 

يدعو بذاك صَوابه فـيُجـيبُ

فالعودُ يشهد والغنـاء بـأنـه

 

لولاكِ لم يكُ في الأنام مُصيبُ

وقال عليّ بن الجَهم: قرأتُ على مِضرابٍ لقَينةٍ:

 

أُحبّك حبّـاً لـسـتُ أبـلُـغُ وصـفـه

 

ولا عُشر ما أصبحتُ أضمر في صَدْري

وأكتُمُ ما ألـقـاه مـنـك تـشـجُّـعـاً

 

لعلّ إله الخَلق يُدنـيك مـن نـحـري

وعلى مِضراب آخر:

 

يا ذا الذي أنكرنـي طَـرْفـه

 

إذ ذاب جسمي وعَلاني شُحوبْ

ما مسّني ضُـرٌّ ولـكـنّـنـي

 

جفوتُ نفسي إذ جفاني الطبيبْ

وعلى آخر:

 

نِضوُ همومٍ بكى وحقّ له،

 

دمعٌ حَداه الضنى فأسبلهُ

وطال ليلُ الهوى عليه وما

 

أمرَّ ليل الهوى وأطولَـهُ

وكتبت كرّاعة على طبلٍ لها:

 

يا نَفَسـاً لـيس أمَـدُهُ

 

ويا فؤاداً أذابه كَمَـدُهْ

ويا محبّاً جَفـاه سـيّدهْ

 

تقطّعت من جفائه كَبِدُهْ

وكتبت أخرى على ناي:

 

فكيف صبري وبئس الصبر لي فرَجُ

 

والطرفُ يعشقُ من في طَرفه غُنُجُ

وقرأت على مِعزفة:

 

إن كنتَ تهوى وتستـطـيلُ

 

فإنني عـبـدك الـذلـيلُ

أعرضتَ عني وخُنتَ عهدي

 

وجُرْتَ في الصّدّ يا مَلـولُ

كيف احتيالي ولـيس يأتـي

 

منكَ كِـتـابٌ ولا رسـولُ

وعلى أخرى:

ألذُّ عندي من الشراب

 

تقبيل أنيابكِ العِذابِ

ولثمُ خدٍّ كلَونِ خمـرٍ

 

قد شفّه كثرة العِتابِ

وقرأت على دُفّ:

يا بَـدِعـاً فـي بِـدَعٍ

 

جارت على من ملكتْ

أرثي لصبٍّ نـفـسُـهُ

 

مما به قد تـلِـفـتْ

وعلى آخر:

ما سرّني أن لسانـي ولا

 

أن فؤادي منكِ يوماً خَلا

وأنّ لي مُلكَ بني هاشـمِ

 

يُجنـى إلـيّ أوّلاً أوّلا

وقرأت على طُنبور:

يا أول الحُسن يا من لا نظير له

 

هلّت سحائب عيني نَغمةُ الزيرِ

وأيّ مُزنة غربٍ لا تسُحّ دمـاً

 

من عاشقٍ عند نغْمات الطنابيرِ

وعلى طُنبور آخر:

بكيتُ من طَرَبٍ عند السماع كمـا

 

يَبكي أخو قِصَصٍ من حُسن تذكيرِ

وصاحبُ العشق يَبكي عند شَجوته

 

إذا تجاوبَ صوتُ الـيمّ والـزيرِ

ما يكتب على الأقلام من مستظرف الكلام

كتب بعض الكُتّاب على قلم أهداه:

إني لأعجبُ إذ يَزهو به قلمٌ

 

أنْ لا يلينَ فيُبدي حوله ورقَا

يا ليتني قلمٌ في بطن راحته

 

ألتذّ باطن كفّيه إذا مَشَـقـا

وعلى آخر:

إذا دخل الديوان أشرقَ نـورُهُ

 

ولم يكُ للشمس المُضيئة نورُ

فيا ليت أني كنتُ في بطن كفّه

 

له قلماً، إنّ المحِبّ شَـكـورُ

وكتب عمر بن إبراهيم البصري على قلم أهداه لبعض غِلمان ديوان الخراج:

 

يا قمر الـديوان يا

 

ملبِسَ قلبي سَقَما

كأنما في كَـبِـدي

 

أنتَ تخُطّ القَلَمـا

يا أحسن الناس معاً

 

جِيداً وعيناً وفَمـا

وأخبرني من قرأ على قلمٍ لبعض الكُتّاب بالديوان:

إذا دخل الديوانَ حارت عُيونُنـا

 

وقُلنا كما قالت صَحاباتُ يوسُفْ

فيمشُقُ والتشويرُ في حركـاتـه

 

فيورثنا من ذاك ما ليس يُوصَفْ

وقرأت على قلم:

إذا دخل الديوان حارت عيوننا

 

وكادت قلوبُ الناظرين تَطيرُ

فيا نِعمتا إن لم تُصبْكَ عُيونُهم

 

لك الله من تلك العُيون مُجيرُ

وعلى آخر:

أفدي البَنان وأفدي الخطّ من عَلَمِ

 

وقد تطرّف بالحنّاء والعَـنَـمِ

كأنما قابل القِرطاسَ إذ مُشِقَـت

 

فيه ثلاثةُ أقلامٍ علـى قَـلَـمِ

ما يكتب على الدراهم والدنانير التي ضربت للملوك في المقاصير

قال علي بن الجَهم: قرأت على دينارٍ في خلافة المتوكّل من ضَرب الدار:

 

وأصفر صاغته الملوكُ تـطـرُّبـاً

 

بأسمائها فيه المُرُوّةُ والـفـخـرُ

بإسم أمين الله زِينـت سُـطـورُهُ

 

كما زِينَ بالتفصيل في نَظمه الدُّرُّ

هو الملك المأمون من آل هـاشـمٍ

 

بهم إن أغبّ القطرُ يُسنتزل القطرُ

له غُـرّةٌ فَـينـاةٌ جـعـفــريةٌ

 

بها تضحك الشمس المضيئة والبدرُ

قال: ورأيتُ على دينار من ضَرب المتوكّل أيضاً.... درهم ودينار مكتوباً عليه:

 

وأصفرَ من ضَربِ دار المُلوكِ

 

يلوحُ على وجهه جَـعـفـرُ

وقرأت على دِرهم من ضَرب المنتَصِر:

 

درهمٌ أبيضٌ مليحُ المعانـي

 

بسطورٍ مُبيَّنـاتٍ حِـسـانِ

صاغه الصائغ المنمِّقُ بالحُس

 

ن ليُهدى صبيحةَ المهرجانِ

فيه اسمُ الإمام أكرمـه الـل

 

ه ووقّاه نائبـاتِ الـزمـانِ

وقرأت على درهم:

أخي درهمي ما دام والناس إخوتي

 

فإن غاب عني غاب كلّ صـديقِ

هذه جملةٌ مما بلغنا، وفيها كفايةٌ لمن اكتفى، وبيان لمن تبيّن واقتفى، وما استوعبنا كل انتهى إلينا، ولو قصدنا إلى تكثيره لما استصعب علينا، وإنما قصَدنا التخفيف لا التأليف، والاقتصار والاختصار، وليس كل ما سمعناه ذكَرناه، ولا كل ما قيل في ذلك سمعناه، وقد أدّينا بعض ما بلَغنا، ووصفْتا بعض ما استحسنّا، وخَلطنا جدّاً بهزلٍ، واعوجاجاً بقصدٍ، وجعلنا كل ذلك في نظام، وإلى الله نرغب في السلامة والسلام.

والحمد لله بجميل التسديد، وهو المتفضِّل بالإعانة والتوفيق، وإياه نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، كَمَل الكتاب وتم بقوّة الله ومنّه، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على خِيرته من خَلْقه محمد وآله وحَسبي الله وعليه أتوكّل.